الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى قد أكرم هذه الأمة وأنعم عليها بنعم جليلة عظيمة القدر, وخصها الله عز وجل بجملة من الفضائل تشترك بها مع غيرها من الأمم, وخصها بفضائل تتميز بها عن غيرها, وذلك أن لله عز وجل فضلاً يضعه سبحانه وتعالى حيث شاء, وأعظم نعمة على هذه الأمة أكرمها به أن أحكم لها الكتاب, وأتم عليها النعمة وهي نعمة التنزيل, وجعل الله سبحانه وتعالى كتابه محفوظاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, وجعل الله عز وجل ذلك باقياً إلى قيام الساعة, إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9], وأثر ذلك على الأمة عظيم, وذلك باتساعها وكثرة أتباع الحق ممن تبع محمداً صلى الله عليه وسلم, وكلما كان القول أحكم والرأي أسد والشبهات عليه أقل كان الأتباع له أكثر, ولهذا كان أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الأمم؛ كما جاء ذلك في أحاديث كثيرة؛ كما في حديث عبد الله بن عمر وحديث أبي موسى وأبي هريرة وغيرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذلك لإحكام القرآن وشموليته, وحفظ الله عز وجل له, وتهيئة جملة من الأسباب أن حاط الله عز وجل الشريعة به, جعل الله سبحانه وتعالى الدين على مراتب, وجعله جل وعلا على منازل, وجعل الإيمان أيضاً على شعب, لا تجتمع في شعبة واحدة, وإنما تتنوع, يوجد في بعض العباد شعب لا توجد في غيرهم, إلا أن الإيمان لا يتحقق إلا بتحقق أعلاه, وأما بالنسبة لزيادته ونقصانه فبمقدار زيادة تلك الشعب يقوى الإيمان وينقص ويزداد, وكذلك يضعف, وذلك لأسباب يأتي الكلام عليها بإذن الله تعالى.
الله سبحانه وتعالى جعل الشريعة على أنواع, ونستطيع أن نقول: إن ما جاء به الوحي من السماء على ثلاثة أنواع: النوع الأول: ما يتعلق بأمور العقائد, النوع الثاني: ما يتعلق بأمور الشرائع, وهي أمور الأحكام من الحلال والحرام, النوع الثالث: ما يأتي من أخبار, وذلك من حوادث ونوازل, ويدخل في النوع الثاني ما يتعلق بأمور الآداب والسلوك, وذلك لدخولها في دائرة الأحكام التكليفية, وذلك أن من الآداب ما هو مستحب وهو الغالب, ومنها ما هو واجب, أوجبه الله سبحانه وتعالى لأدلة خاصة به, وذلك مما يتعلق بأمور أداء الأمانة, والصدق في الحديث, والوفاء بالعهد وغير ذلك, فهي من جملة الآداب المؤكدة بأدلة خاصة دل الدليل على وجوبها.
الشرائع السماوية تتحد وتتفق على توحيد الله سبحانه وتعالى؛ وذلك لتعلقها بالخالق, والخالق سبحانه وتعالى حقه على العباد واحد, وكذلك أيضاً معرفته قائمة بمعرفة ذاته, وذات الله جل وعلا واحدة, لا يتغير الله عز وجل ولا يتحول سبحانه وتعالى, ولما كان كذلك اتحدت هذه الشريعة وهذا الوحي على بيان هذه الأدلة على نحو واحد وإن اختلفت من جهة الصياغة والعبارة واللغة, منذ أن أنزل الله عز وجل وأهبط آدم وحواء إلى الأرض, بل ما قبل ذلك إلى أن يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها, وإلى قيام الساعة وما بعدها, فالله عز وجل واحد في ذلك, وأوصافه سبحانه وتعالى واحدة لا تتغير ولا تتبدل, وذلك أن تغير الأحوال والصفات أمارة على تغير الذات, والله جل وعلا لا يتغير ولا يتبدل ولا يتحول سبحانه وتعالى, لهذا اتفقت دعوة الأنبياء على توحيد الله جل وعلا, والدلالة إليه, وبيان وصفه, فأسماء الله وصفاته هي التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر عنها عيسى وموسى ويوسف ويعقوب وإبراهيم الخليل وغيرهم من أنبياء الله سبحانه وتعالى هم الذين أخبروا بها على حد سواء, ولكن الله عز وجل قد يخص أمة من الأمم بنبي من أنبيائه ببيان اسم له أو ببيان صفة له لا يخبر بها الآخر وهي على الحقيقة ثابتة, ولكن عدم العلم بها عند أقوام لحكمة يريدها الله سبحانه وتعالى, وبهذا نعلم أن المعلوم الذي يجب على كل أحد أن يتعلمه هو توحيد الله سبحانه وتعالى, فهو واجب على الأعيان, وذلك أنه لا تقوم ديانة ولا يثبت إيمان إلا بمعرفة التوحيد, والأصل في سائر العلوم أن العلم الذي يقوم به الشيء هو آكد من غيره, وبهذا نعلم أن الله جل وعلا جعل قوام الإنسان في بدنه من جهة مطعمه ومشربه يقوم على نوع لا يستغني به الإنسان عن غيره؛ كالماء, فالله جل وعلا جعل كل شيء حي منه, ولهذا نقول: إن الماء واجب على كل أحد أن يتناوله لقيام بدنه به, بخلاف تنوع ذلك في أمور الأطعمة من المأكل والمشرب, قد يتناول طعاماً ولا يتناول الآخر, ويتنوع في ذلك, وهذا شبيه بأمر الشرائع, فإن الدين الأصل لا تتحقق العبودية به لله سبحانه وتعالى إلا بثبوت الأصل فإذا انتفى عنه انتفى إيمانه ومات, ولهذا كانت سائر الشرائع التي أنزلها الله جل وعلا على أنبيائه على اختلافهم تتفق على بيان توحيد الله سبحانه وتعالى, وهذا دليل على أنه يجب على الإنسان أن يتعلم التوحيد أول ما يتعلم؛ لماذا؟ لأن قوام الدين به, كما أن قوام الأبدان عند سائر الناس لا يكون إلا بالماء, ثم يتفرع عن ذلك من أمور المهمات التي تتباين في أحوال الناس, وذلك بحسب أهميتها ونفعها المتعدي على بدن الإنسان, منها المتأكد ومنها ما دون ذلك, ولهذا كان التوحيد هو الذي يدعو إليه سائر الأنبياء, أن يعبدوا الله عز وجل لا إله غيره, وهذا النداء هو الذي وجهه الأنبياء إلى أممهم, وما من نبي إلا دعا قومه إلى ذلك, ولكن دعوة الأنبياء تتوجه إلى أعلى شيء تقع فيه المخالفة, وبهذا نعلم أن الداعي إلى الله جل وعلا إذا أراد أن يدعو قوماً فلينظر إلى أعلى شيء وقعت فيه المخالفة في أمة من الأمم ثم يتوجه إلى الخطاب إليهم بأعلى الشر إزالة, وألا يبدأ من أدناه, ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان في مكة وكان عند كفار قريش من أمور الانحراف والضلال والبعد عن الحق ما ليس من أصل التوحيد, وذلك من مخالفات الأخلاق, ومن أمور اللباس والتعري وغير ذلك, والنبي صلى الله عليه وسلم كان يوجه الناس إلى