إسلام ويب

المنح الإلهية في ابتلاء العباد [1]للشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • المنح تخرج من رحم المحن، فمع أن انكسار المسلمين في غزوة أحد ظاهره محنة إلا أن من ورائه منحاً وحكماً عظيمة لم تكن لتعلم لولا ما حدث، منها: معرفة المؤمن من المنافق، واتخاذ الله الشهداء، وتمحيص المؤمنين، ومحق الكافرين.

    1.   

    سنة ابتلاء الله للرسل والأنبياء وأتباعهم

    الحمد لله السميع البصير، اللطيف الخبير، مدبر أمر الخلق بحكمته، ويسوسهم سبحانه وتعالى، ويرعاهم بلطفه وحكمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:7-71].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].

    إخوتي في الله! روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه عن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الريح ) يعني: تقلبها الريح ( تصرعها مرة وتعدلها أخرى حتى تهيج. ومثل الكافر كمثل الأرزة ) يعني: شجرة الأرز، ( المجذية على الأرض )، الثابتة على الأرض ( لا يفيئها شيء حتى يكون انجعافها مرة واحدة ).

    في هذا الحديث العظيم يبين النبي صلى الله عليه وسلم سنة من سنن الله تعالى في أتباع الرسل، في أتباع الأنبياء، في أحباب الله وأوليائه من المؤمنين والمسلمين، وأنه يجري عليهم سبحانه وتعالى أنواعاً من البلاء، وأصنافاً من المصائب، لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى قد تخفى عليهم، فيجري عليهم سبحانه وتعالى مصائب في أبدانهم، ومصائب في أموالهم، ومصائب في أحبابهم، لكنه سبحانه يريد من وراء ذلك لهم الخير كله، وقد تغيب هذه الحكمة عن أذهان كثير من الناس.

    عظم مصائب هذه الأمة

    نحن اليوم أيها الإخوة! نرى مصائب لولا أننا ألفناها ما كان الواحد منا يصدق بموقعها من الناس، يذبح شباب المسلمين كما تذبح الخرفان، جماعات في الميادين العامة. أي مصيبة هذه حين نسمع بها، أو نرى آثارها! ولكننا نعزي أنفسنا، ونعزي أهلنا وأمتنا بأن هذا من قدر الله تعالى، وقدر الله تكتنفه حكمٌ بالغة، فعطاياه سبحانه وتعالى ومنحه قد تكون من خلال الرزايا والمصائب، فمنعه سبحانه وتعالى عطاء، واختباره سبحانه وتعالى هدايا، والأمة ينبغي لها أن تقف مع هذه الأحداث موقف المعتبر المتعلم، موقف المتعظ، الذي يستخرج من هذه الأحداث ومن هذه المقادير الدروس النافعة، فإن الأمة أحوج ما تكون إلى أن تستيقظ من رقدتها.

    المداولة بين الحق والباطل

    هناك دروس بليغة يريد الله سبحانه وتعالى إيصالها إلى عباده المؤمنين من خلال المصائب التي يقدرها عليهم. لقد كانت المصائب قدر الله تعالى على أنبيائه ورسله، وهم أحب الناس إليه، وصفوته من خلقه، يديل عليهم الكفار يوماً، ويديلهم على الكفار يوماً: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، جاء في صحيح مسلم وغيره أن هرقل لما وصله كتاب النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام بعد صلح الحديبية، جمع من كان في أرض الشام من قوم محمد، قال هرقل لأصحابه: هل هاهنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قالوا: نعم، فجمعوا له أحد عشر رجلاً تقريباً، ومنهم أبو سفيان بن حرب ويومها كان كافراً رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فجيء بهم جميعاً إلى هرقل فقال لترجمانه: قل لهم: أيكم أقرب نسباً لهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان : فقلت: أنا، فأجلسني بين يديه، وأجلس أصحابي ورائي، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، فإن كذبني فكذبوه. قال أبو سفيان : وايم الله لولا أن يأثروا علي كذباً لكذبته، لكن منعه من الكذب أن يرجع أصحابه إلى قومه فيتحدثوا بأن أبا سفيان قد كذب، وكان يأبى لنفسه الأخلاق الذميمة أن تشاع عنه وأن يعرف بها.

    ثم بدأ هرقل يسألهم عن علامات الرسل، علامات الأنبياء، ليعرف هل هذا الرجل من الأنبياء أم لا، فسألهم عشرة أسئلة، وكان من بين هذه الأسئلة أن قال له: (هل قاتلتموه؟ قال: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قال أبو سفيان : تكون الحرب بيننا وبينه سجالاً، يصيب منا ونصيب منه، قال هرقل : كذلك الرسل تبتلى، ثم تكون لهم العاقبة). هكذا الرسل تكون الحرب بينهم وبين خصومهم سجالاً، يصيبون من عدوهم يوماً، ويصيب العدو منهم يوماً، لأن الله عز وجل يريد من وراء ذلك حكماً بليغة، سأتحدث عن بعضها، ثم قال: ثم تكون لهم العاقبة، الخاتمة، النصر المطلق، التمكين المؤبد، هذا لا يكون لأعداء الله، هذا لا يمكن أن يقع إلا لأولياء الله، فإن هذه الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، فالعاقبة للرسل، ولأتباع الرسل، ولحملة منهاج الرسل، قد يصابون، وقد يتألمون، لكن ما هي إلا مراحل: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104].

    1.   

    حكم وأسرار من غزوة أحد

    في غزوة أحد ونحن نعلم جميعاً ما الذي جرى في غزوة أحد، لقد قتل سبعون من أشراف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم سيد الشهداء، وأحب الشهداء إلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم يومها عمه حمزة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، قتل سبعون من أصحاب رسول الله، وجرح مثلهم، وأصيب المسلمون بمصيبة عظيمة، فأنزل الله عز وجل في كتابه آيات يعزيهم بها، ويخبرهم ببعض حكمه من وراء هذا المقدور المكروه، قال لهم سبحانه: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ [آل عمران:139-140] إن تصبكم الجراح اليوم فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:140-141].

    في هذا المقطع فقط من التعقيب على غزوة أحد يذكر سبحانه وتعالى خمس حكم بالغة من وراء هذا المصاب العظيم الذي نزل بمحمد صلى الله عليه وسلم وصحبه وهم خيرة الخلق يومها، هم خيرة الناس من ذلك اليوم إلى أن يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها، يخبرهم بحكمته البليغة سبحانه من وراء ما جرى به القدر من المصيبة المكروهة إلى نفوسهم، قال لهم: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:140] قريب ليس ببعيد، قبل سنة فقط قتلتم سبعين منهم، وأسرتم سبعين منهم، ومكن لكم، وارتفع صيتكم، فهذه أيام، وهذا شأن الدنيا يصرفها الله، فلا تبقى على حال، ويقلبها الله فلا تتصف بحال وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، ولكن من وراء هذه المداولة، ومن وراء هذا التقليد الدروس النافعة التي ينبغي للأمة أن تتعظ بها وتعتبر.

    تمييز المؤمن من المنافق

    وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:140]، هذه أول الحكم، وهي حكمة وحيدة تكفي لأن يقدر الله عز وجل على المسلمين يومها هذه المصيبة ليعلم الله الذين آمنوا، الله يعلمهم قبل أن تقع هذه المصيبة، فإنه لا تخفى عليه خافية، ولا تغيب عن علمه غائبة، ولكنه سبحانه أراد أن يخرج علمه الذي كان في علم الغيب، أراد أن يخرجه إلى عالم الشهادة، فيراه الناس بأعينهم، ويعرف الناس المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، قال الله: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:140]، وقال في نفس السورة بعدها: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179]، ما كان الله ليذر الناس هكذا يدعي بعضهم الإسلام والإيمان، ويتظاهر للناس بخلاف ما يبطنه، ما كان الله ليترك الناس على هذه الحالة حتى يميز لهم الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179].

    لما حصل النصر للمسلمين يوم بدر، وارتفعت رؤوسهم، وخضعت لهم جزيرة العرب، التحق بالإسلام من ليس منه، فصار يتظاهر بالدين وباطنه بخلاف ذلك، وكان في أوساط المسلمين بين أظهرهم وفي دورهم عدو لهم من أشد الأعداء بهم نكاية، كان عدواً لدوداً، يتربص بهم الدوائر، وينتظر الفرص للانقضاض عليهم، والناس لا يعرفون ولا يعلمون، يرون الجميع يصلون في المسجد ويصفون أرجلهم خلف رسول الله، فما الذي يدريهم أن هناك عدوداً لدوداً، وخصماً ينتظر الفرصة ليذبحهم كما تذبح الخراف، من يعرف هذا؟ بل من يدور هذا على خلده، لولا أن قدر الله الهزيمة، وكسرت شوكة المسلمين يومها، فتطاولت أعنق المنافقين، واشرأبت رءوسهم، وأصبح المخبى علانية، وصرحوا بما كانوا يلوحون به، وظهر استهزاؤهم وظهرت سخريتهم، وظهرت مؤامرتهم على المسلمين علانية، فكانت حكمة الله أن ميز الخبيث من الطيب، وعرف الناس، وهذا أبلغ درس وأنفعه، عرف الناس أن هناك عدواً لدوداً بينهم يتربص بهم، وهذه المنفعة وحدها تكفي لأن يضحي المسلمون بما ضحوا حتى يأخذوا حذرهم، فقال الله بعدها: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4]، ولولا أنه جلاهم وأظهرهم للناس ما كانوا ليصدقوا بأن من يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله عدو لهم، ينتظر قتلهم، والتمكن من رقابهم، لكن بالمحن تميز الناس، وبالمصيبة تباينت أصناف الناس، ليعلم الله الذين آمنوا.

    نحن اليوم قبل شيء من التمكين للإسلاميين تطالعنا الشاشات ساعة بعد ساعة ببعض أكابر العلمانية والعلمانيين وهم يخطبون ود الإسلاميين، يتزلفون إليهم، ويتقربون إليهم، وما ذاك إلا لأنهم أحسوا بغلبة هذه الدفة، وبأن الله أدال الأيام، ومكن للإسلاميين بعد استضعاف، وفي مثل هذه الظروف يلتحق بالإسلام من ليس منه، ويدعيه من هو كاذب، ويتظاهر به من هو من ألد خصومه، ولكن لا تظهر الحقائق ولا تتبين معادن الإيمان من معادن النفاق إلا حين تجري المصائب على رءوس المسلمين، فلله الحكمة البالغة، هذا عدو من أشد الناس عداءً للإسلام والمسلمين، إذا تمكن منهم قتلهم شر قتلة، فعلوا ما لم يفعله فرعون.

    فرعون ادعى بأنه الرب الأعلى، لكن لم ينقل لنا القرآن بأنه أمر الناس بأن يسجدوا له، ولم ينقل لنا القرآن بأن الناس استكرهوا على أن يسجدوا له، والناس في أزمة سوريا أكرهوا على أن يسجدوا لهذا الطاغية. فرعون كان يقتل الرجال؛ لأنه يخاف على ملكه، وهؤلاء يقتلون الرجال والنساء. فرعون كان شريفاً فإنه لم يكن يعبث بالأعراض، ولم يكن يحرق المنازل على رءوس أصحابها، فعلوا ما لم تفعله الفراعنة من قبلهم، ولكن لله عز وجل الحكمة البالغة، حتى نتعلم، وحتى نأخذ الحذر، ونأخذ بالفطنة، فتعرف هذه الأمة عدوها من صديقها، وقد قال الشاعر:

    جزى الله الشدائد كل خير عرفت بها عدوي من صديقي

    الشدائد تعلمك العدو من الصديق، وهذه واحدة من الحكم التي عقب الله بها على غزوة أحد: لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:140].

    اصطفاء الشهداء

    والحكمة الثانية: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140]، هؤلاء الشهداء الذين يقتلون ظلماً، ونبعد عن أذهان بعض الناس ما يجريه الشيطان من وساوس بأنهم عصاة، بأنهم مذنبون، بأنهم بأنهم، قرر فقهاء الإسلام ومنهم فقهاء الحنابلة: بأن من قتل مظلوماً فهو شهيد، ولكن اختلف الفقهاء هل يعامل معاملة الشهيد في الدنيا، فلا يغسل، ولا يصلى عليه، كما يفعل بشهيد المعركة، أو أنه يعامل في الدنيا معاملة سائر الأموات وله أجر الشهادة عند الله في الدار الآخرة، لكن قد قال عليه الصلاة والسلام: ( من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دو عرضه فهو شهيد )، فمن قتل مظلوماً فهو شهيد، كيف تحرم الشهادة؟ كيف تمنع الشهادة عن هؤلاء الضعفاء، عن النساء الثكالى في بيوتهن تدمر البيوت على رءوسهن، تحرق البيوت بمن فيها، يقتل الرضع وهم على الأسرة ينتظرون الحليب، من قتل ظلماً فهو شهيد، والله يخبر بأن هذا الصنف من الناس الذين يتخذهم شهداء هم اختيار الله تعالى، الله اختارهم لنفسه، الله اصطفاهم لنفسه، ليعطيهم ما لا يعطي غيرهم: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140]، يخبر عن الفريق الآخر الجاني الظالم القاتل، بأن قد باء بشر مثوبة، باء بسخط الله، باء بغضب الله، باء بمقت الله، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140].

    تمحيص المؤمنين

    ثم أخبر سبحانه وتعالى عن حكمةٍ أخرى، فقال سبحانه: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:141] ليمحصهم، فيطهرهم من ذنوبهم، فإننا كلنا لنا ذنوب، لنا معاص وسيئات، أحياناً من لطف الله عز وجل بالعبد أن يجري عليه بعض المصائب ليمحص عنه ذنوبه، ليكفر عنه سيئاته، فتجري عليه المصيبة لخير يعلمه الله والعبد لا يعلمه، قال سبحانه: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216]، الله عز وجل يجري هذه الأقدار بحكمة وعلم، فلا يفعل شيئاً عبثاً، ولا يقدر شيئاً سدى، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:141]. ثم قال سبحانه: وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:141]، وهذا ما ستسمعونه في الخطبة التالية.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

    محق الكافرين

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    إخوتي في الله! من حكم الله العزيز في مثل هذه الأقدار أنه سبحانه وتعالى يجعلها سبباً لمحق الكافرين، سبباً لإبادتهم، ولزوال سلطانهم، ولذهاب دولتهم، يجعلها الله عز وجل سبباً لدمارهم من حيث يظنون أنهم يحفظون عروشهم، ويجعلها سبحانه سبباً لنهايتهم من حيث يعتقدون أنها من أسباب تمكينهم، قال الله: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:141]، يجعلها سبباً لمحق الكافرين؛ لأنه سبحانه يهيئ لهم الأسباب بمزيد من الطغيان، ويفتح أمامهم السبل، ويمكنهم من استضعاف المستضعفين، فيقتلون بغياً وعدواناً، ويعتدون على خلق الله، والله عز وجل يطلع على الجميع، ولا يرضى لعبده المظلوم أن يظلم وتذهب مظلمته سدى، ولكنه يمكن لهذا الظالم، ويهيئ له الأسباب ليزيد في أسباب هلاكه، ليزيد من أسباب مقت الله وغضبه عليه، فينزل عليه بأس الله الذي لا يرد عن القوم المجرمين.

    وهؤلاء في أحداث سوريا اليوم فعلوا ما لم يفعله كثير من العتاة والفراعنة من قبلهم، وهذا من أسباب مقت الله وغضبه عليهم، هذا من أسباب زوال ملكهم، فنحن واثقون بحكمة الله، واثقون بما يجري عليه قدر الله، واثقون بأوصاف الله، فإن الله عز وجل حكمٌ عدل، خبيرٌ عليم، لا يفعل الشيء سدى، ولا يقدر القدر عبثاً، هذه أسباب لمحقهم بإذن الله، وزوال سلطانهم بمشيئة الله، فإنهم مهما تطاول ظلمهم فإنه لا بد له من نهاية: وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:141].

    ابتلاء المعافى بالعافية والمصاب بالمصيبة

    في الأحداث وفي المصائب أيها الإخوة! حكم ودروس كثيرة، ومن الحكم التي لا ينبغي أن نغفل عنها ما قاله الله عز وجل في سورة محمد: وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ[محمد:4] من حكم الله في الأقدار أن يبتلي المعافى بالعافية كما يبتلي المصاب بالمصيبة، فهؤلاء الناس إذا كانت المصيبة قد جرت عليهم، وامتحنوا بها، فإننا نمتحن بالعافية، نحن نختبر بالعافية، وامتحان العافية أصعب وأعتى من امتحان المصيبة، هل نقوم للعافية بحقها، بالواجب فيها: لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4].

    فلهؤلاء الناس حقوق يجب علينا أن نحاسب أنفسنا في أدائها، وأن نعرف قدر النعمة التي نعيشها، حتى نعرف قدر هذه النعمة، نرى المصائب بأشكالها وألوانها، من حقهم علينا أن ننصرهم كما أمرنا الله: وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ [الأنفال:72]، علينا أن ننصرهم، ولكن كما قال الله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ[التغابن:16] وقال صلى الله عليه وسلم: ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )، فليحاسب كل امرئ نفسه بأن ينصر أخاه المسلم بقدر طاقته، قال عليه الصلاة والسلام: ( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً )، ( المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه )، لا يظلمه بنفسه، ولا يتركه لظالم آخر يظلمه وهو يتفرج عليه، ( لا يظلمه ولا يسلمه ).

    انصروا إخوانكم في سوريا، انصروهم بما تقدرون على نصرتهم من الدعم بأموالكم، بدعائكم، والتمسوا أشرف الأوقات للدعاء لهم، فإنهم أحوج ما يكونون، ادعوا الله لهم بأن يغفر ذنوبهم، وأن يتجاوز عن إسرافهم، وألا يعاملهم بذنوبهم، ادعوا الله لهم بألا يمكن عدوهم من رقابهم فإن الدعاء عاقبته حميدة، و لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ [الرعد:38].

    نسأل اللهم بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نتوسل إليك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلى، يا ذا الجلال والإكرام! يا ذا الطول والإنعام! اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، نستنصرك يا قوي يا عزيز، يا رحمن يا رحيم، اللهم إنا نستنصرك للمستضعفين في سوريا يا رب العالمين، اللهم اجعل لهم من كل هم فرجاً، اللهم اجعل لهم من كل هم فرجاً، اللهم اجعل لهم من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاءٍ عافية، اللهم أنزل عليهم سكينتك، وانشر عليهم فضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أيدهم بجندك، وانصرهم بنصرك، اللهم لا تؤاخذهم بذنوبهم، اللهم اغفر لهم ذنوبهم، وإسرافهم في أمرهم، وثبت أقدامهم، وانصرهم على القوم الظالمين.

    اللهم عليك بعدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز، اللهم إنه لا يعجزك شيء في الأرض ولا في السماء، احكم بين هؤلاء وخصومهم بالحق وأنت خير الحاكمين.

    اللهم يا ذا الجلال والإكرام! يا ذا العرش العظيم! يا ألله! نسألك بأسمائك كلها أن تغفر لنا ذنوبنا كلها، دقها وجلها، وأولها وآخرها، وسرها وعلانيتها، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحدٍ فيها شيئاً.

    اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأعز الإسلام والمسلمين، واخذل الكفرة والمشركين، أعداءك أعداء الدين.

    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    757053338