أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
عباد الله! اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
أهلكت كثيراً من الناس الأماني؛ إيمان بلا أثر وقول بلا عمل.
يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى: أمؤمنون بيوم الحساب هؤلاء؟ كلا، كذبوا ومالك يوم الدين، لا يدخل الجنة إلا من يرجوها، ولا يسلم من النار إلا من يخافها، ورود النار متيقن، وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71].
ولكن هل الخروج منها متيقن؟ أين الخوف من هول ذلك المورد؟! ومن ترى بالنجاة والفكاك يحضى ويسعد.
وقال موسى بن سعد: كنا إذا جلسنا إلى سفيان كأن النار قد أحاطت بنا لما نرى من خوفه وجزعه، من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل: قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:26-28].
عباد الله! ونحن في هذه الأيام نعيش شدة الحر الذي هو أحد نفسي جهنم، فإن جهنم اشتكت لربها عز وجل، وأنه أكل بعضها بعضاً، فأذن لها الله عز وجل بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، ونحن نلمس هذا النفس وأثره، فعلينا أن نتذكر، وأن نخاف من هذه النار التي أخبر الله بها في كتابه، وصحت بها الأخبار عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أخبر الله عز وجل في كتابه من الوعيد للمكذبين، والخوف على المقصرين، حديث عن النار وأهوالها وأهلها، أعاذنا الله منها بمنه وكرمه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
وقال الحسن رحمه الله: ولله ما صدق عبد بالنار إلا ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وإن المنافق لو كانت النار خلف ظهره ما صدق بها حتى يتجهم في دركها، والله ما أنذر العباد بشيء أدهى منها، فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل:14-16].
نار السعير لا ينام هاربها، الخوف منها فلق أكباد الصالحين، إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِلْبَشَرِ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [المدثر:35-37].
ألم تعلموا أن التخويف من النار نال الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين، قال الله عز وجل في شأن الملائكة: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء:29]، وقال في حق الأنبياء: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا [الإسراء:39].
فاتقوا النار ولو بشق تمرة، اتقوا النار بكلمة طيبة، وأكثروا من ذكرها واعملوا للنجاة منها، ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ [الزمر:16].
الزبانية تقمعهم في مضايقها يتجلجلون، وفي دركاتها يتحطمون، ترى المجرمين مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ [إبراهيم:49]، سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم:50]، الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون، وبالنواصي والأقدام يؤخذون، وفي الحميم ثم في النار يسجرون، يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ [الحج:19] وهو الماء الحار، يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الحج:20]، ولهم مقامع من حديد فوق رؤوسهم، تكوى جباههم وجنوبهم وظهورهم، ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر:48].
طعامهم الزقوم والضريع، نبت ذو شوك لاصق بالأرض، لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [الغاشية:7]، شرابهم الحميم والغساق صديد أهل النار، يشوي الوجوه ويقطع الأمعاء، يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ [إبراهيم:17]، وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37]، كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56].
يتمنون الموت والهلاك، ولكن أين المفر؟ ومتى الفكاك؟ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف:77-78].
ثم يعلو شهيقهم ويزداد زفيرهم، وقد حيل بينهم وبين ما يشتهون، فيعظم يأسهم ويرجعون إلى أنفسهم، سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم:21]، نعوذ بالله من عظيم غضبه وأليم عقابه.
هذه أخبار صدق عن جهنم ولظى، وأنباء حق عن السعير والحطمة، والله لتملأن، والله لتملأن، لَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13].
فويل لكل مشرك ومشركة، وويل لكل ظالم وظالمة، ويل لمن طغى وبغى وآثر الحياة الدنيا، يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ [الرحمن:41]، حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ [القلم:10-13].
لا يؤمن بالله العظيم، ولا يحض على طعام المسكين، لم يك من المصلين، ولم يك يطعم المسكين، يخوض مع الخائضين، ويكذب بيوم الدين.
النار موعود بها الذين يكنزون الذهب والفضة ولا يخرجون حقها من زكاتها، ومن أشد الناس عذاباً طائفتان: المصورون الذين يضاهئون خلق الله، والذين يعذبون الناس في الدنيا، رواه البخاري ومسلم.
النار موعود بها من يقارب الفاحشة، ويأكل أموال الناس بالباطل، وأصناف من القضاة في النار، ومن غش رعيته فهو في النار، رواه البخاري ومسلم.
من بايع إمامه لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه منها وفى، وإن لم يعطه لم يف موعود بها، ( ومن اقتطع مال أخيه بيمين فاجرة فليتبوء مقعده من النار )، رواه مسلم .
و(الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم)، رواه البخاري ومسلم.
وقال الله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10].
وويل لأكلة الربا ثم ويل لأكلة الربا، ويل لأكلة الميسر، (كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به)، رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه ابن حبان.
و(صنفان من أهل النار: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، والكاسيات العاريات المائلات المميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها)، رواه مسلم.
و(النائحة إذ لم تتب تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)، رواه مسلم.
و(المكر والخداع في النار)، رواه الطبراني والبيهقي وصححه ابن حبان.