توحيد الله جل وعلا, وليس متغافلاً عن غيرها, وذلك لأنه لم يحن ذلك الوقت, فكان يدعو الناس إلى توحيد الله جل وعلا, وربما دعا إلى شيء من ذلك على سبيل الاعتراض لا على سبيل الانشغال به, وهذا مهم لمعرفة تراتيب الشريعة, وأولى ما ينبغي للإنسان أن يدعو إليه, ويظهر هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحداً أن يبين الحق أمره أن لا يبين حقاً قبل توحيد الله جل وعلا؛ كما جاء في حديث عبد الله بن عباس في الصحيحين وغيرهما لما بعث معاذاً إلى اليمن, قال: ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب, فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ), وجاء في رواية في البخاري قال: ( إلى أن يوحدوا الله, فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة, فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم ), الخبر, وهذا دليل على أن الإنسان ينبغي أن يدعو الناس ابتداء بالتوحيد, ثم يتنزل بمقدار المخالفة العارضة عندهم, فإذا استقر لديهم التوحيد فإنه يتوجه بالخطاب إلى ما دونه, وهو إقام الصلاة, فلا يتوجه إليهم بالخطاب بوجوب الزكاة إذا كان الخلل عندهم في أمر الصلاة ظاهر, وإنما يتوجه إليهم بأمر الصلاة ثم يتدرج بعد ذلك, ولهذا ما فرض الله عز وجل على نبيه الصلوات الخمس إلا بعد أن قرر التوحيد وبين معالمه واتضحت أحكامه فجاء بعد ذلك بفروع الإسلام وأصوله العظام مما يتعلق بأركان الإسلام الخمسة مما أولها التوحيد, ثم بعد ذلك الصلاة, ثم الزكاة, ثم الصيام, فالحج, ثم جاءت فروعها, في كل صلاة لها فروع, وكذلك أيضاً في الزكاة لها فروع وأحوال, وكذلك أيضاً في مسألة الحج لها فروع, وغير ذلك من الأعمال التي دل الدليل عليها, وما من شيء من العبادات العملية إلا وله شيء من أصله له أصل واجب أو متأكد, وما كان أصله واجب فإنه أعظم من غيره, فننظر من جهة تفاضل العبادات, فإذا كانت العبادة أصلها ثابت وثبوت ذلك واجب فإن ما كان أصله واجب أعظم مما ليس له أصل واجب, لهذا نقول: إن النفقات المالية أصلها الزكاة؛ من الصدقة والهدية وغير ذلك, والصلاة لها أصل وهي الفرائض الخمسة, فكل عمل نفعله له أصل واجب فهو أفضل مما لا أصل له واجب وإنما شرع على سبيل الاستحباب, وهذا من الأمور الضابطة في معرفة ما يجب من أحكام الشريعة وما يستحب, وهذا من القرائن التي يأخذ منها العلماء عليهم رحمة الله تعالى معرفة الواجبات من غيرها مما يكون مندوباً, يأخذ الإنسان هذه الشريعة بأمر التسلسل, إذا انعدم الدليل من تأكيد الوجوب أو بيان النهي, وهذا كما أنه في المأمورات كذلك أيضاً في المنهيات, ما كان له أصل محرم فإنه يغلظ على غيره مما لا أصل له محرم.
فتوحيد الله سبحانه وتعالى هو الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء, وبقيت الدعوة إليه إلى آخر حياته عليه الصلاة والسلام, وهو الذي ينبغي أو يجب أن تتم الدعوة عليه أيضاً ابتداء وانتهاء, فهي تصاحب سائر الشرائع, وسائر الشرائع لا يلزم أن تصاحب التوحيد على سبيل الدوام, وذلك أن توحيد الله جل وعلا ينبغي أن يكون مع الإنسان ثابتاً على سبيل الدوام, ولا يلزم من الموحد أن يكون مصلياً على الدوام, مزكياً على الدوام, وربما يكون الإنسان فقيراً لا يزكي, وطول حياته يبقى على هذا الأمر, أو معذوراً لا يصوم, أو معذوراً أيضاً لا يجب عليه الحج, ولكن التوحيد يجب أن يصاحب كل عبادة ولا يجب لكل عبادة أن تصاحب التوحيد, ولهذا جاء على سبيل التأكيد.
توحيد الله جل وعلا والإيمان من جهة فرض الإيمان به, وكذلك أيضاً العمل به وتعلمه نقول: إنه على نوعين:
النوع الأول: ما يجب على سبيل الأعيان, ما يتعلمه الإنسان من أمور التوحيد ومسائل الإيمان, ولا يصح إيمان الإنسان إلا بها, وهذا هو الواجب العيني, والواجب العيني في ذلك هي أركان الإيمان, هو أن يؤمن بالله, وملائكته, وكتبه, ورسله, والبعث بعد الموت, والقدر خيره وشره, هذه هي أركان الإيمان التي تجب على الإنسان عيناً, ولا يصح إيمان الإنسان إلا بها, وكل واحدة من هذه فيها تفصيل, فيها تفصيل على سبيل الأعيان؛ أن يؤمن بالله؛ أن يكون الله جل وعلا عنده واحد, لا متعدد, وكذلك أيضاً أن الله جل وعلا هو الذي خلق الخلق, وسير الكون, ودبرهم, وأنهم إليهم يرجعون ويحشرون. وكذلك أيضاً أن يؤمن برسل الله, فلا بد أن يؤمن بهم عيناً ممن سمى الله جل وعلا, وأعظم أعيان الأنبياء هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يجب عليه أن يؤمن به عيناً, وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين, وأن الله جل وعلا أرسله إلى الناس كافة, ولا نبي بعده, وقد خصه الله جل وعلا بتلك الخصائص؛ أول هذه الخصائص أن النبي صلى الله عليه وسلم رسول إلى سائر الأمم, ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28]، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158], فرسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الناس كلهم, بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أيضاً إلى الجن, فهو رسول الثقلين, وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56], فيؤمن بذلك, ويؤمن بمن سمى الله جل وعلا في كتابه حال وروده عليه, ولكن من جهل شيئاً من غير نبينا عليه الصلاة والسلام فجهل اسمه هل يصح إيمانه أو لا يصح؟ يصح إيمانه حتى يقف عليه, فإذا وقف عليه وجب عليه أن يؤمن, لهذا لا ننفي الإيمان على من لم يعرف اليسع أو ذا الكفل أو يونس أو نحو ذلك, فإذا سئل أحد من العوام عن يونس أو نحو ذلك لا يدري هو نبي أو ليس بنبي؛ لأنه لا يعلم مواضع ذكره من الوحي, فلا ننفي عنه الإيمان؛ لأنه عرف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ويجب عليه أن يؤمن بهؤلاء الأنبياء عند وقوفه على الدليل عليهم, فإذا وقف على الدليل وجب عليه أن يؤمن, ولا ننفي عنه الإيمان لعدم علمه بهم.
كذلك أيضاً بالنسبة للملائكة, يجب عليه أن يؤمن بأن لله جل وعلا ملائكة, ومنهم واسطة الوحي بين رسولنا صلى الله عليه وسلم وبين ربه جل وعلا وهو جبريل عليه الصلاة والسلام, ويؤمن بأن لله جل وعلا ملائكة, والقدر الواجب العيني على الإنسان أن يؤمن بروح القدس وهو: جبريل عليه السلام, وأما ما عدا ذلك فإننا لا ننفي الإيمان عمن لم يعلم اسم غيره لجهله, إما لعدم معرفته بمواضع ذكر الملائكة في القرآن, وذلك من ميكائيل وإسرافيل وغيرهم من أنبياء الله سبحانه وتعالى, ولكن لو وقف عليهم من الوحي فإنه يجب عليه أن يؤمن حال وقوفه بهم, لكن لا ننفي عنه الإيمان لعدم وقوفه عليه.
كذلك أيضاً الكتب, يجب عليه أن يؤمن بالقرآن, أن الله جل وعلا أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل، وأن لله كتب, وما يجب على الإنسان عيناً هو أن الله جل وعلا أنزل كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم, فمن لم يؤمن به فليس من أهل الإيمان, ومن عرف الإسلام ولكن لا يدري أن ثمة كتاب لم يكن أيضاً من أهل الإسلام, حتى يعرف أن ثمة كتاب, وإلا فأي إسلام وممن جاء؟ وما هي طريقة الإتيان به؟ هذا هو مقتضى الإيمان بالشيء؛ أن ثمة رسالة, وما حقيقة هذه الرسالة؟ هي في كلام الله سبحانه وتعالى وهو القرآن الكريم, وما لا يجب على الإنسان هو معرفة تعدد أسماء القرآن, أن يعرف أن أسماء القرآن مثلاً: الفرقان, والكتاب, أو الحكمة على قول، أو غير ذلك, لكن يعلم أن القرآن هو الوحي, وكذلك أيضاً لا يجب عليه أن يعرف أسماء كتب الله جل وعلا التي أرسلها الله جل وعلا إلى الأنبياء ما لم يقف عليها, فإذا وقف عليها في الوحي وجب عليه أن يؤمن بذلك, فلا ننفي الإيمان عمن لم يميز التوراة من الإنجيل على أي أمة نزلت, هل التوراة نزلت على اليهود أم على النصارى؟ والإنجيل هل هي على اليهود أم على النصارى؟ لم يميز من ذلك شيء, ولكن الذي يجب عليه عيناً أن يعلم أن الله جل وعلا أنزل القرآن على رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو مخاطب به, وأما الزبور والصحف والإنجيل والتوراة وغيرها فإنه يجب عليه أن يؤمن بها حال الوقوف عليها.
كذلك أيضاً من جهة البعث بعد الموت, أن الله جل وعلا يرجع الناس إليه, وأنهم يموتون, ثم بعد ذلك يبعثون, يبعثهم الله سبحانه وتعالى, فإذا بعث الله جل وعلا الخلق حاسبهم على ما هم عليه, وذلك بمقدار حسناتهم وسيئاتهم, أن الكافر في النار, والمؤمن في الجنة, ويختلفون أيضاً من جهة العقاب والثواب, وأما ما يتعلق بحقيقة الآخرة وما فيها من أحكام؛ من جهة الميزان, ودنو الشمس, وإقرار الله عز وجل لعباده, وكذلك أيضاً الصحف والميزان والصراط وغير ذلك, هذه لا ننفي الإيمان عن الإنسان إذا لم يعلمها عيناً وإنما إذا وقف عليها كلفناه بذلك, إذا وقف على دليلها كلفناه بذلك.
وكذلك أيضاً القدر خيره وشره؛ لتلازمه مع العلم, والله جل وعلا عالم بكل شيء, يعلم الله سبحانه وتعالى ما كان وما يكون وما سيكون, وما لم يكن لو كان كيف يكون, وهو العلم المطلق, الكمال له سبحانه وتعالى في ذلك, والله جل وعلا قدر مقادير الخلائق, فما من شيء كائن في الأرض إلا والله جل وعلا يعلمه وقد قدره قبل ذلك, وأما تفاصيل ذلك بمعرفة الأسباب, ومسبباتها, وكذلك أيضاً في ما يتعلق من جزئيات القدر من أمور الكتابة وغير ذلك, يكفي أن يؤمن الإنسان بأن الله يقدر المقادير, أما بالنسبة لزمن الكتابة وكذلك أيضاً ما كتبه الله جل وعلا من أحوال الأمم من أمور التفاصيل لا يجب على الإنسان أن يكلف غيره بها عيناً حتى يقف عليها, ولا نفي الإيمان عمن لم يعلمها, ولكن إذا آمن بقضاء الله جل وعلا وقدره, وآمن كذلك أيضاً بعلم الله سبحانه وتعالى السابق لما يكون فإنه حينئذ تحقق فيه الواجب العيني.
النوع الثاني: هو الواجب الكفائي, ويكون عيناً على من علمه ووقف عليه على ما تقدم, وهو ما عدا الأول, من معرفة الله سبحانه وتعالى فيما زاد عن معرفة ذاته, معرفة دقائق الأسماء والصفات, في معرفة أيضاً المسائل المتعلقة بأمر الله جل وعلا وتصرفه في أمر الكون, وكذلك أيضاً ما يتعلق برسل الله عز وجل بأسمائهم وترتيبهم, وكذلك أيضاً تفاضلهم, وكذلك أيضاً ما يتعلق بجانب الكتب, وتعداد هذه الكتب, والسابق منها واللاحق, والناسخ والمنسوخ لبعضها, وكذلك أيضاً الأنبياء بعثوا إلى من, والكتاب هذا نزل لأي أمة, وبلغة من ونحو ذلك, لكن الواجب على الإنسان عيناً أن يعلم أن القرآن على أمة الإسلام, وأنه ناسخ لسائر الكتب السابقة, هذا الذي يجب عيناً, ما عدا ذلك لا يجب على الإنسان حتى يقف على دليله, فإذا وقف عليه كلف بذلك. وكذلك أيضاً ما يتعلق بجانب الملائكة, وما يتعلق أيضاً بأمر القضاء والقدر, وما يتعلق أيضاً بأمر البعث بعد الموت من التفاصيل التي تقدم الإشارة إليها.
من الأمور المهمة التي ينبغي أن ننبه عليها أن إحياء العقائد السلفية الواردة عن أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين وأتباعهم هذه من الأمور المهمة التي ينبغي العناية بها, الأئمة عليهم رحمة الله في كل زمن بينوا هذه العقائد, منهم من بينها بِعَزوِها إلى أصحابها, ومنهم من يقررها تقريراً صحيحاً ضبطاً لها بالدليل, وهذا هو الأكثر عن الثاني, يعني: يبينون العقائد, ويبينون الأدلة من الكتاب والسنة ونحو ذلك, وهاتان مدرستان مؤداهما من جهة الحق واحد, لأنه باعتبار أن المراد من ذلك هو أن يعرف الإنسان المسألة بدليلها من الكتاب والسنة, وهذا هو الواجب والذي يكون عليه التكليف.
وأما بالنسبة للنوع الثاني الذي ينبغي للإنسان أن يعرف؛ تسلسل هذه العقائد جاءت ممن, وكذلك أيضاً هذا النص من الذي فهمه, فهمه الصحابة على ماذا, ثم التابعون على ماذا, ثم أتباع التابعين أخذوه ممن, يعرف الإنسان تسلسل هذه العقائد, هذه من الأمور المهمة, وهي مدرسة مهمة أن يعتني بها طالب العلم, أن يعرف مدرسة العقائد الواردة في المسائل السابقة عن أولئك السالفين, هذا فيه منافع ومزايا عديدة, من هذه المنافع والمزايا:
هو أن يقطع الإنسان على أهل الأهواء الشبه بتصنيف المدارس العقدية, أن يصنف هذه المدرسة مدرسة كذا أو طائفة كذا أو الفرقة الفلانية ونحو ذلك, كما حصل في أهل الزمن المتأخر بالتعصب إلى مذهب أو إلى مدرسة أو إلى بلد معين, وهذه العقائد إنما هي عقائد قديمة وموجودة, وليس الإنسان بحاجة إلى أن ينسبها مثلاً إلى شيخ أو إلى إمام مثلاً في زماننا أو في القرن الخامس عشر أو السادس عشر أو القرن مثلاً الثالث عشر أو الثاني عشر أو العاشر ونحو ذلك, عليه أن يتناول ذلك ممن هو أعلى من ذلك قبل زمن التصنيف, تصنيف المذاهب إلى طوائف وإلى فرق وتقاتلها وتناحرها في هذا الباب الذي عظم وفحش في الزمن المتأخر, وهذا تسبب في كثير من المذاهب الحيد عن الحق بسبب هيبة وخشية التصنيف, الهيبة والخشية من التصنيف, يخشى أن يصنف أو أن ينتسب إلى الفرقة الفلانية, أو الطائفة الفلانية أو نحو ذلك, ولهذا ينبغي للشافعية أن يهتموا بعقيدة الشافعي، وأن يظهروها للناس, كذلك أيضاً الحنابلة عقيدة الإمام أحمد، وعقيدة الإمام مالك، الحنفية أن يأخذوا بعقيدة أبي حنيفة أو نحو ذلك, ولهذا العقيدة إذا نسبت إلى أئمتها, وكذلك نسبت إلى الأئمة في الصدر الأول فإنها أنقى ممن جاء بعدهم, ولهذا نجد أن مسألة التصنيف, وكذلك أيضاً الفرق والطوائف أثرت على الاستقامة, على العقيدة الصحيحة التي كان عليها الصدر الأول من الصحابة وكذلك أيضاً من التابعين وأتباعهم بإحسان, أثر ذلك عليهم, وذلك كل يتعلق بشيخه خشية أن ينسب إلى شيخ فلان أو نحو ذلك, ولكن دواوين الأمة الآن موجودة ومتوفرة في أيدي الناس من كتب السنة يستطيع الإنسان أن يأخذ أمثال هذه العقائد. ثمة عقائد موجودة في الحجاز, وكذلك أيضاً في مكة, في المدينة؛ عقائد الكوفيين, عقائد البصريين, عقائد الرازيين, عقائد الخراسانيين, عقائد الشاميين, عقائد المصريين, عقائد أيضاً المغاربة القديمة من القرن الثالث, القرن الرابع, وغير ذلك, كلها مشاربها يجد الإنسان بمجموعها أنها ترجع إلى معنى واحد؛ انشغال كثير من طلاب العلم أو العلماء بالعناية بتدريس كتب المتأخرين مع صحة ما فيها وموافقة لأئمة السلف أدى إلى إهمال المصنفات القديمة التي تعتني بكتب العقائد, وأدى ذلك إلى شيء من الحساسية والتنافر في مسائل العقيدة, ولهذا نقول: إنه ينبغي العناية بأمثال هذه الكتب, ثمة رسائل في أمور العقيدة مهملة, قديمة, لأئمة الإسلام, أئمة السنة, ثمة عقيدة لـسفيان بن سعيد الثوري وعقيدة للبخاري رحمه الله موجودة, ينبغي أن تخرج, أن تبين للناس من جهة معانيها, وكذلك أيضاً المراد منها, كذلك عقيدة للإمام الشافعي عليه رحمة الله, منثورة في هذا الباب والإمام مالك رحمه الله, وللإمام أبي حنيفة عليه رحمة الله, ولأصحابهم فيمن بعد ذلك أيضاً عقائد, أئمة الحديث, ثمة كلام أيضاً لـأبي حاتم، ولـأبي زرعة منثور في كتب ودواوين السنة, هؤلاء الأئمة وهؤلاء الجيل, هؤلاء قبل مسألة التصنيف المذهبي, وقبل الحزبيات التي بليت بها الأمة, التي جعلت الناس يحيد عن الحق خشية أن ينتسب إلى فرقة أو إلى طائفة, ثم أيضاً أنها أبرأ لذمة الإنسان, وأبرأ لديانته, أن يأخذ الإنسان الحق من أقرب الناس إلى منبعه وأصله, ولهذا نقول في هذا المعنى: في هذا الانفكاك بين الصدر الأول والمتأخر جاءت هذه المدارس المتأخرة من بيان منهج أهل السنة ومنهج أهل الحديث في مسائل الإيمان, مسائل التوحيد بجميع أنواعه, وكذلك أيضاً جزئياته وفروعه, جاءت تنسب إلى أئمة متأخرين, يظن أن هذه العقيدة هي عقيدة الشافعية, وهذه عقيدة الحنابلة أو غير ذلك, حتى أصبح في ذلك انفكاك, يظن أن هذه العقيدة هي عقيدة الشافعي على سبيل الحقيقة, أو هذه عقيدة الإمام أحمد أو غير ذلك؛ لأن هذا إنما يتبع الإمام الشافعي في مدرسته الفقهية ولا يلزم من ذلك أن يكون على مدرسته العقدية, وهذا يتبع الإمام مالك في مدرسته الفقهية لا يلزم أن يكون على مذهبه العقدي في هذا الباب, ولهذا نقول: إنه ينبغي العناية بأمثال هذه المصنفات, وأذكر أنني كنت في زيارة إلى مدينة القيروان في تونس وحدثت أهل العلم فيها عن أهمية العناية بعقائد الأوائل وتدريسها, وكذلك أيضاً بالمدرسة العقدية السلفية, فقالوا: لدينا في هذا البلد شيء من الحساسية بالعناية ببعض المدارس المتأخرة جداً, فهذا نوع من الذي حجب الناس عن فهم عقيدة السلف كما يريد الله سبحانه وتعالى, فجعل ذلك نفرة, فأخذوا يدرسون كتب المتأخرين الموجودة لديهم, فذكرت لهم المقدمة, مقدمة الرسالة لـابن أبي زيد القيرواني، كنا في ذلك الجامع فقلت: هذه الرسالة صنفها رجل من هذه البلدة وهو جار هذا الجامع, عليكم -وهو مالكي أيضاً- بتدريسها للناس, فهي عقيدة سلفية, تجري مجرى ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة وكذلك أيضاً من التابعين في هذا الباب أن يعتنى بذلك, لهذا ينبغي للشافعية أن يجمعوا كلام الشافعي في العقيدة, وأن يجدوا في ذلك، وعلى المالكية أن يجمعوا ما جاء عن الإمام مالك رحمه الله في مسائل العقائد, وعن أبي حنيفة أيضاً في هذا الباب, ما جاء أيضاً فيما يتعلق في الحنابلة في هذا, ثمة أشياء مثلاً لدى بعض متأخري الحنابلة يختلف عن ما يؤصله الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى في هذا الباب. ثم ما تقدم الكلام عليه أن هذا هو أزكى وأبرأ لذمة الإنسان؛ أن يأخذ الإنسان عقيدته ويعرف سندها, ولهذا شعيب بن حرب عليه رحمة الله كما ذكر اللالكائي أنه سئل سفيان بن سعيد الثوري عن الأمر قال: إذا أفضيت إلى الله سبحانه وتعالى ثم سألني عما بعث نبيه عليه, فماذا أجيبه؟ أخبره بمسائل الإيمان, ثم قال له: يا شعيب بن حرب إذا سألك الله جل وعلا عن ذلك فقل له هذا, فإذا قال لك: من حدثك هذا؟ قال: فقل حدثني سفيان بن سعيد الثوري، ثم خلي بيني وبين الله, إذاً أنا أحدث بإسنادي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, لهذا ينبغي للإنسان أن يتناول هذه الأمور من منبعها وأصلها, وأن لا يكتفي بكتب المتأخرين.
بين أيدينا بإذن الله عز وجل في عدة مجالس نتكلم على عقيدة إمامين جليلين؛ عقيدة سلفية نقية في مسائل الإيمان وما يتعلق أيضاً به من أحكام هي عقيدة موجودة ومقررة منذ مئات السنين, ولكن لم يتم العناية بها شرحاً وبياناً وتفصيلاً, لإمامين من أئمة أهل السنة, عرفا بالعلل والنقد, وهذه العقيدة وأمثالها مما يدرجها الأئمة في مصنفاتهم ينبغي أن يعتني بها طلاب العلم حفظاً, ودراسة, ونشراً وتوزيعاً, وكذلك أيضاً إحياء من جهة قراءتها للناس؛ حتى يدركوا العقائد الحقيقية التي أرسل الله عز وجل بها نبيه إلى الناس, ويعرفوا أيضاً إجماع الصدر الأول على معنى واحد, الشرقي والغربي, الرازيين, أهل الحجاز, أهل اليمن, أهل الكوفة, البصرة, العراق على سبيل العموم, الشام, مصر, فإذا سُلَّت وأخرجت هذه العقائد للناس عرفوا أنهم كانوا على عقيدة واحدة, الآن البلدة الواحدة من هذه البلدان فيها عشرات العقائد, وهي بلدة واحدة؛ بسبب ماذا؟ بسبب ما تقدم الإشارة إليه, هو الانفكاك بين الصدر الأول وبين مدارس الشيوخ المتأخرين, فيبدأ بسلوك المذهب على مذهب أحمد فقهاً, على مذهب الشافعي فقهاً, على مذهب مالك فقهاً, ثم إذا جاء بحث العقائد بحثها على سبيل الاستقلال فوقع لديه الخطأ, فنسب هذا الأمر إلى إمام المدرسة الفقهية وهو منها بريء, لهذا نقول: ثمة مصنفات عديدة في هذا الباب, وبين أيدينا عقيدة أسندها اللالكائي عليه رحمة الله في كتابه أصول اعتقاد أهل السنة عن الإمام أبي حاتم وأبي زرعة الرازيين عليهما رحمة الله؟
نشرع في الكلام في هذه العقيدة بإذن الله عز وجل ونعلق عليها مع بيان شيء من مسائلها على سبيل الاختصار.
قال المصنف رحمه الله تعالى في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين : [ اعتقاد أبي زرعة عبيد الله بن عبد الكريم وأبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر الرازيين وجماعة من السلف ممن نقل عنهم رحمهم الله.
يقولوا: أخبرنا محمد بن المظفر المقري قال: حدثنا الحسين بن محمد بن حبش المقري قال: حدثنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار وما يعتقدان من ذلك ].
الشيخ: أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم، هو: ابن الإمام الحافظ الناقد, كذلك أيضاً هو ناقد وحافظ أيضاً وبصير وعالم في أمور العلل, وبصير في مسائل الدين من مسائل العقائد وكذلك أيضاً من مسائل الفقه, وله فضل على هذين الإمامين أبي حاتم وأبي زرعة، بل إن علمهما عليهما رحمة الله في مسائل العلل ومسائل السنة خاصة؛ لو لم ينقله لاندثر أكثره أو كثير منه, وله فضل في ذلك, ويظهر هذا من تتبع المصنفات في هذا الباب لهذين الإمامين, ومنها: الجرح والتعديل لـابن أبي حاتم، وكذلك العلل لـابن أبي حاتم، والنقول أيضاً المسندة عن هذين الإمامين فإن أكثر هذه النقول تكون بواسطة أبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي.
[ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازاً وعراقاً وشاماً ويمناً].
هنا فيه الإشارة إلى مسألة مهمة قد تقدم الإشارة إليها وهي: أن الإنسان إذا أراد أن يسأل أحداً عن عقيدة ينبغي أن يسأله عمن أخذها, ولهذا هنا مع جلالة أبيه, ومع جلالة أبي زرعة ما سأله عما يدين الله عز وجل به مجرداً وإنما سأله عمن أخذ أيضاً؛ وذلك أن الإنسان يوم القيامة يسأل عمن أجاب المرسلين وعمن أجاب شيخه وأستاذه, مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65], وهذا الذي يسأل عنه الإنسان ويحاسب عليه من جهة الثواب, وكذلك أيضاً من جهة العقاب.
وكذلك أيضاً في هذا إشارة إلى أن هذه العقيدة ليست عقيدة لـأبي حاتم ولـأبي زرعة فقط وإنما هي إجماع أيضاً, فهذان الإمامان قد طافا البلدان تنقلاً.
وكذلك أيضاً فيه معنى مهم جداً أن هذين الإمامين مع عنايتهما بالسنة من جهة الرأي والأثر وأمور العلل النقدي, وهي المسائل الدقيقة, إلا أنهما يعتنيان أيضاً بمسائل الاعتقاد ومعرفة ما عليه علماء كل بلد, بمعرفة ما يقولون في مسائل الإيمان, وكذلك أيضاً فروعه, وهذا على ما تقدم الإشارة إليه أن الصدر الأول يجمعون, شاماً ويمناً وحجازاً وعراقاً, أنهم يتفقون على عقيدة واحدة, فهما ينقلان ما أجمع عليه العلماء في الصدر الأول ممن أدركوه, وبهذا نستطيع أن نقول: إن هذه العقيدة هي عقيدة جميع شيوخ أبي حاتم وأبي زرعة، فعليها الإجماع؛ وذلك لقولهما: أدركنا العلماء في جميع الأمصار, فكل من أدركوا من العلماء فهم على هذه العقيدة وهذا يدل على الإطباق, وهذا من وجوه الاستئناس بما فيها من معاني.
[ فكان من مذهبهم الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ].
هنا يقول: فكان من مذهبهم الإيمان قول وعمل يزيد وينقص, الإيمان في اللغة له معاني, من أظهرها التصديق, والإيمان على ما تقدم الكلام عليه له أركان, وأركانه التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة في الصحيحين, وكذلك أيضاً في حديث عبد الله بن عمر عن أبيه في صحيح الإمام مسلم قال: ( الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره وبالبعث بعد الموت ), فهذه هي أركان الإيمان, الإيمان هو واحد من جهة معناه وتحققه, وأما من جهة زيادته ونقصانه فهو ينقسم إلى شعب, أصله واحد وشعبه متعددة, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم, قال: ( الإيمان بضع وسبعون أو ستون شعبة, أعلاها لا إله إلا الله, وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ), يتحقق الإيمان ابتداء بالتوحيد, بلا إله إلا الله محمد رسول الله, والإتيان بمقتضاها, ولا يكمل الإيمان إلا باكتمال الشعب أو مجموعها, شريطة ألا ينتفي أولها وأعلاها.
وأما بالنسبة للكفر, فالكفر يختلف عن الإيمان, الكفر يتحقق بتوفر شعبة واحدة, أما الإيمان فلا يتحقق كاملاً إلا بتوفر جميع الشعب أو مجموعها وأولها لا إله إلا الله محمد رسول الله, وبهذا نعلم أن الكفر يكتمل كاملاً بورود شعبة منه, وبهذا نعلم أن ما يفهمه بعض العامة أن الإيمان لا ينتفي من الإنسان إذا كان يذكر الله أو كان يهلل أو كان يفعل شيء من الطاعات من القربات؛ من كفالة الأيتام أو الصدقة أو غير ذلك, أو حب المساكين والأرامل والعناية بهم وغير ذلك؛ وذلك لأن الكفر لا يحتاج إلى انتفاء جميع شعبه حتى يتحقق, فلو جاء أكثر شعب الإيمان وجاءت شعبة واحدة من الكفر قضت على جميع الشعب؛ لأن الإنسان يكفر بواحدة فيكتمل كفره, أما بالنسبة للإيمان يتحقق إيمانه بالشهادتين وما في مقتضاها لكن لا يكتمل الإيمان إلا بمجموع الشعب التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: ( بضع وسبعون أو ستون شعبة ), حينئذ يزداد في ذلك الإيمان, لهذا نفرق بين ثبوت أصل الإيمان, أصل الإيمان يثبت بالشهادتين وما في مقتضاها, وذلك من القول والعمل, وأما بالنسبة للزيادة فإنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية, وما هو العمل الذي يزيد به إيمان الإنسان وينقص؟ يأتي الكلام عليه بإذن الله تعالى.
أما ما يثبت به كفر الإنسان ويتحقق فيه الكفر كاملاً؛ فإن هذا ما دل الدليل على كفر صاحبه, والدليل في ذلك يؤخذ من الكتاب والسنة, وذلك أن الشارع قد رتب الذنوب وما يقترفه الإنسان من معاصي وظلم على مراتب: أعلاها الشرك الأكبر, بأسمائه, من الكفر الأكبر, وما يأتي أيضاً من مصطلحات من الجحود أو الإلحاد أو الظلم مما يطلق عليه في الشرع أو كذلك أيضاً في الأثر, يليه بعد ذلك الشرك الأصغر وما يأتي أيضاً من مرادفات ذلك من الكفر الأصغر ونحوه, يليه بعد ذلك الموبقات, وهي من الكبائر أعلاها, وأعلى الكبائر الموبقات, الرابعة الكبائر عموماً, وهي تشترك الرابعة مع الثالثة بدخولها في دائرة الكبائر, ثم الخامسة الصغائر من الذنوب, ثم السادسة اللمم, وهي مرتبة بين المكروهات وبين الصغائر, ما دون ذلك هي المكروهات, تكون إثماً إذا أقرها الإنسان وثبت عليها. ثم بعد ذلك يأتي دائرة الإباحة, ثم تتحول هذه الدائرة من دائرة الإباحة إلى أعمال الطاعات والقربات, وأول أبواب القربات هو نية العادات عبادات, فلم تشرع في ذاتها عبادة, وإنما تقلب في ذاتها إذا نواها الإنسان, فلا بد من نية حتى تتحقق, وذلك كعادة الإنسان في نومه, في مأكله, في مشربه, هذه يفعلها الإنسان, إذا نواها لغير الله لا يأثم؛ لأنها لم تشرع عبادة أصلاً, إذا نوى أن يأكل وهو لا يريد أن يأكل؛ لأجل أبيه أو لأجل أمه, أو لغرض في نفسه من طبيب نصحه بأكل أو شرب أو حمية أو نحو ذلك لا يأثم في ذلك؛ لأنها ليست عبادة, لكن لو نواها عبادة أن يتقوى بها على خير تحولت إلى عبادة, هذه هي أدنى مراتب العبادة, ثم يأتي بعد ذلك ما دل الدليل على كونه عبادة ولم يؤكده الشارع, وذلك من الأمور المستحبة, والأمور المستحبة على مرتبتين: استحباب عارض, واستحباب دائم, والدائم آكد, ثم يأتي بعد ذلك من أمور التشريع ما كان واجباً على فروض الكفاية, ثم ما كان واجباً على فروض الأعيان, وأعلى التكاليف هو توحيد الله سبحانه وتعالى, وهو على ما تقدم الكلام عليه على نوعين: ما يجب على الإنسان عيناً أن يتعلمه ولا يصح إيمانه إلا به, والنوع الثاني ما يصح الإيمان بدونه ولو وقف على دليله وجب عليه أن يؤمن به, فتعلم هاتين المرتبتين أفضل من تعلم غيرها, وثمة قرائن في معرفة فضائل الأعمال والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى في ذلك ربما يأتي الإشارة إلى شيء منها.
قوله هنا: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص, هنا ذكر قوله: عمل, هل يدخل في ذلك العمل القلبي؟ نعم؛ لأن القلب له قول وعمل, القلب يعمل, ولهذا يقول الله جل وعلا: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93], ماذا يعملون؟ لا إله إلا الله, ولهذا نقول: إن التوحيد الواقع في القلب عمل, فللقلب قول وله عمل, إذاً فهذه العبارة في قول الأئمة: الإيمان قول وعمل, شامل لعمل القلب وقوله, ولقول اللسان وفعله, ولعمل الجوارح وفعلها, فما يكون من القلب من الإيمان والتصديق, هذا قول, أما بالنسبة للعمل, عمل القلب؛ فهو ما يتعلق من الإخلاص لله سبحانه وتعالى في أمر العبادة الذي يأتي على سبيل الاعتراض أن يخلص لله عز وجل في عبادة, أن يخلص لله عز وجل في شيء من هذه الأشياء فنقول حينئذ: للقلب عمل وله قول, بالنسبة لقول اللسان هل يسمى قول أو يسمى عمل؟ نقول: قول اللسان هو قول بالاتفاق, وأما إنزال وصف الفعل عليه هذا محل خلاف عند العلماء على قولين, والصواب في ذلك أنه يسمى فعل, ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112], فسماه الله جل وعلا قولاً ثم وصفه الله جل وعلا بالفعل, ولهذا نقول: إن القول يسمى فعلاً, فالقول هنا الذي يكون به الإيمان بالشهادتين, وذلك لحديث عبد الله بن عباس في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ), فيؤمنوا بذلك, أن ينطقوا بالشهادتين, فهذا قول اللسان, وهذا أعلى مراتب قول اللسان, لهذا نقول: إن لقول اللسان مراتب: أعلاها الشهادتان, ثم يليها بعد ذلك ما في معناها من ألفاظ الإيمان, وذلك مما يثبت الرجوع إلى الله من قول الإنسان: إنا لله وإنا إليه راجعون, أو لا حول ولا قوة إلا بالله, وذلك لتضمنها لبعض أو أكثر معاني لا إله إلا الله, ولا إله إلا الله؛ أي: لا معبود بحق إلا الله, وفسر ذلك ابن جرير الطبري عليه رحمة الله بهذا المعنى, قال: لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا الله, والله سبحانه وتعالى هو علم على ذات الله جل وعلا, وقيل إنه أصح ما جاء في اسم الله الأعظم, ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في اسم الله الأعظم خبر, والأحاديث الواردة في ذلك معلولة, وأمثلها في ذلك هو ما جاء أن الله هو اسم الله الأعظم؛ وذلك لاشتماله على جملة من المعاني, واختلف في أصل اشتقاق الله, ومنهم من يقول: إنه مشتق من لاه, يعني: اختفى ولم يرى, واحتجب, ويحملون ذلك أو يستدلون على ذلك بقول الشاعر:
لهت فما عرفت يوماً بخارجة ياليتها برزت حتى رأيناها
ومنهم من يقول: إن الله مشتق من إلهة وهو: العلو والارتفاع, فالشيء المرتفع يسمى إلهة, ويستدلون بقول الشاعر العربي:
تروحنا من الدهناء عصراً وأعجلنا الإلهة أن تغيب
والمراد بذلك هي الشمس التي ترتفع, فيخشون أن تغيب, الإلهة يعني: ما كان مرتفعاً, قالوا: فعلو الله سبحانه وتعالى وارتفاعه اشتق منه ذلك, ومنهم من يقول: أنه مشتق من أَلِه, يعني: التجأ, فمن التجأ إلى أحد مستغيثاً به لاه به, ولهذا يقول الشاعر:
ألهت إليكم في أمور تنوبني فألفيتكم منها كراماً أماجداً
ألهت إليكم يعني: التجأت إليكم فزعاً أريد من ذلك النصرة والتأييد, ومنهم من يقول: إنها مشتقة من أَلِه يعني: من ثبت ولم يتغير, وهو دوام الحال وعدم التغير بالحوادث, ولهذا يسمي العرب ما يثبت ولا يتغير في جسد الإنسان كالوشم فإنه يثبت في ذلك يقولون في أن الواشم في ذلك آلِه, يعني: يصنع ذلك الوشم في اليد ولا يتغير, ولهذا يقول الشاعر:
كأن بقاياها رسوم على اليد
يعني: لثبوتها وعدم تغيرها, قالوا: والله جل وعلا كذلك لا تغيره الحوادث, والله سبحانه وتعالى باق على حاله لا يحول ولا يزول.
قول المصنف رحمه الله هنا: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص, عمل الجوارح الذي به يثبت الإيمان, العمل على نوعين: عمل اختصت به شريعة محمد صلى الله عليه وسلم, وعمل لم تختص به شريعة محمد, وإنما دلت الأدلة عليه, إما دليل شرعي أو دليل من الفطرة والطبع, دليل الشرع دلت الشرائع السابقة على ثبوته, وذلك من بذل التحية, دلت سائر الشرائع على بذل التحية, وأما دليل الطبع من الأعمال من إغاثة الملهوف, إذا وجدت أحداً كسيراً حملته, إذا وجدت محتاجاً أعنته, هذا دليل الفطرة, الإغاثة ونحو ذلك, إذاً ثمة من الأعمال الصالحة ما انفردت الشريعة به وما لم تنفرد الشريعة المحمدية به فدل شرع سابق أو طبع فطري عليه, المراد هنا في زيادة الإيمان ونقصانه وثبوت الإيمان؛ نقول: لا يثبت الإيمان ولا يتحقق إلا بما اختصت به الشريعة المحمدية, ولكنه يزيد وينقص بما دل عليه الطبع وما دل عليه الشرع, بهذا نعلم أن الإيمان إذا انتفى من الإنسان فبسبب شيء قد اختصت به شريعة محمد صلى الله عليه وسلم أو أكدته ولو دل في الشرائع السابقة؛ وذلك كمسائل الإيمان التي تشترك مع سائر الأنبياء, لهذا نقول: لا نثبت لأحد الإيمان لأنه يسلم على الناس, أو لأنه بر الوالدين, أو لأنه يغيث الملهوف, أو يكرم الجار أو غير ذلك؛ لماذا؟ لأن هذا دل عليه الطبع ودل عليه شرع سابق, لا يوجد دليل وبرهان أنك فعلت هذا الفعل إيماناً بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم, ما هي الشرائع التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الانفراد؟ الصلوات الخمس: الفجر ركعتين, الظهر أربع, العصر أربع, المغرب ثلاثاً, العشاء أربع, هل هذا دلت عليه شريعة سابقة على مثل هذا الانتظام أو دل عليه طبع؟ ما دل عليه طبع, لهذا الذين يثبتون الإيمان للناس لمجرد الصدقة وبذل السلام, وإغاثة الملهوفين ونحو ذلك هؤلاء على حق أم على باطل؟ على باطل, لهذا حاتم بن عبد الله الطائي كان صاحب خلق وكرم هل أثبت له النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بهذا؟ ما أثبت له الإيمان, قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن أباكِ يحب مكارم الأخلاق, وأراد شيئاً فوجده), ولكن الإيمان من جهة الحقيقة لا يثبت إلا بما اختصت به الشريعة ليدل ذلك على الانقياد والاتباع؛ لأننا هنا نعرف الإيمان؛ ما هو الإيمان؟ الإيمان المحمدي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص, قبل الزيادة والنقصان لدينا ثبات, كيف يثبت أصلاً؟ كيف يثبت الإيمان؟ تقدم معنا أركان الإيمان ومراتب فرض الأعيان وفرض الكفاية وما يجب على الإنسان بين ذلك, الإيمان لا يثبت للإنسان إلا بثبوته في قلبه وعلى لسانه وعلى جوارحه, وحتى تفهم هذه المسألة هنا, في قول المصنف: الإيمان قول وعمل, وبعض المصنفين يستعمل العبارة يقول: قول وعمل واعتقاد؛ حتى يبين بمزيد بيان يفهم الناس ذلك.
يثبت الإيمان بثبوت هذه الثلاثة: إذا تقرر لدينا فهم الإيمان كيف يثبت, لا نستشكل كيف ينتفي؛ لأنك إذا عرفت ما هو الإيمان ثباتاً وثبوتاً في قلب الإنسان عرفت كيف ينفى, الإيمان قول وعمل واعتقاد, لنأخذ هذا الاصطلاح, قول وعمل واعتقاد, هذه أجزاء الإيمان أم شروطه أم أركانه أم واجباته؟
لا شيء من ذلك, هي الإيمان كله, المغرب كم ركعة؟ ثلاثة, هي المغرب أم شروطه ثلاث ركعات؟ واجباته ثلاث ركعات أم هو المغرب؟ هو المغرب, إذا صلى الإنسان ركعتين, هذه مغرب أو ليست مغرب؟ ليست مغرب, إذا وقع مبطل في أحد الركعات, في الركعة الأولى أو الثانية أو الثالثة, في القول أو العمل أو الاعتقاد بطلت كلها أم بطلت واحدة؟ بطل الجميع, ولهذا نقول: إن الإيمان قول وعمل واعتقاد, هل هذه أجزاء بحيث لو زال جزء نقول: بقي الثلثين؟ لا, نقول: هو الإيمان كله هكذا, بهذا نعلم أن طروء الكفر, طروء الناقض لواحد منها مزيل لها كلها, إذا انتقض وضوء الإنسان في الركعة الثالثة تبطل الأول والثانية؟ نعم, لا نجزئ الإيمان, إذا تعمد الإنسان على فعل مبطل في الركعة الأولى أو الثانية أو الثالثة وضبط غيرها هل يعني ذلك بطلان الصلاة كلها؟ تبطل الصلاة كلها وكذلك الإيمان, وليس لأحد أن يقول: هذا الرجل فعل وفعل وفعل, صلى الركعة الأولى منضبطاً وصلى الثانية منضبطاً وإنما انتقض وضوئه في الثالثة فلماذا يذهب ذلك هدراً؟ هل هذا من الشرع؟ ليس من الشرع, وبهذا نقول: إن من قال أن من سجد لصنم يُرجع إلى قلبه في هذا حاجة؟ ليس في هذا حاجة؛ لأن الإيمان يثبت بهذه الأشياء, وينتفي بورود النفي على واحد منها, ولهذا نقول: إذا عرفنا كيف يثبت الإيمان من جهة الأصل عرفنا كيف ينتفي, طرأ الإرجاء على هذا الباب, طرأ الإرجاء على هذا المعنى وهذا الإرجاء سببه هو تقسيم هذه الثلاثة بعبارات, لم يكن عند السلف واجبات ولا شروط ولا أقسام ولا أجزاء ولا أركان, لم يكونوا يفصلون هذه التفاصيل, وإنما يقولون: الإيمان هو, كما تقول المغرب ثلاث ركعات, أيها المغرب الأولى أو الثانية أو الثالثة أو جميعها؟ جميعها, هي كتلة واحدة, وكذلك أيضاً الإيمان, إذا ورد مبطل على واحدة منها بطلت جميعاً, ولكن لما جزؤها ثباتاً جزؤا الكفر الذي ينزل عليها, ففصلوها ابتداء, قالوا: يكفر عملاً, لا يكفر قولاً ولا يكفر اعتقاداً, والسبب في ذلك هو الخلل في التفصيل أصلاً, لهذا نقول: ينبغي على طالب العلم إذا سئل عن الإيمان أن يقول: الإيمان قول وعمل واعتقاد, هل هذه أجزاء, شروط, واجبات, أركان؟ بعض مؤدى هذه العبارات بعضها يؤدي إلى مقصد صحيح, ولكنه ربما يفضي إلى التزام خاطئ حينما يأتي إلى مسائل الكفر؛ لأن لدينا إيمان يقابله كفر, فأنت إذا استقر لديك فهم الإيمان على هذا النحو لست بحاجة إلى الاستشكال في مسائل الكفر, فإذا كفر الإنسان بسب الله، وهو يصلي كفر أو لم يكفر؟ كفر, لا نسأله عن نيته, إذا سجد لصنم وهو يؤدي الصلوات الخمس، وورد به كفر كشيء من النواقض التي تعترض للصلاة, فينبغي فهم ذلك وإدراكه.
قوله: "يزيد وينقص", لم يتكلم المصنف عليه رحمة الله على مسألة زواله, وذلك لإتيانه لمسألة زوال الإيمان لأنه يأتي بعد ذلك, وإنما هو يتكلم على إيمان مستقر, قال: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص, الزيادة والنقصان, الزيادة تكون بالطاعة, فإذا ثبت الإيمان جاز أن تستقل الزيادة والنقصان بأي واحد من هذه الثلاثة, بمعنى: أن القول والعمل والاعتقاد إذا ثبت إيمان الإنسان عليه هل يصح أن يزيد الإيمان بالقول من دون عمل؟ قال: سبحان الله وبحمده, يزيد الإيمان أو لا يزيد؟ يزيد, لا نشترط الثلاثة, وإنما نشترط مصاحبة القصد القلبي, أن تنوي ذلك لله, فإذا عمل عملاً ولم يتكلم هل يؤجر على ذلك أو لا يؤجر؟ حمل متاعاً مع أحد ونوى أنه لله؛ هل يلزم من زيادة الإيمان ونقصانه توفر الثلاثة؟ لا, نشترطها في الثبوت لا في الزيادة, كذلك أيضاً في نقصان الإيمان؛ لأن نقصان الإيمان شيء وانتفاؤه شيء آخر, فينقص الإيمان بمعصية عملية ولو لم يتكلم, ما كان قاصداً لها, لهذا نقول: إن زيادة الإيمان ونقصانه تختلف عن ثباته وزواله, والإيمان يزيد بالطاعة على اختلاف أنواعها, عبادة, طاعة قلبية؛ وذلك من المحبة والخوف والرجاء وزيادة ذلك لله سبحانه وتعالى, أو القولية؛ من التسبيح والتهليل والتحميد وذكر الله عز وجل, قراءة القرآن, بذل السلام, وغير ذلك, إرشاد الناس, دلالتهم إلى الخير والحق, الدعوة إلى الله, التعليم وغير ذلك, عمل الجوارح؛ من الصلاة وكذلك أيضاً إغاثة الملهوف, إطعام الناس وغير ذلك من عمل الإنسان الذي يفعله فإن هذا يزيد في عمل الإنسان وإيمانه, وكذلك أيضاً بالنسبة للنقصان, ينقص بالمعاصي العملية؛ كشرب الخمر والزنا, وكذلك أيضاً القولية؛ كالسب والشتم واللعن والغيبة والنميمة, وكذلك أيضاً ما يتعلق في قلب الإنسان, يأثم الإنسان بعمل قلبي, ولو لم يقل ولو لم يفعل, إذا عزم على عمل محرم وقصده ومنعه من القول به وفعله مانع غير الله, هم وعزم, ولكن الذي لا يؤاخذ عليه الإنسان هي خطرات النفس والوساوس, لهذا الإنسان ينبغي أن يتوب أيضاً من نية وقصد الشر إذا حال دونه غير الله سبحانه وتعالى.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر