إسلام ويب

تفسير سورة النور - الآيات [27-29] الثالثللشيخ : عبد الحي يوسف

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من آداب دخول البيوت -كما هو معلوم- الاستئذان والسلام، كما أن من آداب اللقيا السلام، ويجب على المسلم أن يرد السلام بصوت مسموع، وأما السلام بالإشارة دون لفظ فهو مكروه، ولا بأس بالسلام على النساء إذا لم يكن هناك ريبة

    1.   

    الأمر بعدم الدخول إلى البيت التي ليس فيها أحد

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

    اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

    قال الله عز وجل: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ ))[النور:27-28].

    المعنى: يا مؤمنون! لا تدخلوا بيوتاً حتى يحصل منكم الاستئذان والسلام، فإن أذن لكم أهل البيت فبها ونعمت، وإن لم تجدوا فيها أحداً، بأن غلب على ظنكم أن هذا البيت خاو، وأن أهله قد خرجوا، فلا يحل لكم أن تدفعوا الباب وتدخلوا، أو ترفعوا الستر وتدخلوا.

    ومعلوم أن (أحداً) نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً [النور:28]، يعني: ما وجدتم فيها صغيراً ولا كبيراً، ذكراً ولا أنثى، فلا تدخلوا حتى يؤذن لكم، وهذا يدل على أن الإذن يتحقق من الصغير أو الكبير، الذكر أو الأنثى، فلو أن الإنسان ذهب وما وجد صاحب البيت، لكن وجد زوجته ومعها بنوها حتى لو كانوا صغاراً، فأذنوا فهذا الإذن معتبر، فالنبي صلى الله عليه وسلم و أبو بكر و عمر لما ذهبوا إلى أبي الهيثم استضافتهم زوجه رضي الله عنها.

    1.   

    الأمر بالرجوع عند عدم حصول الإذن

    قال الله عز وجل: وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28]، فلو أن صاحب البيت خرج إليك، فرد عليك السلام، ثم قال لك: أعتذر إليك، فلست مهيئاً لاستقبالك، فينبغي أن ترجع وأنت مغتبط، وأنت فرح مسرور؛ لأن الله قال: هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28]، أي: هو أطهر وأطيب، فلا ينبغي أن تضيق على أخيك، ولا أن توقعه في حرج، ومثله لو لم يبذل لك عذراً وإنما قال لك: ارجع وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ، فليس بالضرورة أن يخرج إليك ويقول لك: والله نحن في حال صعبة، وفي كرب شديد، والزوجة متألمة، والولد مريض، وليس في البيت من يصنع لك عصيراً، أو يقدم لك شاياً، ليس بالضرورة أن يبذل حيثيات لقوله، فلو خرج فقال لك: ارجع، فليس من حقك أن تقول له: لماذا؟ أو هذه ليست من أخلاق المسلمين، ونحو ذلك مما يدل على جهل كثير من الناس، الله قال: وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ ، ومضى معنا كلام سيد قطب رحمه الله: بأن هناك عورات الجسد، وعورات اللباس، وعورات الأثاث، وعورات الطعام، وعورات المشاعر النفسية، ربما يكون بينه وبين زوجه تغاضب، وربما يكون بينه وبين أولاده تخاصم، ربما يكون هو ضيق الصدر، يعلم أنه لو خرج إليك سيخرج مكفهر الوجه، متغير الطبع، حاد المزاج، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

    والأمر بالرجوع إما أن يكون صراحةً، وإما أن يكون ضمناً، فصراحة كأن يخرج ويقول لك: ارجع، أو أعتذر إليك، وضمناً كأن تطرق ثلاثاً فلا يجيبك، وقد أغنانا ربنا جل جلاله عن هذا كله بما يسر لنا من وسائط ووسائل، فالآن يمكن قبل أن تزور أخاك أن تستأذن بواسطة الهاتف، فتقول له: أنا أريد أن آتيك اليوم في الخامسة عصراً، أيناسبك؟ فإن قال لك: نعم، فالحمد لله، وإن قال لك: لا يناسبني أنا مشغول، فلا تذهب إليه.

    1.   

    الحكمة من ختم الآية بقوله: (والله بما تعملون عليم)

    ثم قال: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [النور:28].

    قال القرطبي رحمه الله: هذا تهديد ووعيد لأهل التجسس، من يتجسسون على بيوت الناس، ومن يطلعون فيها بغير إذنهم، الله عز وجل يقول لهم: إن خفي ذلك على أهل البيت فلا يخفى على علام الغيوب، فلا يجوز لك يا مسلم أن تتجسس على غيرك، لا بسمعك ولا ببصرك، ( فمن تسمع حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة )، والآنك هو الرصاص المذاب، وكذلك ( من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم حل لهم أن يفقئوا عينه )، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تجسسوا، ولا تحسسوا )، وقال الله عز وجل وَلا تَجَسَّسُوا [الحجرات:12]، فالتجسس حرام.

    ولما نزلت هذه الآيات الصحابة رضوان الله عليهم على عادتهم في الورع أوغلوا في تطبيقها، كفعلهم عندما نزل قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188]، فصاروا يتورعون رضوان الله عليهم عن أن يأكلوا مع الأعمى؛ لأن الأعمى لا يتبين الطعام الجيد من الرديء، وصاروا يتورعون عن الأكل مع الأعرج؛ لأن الأعرج لا يستطيع أن يجلس كجلسة الصحيح، وصاروا يتورعون عن الأكل مع المريض؛ لأن المريض ليست له شهية الصحيح، فأنزل الله عز وجل قوله: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ [النور:61]، إلى أن قال: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً [النور:61]، ومثلما نزل قول ربنا: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً [النساء:10]، فصار الصحابة يفصلون لليتيم طعامه، فينفقون من ماله ويصنعون له طعاماً، ثم يجعلونه وحده، حتى نزل قول الله عز وجل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ [البقرة:220]، يعني: الله يعلم من الذي يريد أن يأكل مال اليتيم، ومن الذي يريد أن يخلط طعام اليتيم مع طعامه من أجل أن يؤنسه ولا يوحشه.

    1.   

    تخفيف الله عن المؤمنين في الاستئذان

    وهنا أيضاً الصحابة رضي الله عنهم صاروا يستأذنون على كل مكان، وعلى كل بيت، فجاءت هذه الآية لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ [النور:29]، حملت هذه على الفنادق التي تكون في طريق السابلة، أو ما يسميه الناس باللوكندة فيما مضى، فهذه لا تحتاج إلى إذن، لأن فيها متاعاً لنا، الإنسان يريد أن يدخل فيها، وأن يسكنها، ومثلها أيضاً المحلات والدكاكين والبقالات، والمعارض، وغير ذلك مما لنا فيه حاجة وغاية، وليست مظنة الاطلاع على العورات، وإنما يكون الناس فيها متحفظين، لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ [النور:29]، وختم الله عز وجل الآية كما ختم سابقتها بالتهديد بأنه جل جلاله يعلم المعلن والمخفى، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ [النور:29].

    1.   

    من أحكام السلام

    أيها الإخوة الكرام! لو تأملتم في واقع الناس اليوم تجدون أن هذه الآداب الاجتماعية التي أدبنا الله عز وجل بها تخفى على كثيرين، ولربما يعلمها كثيرون لكنهم لا يطبقون، فمثلاً الله عز وجل أمرنا بالسلام فقال: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27]، وهناك في الآية الأخرى قال: فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ [النور:61]، أي: على إخوانكم، بعض العلماء حملها على ظاهرها، قال: إذا دخلت بيتاً خالياً فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإذ كان فيه ملائكة، أو جن مسلمون دخلوا في هذا السلام.

    تحية الإسلام والإخلال بآدابها

    وتجدون أيضاً في قول ربنا: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]، تجدون هذه الآداب المتعلقة بالاستئذان، الآداب المتعلقة بالسلام غائبةً عن حياة كثيرين، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم علمنا أن السلام هو تحية المسلمين، ( لما جاء رجل فقال: أنعمتم صباحاً، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: لقد أبدلنا الله بتحية خير مما قلت؛ السلام عليكم ورحمة الله ).

    الآن تجد كثيراً من الناس لا يسلمون بتحية الإسلام، وإذا لقي بعضهم بعضاً قالوا: صباح الخير، أو كيف أنت؟ أو كيف أصبحتم.. ونحو ذلك، وخير لنا أن نقول: السلام عليكم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن فيها عشر حسنات، ( ومن قال: السلام عليكم ورحمة الله ففيها عشرون حسنة، ومن قال: وبركاته ففيها ثلاثون حسنة ).

    وكذلك ينبغي للمسلَّم عليه أن يرد بمثلها أو بأحسن منها، بعض الناس فتقول له: السلام عليكم، فيقول لك: أهلاً، أو تقول له: السلام عليكم، فيقول لك: مرحباً، وبعض الناس تقول له: السلام عليكم، فيقول لك: والرحمة والبركة، يكمل السلام على نفسه، وما حصل منه شيء من الرد، فهذه مخالفة، وإذا كان السلام واجباً مفروضاً فالرد عليه فرض، وإذا كان السلام سنةً فالرد عليه فرض.

    السلام بالإشارة والجمع بينها وبين الصوت

    أيضاً نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السلام بالإشارة من غير لفظ؛ لأن بعض الناس يشير دون أن يلفظ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الإشارة بالأيدي سلام النصارى، والإشارة بالأصابع سلام اليهود )، فالذي يشير باليد فقط هذا سلام النصارى، والذي يشير بالأصابع -من جنس ما يفعله الناس الآن من بعيد يشير بعضهم لبعض- هذا سلام اليهود، لكن لا بأس أن تجمع بين اللفظ والإشارة إذا كان الشخص بعيداً، أو كان في أذنه وقر، فتقول له: السلام عليكم ورحمة الله، وتشير بيدك فتجمع بين اللفظ والإشارة.

    كذلك ينبغي أن يكون الرد بصوت مسموع، فبعض الناس يسلم عليه بصوت مسموع فيرد بصوت خافت، وهذا مما يوقع الوحشة في النفوس، ويسبب تناكر القلوب، فلا بد أن ترد بصوت مسموع يسمعه المسلم، من سلم عليك يسمع جوابك، ويسمع ردك.

    السلام على النساء

    وقال أهل العلم: لا بأس أيضاً بالسلام على النساء إذا لم تكن ريبة، فإذا مررت بامرأة فلا بأس أن تقول: السلام عليكم، اللهم إلا إذا كان الموطن موطن ريبة، كما لو كان في مكان ظلمة، وفي حال خلوة، أو كانت المرأة يبدو من حالها أنها ليست من أهل التحفظ والصيانة، ففي هذه الحال لا تسلم، وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم إذا مر بالنساء، وكان يسلم إذا مر بالصبيان، حتى الصبيان إذا مر عليهم كان يسلم ويمسح على رءوسهم صلوات ربي وسلامه عليه.

    ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756471077