و(الفجور يهدي إلى النار)، رواه البخاري ومسلم.
و(شر الناس منزلة عند الله من تركه الناس اتقاء فحشه)، رواه البخاري ومسلم.
وويل للذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة.
عباد الله! وقانا الله عذاب السموم، هذه أنواع من أهوال النار، وصنوف من أهلها، فاتقوا الله واتقوا النار، اتقوا النار بالبكاء من خشية الله، فلن يلج النار رجل بكى من خشية لله حتى يعود اللبن في الضرع، و(عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)، رواه البخاري ومسلم.
و(من صام يوماً في سبيل الله زحزحه الله عن النار سبعين خريفاً)، رواه البخاري ومسلم.
تعوذوا بالله من النار، فهذا دأب الصالحين الذاكرين، (ملائكة الله السياحون يمرون بمجالس الذكر، ثم يسألهم ربهم عن أحوال الذاكرين، فيقول لهم وهو أعلم بهم: مم يتعوذون؟ فيقولون: من النار، فيقول: وهل رأوها؟ قالوا: لا والله ما رأوها، فيقول: كيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فراراً، وأشد منها مخافة، قال: فيقول: إني أشهدكم أني قد غفرت لهم)، رواه البخاري ومسلم.
وفي مسند أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه: (ما سأل رجل مسلم الجنة ثلاثاً إلا قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ولا استجار رجل مسلم من النار ثلاثاً إلا قالت النار: اللهم أجره مني)، اللهم أجرنا من النار، ربنا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
عباد الله! في مثل هذه الأيام تذكروا حر جهنم، فتوبوا إلى الله عز وجل، وكونوا كسلفكم الصالح، فقد أزعج ذكر النار قلوبهم، وأطار النوم من عيونهم.
وشاهدوا موقف القيامة بقلوبكم، وانظروا منصرف الفريقين إلى الجنة والنار بهممكم، وأشعروا أفئدتكم ذكر النار ومقامعها، وأطباقها ودركاتها، وحجارتها ووقودها، والسلاسل والأغلال والسعير والحميم والغساق، واذكروا بعد القعر، واشتداد الحر، وابكوا وتباكوا، وقوموا في الليل، واعرضوا على قلوبكم تقلب الظالمين بين أطباق النار، لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر:16]، كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء:97]، خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:30-32].
فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الواقعة:42-44].
فاتقوا الله رحمكم الله.
اللهم إنا نعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.
وروى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فيما سقت السماء والعيون وكان عثرياً العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر)، إذا بدأ صلاح ثمرة النخيل بأن تحمر أو تصفر وجبت الزكاة.
وتجب الزكاة على من كان مالكاً لها حين الوجوب، أي: حين الاحمرار أو الاصفرار، وعلى هذا إذا باع مالك النخيل ثمرته بعد بدو الصلاح، فإن الزكاة تكون واجبة عليه، أي: تكون واجبة على البائع، إلا إذا شرط البائع على المشتري أن يخرج الزكاة، فهذا شرط صحيح، والمسلمون على شروطهم، ولا تجب الزكاة إلا إذا ملك نصاباً قدره خمسة أوسق، ثلاث مائة صاع نبوي، وقدره الآن بالكيلو ست مائة واثنا عشر كيلو تقريباً.
عباد الله! وتضم ثمرة العام في إخراج الزكاة وتكميل النصاب، ولو اختلفت أماكن الثمرة، فإذا كان عند الإنسان مزرعة، وعنده استراحة فيها بعض النخيل وفي بيته أيضاً نخلة أو نخلتان أو شيء من النخيل، فإنه يضم جميع الثمرة ويحسبها، فيحسب ثمرة المزرعة والاستراحة والبيت ويخرج زكاتها إذا بلغت نصاباً.
وقدر الواجب في بلادنا هذه نصف العشر؛ لأن الثمرة تسقى بمعونة، بمعنى: أنك تقسم قدر الزكاة على عشرين والناتج هو الزكاة.
عباد الله! وإذا باع المالك الثمرة كما هو صنيع كثير من الناس اليوم، فإنه يخرج الزكاة من الثمن، ولا يلزمه أن يشتري تمراً يعطيه الفقراء والمساكين، نص عليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
ربنا أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم عليك باليهود الظالمين، والنصارى الحاقدين، اللهم انصر المسلمين عليهم، اللهم انصر المسلمين في كل مكان، اللهم احفظ المسلمين بحفظك التام، واحرسهم بعينك التي لا تنام، اللهم من أرادنا أو أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، واجعل اللهم تدميره في تدبيره، وجعل اللهم الدائرة عليه، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.
اللهم ارض عن صحابة نبيك أجمعين، وأخص منهم الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدين: أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية العشرة المبشرين، وعن بقية صحابة نبيك أجمعين، اللهم اغفر لموتى المسلمين، اللهم اغفر لهم، وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، اللهم أكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغفر لنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه تحت الجنادل والتراب وحدنا. اللهم إنا نسألك الهدى والعفاف والغنى، اللهم آمنا في أوطانا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعلهم محكمين لكتابك وسنة رسولك محمد صلى الله عليه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر