إسلام ويب

تفسير آيات الأحكام [19]للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • التجارة في موسم الحج مشروعة، ولكن أفضل ما يشتغل به الإنسان هو الدعاء ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم دعاء بعينه؛ لأن حاجات الناس مختلفة فكل يدعو بما أراد؛ ومن الأعمال التي يستحب الإكثار منها في الحج هو الذكر، وأفضله الصلاة لكونها جامعة أنواع الذكر، فإذا أكمل المحرم مناسكه استغفر الله لما قد يحدث له من التقصير فيها، أو ما قد يطرأ على نفسه من العجب بعمل هذه العبادة.

    1.   

    قوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم)

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    تكلمنا في المجلس السابق على قول الله عز وجل: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، وسنتكلم على قول الله سبحانه وتعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198].

    سبب نزول قوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا...)

    المراد بالجناح الحرج، وهذا جاء تفسيره عن غير واحد من السلف كما جاء عن عبد الله بن عباس فيما رواه ابن جرير ، و ابن أبي حاتم ، وجاء عن مجاهد بن جبر ، كما رواه ابن جرير من حديث ابن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر أنه قال في قول الله عز وجل: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ [البقرة:198]، يعني: حرج.

    والحرج الذي يجده المسلمون في الحج: أن الله سبحانه وتعالى أمر بإتمام الحج وخلوصه له في قوله جل وعلا: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، أي: أن الحج يجب أن يكون خالصاً لله عز وجل من أي شائبة تشوبه من طمع دنيا، ولهذا كان الناس يقصدون الحج قبل الإسلام، ولهم شيء من المطامع، وذلك بالتجارة لتجمع الناس وإتيانهم من كل فج عميق، فيأتون إلى الموسم، وكانت عرفة موضعاً للتجارة، وكانت العرب في سوقها الذي يحول عليه الحول لها مجموعة من الأسواق، منها ذو المجاز، وهو قريب من عرفة، وكذلك سوق عكاظ، فوجدوا حرجاً في الجري على ما كانوا عليه في السابق من استثمار سوق ذي المجاز، فأنزل الله عز وجل على نبيه عليه الصلاة والسلام: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198].

    وهذا جاء تعليله وتفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعاً، وجاء أيضاً عن جماعة من السلف، كـعبد الله بن عباس فيما رواه عمرو بن دينار عنه، كما جاء في البخاري أن العرب كانت أسواقها في الجاهلية عكاظ وذي المجاز، فوجدوا حرجاً بعد الإسلام، فأنزل الله عز وجل على نبيه: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198]، وكذلك فإنهم كانوا غالب أحوالهم، مهما تنوعوا، منهم من يقصد التجارة على سبيل الاستغلال ولا يتنسك، ومنهم من يقصد النسك والتجارة أيضاً، ومنهم من يقصد النسك وإن اعترضه شيء من التجارة، إما أن يكون مشترياً، وإما أن يكون بائعاً، ولهذا جاء من حديث أبي أمامة التيمي عن عبد الله بن عمر : أن أقواماً أتوه قالوا: إنا نحج ونكري، والمراد بذلك هو تأجير بهائمهم في الركوب ونحو ذلك حال ذهابهم ومجيئهم فيركبون بعض الناس للمال، فقال: إن أقواماً أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوه عما سألتموني، فأنزل الله عز وجل عليه: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198].

    فضل التجارة والانشغال بها

    إذاً: المراد بالفضل هنا: التجارة، سواءً كانت بيعاً أو شراءً، والتجارة قد جاء مدحها في هذه الآية، وجاء مدحها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما روى ابن أبي الدنيا ، وكذلك إبراهيم الحربي في غريب الحديث من حديث نعيم بن عبد الرحمن ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( تسعة أعشار الرزق في التجارة، والعشر الباقي في سائر الخلق )، و نعيم بن عبد الرحمن قيل: إنه صحابي، ونفى ذلك غير واحدٍ من العلماء كـأبي حاتم ، وكذلك ابن منده وهو الصواب أنه ليس من الصحابة، وهذا الحديث مرسل صحيح، وقد جاء بألفاظ: ( جاء تسعة أعشار الرزق في التجارة، والعشر الباقي في سائر الخلق )، وجاء في رواية: ( تسعة أعشار الرزق في التجارة، والعشر الباقي في السائمة أو في المواشي )، والمراد بذلك هي بهيمة الأنعام.

    وهذا فيه إشارة إلى فضل التجارة والتكسب بها، حتى وإن كان ذلك في مواسم العبادة، والله جل وعلا حينما بيّن في كتابه العظيم وجوب الحج ووجوب إتمامه، وشيئاً من أحكامه، بيّن الله عز وجل أيضاً أن للإنسان انتفاعاً في الحج، وهذا فيه دليل على أن الإنسان إذا كان قاصداً لشيء من أركان الإسلام، فاحتاج إلى شيء من الدنيا تبعاً باستثمار ذلك، فهذا مما لا حرج فيه، فكيف إذا كان ذلك في غير الأركان، فإنه يجوز من باب أولى، إذا كان الإنسان في عبادة من العبادات، ثم أراد أن يتاجر تبعاً لها، فنقول: إن هذا إذا جاز في الحج فإنه يجوز في غيره من باب أولى، وهذا من تيسير الله عز وجل ولطفه ورحمته بعباده، وذلك لمصلحتين: لمصلحة المتاجر في نفسه، وكذلك المنتفع من تلك المؤاجرة، أو ذلك البيع والشراء، فإن الناس إذا منعوا من التجارة في الحج لم يجدوا ظهوراً يركبونها، فأجاز الله عز وجل التجارة ابتغاءً للفضل بالنسبة لمن باع أو اشترى، وكذلك للمنتفع لذاته من غير تجارة، فالذي يركب نفسه، أو يركب أهله، أو نحو ذلك فهو منتفع، وليس بتاجر، فأراد الله عز وجل تحقيق المصلحتين، تحقيق الدين لمن كان يريد إيصال الغاية في دينه، وذلك كمن يتأخر عن موسمٍ أو زمنٍ من الأزمنة، أو عملٍ من الأعمال، فأراد أن يدركه بشيء من الإجارة، فهذا من الأمور المباحة، وكذلك فيه نفع للناس وتشجيع لهم.

    وفي هذا دليل أيضاً على أن الإنسان لا حرج عليه أن يشجع غيره على شيء من العبادة، ولو كان ذلك بشيء من أمر الدنيا، ولهذا كانت أمثال هذه المجامع هي موضع للتجارة.

    وفي هذا إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى أراد بعباده خيراً من جهة الانتفاع في دنياهم، وأراد بهم صرفاً عن السوء، وذلك أن الناس إذا لم ينشغلوا بالمباح انشغلوا بالمحظور، وذلك أن مجامعهم في أسواقهم كعكاظ وكذي المجاز وغيرها، فإنهم إذا لم ينشغلوا بالتجارة انشغلوا بالأشعار وما فيها من مدح محظور غال أو سبٍ وهجاء، وهذا من عادة العرب في مجامعهم، وذلك في أسواقهم كعكاظ وذي المجاز، والمشعر الحرام، وعند رمي الجمار، ويأتي الإشارة إليه، فإنهم كانوا يعتادون ذلك، والله عز وجل أباح لهم التجارة في أمثال هذه المواضع، بل في ذلك تضمين للحض عليها لمن استطاعها، ولهذا سمى الله عز وجل ذلك فضلاً: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198]، فسمى الله عز وجل التجارة والمضاربة في الحج من الفضل، من الله سبحانه وتعالى.

    والمراد بالابتغاء هنا: أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198] هو الالتماس، التماس الحاجة من الله سبحانه وتعالى، وجاء عند ابن جرير من حديث أبي أمامة التيمي عن عبد الله بن عمر أنه قال لمن سأله عن التجارة في الحج، قال: ألستم تقفون معنا بعرفة، وفي المشعر الحرام، وترمون الجمار وتنحرون، وتحلقون؟ قالوا: نعم، قال: فإذاً: لا حرج عليكم وأنتم حجاج، يعني: أن تلك الأفعال لا تسلبكم صفة الحج، ولهذا الذين يؤاجرون أنفسهم بشيء من التجارة، أو ربما يذهبون بمهمات عمل كرجال الأمن، أو رجال الصيانة والنظافة، أو الطب وغير ذلك، ممن يكونون عوناً للحجاج، فيكون عملهم في ذلك جمعاً للوظيفة والعبادة، فهذا من الأمور المباحة التي لا تخرم للإنسان عملاً.

    وقول الله جل وعلا هنا: أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198]، في هذا إشارة ومعنى أن الربح والخسارة في أمر التجارة إنما مرده إلى الله، ولهذا قال: فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198]، فجعل الله عز وجل ما يتكسبه الإنسان أحاله الله عز وجل إلى فضله واختياره، وذلك أن الله سبحانه وتعالى إذا أحال الأمر إليه ففيه إشارة إلى أن سبب الإنسان وتدخله في ذلك ضعيف وضئيل جداً، ولهذا تجد كثيراً من الذين يمارسون التجارة ليس تخصصهم في التجارة، وتجد الذين يتخصصون في التجارة هم أكثر الناس فشلاً، وتجد رءوس التجار وأعيانهم ليسوا من أهل الاختصاص بالتجارة، ولم أر أحداً من الناس ممن كان مختصاً بالتجارة وكان فقيراً، ثم اتجر وغني، بل إنني أرى كثيراً من الناس الذين يختصون بأمر التجارة والدراية فيها أنهم يسلكون مسالك يظنون أنها من مواضع الترقي في أمر التجارة، ثم يهلكون، وأما الذي يختص بالتجارة فهو تاجر قبل أن يختص بالتجارة، ولهذا يكون من أهل الربح فيها، ولهذا الله عز وجل هنا جعل الفضل في مسألة التجارة إليه: أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198].

    وقت الوقوف بعرفة والمقدار الواجب في ذلك

    قال الله عز وجل: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ [البقرة:198]، يعني: بعد الوقوف فيها، والوقوف بعرفة يكون من بعد زوال الشمس وهو دخول وقت صلاة الظهر إلى غروب الشمس، وهذا هو الوقوف المشروع، والواجب أن يقف في ذلك أية ساعة شاء من ليل أو نهار، والوقوف بعرفة يبتدئ من طلوع الفجر، وينتهي بطلوع فجر يوم النحر، فإذا طلع فجر يوم النحر انتهى الوقوف بعرفة، والأصل أن الليل يتبعه اليوم الآتي، ولا نقول: إن عرفة تبتدئ من غروب الشمس من اليوم الثامن، وإنما يقال: إنها تبتدئ من طلوع الفجر، الأصل في الأيام أن اليوم يبتدئ من غروب الشمس، إلى غروب الشمس التالي، فاليوم يتبعه الليلة الماضية، وإذا كان الإنسان في صباحه ضحى، فإذا كان بعد الزوال يقول لها: البارحة، والليلة ما يستقبلها، على خلاف ما يجري عليه الناس، فإذا أصبحوا وأرادوا أن يتكلموا على مما كان مما مضى من الليل يقول: البارحة، وهذا خطأ، الصواب في ذلك أن يقول: الليلة إلى زوال الشمس، فإذا أذن الظهر يسميها البارحة، وتتحول كلمة الليلة إلى الليلة المقبلة، ولهذا نقول: إنه بزوال الشمس يبتدئ الوقوف بعرفة مما شرعه الله عز وجل إلى غروب الشمس، ومن وقف قبل ذلك من بعد طلوع الفجر فإن وقوفه صحيح، إلا أنه خالف السنة في ذلك، والتمام والكمال في ذلك أن يدخل عرفة بعد الزوال، وأن يبقى قبلها حتى يدخل الوقت، فإذا دخل الوقت فإنه يدخلها، وكثير من الناس يبقى بعرفة قبل زوال الشمس، وذلك لكثرة الناس وصعوبة إيجاد السبل للوصول إلى المواضع التي يريدون، فهذا من الأمور التي يرفع الله عز وجل بها الحرج إذا علم الله عز وجل من الإنسان حرصه على الوقوف في الوقت الذي شرعه الله لنبيه عليه الصلاة والسلام.

    ما يلزم من دفع من عرفه قبل غروب الشمس

    وإذا دفع الإنسان قبل غروب الشمس فجمهور العلماء على صحة وقوفه، وحكي الاتفاق على ذلك، وروي عن الإمام مالك رحمه الله عدم جواز ذلك، وأوجب على من نفر قبل غروب الشمس الدم، وهذا لم يوافق الإمام مالك عليه أحد، وقال ابن عبد البر رحمه الله كما في كتابه الاستذكار لا أعلم أحداً من الفقهاء قال بقول مالك هذا، يعني: أن الإنسان إذا دفع من عرفة قبل غروب الشمس فإن وقوفه غير جائز.

    والصواب في ذلك أن وقوفه صحيح، وقد خالف السنة في ذلك، والسنة أن ينتظر حتى غروب الشمس، فإذا غربت الشمس فإنه يدفع.

    ما ينبغي الانشغال به في الحج وخاصة عرفة

    وهنا في قول الله عز وجل: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ [البقرة:198]، إشارة إلى أن الله عز وجل رفع الحرج عن عبده بأنه ينبغي عليه في مثل هذا الزمن أن ينشغل بالعبادة، فرفع الحرج عن غيرها، وهذا يفهم من ظاهر السياق، وأنه إذا احتاج إلى فضل الله عز وجل من ذلك فإن الله عز وجل أجاز وأباح له هذا، وإذا كان الإنسان لا يستطيع الحج إلا بالمضاربة والتجارة في الحج فإن ذلك يعتبر محموداً ومستحباً، وما ينشغل به الإنسان في مثل هذا الوقت أفضله الانشغال بالدعاء، وذلك لفعل النبي عليه الصلاة والسلام، كما جاء في الصحيح ( أن النبي عليه الصلاة والسلام وقف يدعو بعرفة إلى غروب الشمس، حتى إذا سقطت الشمس دفع النبي عليه الصلاة والسلام إلى المشعر الحرام )، أي: أنه ينبغي للإنسان أن ينشغل بالدعاء انشغالاً تاماً، وألا يدفعه ويصرفه عن ذلك إلا ما لا بد له منه، ولهذا استعمل هنا في قوله: (لا جناح)، يعني: أن الأصل في ذلك أن الإنسان ينشغل بما هو أولى، ولهذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم في عرفة بعرفة، وكذلك عامة أصحابه لم يصوموا بعرفة؛ لأن الصيام مما يضعف قدرة الإنسان على القيام بالعبادة والاجتهاد فيها، وذلك أن الصيام يوم عرفة يكفر الله عز وجل به سنة، وهذا أجر، فالاجتهاد في الدعاء أعظم تكفيراً من صيام ذلك اليوم، أي: أن الإنسان يسأل الله عز وجل المغفرة، والله عز وجل يطلع على أهل الموقف ويغفر لهم، فإذا تعرض الإنسان لله عز وجل تحقق له من الغفران أكثر مما يصومه الإنسان إذا كان في غير عرفة، ولهذا لم يحفظ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه صام في وقوفه بعرفة، ولا كذلك أيضاً أصحابه عليهم رضوان الله تعالى إلا النذر اليسير، كما جاء عن عائشة عليها رضوان الله، كما جاء في الصحيح.

    ولهذا نقول: إنه ينبغي للإنسان أن يبتعد عن الصوارف، ولو كانت صوارف دينية؛ وذلك كانشغال الإنسان بالعلم والقراءة والاطلاع وغير ذلك، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس بعرفة متقدماً، حيث قدم النبي عليه الصلاة والسلام خطبته للناس في عرفة، وما جعل النبي عليه الصلاة والسلام حاله تذكيراً بالناس، وما تفرغ أيضاً للناس لأمر الفتياء، بل كان رافعاً يديه مع كثرة الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم اختلف في خطبه في الحج، فقيل: إنه خطب ثلاث مرات، وقيل: إنه خطب أربعاً، سئل الإمام أحمد رحمه الله كما في المسائل: كم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجه فقال: ثلاثاً، خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، وخطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، وخطب يوم النفر الأول، وذكر ابن القيم رحمه الله في كتاب الإيضاح أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب أربعاً، خطب اليوم السابع، وهو ما قبل يوم التروية، وخطب يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم النفر الأول، والأدلة في ذلك تعضد أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما خطب ثلاثاً.

    وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن ينشغل بالدعاء لنفسه، والدعاء لمن حوله، وألا يشغل ليله ونهاره بتعليم الناس وتوجيههم؛ لأن مثل هذه المواسم هي أحوج للدعاء والاستغفار أكثر من غيره، ولهذا تجد في بعض حملات الحج ما يتحدث الناس صباحاً وضحى، وظهراً وعصراً ومغرباً وعشاء، وحتى في عرفة، وكأنهم في دورات علمية، فينبغي للإنسان أن ينشغل بالدعاء.

    قد يقول قائل: إن الناس إذا لم نشغلهم بالعلم انشغلوا باللهو، نقول: وجههم إلى الدعاء، وإذا انشغلوا باللهو فعلى أنفسهم، فلا تدع الأمر الفاضل لحظ نفسك لأجل انشغال الناس باللهو، فإذا كان الإنسان مثلاً مع أناس حجاج ونحو ذلك عليه أن يذكرهم بالله عز وجل مرة، اقتداءً بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرفة، ثم بعد ذلك ينشغل بالدعاء، ويحثهم على الدعاء، كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يفعل مع أصحابه، وكذلك أيضاً فإن السنة في تذكير الناس في عرفة وعدم الإطالة، كما هو الظاهر أيضاً في حديث أبي هريرة وحديث أنس بن مالك عليهم رضوان الله تعالى في خطبة النبي عليه الصلاة والسلام في عرفة.

    الحكمة من عدم ورود دعاء أو ذكر معين عن النبي صلى الله عليه وسلم في عرفة

    قال الله عز وجل: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، هنا ذكر ذكر الله عز وجل، وهل الإنسان قبل ذلك لا يذكر الله عز وجل في وقوفه بعرفة؟ نقول: ينبغي للإنسان أن ينشغل بالدعاء، فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان رافعاً ليديه، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم دعاء معين، ولا ذكر معين، وقد جاء في ذلك: ( أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)، وهذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يقوله في عرفة، وهذا الأثر جاء موصولاً ومرسلاً، والصواب إرساله، وعلى هذا نقول: الإنسان ينبغي له أن يدعو بما يصلح شأنه ديناً ودنيا.

    والحكم في أمثال هذه المواضع العظيمة بعدم ذكر نصٍ معيّن عن النبي عليه الصلاة والسلام بدعاء معين، ولم يحفظ عنه أن الناس يتباينون في حاجاتهم، فلما كانوا يتباينون كانت الحاجة لهم بالدعاء تختلف من فرد إلى فرد، فهذا لديه هم ومصيبة، وهذا لديه مطلب يختلف عن غيره، فهو بحاجة إلى الدعاء في باب يختلف عن غيره، ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام ما حفظ عنه نص في دعائه في مثل هذا الموضع، وهو من أعظم المواضع، بل قيل: إن أفضل الأيام هو يوم عرفة، والنبي عليه الصلاة والسلام أقدر على بيان دعاءٍ بعينه لأحد من أصحابه والناس حوله، بل إن أزواجه عليهن رضوان الله كن معه عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك لم يحفظ عنه عليه الصلاة والسلام دعاء معين، لا في هذا الموضع، ولا عند الجمار، ولا عند الصفا والمروى وهي مواضع الدعاء، ولا أيضاً عند المشعر الحرام؛ لاختلاف الناس، فدعاء الإنسان في سؤاله ربما يكون الإنسان مقعداً له دعاء يختلف عن غيره في طاقته، بطلب تيسير أمر عبادة ونحو ذلك، ومن الناس من هو مفتقر حاله تختلف عن حال الغني، ومنهم الغني حاله تختلف عن حال الفقير، ومنهم من لديه ضراء تختلف عن غيره، ومنهم من ابتلي بسراء تختلف عن غيره، ولهذا جعل الله عز وجل من الحكم في عدم ذكر شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم معين في ذلك مصلحة للناس، وإنما جاءت أدلة عامة بأنه ينبغي للإنسان أن يسأل الله عز وجل فضله في الآخرة، وألا يقدم على الآخرة شيئاً، ثم يسأل الله عز وجل من فضل الدنيا ما شاء.

    المراد بالمشعر الحرام الذي أمر الله بذكره عنده

    وذكر هنا المشعر الحرام، وذكر ذكر الله، والمشعر الحرام هو مزدلفة، وجاء تفسيره عن غير واحد من السلف، كما جاء عن عبد الله بن عباس فيما رواه علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس ، وجاء أيضاً عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله أنه قال: المشعر الحرام هو ما بين الجبلين، وجاء عنه أنه قال: مزدلفة، والجبال المحيطة داخل ظاهرها في مزدلفة، ومنهم من أخرج ظاهرها.

    وعلى كل: هي معالم موجودة ومرسومة للناس، وأمر الله عز وجل بالذكر عند المشعر الحرام، والذكر شامل لجميع أنواعه، وأول ما يدخل في ذلك الذكر هو الصلاة، والله عز وجل سماها ذكراً في كتابه العظيم، وجاء تفسيره أيضاً في هذا الموضع بذكر الله عند المشعر الحرام أنها الصلاة؛ عن غير واحد من المفسرين، ويدخل في ذلك الدعاء أيضاً والاستغفار، وهذا يظهر أيضاً في خاتمة الآي، وكذلك أيضاً من التسبيح والتهليل، وأول ما يدخل في ذلك الصلاة؛ لأنها جامع لأنواع الذكر، ففيها استغفار وتكبير وتهليل وفيها تسبيح وتحميد، وغير ذلك من أنواع الذكر.

    موضع صلاة المغرب والعشاء يوم عرفة

    ولهذا استدل بعض العلماء بقول الله عز وجل: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198] أنه ينبغي للإنسان أن يصلي المغرب والعشاء بمزدلفة، ومن العلماء من أوجب ذلك، وهو قول أهل الظاهر، أي: أن الإنسان يصلي الظهر والعصر بعرفة، وأما بالنسبة للمغرب والعشاء فإنه يدفع بعد غروب الشمس ويصليها بمزدلفة.

    قالوا: وفي قول الله عز وجل: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، فيه إشارة إلى صلاة المغرب والعشاء بمزدلفة، ولكن إذا وجد الإنسان زحاماً، أو كان ضعيفاً، ولم يجد سبيلاً للوصول بنفسه إلى مزدلفة قبل الوقت، فإنه يصليها في أي موضع، وبعض الناس لا يستطيع الوصول إلى مزدلفة لشدة الزحام، أو تعطلت مركبته ولم يستطع الوصول إلى مزدلفة، فنقول: يصلي في أي موضع كان، ولو كان بعرفة، وهذا عند عامة العلماء خلافاً لأهل الظاهر الذين يقولون بوجوب صلاة المغرب والعشاء بمزدلفة، وذلك لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقوله: ( لتأخذوا عني مناسككم )، ولظاهر هذه الآية: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، قالوا: وأول الذكر هنا هو الصلاة، فإذا أديناها في غير هذا الموضع لم نكن ممتثلين، وفي ذلك نظر؛ لأن الصلاة لم ترتبط بزمان معين من جهة وجوبها، وإنما جاءت عامة، فيصليها الإنسان في المسجد هذا أو في المسجد ذاك يصليها جماعة، ولا يجب على الإنسان مسجد بعينه.

    ولهذا نقول: إن أداء الصلاة عبادة منفكة عن مسألة النسك، فالنبي عليه الصلاة والسلام جمع وقصر في مواضع، وصلى النبي عليه الصلاة والسلام قصراً من غير جمع في مواضع.

    وهذا الجمع هل هو من الأنساك أم لا؟ جمهور العلماء على أن الجمع والقصر في النسك ليس من النسك، وهذا الذي ذهب إليه جمهور العلماء.

    وذهب أبو حنيفة وجماعة من الفقهاء من أهل الرأي إلى أن فعل النبي عليه الصلاة والسلام بجمعه وقصره أن ذلك من النسك، والصواب أنه ليس من النسك، وإنما كان حكمه حكم المسافر، ولهذا المكي إذا كان حاجاً وكان بمنى، ولا يترخص بمثل هذه الحال ينبغي له أن يتم وألا يقصر.

    حكم الوقوف بمزدلفة

    وأما بالنسبة لمزدلفة، فإن الصدر الأول إذا كانوا في عرفة وخرجوا إليها فإنهم كانوا يقصرون باعتبار أنها خارج البنيان، والوقوف بمزدلفة واجب باتفاق الأئمة الأربعة، وذهب بعض العلماء إلى ركنيته، وهو قول الإمام أحمد في رواية، وذهب إليه ابن خزيمة رحمه الله إلى أن الوقوف بمزدلفة ركن من أركان الحج، والصواب أنه واجب، ومن تركه فعليه دم، والأدلة في ذلك كثيرة منها حديث عبد الرحمن بن يعمر ، ومنها ما جاء موقوفاً على عمر بن الخطاب عليه رضوان الله لما كان واقفاً بمزدلفة، فجاءه رجل، فسأله عمر فقال: أوقفت بعرفة؟ قال: لا. قال: اذهب إلى عرفة وقف هنيهة، فصلى عمر بن الخطاب صلاة الفجر، ثم ركب راحلته، فقال: أجاء الرجل؟ فقالوا: لا. قال: فانتظر حتى جاء الرجل ثم دفع، مما يدل على أن ثمة تفريق بين الوقوف بعرفة، وبين المبيت بمزدلفة، وذلك أن الوقوف بعرفة ركن باتفاق العلماء ولا خلاف في ذلك، وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( الحج عرفة )، كما جاء في حديث عبد الرحمن بن يعمر : يقول وكيع بن الجراح : هذا الحديث أصل المناسك وأم المناسك، يعني: هو الجامع لها وزبدتها، وأعظم أركان الحج هو الوقوف بعرفة، وهو أفضل أعمالها، ولم يأتي فضل في السنة في عمل من أعمال الحج كما جاء في الوقوف بعرفة.

    سبب تسمية عرفة بهذا الاسم

    واختلف العلماء في عرفة، لماذا سميت بهذا الاسم؟ فمنهم من قال: إن الله عز وجل وصف معالمها لإبراهيم الخليل، ثم لما رآها عرفها فسميت بذلك، ومنهم من قال: إنها سميت على علم من أعلام الجاهلية، وبقي هذا الاسم على ذلك، ولم يستطع أن يحال إلى أصل ذلك الاسم، هل هو من الأعلام المعروفة، أو من غير المعروف؟ والذي يظهر والله أعلم أن النصوص في ذلك ممن يكل هذا الأمر إلى علم من الأعلام، أو يكله أيضاً إلى أن الله عز وجل وصفها لإبراهيم، ثم جاءها فعرفها، فسميت عرفة، أنه لا يثبت من ذلك شيء إلا أن الله عز وجل سماها في كتابه، وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته، واسمها قطعي وهو من الوحي، ولهذا لا يجوز أن تسمى بغير هذا الاسم؛ لأن هذا اسم من الأسماء الشرعية التي لا يجوز أن تغير.

    وأما أن يأتي الإنسان بشيء من المعالم غير أن يجعل تلك المعاني علماً عليها، فهذا من باب التقريب ولا بأس به، أما أن يسمي الإنسان الكعبة بغير اسمها، أو يسمي الطواف بغير اسمه، أو يسمي الصفا والمروة بغير اسمه فهذا طمس لمعالم الحج وطمس لشعائر الله.

    واختلف العلماء في حد عرفة، وكذلك أيضاً في حد مزدلفة، وهي تحال وتوكل إلى معالمها التي عليها عمل الناس اليوم.

    دخول عرنة في عرفة

    واختلفوا في عرنة هل هي من عرفة أم لا؟ ذهب جمهور العلماء إلى أنها ليست من عرفة، واستدلوا بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ارفعوا عن بطن عرنة )، واستدل الإمام مالك رحمه الله بهذا الحديث أيضاً على أنها من عرفة، قال: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالانتقال من المفضول إلى الفاضل، فقال: ( ارفعوا عن بطن عرنة ) يعني: حتى يدع الإنسان ما يشتبه عليه، ولو كان كذلك لشدد النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك وبين فساد الحج، أو أمر الناس بأن يسوقوا من كان واقفاً فيها، قالوا: وظاهر الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم عدم التشديد، فدل على أن الموقف فيه فاضل ومفضول.

    صلاة الليل والوتر في مزدلفة

    وصلاة المغرب والعشاء تكون بمزدلفة جمعاً، ويصلي في ذلك الوتر وقيام الليل، ولم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه صلى الليل، ولا صلى الوتر، وعدم ثبوت ذلك لا يدل على العدم، وبعضهم يقول: إنه لا يشرع قيام الليل في مزدلفة، قالوا: وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يثبت عنه هذا العمل.

    نقول: إن عدم الثبوت لا يدل على العدم، ثم إن النقل فضول؛ لأن مثل هذا العمل ليس من أعمال الحج حتى ينقل، فقيام الليل، وصلاة الوتر ليس من أعمال الحج، ولهذا ما ذكر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه استغفر وذكر أذكاره أدبار الصلوات في صلاته في عرفة، وكذلك أيضاً في صلاته بمزدلفة، وما ذكر عن النبي عليه الصلاة والسلام حاله في وضوئه، فنقول في مثل هذه القضايا: هذا أمر معتاد يفعله الإنسان فنقله من الأمور المفضولة؛ لأن نقلة الصحابة يدركون حال النبي صلى الله عليه وسلم ما كان عليه على سبيل الدوام، وما كان غريباً من حاله مما يفعله في هذا الموضع، ولهذا الاستدلال على عدم مشروعية قيام الليل بمزدلفة، فيه نظر، ومما يعضد ذلك ما جاء في البخاري من حديث عبد الله مولى أسماء أنه كان معها، فقامت تصلي صلاة الليل فكانت تصلي ركعتين ثم تلتفت إليه فتقول: أغاب القمر؟ فيقول لها: لا. ثم تقوم وتصلي، ثم تسلم وتسأله وتقول: أغاب القمر؟ ثم يقول: لا. ثم تسأله، ثم لما قال: غاب القمر دفعت، وهذا يدل على أنها كانت تقوم الليل، ولو كان ليس من عمل النبي عليه الصلاة والسلام في مثل هذا الموضع لكان أولى بالاقتداء بذلك الصحابة عليهم رضوان الله، ولهذا نقول: إن قيام الليل على سبيل الدوام هو على فضله وعلى منزلته في الحج وفي غيره، ولا يترك إلا بدليل بيّن، ولكن لو نقل في مثل هذا الموضع، وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم، لقلنا: إننا بحاجة إلى النفي، ولسنا بحاجة إلى الإثبات؛ لأن الأصل في ذلك أنه لا ينفى لبقاء أصله.

    وقت الوقف والمبيت بمزدلفة وحكمها

    لدينا في مزدلفة أمران:

    الأمر الأول: الوقوف.

    الأمر الثاني: المبيت.

    المبيت يكون قبل صلاة الفجر، والوقوف يكون بعدها، جمهور العلماء على أن المبيت واجب، وهو قول أيضاً لجماعة من أهل الرأي، وأما بالنسبة للوقوف فهو أن يقف الإنسان بعد صلاة الفجر منتظراً، والوقوف سنة، والمبيت واجب عند جمهور العلماء، وأما أبو حنيفة فعكس ذلك، فجعل الوقوف واجباً والمبيت سنةً، وأما القدر الذي يقف فيه الإنسان، والقدر الذي يبيت فيه الإنسان فهو على قدر إنزال رحله، كما قال ذلك الإمام مالك رحمه الله.

    يعني: إذا كان الإنسان يشق عليه الإتيان إلى مزدلفة، ما يسقط به الواجب هو قدر إنزال الرحل، فالإنسان إذا كان على دابة، ثم يجعلها تبرك، ثم ينزل متاعه على الأرض، فإذا أنزله وجلس يقوم برفعه، هذا هو قدر المبيت الذي يسقط به الإنسان عنه الوجوب.

    ومن العلماء من قال: إن صلاة الفجر بمزدلفة مع الإمام ركن، بل منهم من قال: إن الإنسان إذا لم يصل مع الإمام صلاة الفجر وسلّم الإمام فقال: السلام عليكم ورحمة الله بطل حجه، وهذا قول ابن حزم الأندلسي ، وهذا قول بعيد وغريب، ولم يقل به أحد من السلف، ولم يعضده أيضاً أحد من الخلف، ولهذا نقول: إن الإتيان بالصلاة سواء صلاها الإنسان مع جماعة، أو صلاها الإنسان منفرداً، صلاها مع إمام المسلمين أو مع غير إمام المسلمين، الصلاة في نفسها أمر منفك عن ذات المبيت بمزدلفة.

    أما تفريط الإنسان بالإتيان بالجماعة ونحو ذلك فهذا أمر ومسألة أخرى، ولكن ينبغي للإنسان أن يؤدي صلاته في مثل هذا الموضع، أما أن نوجب عليه أن يكون مع الجماعة ومع أمير المسلمين، فهذا مما لم يقل به أحد، وهو من الأقوال التي لا يعول عليها.

    من أسباب الهداية معرفة المناسك

    ثم قال تعالى: وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة:198]، هنا ذكر هداية الله عز وجل؛ لأنه ينبغي للإنسان أن يذكر الله عز وجل كما هداه ودله، وفي هذا دليل على أن الضلالة يقابلها الهدى، ولهذا حث الله عز وجل عباده على أن يذكروه بسبب هدايته لهم إلى الخير، وهذا يدل على أن معرفة المناسك من مواضع الهداية للإنسان، وأن من تفقه فيها وتبصر فيها فقد تبصر بخير أنواع الهداية المقصودة في هذا الموضع، وكذلك أيضاً فإن من ضل عنها وتاه فقد حرمه الله عز وجل شيئاً من مواضع الهداية، ومن وفقه الله عز وجل للعبادة وعمل بها كان مهدياً، ومن قصر في ذلك كان ضالاً تائهاً، فالله عز وجل يمتن على عباده بالعلم.

    أنواع الهداية

    والهداية كما لا يخفى على نوعين: هداية دلالة وإرشاد، وهداية توفيق، أي: أن الله عز وجل يوفق عبده ويسدده وهو الأمر القدري، وأما الدلالة والإرشاد فهي التي تدل الإنسان على طريق الخير، فإن سلك طريق الخير، فتلك هداية الدلالة والإرشاد، وأما أمر التوفيق فهو الذي يقدره الله عز وجل للإنسان من خير، ولهذا نقول: إن الله عز وجل قد يهدي عبده إلى شيء من العلم والمعرفة بتوفيق من الله وإلهام، ومن العباد من يحرمه الله عز وجل الخير.

    والخير في ذلك على مراتب، منها ما يتعلق بالعقائد، ومنها ما يتعلق بالأقوال، ومنها ما يتعلق بالأعمال.

    المراد بالضلال

    وأصل الضلال هو التيه عن معرفة الحق، أن يتيه الإنسان، وليس المراد بذلك السب، فمجرد جهل الإنسان ضلالة سواءً كان معذوراً أو ليس بمعذور، ولهذا الله عز وجل امتن على نبيه أنه وجده ضالاً فهداه، والضلالة المرادة بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عدم العلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام قبل نزول الوحي عليه لم يكن عالماً، حتى جاءه ذلك الوحي من الله سبحانه وتعالى، فعلمه الله عز وجل وحيه ودينه شيئا ًفشيئاً، فجعل الله عز وجل ذلك هداية، وحاله قبل ذلك ضلالة عنها، وغلب مسألة الضلالة في اصطلاح الناس وكلامهم على ما يضاد التوفيق مما يسلكه من أراد الله عز وجل به شراً ممن يقع في الشرك والفسوق والضلال وغير ذلك، فهذا يسمونه: ضالاً، ولهذا الله عز وجل يقول: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، والمغضوب عليهم والضالون أهل الكتاب.

    قال ابن أبي حاتم في كتابه التفسير: واتفق العلماء والمفسرون على هذا، ولهذا نقول: من ضل عن طريق الهداية فهو ضال، ولكن ليس المراد بذلك هي الضلالة هنا في هذه الآية، ولكن المراد بذلك هو عدم العلم، ولكن الله عز وجل أحكم لهم الدين، وأزال ما نسخوا من أمر الجاهلية.

    1.   

    قوله تعالى: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس)

    المراد بالحمس وبيان محل إفاضتهم

    الآية الثانية قول الله سبحانه وتعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199]، أمر الله عز وجل بالإفاضة، والخطاب هنا ظاهره أنه يتوجه إلى قريش، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199] فخاطب الله عز وجل أقواماً، ثم وكلهم إلى حال أناس آخرين، وذلك أن كفار قريش كانوا يقفون عند المشعر الحرام، ولا يخرجون عنه، وذلك أنهم يقفون عند حدود الحرم ويسمون أنفسهم: الحمس، أي: الذين شددوا على أنفسهم، وذلك بتبديل ما كان من الحنيفية السمح، فقالوا: نحن أهل حرم الله، فلا نخرج من حرم الله في أيام المناسك، وتبعهم على ذلك سكان الحرم سواء قريش أو غير قريش فلا يخرجون من حدود الحرم إلى المناسك، قريش، كنانة، ثقيف، وبنو عامر بن صعصعة، ولو كانوا من غير قريش ألحقوا أنفسهم بقريش، وذلك لأن أمهم قرشية، وهي مجد بنت تيم القرشية وقد ولدته أمه من بني عامر بن صعصعة فألحقوا أنفسهم بالحمس، وليسوا من سكان الحرم، وكفار قريش شددوا على أنفسهم، وشددوا أيضاً على بعض الأقوام في بعض الشرائح، فجعلوا على بعض من يأتي إلى المسجد الحرام وأراد الطواف أن يلبس لباسهم، وإذا لم يجد لباسهم فعلية أن يطوف عرياناً، استبداداً إما أن يطوف بلباسنا، أو يطوف عرياناً، فصار كثير من العرب يطوف في البيت عرياناً حتى أصبحت شريعة، وسنها في ذلك كفار قريش.

    المراد بالإفاضة

    الإفاضة في لغة العرب هو: الرجوع إلى ما كان عليه الإنسان، أو إرجاع الشيء إلى ما كان عليه، فالإنسان يفيض الماء على شيء، ثم يرجعه إليه مرة أخرى، هذه إفاضة، وكأن الإنسان ذهب ورجع من طريقه، فذهب من المشعر الحرام إلى عرفة، ثم رجع من عرفة من طريقه، وفي هذا إشارة إلى أن طريق الإنسان ينبغي أن يكون على هذا النحو، فأصل الإفاضة هو أن يرجع الإنسان الشيء إلى ما كان عليه، ولهذا قال: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199] يعني: ينبغي عليكم يا قريش ومن كان على شيء من الجاهلية أن يفيض كما أفاض العرب من بقية الناس، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199]، أي: اذهبوا إلى عرفة وارجعوا من عرفة إلى المشعر الحرام، وارجعوا من المشعر الحرام إلى منى كحال الناس.

    قلة قريش بالنسبة للحجاج سواهم

    في هذه الآية أن قريشاً قلة قليلة في الحجاج مع النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع؛ لأن هذه الآيات إنما كانت في حجة الوداع، والنبي عليه الصلاة والسلام سمى الحجاج الناس، والخطاب كأنه يتوجه إلى قلة، كحال الذي يأتيك ويسألك عن حكم فتقول: افعل كما يفعل الناس، يعني: أنهم أفراد معدودون، ولهذا الذين حجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة ألف، قال أبو زرعة : هم مائة وأربعة عشر ألفاً، وهذا عدد كثير، وإذا أراد الإنسان أن يحصي قريشاً وبطونها في ذلك الوقت يجد أنها لا تصل إلا إلى شيء يسير من ذلك، وربما كان ذلك دون العشر ممن حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا وجه الخطاب إليهم خطاب القلة، وجعل الناس هم الذين ينبغي للإنسان أن يسلك طريقهم.

    بغي من احتكر شيئاً عليه

    وفي هذه الآية إشارة إلى أن الإنسان إذا جعل الشيء حكراً عليه ضل وبغى، ولهذا كفار قريش لما استأثروا بالمسجد الحرام ولدوا شيئاً من البدع فتهيب غيرهم من أن يصحح المكان عندهم، فأدخلوا شيئاً، ولم يجدوا ما ينكر، ثم أدخلوا شيئاً حتى بدّلوا دين الله عز وجل، ووجه إليهم الله عز وجل الخطاب على أنهم قلة (أفيضوا من حيث أفاض الناس)، أي: أن هذه الشريعة ليست لكم، وإنما أنتم دخيل عليها، فبدلتموها، فينبغي أن ترجعوا إلى ما كان عليه حكم الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا الأمر دين مرده إلى دين الله لا إلى أحد بعينه، ولهذا تعظيم الأشخاص، وتعظيم القبائل، وتعظيم البلدان في دين الله عز وجل مما يفسد الدين ولا يصلحه، فينبغي أن ترجع الأمة إلى أحكام الله سبحانه وتعالى ودينه لا إلى أفراد ولا إلى قبائل، ولا إلى بلدان.

    الحكمة من الأمر بالاستغفار عقب الأعمال الصالحة

    ثم قال تعالى: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199]، أمر الله عز وجل باستغفاره، وذلك في خاتمة إتيان الإنسان بالمهمات من أنساكه، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان في خاتمة أعماله أن يكثر من الاستغفار، ولهذا حث الله عز وجل على الاستغفار في كثير من مواضع العبادة، منهاما جاء في الصلاة إذا انتهى الإنسان من صلاته أن يقول: استغفر الله، استغفر الله، استغفر الله، وكذلك أيضاً في هذا الموضع قال: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199]، أي: ينبغي عليكم أن تكثروا من الاستغفار إظهاراً لضعف الإنسان، وأنه حينما يأتي بهذه العبادة ينبغي ألا يظن أن له منةً، وأنه ما زال يطلب التوبة، وذلك لعظم نعم الله على عبده التي لا يحصيها الإنسان عداً فضلاً عن أن يتمكن من شكر المنعم عليها، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، فهو لا يحصيها عداً، فكيف يحصيها شكراً؛ لأن الإنسان لا يشكر ولا يجازي إلا ما علمه، فإذا كان لا يعلمها عداً فلن يجازيها شكراً، ولهذا ينبغي للإنسان أن يكثر من الاستغفار إظهاراً لافتقاره وضعفه، وإظهاراً لكمال الله عز وجل وقدرته سبحانه وتعالى، ولهذا ذكر الاستغفار، وما ذكر غيره من الأدعية والأذكار وذلك لمنزلته وفضله، وكذلك أيضاً دفعاً لما يجده الإنسان من كبرياء في عبادته، أو اغتراراً بها، أو انخداعاً بها، فإذا جاء بعبادة ظن أنه قد جاء بشيء يستعظمه على ربه، وهذا حال كثير من الناس، فأصبح في كثير من البلدان يوصف الإنسان بالحاج فلان، وهو حج قبل خمسين سنة، وأصبح حاجاً كأنه حاج كل سنة، وهذا فيه تعظيم لأثر العبادة على الإنسان، وينبغي للإنسان حينما يأتي بعبادة أن يكثر من الاستغفار.

    حكم اللقب بالحاج فلان

    واللقب بالحاج فلان أو نحو ذلك، إذا قصد بذلك الإتيان بالنسك وأن يصبح علماً عليه، فهذا لا ينبغي، بل يقال: إنه مكروه، إلا إذا كان مثلاً في بعض البلدان يقصدون بذلك السيد أو شيء من هذا لا أدري، لكن يغلب على ظني أنهم لا يسمون أحداً بالحج إلا شخصاً ذهب إلى مكة، ولكن ينبغي للإنسان إذا سمي حاجاً أن يقال له: استغفر الله إن الله غفور رحيم، وهذا أولى من اللقب، فلا تعظم عملاً أتيت به وتذكره إلى أن تموت بمثل هذا الأمر، فإذا كان الإنسان يكثر من استحضار عمل أداه لله عز وجل حتى يلقب به يستصغر ويحتقر الذنوب، وكذلك يستصغر ما يفرط فيه من جانب العبادات؛ لأنه استعظم عملاً أداه وميزه على غيره.

    نكتفي بهذا القدر، أسأل الله عز وجل لي ولكم التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ...

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767196850