الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد, وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فنتكلم على قول الله سبحانه وتعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ [البقرة:271], هذه الآية قد اختلف في سبب نزولها على أقوال عدة, إلا أنه لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء في سبب هذا النزول, ولا عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومعلوم أن الأحاديث الموقوفة على الصحابة في أسباب النزول تأخذ حكم الرفع, وقد نص على هذا غير واحد من الأئمة, كـالحاكم رحمه الله في كتابه المستدرك, وفي معرفة علوم الحديث, إلا أن القول في هذا فيما جاء عن الصحابة عليهم رضوان الله, منهم من قال: إن كل قول يأتي عن الصحابي في تفسير آية فيأخذ حكم الرفع, سواء كان في أسباب النزول أو كان في غيره.
ومنهم من قال: إن الأقوال التي تأتي عن الصحابة عليهم رضوان الله لا تأخذ حكم الرفع, إلا إذا كانت في أسباب النزول, قالوا: إن أسباب النزول ولو لم ترفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنها تحكي حالاً, وحكاية الحال رفع, وذلك أن سبب النزول ثمة منزل ومنزل عليه, والمنزل هو الله سبحانه وتعالى, والمنزل هو القرآن, فإذا قيل: إنها نزلت في كذا جاء عن الصحابة فالمراد بذلك أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد حكى الحاكم رحمه الله اتفاق العلماء على أن أسباب النزول إذا جاءت موقوفة على صحابي فهي مرفوعة, وثمة قول لبعضهم.
وقد أشار الحاكم رحمه الله إلى أن كل قول جاء عن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى, فيأخذ حكم الرفع, ويستدلون لهذا بجملة من الأدلة:
منها: أن الله سبحانه وتعالى أمره نبيه صلى الله عليه وسلم ببيان القرآن وتأويله للصحابة.
فكان تأويل النبي عليه الصلاة والسلام على أحوال, إما سكت عليه الصلاة والسلام بما علم من حالهم أنهم فهموه, فهذا إقرار, فيكون حينئذٍ ما جاء عن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى من قولهم في التفسير له حكم الرفع.
ومنها: ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة من بيان معاني القرآن, ثم ينقلونه بأقوالهم من غير رفع، فهذا يأخذ حكم الرفع أيضاً, وذلك أنه بالسبر أن الأقوال التي تأتي عن الصحابة عليهم رضوان الله في تفسير القرآن نجد أنها من اختلاف التنوع إلى التضاد, إلا فيما يتعلق بمسائل الأحكام وآيات الأحكام وهي التي معنا, فإنه يرد في ذلك اختلاف تضاد لا اختلاف تنوع.
وهذا لمن نظر ذلك وتأمله, يجد أن هذا هو الظاهر من كلام الله سبحانه وتعالى, فالله عز وجل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان القرآن, فإذا ألقى القرآن جملة من غير بيان فعلم أنهم فهموا الخطاب, فبيان القرآن كافٍ في إقرار ما لديهم, وإذا زاد النبي عليه الصلاة والسلام من ذلك بياناً فيكون كذلك، سواء نسبوه أو لم ينسبوه, فهو مرفوع.
وما يقولونه كذلك من غير نسبة للنبي عليه الصلاة والسلام فيدخل في دائرة الإقرار, وعلى هذا نقول: إنه لم يثبت عن الصحابة عليهم رضوان الله شيء في سبب نزول هذه الآية, وما جاء في هذا فهو ضعيف, سواء كان المرفوع أو الموقوف, وقد جاء في ذلك سببان:
السبب الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الصحابة عن الصدقة على المشركين, ويروى في هذا حديث، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم ), وهذا الحديث لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم, قالوا: فأنزل الله عز وجل على نبيه عليه الصلاة والسلام هذه الآية, والآية التي تليها في بيان النفقة على المشركين, وأن المشركين الله جل وعلا هو الذي يتولى هدايتهم, وأما بالنسبة للناس فهم مكلفون بالإنفاق.
السبب الثاني: أن المسلمين لما أغدق الله عز وجل عليهم من المال, سواء كان من الغنائم, أو ما كان من كسب أيديهم من تجارة أو زراعة أو ماشية أو غير ذلك, آتاهم الله عز وجل من المال فوجدوا في أنفسهم حرجاً من النفقة على أقربائهم من المشركين, فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية, ولا يثبت في هذا شيء على النبي عليه الصلاة والسلام, إلا أن سياق هذه الآية والآية التي تليها تدل على هذا الأمر.
وذلك أن الله سبحانه وتعالى بين حال الصدقة وصفة المتصدقين من جهة الإعلان والإسرار, ثم ذكر الله سبحانه وتعالى قوله جل وعلا: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة:272], يعني: هؤلاء الذين تنفق عليهم, ثم بين الله سبحانه وتعالى بعد ذلك حكم النفقة في قوله جل وعلا: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ [البقرة:272], يعني: على هؤلاء المشركين, فالهدية من الله جل وعلا.
وأما في النفقة فهي أسباب تتخذونها إن شئتم، فثمرة ذلك ومردها إلى أنفسكم.
وهنا مسألة هي فرع عن هذا التقرير, في مسألة الصدقة والزكاة على المشركين, فهل يجوز دفع الزكاة للمشركين أم لا؟
نقول: إن المدفوع من الإنفاق للمشركين والمسلمين لا يخلو من أحوال.
الحالة الأولى: أن يكون زكاة.
الحالة الثانية: أن يكون صدقة.
الحالة الثالثة: ألا يكون صدقة ولا زكاة, وإنما يكون هدية وهبة.
أما بالنسبة للزكاة فإن الله عز وجل قيدها بأهل الإسلام, ولا يجوز أن يدفع أحد زكاته لمشرك, إلا ما قيده الله عز وجل في كتابه العظيم في المؤلفة قلوبهم, وهذا استثناء يدل على أن الأصل في سياق الأصناف الثمانية إنما هي لأهل الإسلام, فحينما ذكر الله عز وجل التأليف, دل على أنهم لا يعطون للفقر ولا للمسكنة, ولو دخلوا للفقر والمسكنة وغيرها ما خصوا في باب التأليف.
كذلك فإن الله سبحانه وتعالى حينما ذكر الفقراء: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60], ذكر الفقراء والمساكين؛ دل على أن المسلم يعطى لفقره ولو لم يؤلف قلبه, فإذا كان المسلم فاسقاً فاجراً, ما دام مسلماً فإنه يعطى لفقره, ولو علمنا أن الزكاة لا تقربه إلى الحق أو ربما قطعنا بهذا, فنقول: إن القطع بذلك أو غلبة الظن لا تعني إسقاط حقه بذلك؛ لأن الشريعة قد جعلت حقه في الزكاة لفقره ومسكنته.
أما بالنسبة للمؤلفة قلوبهم سواء كانوا من أهل الكتاب وأضرابهم, فإنهم يعطون لتأليف القلب, ولو استحقوا مع المسلمين للفقر والمسكنة, ما كان ثمة حاجة لتخصيصهم في باب تأليف القلب؛ ولهذا نقول: إنهم ليسوا بداخلين في أبواب الفقر والمسكنة والغرم, وكذلك ابن السبيل.
ومن وجوه الدلالة في هذا أن المشركين لا يدخلون في أبواب الزكاة, أن الله سبحانه وتعالى قال: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:60], يعني: الجهاد في سبيل الله, من جهة دفع الزكاة لمن يجاهد في سبيل الله, دل على أن السياق يخاطب به أهل الإسلام, ولا يتصور من مشرك أن يجاهد في سبيل الله, وفي مسألة استئجاره والاستعانة به تبعاً مع المسلمين مقاتلاً, هذا من مواضع الخلاف عند العلماء.
وبهذا نعلم أن سياق الآية في آية الأصناف الثمانية, أنها نزلت من جهة الأصل للمسلمين, فذكر الله عز وجل أوصافهم, وما ذكر سبحانه وتعالى ديانتهم.
وأما بالنسبة للمشركين فذكرهم الله عز وجل تعييناً استثناءً لهم من الأصل.
وهل يعطى المسلم الغني تأليفاً لقلبه من الزكاة أم لا؟
قد اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في هذا, فإذا كان المسلم غنياً ولكنه صاحب فحش وفسق وبعد عن دين الله سبحانه وتعالى, فهل يعطى من الزكاة تأليفاً لقلبه ليصلح وأن يكف فساده، ولو كان غنياً ثرياً وليس من أهل بقية الأصناف؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين.
منهم من قال: إنه يعطى من الزكاة, وليس المشرك بأولى منه, فربما تساوى المسلم والكافر من جهة الأذية المتعدية على المسلمين, وربما فاق المسلم الفاسق الكافر, فيكون الكافر مسالماً, وعلى كفره باقٍ, لكنه لا يؤذي أحداً, وأما بالنسبة للمسلم في ظاهره يتربص بالمؤمنين كحال المنافقين الذين يظهر منهم النفاق العملي, فيعطى تأليفاً لقلبه.
ويستدل من يقول بهذا مما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه أعطى رجلاً وسعد جالس, فقال: يا رسول الله! ما لك أعطيت فلاناً وتركت فلاناً, وإني لأحسبه مؤمناً؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( أو مسلماً- يعني: لعله مسلماً- لا تجعله من أهل الإيمان, قال: فأعدت على النبي عليه الصلاة والسلام فأعاد علي مراراً, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا سعد ! إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه, خشية أن يكبه الله في النار ), يعني: تأليفاً لقلبه, أستجره حتى يقبل إلى الحق.
ومن العلماء من قال بعدم جواز دفع الزكاة للمسلم الغني لمجرد تأليف قلبه, وأما بالنسبة للصدقة فإن الأمر في ذلك واسع, ويحملون ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الباب من الإنفاق, في حديث سعد وغيره, قالوا: إن هذا من الصدقة, ولا يلزم من ذلك أن يكون زكاة, وتقييدها بالزكاة يحتاج إلى دليل.
أما الثانية وهي الصدقة على المشرك, فمن قال بالزكاة على المشرك بالأحوال السابقة فإن الصدقة من باب أولى, فإنه ما يجوز في الزكاة يجوز في الصدقة من باب أولى, وما يجوز في الصدقة لا يلزم أن يجوز في الزكاة, باعتبار أن الزكاة أشد وأكثر احتياطاً واحترازاً في هذا الباب.
والصدقة على الكافر, هل تعطى تأليفاً لقلبه كتقييدها في الزكاة, أم تعطى أيضاً لفقره ومسكنته وغير ذلك من حاجات الناس, كما يكون في المسلم؟
الأظهر أن الصدقة والزكاة لا تعطى للمشرك إلا تأليفاً لقلبه وتودداً له, والأمر في ذلك واسع, ولو كان غنياً, وقد جاء عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يعطون المشركين والكافرين من الصدقة, وهذا مما لا حرج فيه, ثبت هذا عن عبد الله بن عباس وعن عبد الله بن عمرو , وجاء في الصحيح عن عائشة عليها رضوان الله, لما دخلت عليها امرأة يهودية فسألتها فأعطتها, ثم ذكرت الحديث في بقيته في مسألة عذاب القبر وهو في الصحيح.
استدل بهذا على جواز الصدقة على أهل الكتاب وغيرهم تأليفاً لقلوبهم, من العلماء من قال بجواز الصدقة, ولو لم يقصد تأليف القلب, كأن يكون فقيراً أو نحو ذلك, قالوا: لأن التقييد في آية الأصناف إنما هو في أمر الزكاة, ولا يدخل في ذلك غيرها.
ومن أجاز ذلك في الصدقة فإنه يجيزها في الحالة الثالثة وهي مسألة الهبة والهدية وغير ذلك, فيقول: إنه يجوز للإنسان أن يعطي كافراً هدية, ولو لم يكن تأليفاً لقلبه, إذا جاز هذا في الصدقة عنده فيجوز في باب الهدية من باب أولى.
نقول: إن الأدلة التي وردت عن السلف في الهدية للكافر لأن أصل في الهدية هو تأليف للقلب, ولو لم ينص على هذا, ولهذا جاء في الخبر في حديث أبي هريرة وغيره، قال عليه الصلاة والسلام: ( تهادوا تحابوا )؛ لأن الأصل في إعطاء الهدية أنها تجلب المحبة، والنفوس مجبولة على حب من أحسن إليها, فإذا أعطيت أحداً هدية أو جاء عن السلف أو عن النبي عليه الصلاة والسلام في مسألة الهدية للكافر؛ لأن التعليل في ذلك ظاهر, ولا يحتاج إلى أن ينص عليه.
ولهذا نقول: إن أكثر العلل في الشريعة لا ينص عليها؛ لظهورها وجلائها في عقل الإنسان, وهذا أمر معلوم في مسألة الهدية, ولكن نجد أن العلماء حينما يتكلمون على مسألة الزكاة والصدقة والهدية, يتكلمون في المشرك أو الكتابي الذي ليس محارباً, فأما المحارب فلا يعطى من ذلك شيئاً؛ لأنه يتربص بالمسلمين, وينتظر ضعفاً فيهم, فربما أدى ذلك إلى تقويته, وهل هذا على الإطلاق؟
نقول: ليس على إطلاقه, فربما يعطى الحربي إذا غلب على الظن أن الهدية تكسر قلبه, وتضعف أثر العداوة فيه, وربما لحق بالمسلمين, ويشترط لهذا أن تكون الهدية عادة لا تقويه على المسلمين, وذلك كهدية القميص وأشباهها من الهدايا التي لا تكون سلاحاً أو مالاً يتقوى به الإنسان أو غير ذلك.
والدليل على هذا: أن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى بعث إلى أخيه قميصاً بمكة, وكانت مكة زمن حرب.
ولهذا نقول: إنه ربما يجوز للإنسان أن يهدي هدية لكافر حربي إذا غلب على ظنه تأليف قلبه بذلك.
ولكن نقول: إن الهدية للحربي في باب التأليف أضيق من غيره من أهل الذمة والعهد وغيرهم.
ويدخل في هذا من عرف إنساناً بعينه, أو عرف مدخلاً عليه, لحاجته وفقره, أو لكف شره ودفعها, فهذا من الأمور التي تقدر بقدرها, والأصل أن الحربي لا يعطى من المال في جميع هذه الأحوال الثلاثة.
وهنا في قول الله سبحانه وتعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ [البقرة:271], هذا في مسألة الصدقات, هل هو في الفرض أو النفل؟ ذكر الله سبحانه وتعالى مسألة الإسرار والعلانية.
(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ) الإبداء هو من العلانية, (وإن تخفوها) المراد بذلك كما في ظاهره هو الإسرار, وهل هذا في سائر أنواع الصدقات؟
نقول: اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في هذه الآية, هل المراد بالصدقات هنا النوافل, نوافل الصدقة, أم المراد بذلك الزكاة؟
اختلف العلماء على قولين:
جمهور العلماء قالوا: إن المراد في مسألة الصدقة النفل لا الفرض؛ لأن الفرض الأصل فيه العلانية.
ومن قال بأن المراد بهذه الآية هي النافلة وليس الفريضة, فنقول: هذا جاء عن جماعة من السلف من المفسرين, ومنهم من قال بعكس هذا.
جاء عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى فيما رواه ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم في كتابه التفسير, من حديث علي بن أبي طلحة: أن عبد الله بن عباس تلا قول الله جل وعلا: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ [البقرة:271], فقال: إن صدقة النفل سرها أفضل من علانيتها بسبعين ضعفاً, وصدقة الفرض علانيتها أفضل من سرها بخمس وعشرين.
فالنافلة الأصل فيها الإسرار, فسرها أفضل من علانيتها بسبعين ضعفاً.
وأما الفرض فعلانيتها أفضل من سرها بخمس وعشرين, وإسناده صحيح عن عبد الله بن عباس.
وقال بأن هذه الآية إنما هي في النافلة لا في الفرض جماعة من المفسرين.
وأما بالنسبة لعموم الأصل في السر والعلانية في الشريعة, فنقول: الأصل في الفرائض العلانية, سواء كانت صلاة أو كانت من الشرائع المالية أو البدنية أو غير ذلك, والأفضل للإنسان أن يعلنها, وما دون ذلك من النوافل الأفضل فيها السر, ولهذا صدقة السر أفضل من صدقة العلانية, وصلاة السر أفضل من صلاة العلانية, وصلاة الليل أفضل من صلاة النهار؛ لخفائها وخلو الإنسان بنفسه عن المشاهدة ممن حوله, لهجعة الناس وضجعتهم, ولكونه في ليل وليس في نهار, فكان أثرها عليه أعظم من أثر صلاة العلانية على نفسه.
وهذا في كل فرض, وقد حكى إجماع العلماء على أن الفرائض علانيتها أفضل من سرها وأن النوافل سرها أفضل من علانيتها ابن جرير الطبري رحمه الله.
ويستثنى من هذا الصدقة ففيها خلاف وليس فيها إجماع.
اختلفوا في الزكاة, المالية للفرض: هل الفرض سرها أفضل من علانيتها أم لا؟ على قولين.
جمهور العلماء على أن الفرض في علانيتها أفضل؛ وذلك لإظهار الشعيرة وحث الناس وحظهم ودفع إحسان الظن بأهل البخل والنفاق ألا ينفقوا, بحيث أن الإنسان إذا قيل له: إن الأفضل أن تخفي الزكاة, فإن كل أحد من مرضى القلوب وضعفاء الإيمان يقول: إني أخرجت الزكاة, فيحسن الظن بأهل السوء, فيكون حينئذٍ إخراج الزكاة لوجود المصلحة العظمى في ذلك هي علانيتها أولى من سرها.
وأما بالنسبة للصدقة من غير الفرض, فنقول: إن الصدقة في ذلك أن سرها أفضل من علانيتها, لما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله قال: ( رجل أنفقت يمينه صدقة بما لا تعلم شماله ).
وهذا إشارة إلى شدة الخفاء والسرية في نفقته, فكان ذلك أعظم من غيرها, ولكن هل هذا على إطلاقه؟
نقول: هذا ليس على إطلاقه, بل قد تكون النفقة النافلة علانيتها أفضل من سرها, إذا كان أثر العلانية على الناس والمسلمين أعظم وأظهر, وذلك كأن يكون الناس في فاقة, ويحتاجون إلى أن يتداعوا, فيجمعون الناس ثم يقوم بالإنفاق أمامهم حتى يتداعون, لأن النفوس تحب المنافسة في أعمال الخير, وربما أن هناك من أصحاب النفوس أو قلة اليد فيجد حرجاً من النفقة بالقليل, فإذا وجد من يعينه ويشاركه بإخراج القليل, دعاه ذلك إلى عدم الاستحياء, فإن النفوس تنفر من الإنفراد بالعمل, وتحب ولا تستوحش بأمر الجماعة.
ولهذا جاء في صحيح الإمام مسلم وغيره, من حديث المنذر بن جرير عن أبيه، (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه أقوام مجتابي النمار من مضر, قام النبي عليه الصلاة والسلام فخطب الناس، ثم حثهم على الصدقة, فجاء رجل بشيء من الصدقة تقله يده, ثم وضعها، ثم جاء هذا بمده، وهذا بصاعه, حتى تهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى قيام الساعة ) .
وهذا فيه إشارة إلى علانية الرجل, فجعل النبي عليه الصلاة والسلام عمله ذلك لما كان له الأثر في دفع الناس إلى الصدقة. كان أعظم من غيره؛ لأنه أتى أجور غيره, ولو أسرها كانت صدقة لازمة وما أخذ أجر التابعين.
ولهذا نقول في مثل هذه الأحوال: إن هذا مما لا حرج فيه, بل يتأكد في مثل هذا الأمر, ولكن إذا كان الإنسان ينفق وحده ولا يحتاج أن يستحث أحداً أو يخبر أحداً إلا ليعلمه, فنقول: الأفضل في ذلك الإسرار, أو غلب على ظن الإنسان أنه إذا أنفق ألا يقتدي أحد من الناس به, فالأفضل في حقه أن يسر بصدقته؛ وذلك لأمور:
الأمر الأول: أن هذا أدفع للرياء وحب العجب والإخلاص.
الأمر الثاني: أن هذا أعظم لنفس الفقير والمحتاج, فإن الإنسان حينما ينفق, يقول: هذه نفقتي لآل فلان الفقراء, أو نفقتي من في بلدة كذا, أو غير ذلك, وربما يكون فيها كسر لأنفسهم, والنفوس لا تحب الاتكال والاعتماد على غيرها.
ولهذا نقول: إنما جاء هذا الأمر بالإسرار في النافلة, تحقيقاً لمصلحة الإنسان في ذاته, وتحقيقاً لمصلحة غيره.
وقوله سبحانه وتعالى: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271], يعني: أن المسألة فاضل ومفضول، وكلها مرجعها في ذلك إلى الفضل, وأما بالنسبة للتفاضل في هذا فهو على ما تقدم.
وذكر الفقراء هنا باعتبار الأغلب من أحوال الناس, أن الإنسان لا ينفق إلا على فقير.
وهل النفقة على الأغنياء مما يجوز أم لا؟
يأتي الكلام على هذا في مسألة الصدقة, أما الزكاة فلا يجوز باتفاق العلماء, إلا ما يتعلق في بعض الصور, مما يأتي في ابن السبيل, أو من كان في سبيل الله أو غير ذلك, وهذه لها مباحثها, وسيأتي الكلام عليها بإذن الله عز وجل, أما الصدقة لغني مكتف وليس ثمة سبب يوجب إعطاء الصدقة, فهل يجوز ذلك ويصح أم لا؟
يأتي الكلام عليه بإذن الله تعالى.
وفي قول الله جل وعلا: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271], على ما تقدم في التفاضل في هذا الباب لا أصل القبول.
وقول الله جل وعلا: وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ [البقرة:271], في هذا إشارة إلى أن تكفير الطاعات للسيئات بحسب أثر الباطن لا بحسب أثر الظاهر, ولهذا لما كانت الصدقة الظاهرة تختلف أثراً في قلب الإنسان من جهة الريا والإخلاص عن الصدقة في السر, اختلف أثرها في تكفير الذنب, والصدقة التي يصاحبها الإخلاص أعظم, تأتي على السيئات الأكبر, والصدقة التي يصاحبها رياء أو سمعة أو غير ذلك فشابتها شائبة لا تأتي على السيئات كما يأتي على ما دونه.
ولهذا نقول: إن أثر الطاعات بالأعمال الباطنة أكثر من الأعمال الظاهرة, فربما ينفق الإنسان ألف ألف دينار وهو مليون, ولكن في قلبه شائبة رياء, ومن الناس من ينفق درهماً أو ديناراً, فبركة هذا عليه وتكفيره لسيئاته أعظم من ذاك, ولهذا تجد كثيراً من الناس ممن ينفق وينفق من ماله, ولا يجد بركة ذلك في نفسه, والسبب في هذا أن هذه الأشياء التي تنفقها هي شبيهة بالقطن والإسفنج, وهي ضخمة لكن من جهة وزنها لا قيمة لها, فأثرها عليك ضعيف, لا في انشراح الصدر ولا في بركة المال, فيقول: إني منفق, أنفق نفقات كثيرة, ولكن أثرها في بركة المال وبركة الولد وبركة النفس وضيقها وحرجها في هذا ظاهر.
ولهذا نقول: إن الأثر إنما هو بالعمل الباطن لا بالأمر الظاهر, ولهذا ينبغي للإنسان أن يحرص على أمر البواطن وهذا ظاهر في سياق الآية؛ لأن الآية جاءت في الإعلان والإسرار, وما جاءت في الكثرة والقلة.
وفي هذا أيضاً الدلالة على الأصل, وقد تقدم الإشارة معنا في هذا, أن الحسنات تكفر السيئات, وهذا باتفاق العلماء, وهو ظاهر في قول الله جل وعلا: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114].
أما عكس هذه المسألة وهي السيئات: هل تمحو الحسنات أم لا؟
هذا محل خلاف عند العلماء, على قولين.
ذهب جماعة إلى أن السيئات لا تمحو الحسنات, وهذا قول طائفة من أهل السنة, وهو قول المعتزلة أيضاً, وذهب طائفة من أهل السنة إلى أن السيئات تمحو الحسنات كما أن الحسنات تمحو السيئات.
والصواب في ذلك أنه كما أن الحسنة تمحو السيئات, فالسيئات تأتي أيضاً على الحسنات, وهي مغالبة في هذا, فالغلبة في هذا للأقوى.
إلا أن أثر السيئات على الحسنات أقل من أثر الحسنات على السيئات؛ لأن رحمة الله عز وجل في هذا أعظم, وهي تظهر رحمة الله سبحانه وتعالى أن الحسنة بعشر أمثالها, فتتعاظم وتقوى على السيئة الواحدة, أما السيئة فهي واحدة, فإذا قابلتها حسنة بعشر أمثالها, أتت على واحدة وأبقت تسعة, والغلبة في ذلك للأغلب, وإذا كثرت سيئات الإنسان أتت على حسناته, وما يمحو من سيئات الإنسان لحسناته هي على أنواع: منها: ما يتعلق بالذنوب المتعلقة بينه وبين ربه, ومنها: ما يتعلق بالذنوب المتعلقة بينه وبين الناس, والكلام على هذا يطول, ولعلنا نتكلم عليها بإذن الله عز وجل في موضعها من سورة هود بإذن الله تعالى.
ويأتي معنا أيضاً مزيد الكلام في مسألة النفقة على أهل الكتاب في سورة الممتحنة بإذن الله تعالى.
وقول الله جل وعلا: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:271], أي: أن الإسرار والعلانية في ظاهره أن هذا لا يحتاج لإعلام الله سبحانه وتعالى, فالله يعلم أسررت أم أعلنت, وإنما المراد بذلك هو عظمة الأجر على الإنسان.
وفي الآية التي تليها في قول الله سبحانه وتعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272].
إشارة إلى ما تقدم معنا في هذه الآية, أن السبب في نزولها إنما هو في النفقة على المشركين, فحينما ذكر الله سبحانه وتعالى النفقة وأحوالها, ذكر مسألة الكفر والشرك, وأن الهداية من الله, فلا تعلق للصدقة فيها.
وهذا على ما تقدم إنما هو في الصدقة التي ليست بواجبة, أما بالنسبة للزكاة فإن المشركين لا يعطون إلا إذا كان تأليفاً لقلوبهم.
في قول الله سبحانه وتعالى: لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:273], نزلت في المهاجرين الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش إلى المدينة, وإنما سموا بمحصرين؛ لأن هجرتهم منعتهم من العمل.
وذلك في صور، منها: أنهم تركوا أموالهم ورءوس أموالهم في مكة, وليس لديهم مما يقدرون عليه, فأشبه حال المحصرين, فتركوا إذا كانوا أهل ماشية أو أهل مال من ذهب أو تجارة أو غير ذلك في مكة ولم يكن لديهم شيء, وهذا يشبه حاله حال المحصر عن العمل.
وكذلك أن المهاجرين الذين كانوا في مكة قدموا إلى المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيعون الخروج منها خوفاً من المشركين؛ لأنهم فروا منهم وما علم بهم المشركون, فما كانوا يأذنون للمهاجرين أن يخرجوا من مكة إلى المدينة, فلزم ذلك أن يبقوا في المدينة وألا يخرجوا إلى أطرافها, فلا يستطيعون أن يخرجوا لرعي الماشية, وتربيتها في أطراف المدينة؛ خوفاً من أن يأتيهم متربص من المشركين, ولا يستطيعون أيضاً أن يرتحلوا إلى الشام, أو يرتحلوا إلى اليمن للتجارة؛ خوفاً من المشركين, ولو كانوا من أهل المدينة ما كان لكفار قريش عليهم مدخل, فهم يذهبون في بساتينهم ورعي ماشيتهم من إبل وغنم وبقر, ويذهبون أيضاً إلى التجارة إلى الشام, وإن اعترضهم أحد من كفار قريش ونحو ذلك ليس عليهم مدخل حتى في عرف العرب.
وأما بالنسبة لمن كان مهاجراً فيرى كفار قريش أن لهم عندهم عهداً وخيانة, فيريدون من ذلك التربص بهم وقتلهم؛ ولهذا كان حالهم في حال المدينة كحال المحاصرين فيها, لا يستطيعون الخروج منها, فجعل الله سبحانه وتعالى ذلك سبباً لاستحقاقهم للزكاة.
وقد جاء أن سبب هذا النزول إنما هو لمن هاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش إلى المدينة مسلمين, فجاء عن جماعة كما رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر , وجاء أيضاً من حديث معمر عن قتادة كما رواه عبد الرزاق في كتابه المصنف, وجاء أيضاً عن غيرهم من المفسرين كـالسدي وغيره.
وهذه الآية كما تضمنت الصدقة على المحصر فإنها تتضمن معنى آكد وأولى وهو فكاك الأسير, إذا كان المسلمون ممن هاجر مع النبي عليه الصلاة في المدينة, وهم يملكون حريتهم, ويملكون أيضاً أن يآجروا أنفسهم في المدينة استحقوا الزكاة, فإن المحبوس يستحق الزكاة من باب أولى, ويستحقها في حالين, في النفقة عليه في ذاته, وفي إخراجه إلى المسلمين, ولهذا نقول: إن هذه الآية فيها الدلالة بالأولى على دفع الزكاة للأسير نفقة عليه, وإخراجاً له إلى المسلمين, والأسير أولى من الفقير, ولو كان الأسير غنياً في ذاته؛ لأن الفقير يخشى عليه بنفسه, وأما الأسير فيخشى على دينه ونفسه, فامتاز عن هذا؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام قدم الأسير على الفقير في قوله كما جاء في الصحيح قال: ( فكوا العاني, وأطعموا الجائع, وعودوا المريض ), كما رواه البخاري .
والعاني هو الأسير, ولهذا العلماء عليهم رحمة الله يوجبون دفع المال لإخراج الأسير من جميع مصارفه, سواء كان ذلك من الزكاة, أو كان ذلك من الصدقة, أو كان ذلك من أموال الأوقاف, وهو أحق من جميع مصارف الوقف, باعتبار حفظ الدم وحفظ الدين, وكذلك أيضاً حتى لا تكسر شوكة المسلمين, فلا يكون الأسرى في كل مكان للمسلمين, فتسقط بذلك هيبتهم ومنزلتهم, وفي هذا من حفظ الدين وحفظ الدنيا وحفظ الأنفس والعقول والأعراض وغير ذلك.
ويعظم ذلك بعظمة حال الأسير, فالاثنين أعظم من الواحد, والثلاثة أعظم من الاثنين, والمرأة أعظم من الرجل, وربما المرأة أعظم من مجموعة الرجال؛ وذلك لتعدي ذلك على النفس والدين والعرض, وأما بالنسبة للرجل فإن الأمر يكون على نفسه وعلى دينه, وكلما اشتدوا في ذلك الأمر اشتد وجوب وتأكيد ذلك.
وقد سأل الإمام مالك رحمه عن مسألة فكاك الأسير فقال: أليس يجب علينا القتال لإخراجهم, فإن المال من باب أولى, يعني: أنه إذا وجب دفع النفس والدم, فإن دفع المال من باب أولى لإخراجهم.
والإمام أحمد رحمه الله يقول: لا أعلم أنهم يفادون بالمال, يعني الأسرى إذا كان ثمة مال, ولكن يفادون بالرءوس, وكأن الإمام أحمد رحمه الله يرى أن المسلمين يأخذون أسارا ليفادوهم.
والإشارة من الإمام أحمد رحمه الله في هذا, (لا أرى) أنه لا يجيز إخراج الأسير بالمال, وكأنه يريد أن يبين أن حال النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه أنهم لا يخرجون الأسير بالمال؛ لأن في هذا نوعاً من الذل, وأما الأسير فيخرجونه بأسير آخر؛ للندية؛ لتظهر في ذلك القوة, ولهذا يقول الإمام أحمد رحمه الله: يخرج الأسير بالرءوس, أما بالمال فلا أعرفه, يعني: لا أعرفه عن الصدر الأول, وإنما يكون برأس فيأسر المسلمون من المشركين حتى يفادوهم.
أما مسألة الفدية بالمال وإيجابها وحقه في ذلك إذا كان الاقتصار عليها, فلا أظن أن الإمام أحمد رحمه الله ممن لا يقول بذلك, ولكنه يريد من ذلك العزة والقوة, أن يكون الفدية بالنفوس لا بالمال, حتى لا يكون في ذلك استضعافاً لحال المسلمين, واستنزافاً أيضاً لأموالهم.
وفي قول الله سبحانه وتعالى: لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:273], هنا ذكر في سبيل الله, وفي هذا دلالة على أن المهاجر يأخذ حكم المجاهد, وكذلك أيضاً سماه: في سبيل الله مع أنه في دار إقامة؛ لتربصه بالقتال؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما هاجر من مكة إلى المدينة, يعلم الصحابة الذين هاجروا معه, ويعلم أهل المدينة أن النبي صلى الله عليه وسلم يتربص الزمن للرجوع إلى مكة فاتحاً, فهؤلاء قدموا مع النبي عليه الصلاة والسلام, فحبسوا أنفسهم تربصاً وانتظاراً داعي النفير.
ولهذا نقول: الذي يتربص بنفسه منتظراً للنفير, فإنه من أهل الزكاة ولو كان قادراً على التكسب والعمل, ولهذا قد حمل بعض العلماء الإحصار المراد بذلك التربص بأنفسهم, أي فرضوا على نفسهم من ذلك حصاراً يتربصون؛ لأن الإنسان إذا ضرب في الدنيا, زرع البساتين, ووضع الماشية, منعته من الانتظار, فربما يأتي داعي النفير بعد شهر, ماذا يفعل بزرعه, وماذا يفعل بماشيته؟ ماذا يفعل بتجارته إذا ذهب إلى الشام ونحو ذلك, فهذا يعطل تربصه في هذا, ولهذا نقول: إذا وجد من المسلمين من يتربص بنفسه نفيراً أو دعوة, فإنه يكون من أهل الزكاة, ولو كان قادراً على العمل, وقد نص على هذا جماعة كما رواه عبد الرزاق في كتابه المصنف عن معمر عن قتادة أنه قال: يتربصون بأنفسهم الغزو, يعني ينتظرون بأنفسهم الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا أيضاً إشارة إلى أن من وجد مانعاً له عن العمل أو التكسب, ولو كان مقتدراً في ذاته, فإنه يكون من أهل الزكاة, كحال الإنسان الذي منع من العمل أو نحو ذلك لأي سبب من الأسباب, فيقال: إنه يعطى من الزكاة, ويستثنى من هذا الذي يتعمد عدم العمل, وهو قادر على هذا وأسباب العمل موجودة, فلا يعطى من الزكاة؛ لأن هذا يعينه على التواكل على غيره.
بخلاف الذي هو قادر على العمل, ولكن أسباب العمل معدومة, فيعطى من الزكاة ولو كان قادراً؛ وذلك لعدم وجود الأسباب, وذلك قياساً على حال الصحابة عليهم رضوان الله, فالصحابة جاءوا أفراداً وجلهم رجال جاءوا إلى المدينة, ولو أرادوا أن يآجروا أنفسهم من أهل المدينة, فالمدينة لا تستطيع أن تآجر هذا العدد فاحتاجوا إلى المقاسمة في جانب المال, كأن يكون في بلد كثرة أو نحو ذلك ولا يجدون من ذلك عملاً ولو كانوا قادرين فيعطون من هذا, وهذا المعنى جاء في قول الله سبحانه وتعالى: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19].
جاء عن عائشة عليها رضوان الله أنها قالت: هو الرجل المحارف الذي لا يجد ما يتكسب به, لديه قدرة بدنية, لكن لا يجد ما يتكسب به, إما فرصة عمل أو آلة عمل, كأن يجد الفرصة لكن ما يجد الآلة, فمثلاً يجد فرصة الحفر لكنه ما يجد آلة يحفر, ليس لديه قدرة مالية, أو لا يجد مثلاً دابة يرتحل بها أو يآجرها في النقل أو نحو ذلك, ولكن لديه قدرة من جهة بدنه.
ولكن تعطل وصوله إلى العمل فيعطى من الزكاة في هذا, وهو من أهلها كما جاء في حديث عائشة , ويأتي مزيد كلام على هذا بإذن الله عز وجل في موضعه.
وهنا في قول الله سبحانه وتعالى: لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ [البقرة:273], في هذا جملة من الأحكام منها في قول الله جل وعلا: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ [البقرة:273], أنه يستحب للإنسان أن يسأل عن حال الفقير الذي يتستر بفقره ويظهر غناه تعففاً, وأنه أولى من غيره بالمال؛ لأن السائل يجد معطياً, ومن لا يسأل ومع ذلك يظهر الغنى, فإن الناس لا يجدون سبيلاً إليه, ولهذا قال: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ [البقرة:273], والسبب في ذلك (من التعفف), ولكن قوله سبحانه وتعالى هنا: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ [البقرة:273].
هل السيماء كافية في إعطاء الزكاة, كون الإنسان يرى حال إنسان الفقير, فهل يعطيه من الزكاة لمجرد ظاهره أم لا؟
نقول: نعم يعطيه إذا ظهر من حاله الفقر, ولو لم يسأل, ولكن هنا مسألة عكس هذا, إذا سأل وحاله الغنى فهل يعطى أم لا؟
نقول: يعطى من ذلك وينبه أنها لا تحل للغني, والدليل على هذا أنه لما جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو شديد, فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن شئت أعطيتك, إلا أنها لا تحل لغني ولا ذي مرة قوي ), يعني: أنها لا تحل لك أنت, إن كنت أنت تدعي أنك محتاج فأنت أعلم بحالك, لكني لا أرى آثار الحاجة عليك, ويعطى لسؤاله؛ لأنه أعلم بحاله, ولهذا جعل الله سبحانه وتعالى حقاً للسائل لمجرد سؤاله؛ فقال جل وعلا: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25].
فمجرد السؤال يستحق العطاء, وإذا كان يظهر منه الفقر فيعطيه ولا يسأله ولا ينبهه, أما إذا كان يظهر من حاله الغنى فيعطيه وينبهه أنها لا تحل له وهو خصيم نفسه ويحاسب على ذلك؛ لأن من الناس من يحتاج المال لا لفقره, بل ربما يؤتى لغرم أو لأنه ابن سبيل وهو غني في بلده مقتدر, فيظهر من ملبسه أو مركبه إذا انقطع به السبيل, فيعطى من المال وينبه على هذا الأمر, كما نبه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل.
وهذا في مسألة الزكاة, أما الصدقة فهل يعطى الغني من الصدقة أم لا؟ وهل يجوز له أخذها؟
قد ذكر بعض العلماء الاتفاق على أن الغني لا حرج من أخذه الصدقة, إلا أن الأفضل أن تكون للفقير, وأن الصدقة تختلف في يسرها عن الزكاة, وقد حكى النووي رحمه الله إجماع العلماء, على أن دفع الزكاة إلى الغني وأخذه لها أن هذا ليس بحرام, والأولى أن يدفعها للفقير.
أما الزكاة فتحرم عليه.
والصدقة من جهة فضلها لها وجوه تفضل بها.
الوجه الأول: الكثرة والقلة, فالعشرة أعظم عند الله عز وجل من الواحد والاثنين من الدينار والدينارين وغير ذلك.
الوجه الثاني: النفاسة, ولو قل العدد؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام ( سئل عن أي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها عند أهلها ), فإذا كان المال نفيساً عندك فأخرجته فإنه أعظم عند الله سبحانه وتعالى, فإذا كان لديك رقبة, أو لديك مال أنفس من مالك, فلو أخرجته ولو كان العدد قليلاً, فالرقبة النفيسة عندك ولو واحدة, أعظم من رقبتين تزهد بهما؛ ولهذا نقول: إن النفاسة أيضاً وجه من وجوه التفضيل.
الوجه الثالث: تعظم الصدقة بأثرها, فالصدقة بدينار لإنقاذ نفس تختلف عن الصدقة بدينار لعلاج مريض, والصدقة بدينار لدفع عن عرض تختلف عن الصدقة بدينار لإطعام وغير ذلك, وهي تتباين بأثرها.
الوجه الرابع: أنها تتباين بآخذها, وذلك أن الصدقة على الفقير الصالح أعظم وأولى من الصدقة على الفقير الفاسق؛ لدفع الظن في استعمالها في فسقه, كأن يعطي الإنسان فقيراً مالاً ولكن يخشى أن يستعملها في سكر, أو يستعملها في فحش أو غير ذلك, ولكن نقول: إنه إذا اجتمع في هذا أوصاف الحاجة التي يضعها، ويتحقق فيها المقصد الشرعي فهو أفضل من غيره, فمن اجتمع فيه الفقر والمسكنة والغرم والرقبة, وكان في سبيل الله, فإنه أولى ممن اجتمع فيه بعضها.
ولهذا نقول: المجاهد الفقير الغارم وكان أيضاً في سبيل الله أولى من الفقير المجرد, والفقير أولى من المسكين؛ لأن الفقر في ذلك أشد, ولو كانوا من أهل الزكاة جميعاً, وهذا من وجوه التفضيل للصدقة, وفي قوله هنا: لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273], في هذا إشارة إلى فضلهم, ولو كانوا في بلد غربة, فالإنسان في بلده في قريته في أهله يستحي من السؤال, وإذا كان مغترباً يقل في ذلك حياء المغترب من جهة قوله وفعله وملبسه وكلامه وغير ذلك, ومع ذلك كان هؤلاء المهاجرون يأتون إلى المدينة ويتعففون أيضاً عن السؤال, بل ويظهرون من ذلك الغنى وهذا من كمال الأخلاق ومن شيم أهل العدالة من الرجال.
وهنا مسألة في قوله: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273], هم يتعففون عن الصدقة والزكاة, إذا علمنا أن الفقير يظهر الغنى والاكتفاء وهو فقير, وإذا قلت: إن هذه زكاة ما قبلها, أو قلت: إنها صدقة ما قبلها, ولو قلت هدية قبلها, فهل يجوز أن تدفع المال وهو زكاة ولا تسميه زكاة؟
نقول: قد تكون الهدية أعظم من الزكاة والصدقة, فالهدية مثلاً للرسول صلى الله عليه وسلم أعظم من الصدقة والزكاة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لا يقبل الصدقة, وقد حرمها الله سبحانه وتعالى عليه, ولهذا نقول: من امتنع من أخذ الزكاة وهو من أهلها فإذا قدر الإنسان أن يعطيه هدية فأثرها عليه أعظم من ما لو أعطاه زكاة, وإذا كان لا يستطيع أن يوصل زكاته إلى محتاج إلا بتسميتها هدية ويبطن نية الزكاة صح منه ذلك؛ لأن المقصد الشرعي لا يتحقق إلا بمثل هذا الأمر, بسد حاجة المحتاج وقضاء حاجته, وهذا مما لا حرج فيه, حفظاً لكرامة الإنسان, وكذلك أيضاً دفعاً لحاجته.
وكذلك أيضاً فإن الصدقة على الفقراء والمحتاجين والمعوزين من الأقربين أفضل من غيرهم, ولكن اختلف في الهدية والصدقة, هل الأفضل على الأقرب الهدية أم الصدقة على الأبعد؟
ظاهر الدليل أن الهدية على الأقرب أفضل من الصدقة عن الأبعد, وهذا جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في الخادم لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( هلا جعلتها في أخوالك ), لما أعتقه فقال: ( لو جعلته في أخوالك ), وهذا إشارة إلى أن الهدية للأخوال أفضل من العتق وهذا صدقة على المعتق, فنقول: إن الإنسان لو أهدى مالاً أو أهدى هدية من متاع إلى قريب: إلى خال أو عم أو غير ذلك, فهذا أفضل من أن يتصدق بصدقة على الأبعدين؛ لأن الشريعة تنظر إلى الغايات, وتحقق المقاصد الشرعية في الأقربين ولو كانت هدية؛ لأنها الهدية على الأقرب صدقة وصلة, ففيها صلة رحم وتحقق ما هو أعظم من ذلك, ومعلوم منزلة الرحم, بخلاف الأبعد, فهي صدقة ولا يتحقق فيها الصلة.
وفي قول الله سبحانه وتعالى: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة:215], يعني: يعلمه الله سبحانه وتعالى ويحصيه لعباده, أظهر الإنسان ذلك أو أسره.
أسأل الله سبحانه وتعالى لي ولكم التوفيق والسداد, وأسأله جل وعلا أن ينفعنا بما سمعنا, وأن يعلمنا ما جهلنا, إنه ولي ذلك والقادر عليه, وصلى الله وسلم وبارك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر