إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب حد قطاع الطريق [3]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • توبة المحاربين لها شروط وضوابط بينها أهل العلم في مصنفاتهم، وبتوبتهم قبل القدرة عليهم تختلف الأحكام في حقهم، ولكن لتوبتهم شروط مختلف فيها، ويترتب عليها أحكام مختلف في بعضها عند أهل العلم.

    1.   

    حد الحرابة على من لم يصب نفساً ولا مالاً

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد: .. يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ فإن لم يصيبوا نفساً ولا مالاً يبلغ نصاب السرقة نفوا، بأن يشردوا فلا يتركون يأوون إلى البلد ].

    تقدم بيان عقوبة النفي، وبينا مذاهب العلماء رحمهم الله فيها، والأصل في النفي التغريب والإبعاد، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في حقيقة النفي، فذهبت طائفة من العلماء إلى أن المراد بنفي أهل الحرابة أن يطلبهم الإمام فلا يتركهم يأوون إلى بلد، كلما استقروا في مكان طلبهم حتى لا يكون لهم قرار في الأرض، وهذا على ما اختاره المصنف رحمه الله، وهو مذهب طائفة من السلف رحمة الله عليهم أجمعين.

    وذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالنفي الحبس، وأنه يحبسهم الإمام، ثم اختلفوا على وجهين: فمنهم من قال: يحبسهم في بلد غير الموضع الذي كانت فيه الحرابة، فيبعدهم عن بلادهم مسافة القصر كما يختاره المالكية، ومنهم من قال: يحبسهم حيث شاء، وهذا اختيار الحنفية رحمة الله على الجميع.

    والأصل أن النفي عقوبة شرعية، جاءت على قسمين في الحدود والجنايات والجرائم: القسم الأول: النفي الذي هو مقدر ومنصوص عليه كحد من الحدود.

    والقسم الثاني: النفي الذي يقع عقوبة تعزيرية، فنفي الحرابة من النفي الذي هو حد من حدود الله عز وجل، وإذا تعين فليس للحاكم ولا لأحد أن يسقطه؛ لأنه من العقوبة، وهذا النفي يكون في حد الحرابة واجباً، ويكون أيضاًً في حد الزنا واجباً، والصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله أن النفي والتغريب ثابت في حق الزاني البكر ذكراً كان أو أنثى؛ وفي حديث عبادة في الصحيح عنه رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر، جلد مائة وتغريب عام)، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (تغريب عام) أثبت النفي.

    ولكن نفي الزنا يختلف عن نفي الحرابة، فإن نفي الزنا جاء فيه التحديد في المدة، وأما نفي الحرابة فلم يأت فيه تحديد بمدة، ومن هنا اختلف العلماء رحمهم الله، فبعض أهل العلم قال: يقاس حد الحرابة على حد الزنا، فيطلبهم الإمام وينفيهم سنة كاملة، ومن أهل العلم من قال: يطلبهم ويتابعهم ويؤذيهم ويضر بهم حتى يتوبوا ويرجعوا إلى الله عز وجل؛ لأن النص جاء مطلقاً.

    وأقوى القولين أن النفي في حد الحرابة لا حد له، وأنه غير مقدر بسنة ولا يمكن فيه القياس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حد عقوبة الزنا ولم يحد النص الشرعي الوارد في كتاب الله عز وجل حد الحرابة.

    وبناءً على ذلك: تبقى هذه العقوبة إلى صلاح المحاربين، فإن تابوا وأصلحوا ورجعوا إلى الله رفعت عنهم العقوبة، وإلا بقي طلب السلطان لهم حتى يتمكن منهم.

    ومن أهل العلم من قال: النفي أن يبعدوا إلى ديار الكفر، وهذا قول أنس بن مالك في طائفة من السلف في تفسير الآية الكريمة عنه رضي الله عنه.

    والصحيح أنهم لا يغربون إلى بلاد الكفر؛ لأن هذا أعظم وأشد بلاءً، والأشبه فيه أنه يحتمل أن أنساً رضي الله عنه نزع إلى هذا القول؛ لأن هناك قولاً أن المحاربين في الأصل مرتدون، ومن هنا ينفون عن بلاد المسلمين، بمعنى أنهم يبعدون إلى من هو مثلهم من الكفار، وحينئذٍ يستقيم هذا القول مع الأصول، وإلا لا يمكن أن نقول: إن مسلماً ينفى إلى بلاد الكفر؛ لأنه ربما ارتد -والعياذ بالله- عن دينه، أو على الأقل يكون فيه الفساد أكثر.

    والذي عليه العمل عند العلماء رحمهم الله أن آية المحاربين نزلت في المسلمين، وأن قضية العرنيين كانت صورة من صور الحرابة لا تقتضي تخصيص الحكم بها، والقاعدة في الأصول: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، حتى ولو كانت سبباً لنزول الآية الكريمة.

    والحاصل: أن النفي يفوض فيه الأمر إلى السلطان والقاضي والحاكم، فإن رأى أن المصلحة أن يسجنهم بأن قبض عليهم وأخذهم وأمر بسجنهم فله ذلك؛ لأنه مفوض للنظر في مصالح المسلمين، وإن رأى أن المصلحة أن يطلبهم فيزعجهم حتى يتوبوا ويرجعوا إلى الله عز وجل فله ذلك، ومن هنا تختلف أحوال وصور الحرابة، فيعطى لكل صورة ما يناسبها.

    وقد بين المصنف رحمه الله أن النفي عقوبة، وهذه العقوبة هي الثالثة، وقد نص الله عز وجل عليها بقوله في آية الحرابة: أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ [المائدة:33]، وعلى هذا النص قلنا: إن الصحيح أنه لا يتقدر بمدة معينة؛ لأن الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام لم يحدا هذا النفي حداً معيناً.

    1.   

    توبة المحاربين قبل أن يقدر عليهم

    وقوله: [ ومن تاب منهم قبل أن يقدر عليه ].

    (ومن تاب منهم) أي: من المحاربين (قبل أن يقدر عليه): هذا شرط، أنه لا يحكم بالتوبة المؤثرة في إسقاط العقوبة التي هي لله عز وجل في حد الحرابة إلا إذا كانت قبل القدرة على المحاربين، أما لو تمكن منهم المسلمون وقدروا عليهم فيستوي أن يتوبوا أو لا يتوبوا، فيقام عليهم حق الله عز وجل.

    ومن أهل العلم من فصل بين حقوق الله عز وجل وحقوق عباده، والصحيح: أنه إذا قدر عليهم وجب تنفيذ حكم الله عز وجل فيهم، إذ لو فتح هذا الباب ما وسع المجرمون إلا أن يفعلوا ما شاءوا ويحاربوا المسلمين، فإذا قدر عليهم قالوا: تبنا، ومن هنا لا تقبل التوبة بعد القدرة بالنسبة للحكم القضائي، وينفعهم التوبة فيما بينهم وبين الله عز وجل، أما فيما بينهم وبين الناس، وحكم القضاء بوجوب الحد عليهم ولزوم تنفيذه على الإمام، فلا ينفع فيه إلا أن يكون قبل القدرة.

    المعتبر في توبة المحاربين قبل القدرة عليهم

    والمراد بما قبل القدرة: أن يرجع هؤلاء قبل أن يتمكن منهم القاضي أو الحاكم.

    ومن أهل العلم من قال: إنه يجب أن تكون توبتهم بعلم الإمام، فيرجعون إلى الإمام ويسقط الإمام عنهم ذلك فتصح توبتهم، وهذا أُثر عن أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين علي بن أبي طالب ، أنه جعل توبتهم مشروطة بإسقاط الوالي أو القاضي أو الإمام، كما نص عليه واختاره بعض العلماء رحمهم الله.

    والجمهور على أن توبتهم لا يشترط فيها أن يرفعوا أمرهم إلى الإمام، وإنما تكون توبتهم فيما بينهم وبين الله وفي ظاهر حالهم، فلو أنهم أسقطوا السلاح، ورجعوا إلى جماعة المسلمين، وظهرت عليهم أمارات الخير والاستقامة؛ فإنه يحكم بتوبتهم، ولا يشترط أن يرفعوا أمرهم، إذا ظهرت منهم التوبة والاستقامة قبل أن يتمكن منهم، وهذا هو الصحيح وهو مذهب الجمهور.

    ثم إذا قلنا: إن العبرة في رجوعهم وتوبتهم بصلاح حالهم، فهل تشترط مدة معينة لابد أن تمضي حتى يظهر منهم أنهم صادقون في التوبة؟ وجهان للعلماء رحمهم الله، قال بعض العلماء: لا يسقط الحد عن المحاربين إلا إذا مضت عليهم مدة من الزمان، واختلفوا في تقديرها، هل هي نصف حول؟ أو هي حول؟ قالوا: الحول يضبط حال الإنسان؛ لأن الإنسان يتحول فيه من حال إلى حال، فإذا مضى عليهم سنة كاملة حكم بتوبتهم، ومنهم من يقول حتى يمضي عليهم أكثر السنة وهو ستة أشهر فأكثر.

    والصحيح وهو مذهب الجمهور أنه لا يحد ذلك بزمان معين، وأن العبرة بإسقاطهم للسلاح ورجوعهم إلى جماعة المسلمين، وظهور التوبة عليهم ولو للحظة واحدة قبل أن يقدر عليهم.

    ما يسقط عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرة عليهم

    فإذا تابوا ورجعوا وأعلنوا توبتهم لله عز وجل ورجعوا إلى جماعة المسلمين فإنه يسقط عنهم حق الله عز وجل، ولكن حق العباد من المظالم التي ارتكبوها والأموال التي أخذوها ونحو ذلك من المظالم يطلب فيها القصاص، ويؤخذون بها كما سيبينه المصنف رحمه الله.

    إذاً: في حد الحرابة أمران: الأمر الأول: حق الله عز وجل وهو وجوب قتلهم إذا كان محكوماً بقتلهم وصلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وهذا الحق يسقط إذا تابوا، ولا يتعين قتلهم ما لم يكونوا قد قتلوا أحداً، فإذا قتلوا أحداً عمداً عدواناً وتمت شروط القصاص، دفع بهذا المحارب إلى ولي الدم، ويقال له: أنت بالخيار، إن شئت أخذت حقك، وإن شئت أخذت الدية، وإن شئت عفوت، فيجري عليه ما يجري على القصاص. فإن قيل: ما الفرق؟

    قلنا: الفرق أنهم لو أُخذوا قبل توبتهم فإنه يجب قتلهم؛ لأنهم قتلوا، ويصلبون، ولكن إذا تابوا يُجعل الخيار لولي الدم، فهنا فرق بين الحالتين.

    الحالة الأولى: يتعين قتلهم ولو سامح أولياء المقتول.

    والحالة الثانية: إذا تابوا ورجعوا وأنابوا إلى الله عز وجل وصلحت أحوالهم نقول لهم: هذا ينفع فيما بينكم وبين الله، أما حقوق العباد فواجب عليكم أن تؤدوها وتردوها، وهذا هو أصح قولي العلماء وهو مذهب الجمهور.

    وعن بعض السلف وهو قول الإمام مالك رحمه الله أنها تسقط عنهم جميع الحقوق من السرقة والزنا وشرب الخمر وغيرها من الحقوق، ولكن لا يسقط عنهم الدم، فإذا قتلوا أحداً فإنهم يؤخذون بالقصاص، ومذهب مالك رحمه الله من أشد المذاهب الأربعة في الاحتياط للدماء، وهذا معروف عنه، وقد تقدمت الإشارة إلى جملة من المسائل التي كان يحتاط فيها للدماء، ويرى أن دم المقتول لا يذهب هدراً.

    ومن هنا قال: كل شيء يسقط عنهم من الحدود وإذا تابوا نفعتهم التوبة، وأما بالنسبة للدماء فإنه لا تنفعهم التوبة في حقوق العباد، أي: لا يسقط عنهم القصاص، وإذا قلنا: لا يسقط عنهم القصاص ولا الحقوق الواجبة عليهم فإنا نطبق شروط كل حد على حِدة، وحينئذٍ في حد الحرابة لا نعتبر المماثلة والمكافأة على التفصيل الذي ذكرناه، ولكن إذا تابوا فإنها تعتبر المماثلة والمكافأة واستيفاء الشروط المعتبرة للحكم بالقصاص.

    هذا الفرق بين حالة كونهم تابوا وبين كونهم أُخذوا بحد الحرابة.

    وقوله: [ سقط عنهم ما كان لله ] أي: أنه لا يجب على القاضي أن يقيم عليهم الحد، والمراد به حد القتل وما تقدم من كون الحرابة لا يسقط حدها ولو عفا فيها أولياء الحقوق عن حقوقهم، لأن هذا الحق لله عز وجل.

    وقوله: [ من نفي ] (من) بيانية، والنفي يكون حقاً واجباً في موضعين: في حد الحرابة، وفي حد الزنا، ويرجع فيه إلى نظر ولي الأمر إذا كان نفياً تعزيرياً.

    والنفي التعزيري أن يجتهد القاضي فيرى من المصلحة إخراج هذا الشخص من هذا البلد، فينفيه إلى بلد ما، طلباً لاستقامته أو إبعاداً له عن بيئة فاسدة تعينه على الفساد، وهذا صحيح؛ فإن النفي يعين على التوبة وعلى صلاح الحال، وهذا النوع من النفي التعزيري له أدلة صحيحة، منها: قصة التائب الذي قتل مائة نفس، فقال له العالم: ( ولكن قريتك قرية سوء، وقرية بني فلان فيها قوم صالحون فاذهب إليهم ) فأمره أن يترك قريته، وحينئذٍ يكون في الإبعاد عن مدينته وبيئته ما يعينه على الصلاح.

    ولذلك ثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (لعن المخنثين من الرجال، ولعن المترجلات من النساء) كما في حديث ابن عباس في صحيح البخاري، وفي رواية: (ونفى فلاناً وفلاناً) فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم النفي.

    ومن هنا إذا وجد شخص فيه فساد وعهر بحيث ينشر الفساد بين الناس فإنه ينفى عن هذا الموضع؛ حتى لا يضر غيره، فما وجدنا طعاماً فاسداً بين طعام صالح يصلحه، وإنما وجدنا أنه يسري فساده إليه.

    وأما بالنسبة لنفي الصحابة فقد فعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فنفى نصر بن حجاج حينما وقعت به الفتنة في المدينة، ونفى كذلك صبيغاً حينما تكلم في آيات القرآن في المرسلات والعاصفات، وأورد الشبه، فنفاه رضي الله عنه، وهذا يسمى النفي التعزيري.

    والنوع الأول نفي العقوبة، وهو نفي الحرابة ونفي الزنا، والفرق بينهما: أنهما يجتمعان في شيء ويفترقان في أشياء، فيجتمعان في كون كل منهما واجباً، فيجب النفي في عقوبة الزنا للبكر على الصحيح من أقوال العلماء، ويشمل الذكور والإناث، ويجب النفي أيضاً في عقوبة الحرابة على ظاهر القرآن من الأمر؛ لأن الله جعله جزاءً محتماً لازماً ينبغي تنفيذه.

    ويفترقان في أن نفي الزنا محدد ونفي الحرابة غير محدد، وعند من يقول: نفي الحرابة هو الإبعاد كما يختار المصنف أنهم أن لا يتركوا يأوون إلى بلد، يختلف عن نفي الزنا، فإن نفي الزنا يكون على مسافة القصر، ونفي الحرابة يكون إلى أبعد.

    وبين رحمه الله أن التوبة تنفع، وهذا ظاهر القرآن؛ لقوله سبحانه: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة:34] فبين سبحانه وتعالى أن شرط التوبة عدم القدرة، فإذا كان الأشخاص المحاربون قد تابوا وأصلحوا قبل قدرة السلطان والوالي عليهم سقط حق الله عز وجل في وجوب تنفيذ حد الحرابة عليهم.

    وقوله: [ من نفي وقطع ]

    (من) بيانية (نفي وقطع) فلا تقطع أيديهم إذا اعتدوا على الأموال، ولكن يجب عليهم ضمان هذه الأموال التي أخذوها وردها إلى أهلها، فلو أنهم اعتدوا على قافلة وأخذوا منها مائة ألف ريال وجاءوا وقالوا: نحن تائبون، وتركنا الحرابة، وسلموا أنفسهم، نقول: نسأل الله أن يتقبل منكم توبتكم، وعليكم أن تضمنوا المال المسروق الذي أخذتموه كاملاً.

    وفي قرصنة البحار لو أنهم اعتدوا على سفينة أو مركب فأخذوا منه حلي الناس وجواهرهم فإنه يجب ضمانه كاملاً، ولا تسقط عنهم حقوق المخلوق، ومن هنا فإن الأصول الشرعية تقتضي أن مال المسلم له حرمة، وأن اعتداءهم على المال المحترم شرعاً وهو مال المسلم يوجب عليهم الضمان، وقد تقدم معنا بيان هذه الأصول في حد السرقة، وأن السارق يجب عليه ضمان المسروق.

    قوله: [ وصلب ] أي: أنه لا تقطع أيديهم ولا يصلبون، فمثلاً: لو أنهم قتلوا وتابوا، وكان المقتول مكافئاً للقاتل، فحينئذٍ ننظر في طريقة القتل، فالحرابة لو أن ثلاثة كلهم محاربون، أحدهم أمسك السلاح لكي يمنع الشخص من أن يتحرك فهدده، والثاني ربطه وأوثقه، والثالث ضربه في موضع فقتله، فكلهم يقتلون، ويستوي من باشر ومن كان معيناً على القتل.

    لكن بالنسبة لحد القصاص لو اجتمع ثلاثة، فكانت سببية ومباشرة على التفصيل الذي ذكرناه في باب القصاص، وكانت السببية لا تفضي إلى إزهاق الروح، فحينئذٍ يجب القصاص على من باشر، وتسقط السببية على الأصل الذي ذكرناه أن المباشرة تسقط حكم السببية، بشرط أن تكون السببية غير مفضية إلى الزهوق.

    إذاً: هناك فرق بين عقوبة الحرابة وبين عقوبتهم أو أخذهم بالحقوق بعد توبتهم، فلو أن أحدهم قطع يد شخص، ففي الحرابة نقتص من هذا القاطع، ونقطع يده على التفصيل الذي تقدم معنا في القصاص في الأطراف، ولو أنه فقأ عيناً فقأنا عينه، ولذلك يؤخذ بجريمته، ويقتص من الفاعل المباشر، ثم المشتركون في الجريمة ننظر إذا كان اشتراكهم يؤدي إلى الحكم بكونهم مجرمين كلهم، فإننا نحكم بوجوب القصاص عليهم جميعاً، وهذا تقدم معنا في القصاص في النفس والأطراف، وأن قتل الجماعة بالواحد هو الصحيح عند العلماء رحمهم الله؛ لأن كل واحد منهم يصدق عليه أنه قاتل، وبينا وجه ذلك وخلاف العلماء فيه ووجه الترجيح لهذا القول.

    إذا ثبت هذا فإننا نسقط عنهم الصلب والقطع، فلا تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ولا يصلبون.

    ففي قوله: [ والصلب ]: لو حكمنا بالقصاص بأن واحداً منهم قتل مكافئاً، فقلنا له: توبتك تنفعك فيما بينك وبين الله، ولكن يجب أن يقتص منك لحق المقتول، واعترف أنه قتله، فقال أولياء المقتول: لا نسامح بل نريد القصاص، فإنه إذا اقتص منه وقتل لا يصلب؛ لأنه قد تاب، والصلب حق لله عز وجل فيما إذا كان قبل التوبة، وهذا على الأصل الذي ذكرناه أن التوبة تسقط هذه العقوبات؛ لأنها حق لله عز وجل.

    وقوله: [ وتحتم قتل ] تقدم أنه إذا ثبت أنهم فعلوا موجب القتل وعفا أولياء المقتول، لم يؤثر في الحرابة وأنهم يقتلون، وقلنا: إن الحق لله عز وجل ولو عفا أولياء المقتول، ولكن لو تابوا قبل أن يقدر عليهم سقط تحتم القتل، ونقول: لكم أن تعفوا، وإذا عفوتم سقط القصاص، إذاً: يكون لهم الخيار في حال التوبة، ولا خيار في وجوب وتحتم القتل إذا لم يتوبوا.

    وقوله: [ وأخذ بما للآدميين من نفس وطرف ومال إلا أن يعفى له عنها ]

    أي: فلو أنه قتل يقتل.

    وقوله: [ وأخذ بما للآدميين ] هذا يجعلنا نرجع إلى باب القصاص، فإن كانت جناية الذي جنى في النفس نظرنا إلى شروط القصاص في النفس، وإن كانت جنايته على الأطراف نظرنا إلى القصاص في الأطراف، وهكذا بالنسبة لبقية الأحكام.

    1.   

    الأسئلة

    حجب الدعاء بسبب الدين

    السؤال: فضيلة الشيخ: هل يحجب الدعاء بسبب الدين، أثابكم الله؟

    الجواب: الدين لا يحجب الدعاء، إلا إذا ظلم الناس وأكل أموالهم، فإنه إذا أخذ الدين بنية أنه لا يرده كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) فإذا أخذ الدين وفي نيته أنه لا يرده فحينئذٍ يكون قد أشبه المغتصب، وحينئذٍ لا يكون ديناً بل يكون غصباً، ومثل هذا يحجب الدعاء؛ لأنها طعمة حرام؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) وهو الذي يأخذ الديون، ويقول: إن شاء الله أسددك وهو يعلم جازماً أنه لا يسدده، وينوي في قرارة قلبه ويقول: هذا غني شبعان لا يضره إذا أخذت منه ألفاً أو ألفين أو ثلاثة آلاف، فلو أخذ منه ريالاً واحداً بنية أن لا يسدده أتلفه الله -والعياذ بالله- وعلقت نفسه ورهنت بحق الناس، فالواجب الحذر من هذا، وينبغي على الإنسان قدر المستطاع أن لا يقع في الدين.

    وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.

    وجه كون الحرابة محاربة لله ورسوله

    السؤال: ما وجه كون الحرابة محاربة لله ورسوله، أثابكم الله؟

    الجواب: وصف الذين يقومون بموجب الجناية بكونهم محاربين لله ورسوله بسبب الخروج عن جماعة المسلمين وحمل السلاح عليهم، وهذا لا يفعله مسلم؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حمل علينا السلاح فليس منا) والسلاح لا يحمله الإنسان إلا إذا كان محارباً، فإذا حمله وأشهره في وجه جماعة المسلمين فإنه لم يشهره في وجه شخص، إنما هو جانٍ على جميع المسلمين بقطعه لطرقهم وإخافته لسبلهم أو جنايته على أموالهم، على التفصيل الذي ذكرناه في الحرابة، وهذا يقتضي أنهم بتشكيل هذه العصابة وخروجهم عن جماعة المسلمين ووقوفهم في وجه مصالح المسلمين محاربين لله ورسوله، إذ هذا لا يفعله إلا العدو مع عدوه، فهذا وجه كونهم محاربين لله ورسوله.

    وانظر عظمة هذا الدين في تعظيمه للحرمات، وليس هناك أتم ولا أكمل من شرع الله وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115] فإنه هذب مجتمعات المسلمين وقوم أفرادها، وجعل كل إنسان يعرف التصرف الذي يصدر منه، وأنه إذا شهر السلاح في وجه المسلمين فهو ليس من المسلمين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حمل علينا السلاح فليس منا) فإذا جاء يحمل السلاح طمعاً في المال أصبحت حرمة المال ومحبته عنده أعظم من حرمة المسلم، ومن هنا يعظم الدنيا أكثر من تعظيمه للدين، وصار مثل الذي يقف في وجه المسلمين.

    وفي الحقيقة أنه لا يفعل هذا إلا الكفار والأعداء مع المسلمين، لكن أن يأتي إنسان ينتسب إلى الإسلام ويحمل السلاح على المسلمين ويقطع طرقهم، ويؤذيهم في دمائهم، فيسفك دماءهم، وينتهك أعراضهم، ويخيف سبلهم، ويقطع التجارة عنهم، والتي فيها أقوات الناس ومصالحهم؛ فإذا جاء يحمل السلاح على هذه المصالح كلها، فما معنى هذا؟ هل هذا يوصف بكونه موالاة لله ورسوله؟ هل يوصف بكونه مصلحة للإسلام والمسلمين؟

    هذه عداوة للإسلام والمسلمين، ومن هنا وصفها الله بأشنع الأوصاف: يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المائدة:33] صلوات الله وسلامه عليه، وهذا يدل على أنه ينبغي على كل مسلم أن يتحفظ في معاملته لإخوانه المسلمين، وما من أحد يقرأ نصوص الكتاب والسنة إلا ويجد نصوص الشريعة كلها تدل على تعظيم الحرمات، وأن الإسلام ليس بالتشهي ولا بالتمني ولا بالتسمي ولا بالدعاوى العريضة ولا بالأشكال، ولو طالت لحية الإنسان إلى قدميه، ولو قصر ثوبه إلى أعلى جسمه، فلا ينفعه ذلك إذا لم يكن معظماً لحرمات الله عز وجل: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) وقد تجد الرجل في شكل الصلاح والخير وهو عند الله في النار؛ لأنه لا يعظم حرمة، فتجده لا يبالي أن يسب عالماً أو طالب علم أو صالحاً، فأين الإسلام؟ الإسلام هو الاستسلام لله.

    وقد هذب الإسلام جماعة المسلمين وأفرادهم، وانظر إنكاره على الشذوذ عن جماعة المسلمين حتى في الصلاة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس في الحج فرأى حاجين من الصحابة رضوان الله عليهم في مسجد الخيف منفردين عن الجماعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليَّ بهما، فأتي بهما ترعد فرائصهما من الخوف، قال: ما منعكما أن تصليا في القوم، ألستما بمسلمين؟) فانظر كيف تعظيم أمر الشذوذ والخروج، فقال: (ألستما بمسلمين؟) فالإسلام يهذب الجماعة والأفراد: (قالا: يا رسول الله! صلينا في رحالنا، قال: إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا).

    وقال -كما في الصحيح- : (يا أبا ذر كيف بك إذا كان عليك أمراء يؤخرون الصلاة إلى غير وقتها، قال: فما تأمرني يا رسول الله، قال: صل الصلاة لوقتها، ثم صلها معهم ولا تقل: إني صليت) كان ممكن للشخص أن يقول: أنا إذا صليتها في وقتها فقد قمت بالحق وأصبت السنة، فلماذا لم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي ذر على الأقل أن يقول: أنا قد صليت، حتى يحيي السنة ويبين أن الناس في خطأ؟

    والجواب: حتى لا يشق ولا يحدث بين المسلمين خللاً في جماعتهم، ولأن الصلاة لها أول ولها آخر، فانظر كيف يحرص الإسلام على هذه القضية، فالذي يأتي ويشهر السلاح فهو كما قال الله : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ [المائدة:33] لأنه يشهر السلاح على جماعة المسلمين، ويقطع سبلهم، حتى ولو كان في المال والتجارة.

    ومن هنا تعلم أن دين الإسلام ليس دين العبادة والرهبنة فحسب، نعم هو دين العبادة والطاعة والإنابة، ولكنه دين شمولي يكون مع الإنسان في متجره.. في بيعه.. في شرائه، حتى جعل التاجر وهو يسافر يبتغي من فضل الله، ومن هنا يعلم الإنسان أنه يتقرب إلى الله عز وجل حتى ولو كان في ماله.. ولو في تجارته.

    وإذا كان الأمر كذلك فمعناه أن مصالح المسلمين التي أذن الله عز وجل بها لا يجوز لأحد أن يحول بينهم وبين ذلك، وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل:20] أي: يطلبون فضل الله، وقد نص جماهير المفسرين على أن المراد بها أهل التجارة الذين يريدون المال ولكنهم ينفعون المسلمين ولا يضرونهم، ينفعونهم بجلب أرزاقهم وكفايتهم مئونتهم، فإذا جاء من يحمل السلاح على هؤلاء تعطلت سبل المسلمين، فقلت الأرزاق في المدن، وانقطعت عن الناس، وغلت الأسعار، هل هذا فيه مصلحة لجماعة المسلمين؟

    صحيح أن القضية مادية، لكن ما هي الآثار؟

    البعض قد ينظر إلى الجريمة في عقوبتها من الشرع فيستعظم العقوبة، لكنه لا ينظر إلى حقيقة الجريمة وأثرها، بغض النظر عن آحاد الصور، خذ مثلاً: السرقة، قد يقال: كيف تقطع اليد، وتسيل الدماء، ويحرم الإنسان من الانتفاع من يده؟

    لكن لو تصور الإنسان أن المجني على ماله جمع مالاً أفنى فيه وقته، وأعمل فيه جهده في سهر ليل وتعب نهار، حتى إذا جمعه ويريد أن يحصل مصلحة من مصالحه؛ إذا به يفاجأ بشخص يأتيه على غرة في ظلام الليل يأخذ هذا المال ويحرمه من هذا المال، وهو لا يعرف من هذا الشخص، تصور عاقبة هذه الجريمة، أولاً: ما أثرها النفسي؟ فقد يفقد الإنسان عقله؛ لأن الله عز وجل يقول عن المال: إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا [محمد:37] والله هو رب المال وهو المنعم بالمال، لكن النفوس من الشح وتعلق النفوس بالمال تبخل، فتصور أنه قد يفقد عقله؛ لأن هذا قهر له، حيث ظل يتعب ويكدح، ثم بكل بساطة يأتيه السارق ويختله، هذه واحدة، لكن الذي أعظم منها أن تنظر إلى المسروق الذي أُخذ منه المال يشك في كل من حوله -وهنا بيت القصيد- فلا يثق في أحد، وكل من يدخل داره حتى ولو كان ابنه فهو عنده في محل التهمة.

    ولذلك فرقت الشريعة بين من يأخذ المال علانية وبين من يأخذه خفية؛ لأنه يجني على المسلمين جماعة وأفراداً، وهذه كلها أسرار وحكم: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50] فليس هذا الحكم عبثاً وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216] فكل جريمة إذا نظرت إلى آثارها النفسية، وآثارها على الأفراد، وآثارها على الجماعة ثم نظرت إلى عقوبتها وجدت أنها مناسبة تماماً للجريمة، وقد جلست مع بعض المختصين في علم الاجتماع، يقول: إني أتعجب من تقدير الشريعة لبعض العقوبات، فإني حينما أدرس آثارها وتبعاتها النفسية، إذا بالعقوبة مناسبة تماماً للجريمة، لا تستطيع أن تزيد عليها ولا تنقص منها!

    إنه العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض.

    فوصف الله قطاع الطرق بأنهم محاربون لله ورسوله؛ لأنهم يقطعون السبل، تصور أنك يوماً من الأيام تريد أن تخرج من مدينة إلى مدينة، فلا تستطيع أن تخرج؛ لأن في الطريق قاطع طريق، كيف يكون أمرك؟ الذي يريد أن يعود مريضاً لا يستطيع أن يعوده، والذي يريد أن يصل رحماً لا يستطيع أن يصل رحمه، والذي يريد أن يجلب تجارة لا يستطيع، فتتعطل بذلك مصالح المسلمين، فإذاً: وصف القرآن بأنها محاربة لله ورسوله ليس فيه مبالغة ولا هو عبث، إنما هو شيء وراءه أسرار وحكم وغايات.

    ومن هنا إذا أردت أن تفند شبه أعداء الإسلام فقف معهم في الجريمة نفسها، وحلل آثارها على الأفراد والمجتمعات، تجد أن الخصم يسلم لك، وإلا فإنه يدمغ بحجة الله الدامغة؛ لأنه لا يمكن أن ينظر إلى جريمة مختصة بحال أو بشخص، ومن هنا وصفهم الله بهذا الوصف يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المائدة:33].

    قد يقول شخص كما قال السائل: كيف يوصفون بهذا الوصف العظيم؟

    هم لم يقولوا: نحن نحارب الله، ولا قالوا: نحارب رسوله عليه الصلاة والسلام، مثلاً: الشخص إذا جاء وحمل السلاح وخرجت عصابة منظمة للسطو -مثلاً- على السفن في البحر، فقد تجدهم يصلون، ولكن يقولون: نحن نحب المال، وبعضهم يعد هذا شجاعة والعياذ بالله زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ [فاطر:8] ويؤدي أعمال الإسلام، لكنه يقول: أنا مغرم بالمال، تقول له: أنت محارب لله ورسوله، يقول: لا والله، أنا لم أحارب الله ولا رسوله عليه الصلاة والسلام.

    لكن إذا جئت تنظر إلى قاعدة الإسلام العظيمة، وأن الرجل إذا دخل على فراش الرجل ولو كان قاتلاً لابنه لا يقتله؛ لأنه دخل في حرمة بيته، وكانت العرب في جاهليتها الجهلاء وضلالتها العمياء، لو جاء الجاني ودخل على فراش الرجل وطعم من طعامه فقد أصبح في حرمته يمنعه ظالماً أو مظلوماً، فإذا كان هذا في المخلوق -ولله المثل الأعلى- فكيف بالخالق سبحانه الذي يقول في الحديث الصحيح: (ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته).

    المؤمن له حرمة عند الله عز وجل، فمن يحارب المؤمن فقد حارب الله، ومن والى المؤمن فقد والى الله؛ إذا كانت المحاربة والموالاة مبنية على العقيدة والإيمان، وعلى كونه ولياً من أولياء الله عز وجل، ومن هنا إذا خرجوا عن جماعة المسلمين خاصة بالعصابات المنظمة أصبحوا منبوذين من المجتمع، ولذلك تجدهم ينفردون في مساكنهم وأماكنهم، حتى أن بعض العلماء اشترط أن يكونوا بعيدين عن المدن، وهذا كله من أجل تأكيد وصف الحرابة لله ورسوله، لكن الواقع أنهم ولو كانوا داخل المدن ما دام أنها عصابات منظمة من أجل السطو على أموال الناس، وأخذها عياناً جهرة؛ لأن الأصل في الحرابة أن تكون جهرة كما ذكرنا، وأن أخذ المال خفية له حكم خاص، فإذا كان ذلك على هذا الوجه، فإنه يوصف بكونه محارباً لله ورسوله.

    والْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43] ومن يعلم أثر تطبيق حدود الله في ارتداع النفوس، وكيف يكون الزجر، قنع ورضي؛ تصور إذا صلب قاتل في حرابة، وخرج أبناء المسلمين ينظرون إلى شخص معلق وقد قتل، كم يكون لهذا من الأثر؟ أطفال المسلمين يربون من الصغر على الدروس التي تهذبهم، لماذا تقام الحدود علانية؟ ولماذا تشهد الحدود ولم تكن سراً؟ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2]؛ لأن وراءها حكماً عظيمة.

    فالمقصود أن وصفهم بالحرابة وعقوبتهم بهذه العقوبة الشديدة؛ مناسب جداً لما أتوه واقترفوه، ولا نشك مثقال ذرة بأن الحكم العدل من الله سبحانه وتعالى، وهو القول الفصل الذي تم: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115] ونحمد الله عز وجل الذي هدانا لهذا، وهو سبحانه الهادي إلى سواء السبيل، والله تعالى أعلم.

    كيفية التوبة من الغيبة

    السؤال: هل تكفي التوبة من الغيبة لمحو الذنب أم لابد من الاستسماح من صاحبها، أثابكم الله؟

    الجواب: التوبة من الغيبة تنفع الإنسان فيما بينه وبين الله عز وجل، ولا يسقط حق الشخص المغتاب حتى يسامحه بطيبة نفسه، وإذا لم يسامحه فإنه سيلقى الله بذنبه ويأخذ من حسناته على قدر جرمه، حتى إذا فنيت حسناته أُخذ من سيئات المجني عليه وحملها على ظهره -والعياذ بالله- ثم طرح في النار، فهذا فيه عظة للإنسان أن يتقي الله عز وجل في الغيبة.

    ومن أهم ما ينبغي للمسلم أن يحذره أن ينظر إلى سبب ودافع الغيبة، خاصة في هذا الزمان الذي أصبحت الغيبة من أسهل ما يكون، حتى لربما وقع الإنسان في الغيبة وهو لا يشعر، والذي يدفع الناس اليوم، إليها سببان ما اجتمعا في إنسان إلا انتهك حدود الله عز وجل في عباد الله وأولياء الله المؤمنين، ونسأل الله عز وجل أن يعيذنا منهما.

    السبب الأول: الاحتقار، ولذلك يجب على المسلم دائماً ألا يمسي ولا يصبح، ولا تغيب عليه شمس يوم ولا تشرق إلا وهو يعرف من هو المسلم؟ وما هي حرمة المسلم عند الله عز وجل؟ وعندها لا يمكن أن يفرق بين الناس بألوانهم أو بأحسابهم أو أنسابهم أو مناصبهم ووظائفهم أبداً، تجده يخاف من غيبة الفقير أكثر من خوفه من غيبة الغني، ويخاف من الضعيف أكثر من خوفه من القوي، وذلك من شدة خوفه من الله سبحانه وتعالى.

    فعليك أن تعرف أن هذا المسلم له حرمة وحق عندك، وأن كونك مسلماً يوجب عهداً وذمة للمسلم عندك، والله يقول: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التوبة:10] (الإل): القرابة، و(الذمة) العهد، وأشد ما تكون الغيبة للقرابة، قد يجلس الشخص يقول: أبي يصرف المال الكثير، فهذه غيبة يهوي بها في نار جهنم، وهذه من أسوأ أنواع الغيبة، وهي غيبة الوالدين.

    السبب الثاني الذي يوقع في الغيبة: النقد، فقد أولع الناس بالنقد، وحرص الناس على النقد، تجد الشخص يجلس في أي مجلس يريد أن يبدي رأيه فيه، ويشجع الصغير على أن يصبح عنده جرأة، ويعلمه كيف ينتقد، وكيف يقول الصواب والخطأ؟ وما وجدنا كيف نعلم الصغار وننشئ أبناءنا إلا على الغيبة، والعياذ بالله!

    فالنقد طريق الغيبة، ومن أشنع الطرق أن الإنسان إذا تعود كلما جلس مع أحد أن يراقب أخطاءه، فهذا من المحرومين -والعياذ بالله- وفي الحديث: (طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس) فالذي تجده دائماً يجلس في المجلس وينتقد، وكما انتقد الناس عندك سينتقدك عند الناس، والذي تجده طويل اللسان صفيق الوجه لا يخاف الله في حرمات المسلمين، فبعض الأحيان تجده يجلس ويتكلم عن الإمام في المسجد ويغتابه، ويتكلم عن الخطيب في المسجد ويغتابه، يبدي رأيه في كل شيء، فهذا على خطر. ثم هم يقولون: نحن في زمان الحرية، وعليه فكل شخص يتكلم، وهي حرية إلى جهنم وبئس المصير -والعياذ بالله- لأنها حرية على حساب أعراض المسلمين، حرية على التهور واحتقار الناس وعدم المبالاة.

    فعلينا أن نهذب أنفسنا ونهذب أخلاقنا بترك احتقار المسلمين، والاحتقار كما يقع في عامة المسلمين يقع حتى بين طلاب العلم، طالب العلم القديم يحتقر طالب العلم الجديد، ويقول: من هذا حتى يأتي هنا، حتى يفعل أو يسأل أو حتى يقترب من الشيخ؟ وفلان أنا لا أحبه لأنه يسأل كثيراً ويفعل كثيراً، وما نريد كذا!

    فكل شخص يريد أن يقود الناس على طريقة معينة آمن بها ورضيها، لكن لو أن كل إنسان عرف قدر نفسه واشتغل بتهذيب نفسه وتقويمها، وشغلته عيوبه عن الناس لعرف أين يضع لسانه، والله ما من إنسان يراقب نفسه مراقبة تامة كاملة إلا سلم له دينه وعرضه، فتجد الإنسان الذي يعف عن أعراض المسلمين وفيه نظرة إلى عيوبه وخلله يشتغل بها عن عيوب المسلمين؛ تجده من أسلم وأحسن الناس.

    النفس إذا هذبها الإنسان وقومها بالخوف من الله والورع والعفة استقامت لله عز وجل، ولذلك تجد الإنسان إذا جلس في مجلس وسمع فيه غيبة يتضايق ويتذمر، وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم لا يجلس في مجلس يغتاب فيه مسلم، ويقول: أنا لا أسمح بحسناتي أن يأخذها أحد، ويقول: أنا بخيل بحسناتي، أكون كريماً في كل شيء إلا بحسناتي فلا أعطيها لأحد، لأنك إن سمعت النقد في الشيخ، أو في المحاضر، أو المدرس، أو المعلم، أو الملتزمين وغير الملتزمين، أو في فلان وعلان، فاعلم أنك ستنتقد كما انتقد غيرك، وقالوا: من جر إليك عيوب الناس جر عيوبك إلى الناس.

    لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن

    ومن هنا قالوا: من اغتاب الناس اغتابوه، ومن سب الناس سبوه، ومن أهان الناس أهانوه.

    فعلى الإنسان أن يعلم أن هناك رباً حكماً عدلاً، فينبغي علينا في ترك هذه الآفة، أن يُحرص على الاشتغال بعيوبنا، وأن نترك عيوب الناس، إلا إذا كان المتكلم مصلحاً هادياً يفكر كيف يقود الناس إلى الخير، أما أن تجعل لحوم المسلمين وأعراضهم رخيصة فإن من فعل ذلك سيندم، ولكن الندم في أعراض المسلمين طويل ومؤلم، حينما يجلس يكتوي ليله ونهاره يريد أن يتوب إلى الله عز وجل، فإذا به لا يسقط عنه حق أخيه المسلم ما لم يسامحه، فيأتي إلى أخيه المسلم فيصده الشيطان ويقول له: كيف تجيء تقول له: اغتبتك، فيغلبه الحياء، أو الخجل، أو يغلبه إبليس، أو النفس الأمارة بالسوء، فتأخذه الأنفة والعزة بالإثم، حتى يموت الشخص فيعجز عن طلب السماح منه -والعياذ بالله- وعندها سيقف بين يدي الله عز وجل لكي يقتص منه.

    فالحذر كل الحذر، ومن هنا ما من عالم ولا طالب علم ولا خطيب ولا أي إنسان يلتزم بدين الله عز وجل، ويهذب الناس ويقومهم ويقرعهم بقوارع التنزيل في حقوق المسلمين بعضهم على بعض؛ إلا نصح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فما دمرت كثير من مصالح المسلمين إلا بسبب الغيبة، وما حرص أعداء الإسلام اليوم على شيء مثل أن يربوا في الأمة قضية النقد، فتجد الشخص ولو كان صغير السن لا يرضى عن أحد، ودائماً يفكر في المثاليات وكأنه يبحث عن شيء كامل. ومن أراد أن يبحث في الناس عن إنسان كامل فلن يجده، وسيتعب ويطول تعبه ويطلب المستحيل كما ذكر الحكماء والعقلاء، لأن الكمال لله عز وجل، والله يقول: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:8].

    فإذا عاشرت المسلمين رحمك الله، فكن من خيارهم: إن رأيت خيراً حمدته، وإن رأيت عيباً سترته، وإن رأيت فساداً أصلحته، وإن رأيت اعوجاجاً قومته، وشغلتك عيوبك عن عيوب الناس، تمسي وتصبح وإذا بك تريق دمعة الندم والألم كلما آواك فراشك في الليل تفكر ما الذي قلته في المسلمين؟ وما الذي عملته مع المسلمين؟ وتفكر كيف تسعى إلى الأكمل والأفضل؟ فإذا فعلت ذلك وفقك الله، وفتح لك أبواب الرحمة.

    فإن المسلم دائماً يوبخ نفسه ويعاتبها حتى تستقيم على طاعة الله عز وجل، والنفس إذا كثر توبيخ الإنسان لها، ومحاسبة الإنسان لها: ماذا قلتِ؟ ماذا عملتِ؟ غداً لن أعود؛ طال عمره في الخير، وحسن عمله، وصلح لله عز وجل، لكن إذا كان من الغافلين -والعياذ بالله- فإنه خاسر، والأشقى من هذا والأدهى أن يزين له سوء عمله، وأن يقال له: إن غيبة العلماء والكلام فيهم قربة وحسبة، وأن جرحهم وسلبهم وكشف عوراتهم واجب حتى لا يغتر بهم.

    وانظر إلى عوقب من فعلوا ذلك، ما الذي شادوا من بناء؟ وما الذي أصلحوا من فساد؟ وما الذي قوموا من اعوجاج؟ والله ما زادوا البناء إلا هدماً، ولا زادوا الأمة إلا شقاءً وفرقة، حتى إن بعضهم حينما تاب يقول: والله ما وجدت إلا قسوة القلب، والتسلط على أعراض المسلمين؛ لأنه إذا تسلط على الصلحاء فمن باب أولى أن يتسلط على غيرهم، فيجب أن يرتدع الإنسان بزواجر التنزيل.

    وانظروا كيف أن السائل أصبح في حيرة، لا يستطيع أن يتوب من ذنبه إلا إذا رجع إلى صاحب الحق.

    وآخر ما نختم به ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين، فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى إنه كبير، أما أحدهما فقد كان يمشي بالنميمة) ومعنى: (وما يعذبان في كبير) أنه ليس كبيراً عليهما تركه ولا هو شاق، وانظر حتى شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم له جاءت محدودة، وما رفع العذاب عنه، ولكن خفف، فما بالك إذا أصبح الإنسان يغتاب الناس والعلماء، وينفر من مجالسهم، فإذا كانت النميمة بين شخصين في أمور الدنيا هذه عاقبتها، ولم يستطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشفع في رفع العذاب، إنما قال:(لعله أن يخفف عنهما ما لم تيبسا)، فقط، فكيف بمن يتكلم في العلماء!!

    لابد أن يتأمل الإنسان هذا، وسنقول ذلك ونعذر إلى الله عز وجل، والسعيد من وعظ بغيره، فقد رأينا من العواقب الوخيمة لغيبة الناس أينما كانوا، وبالأخص لأولياء الله وصالحيهم، فإننا وجدنا العواقب الوخيمة لمن يجرؤ على ذلك، ومن يستخف بذلك، والله يستدرج العبد من حيث لا يعلم، ومن حيث لا يحتسب، اللهم لا تجعلنا ممن استدرجته، اللهم لا تجعلنا من المستدرجين، وخذ بنواصينا إلى ما يرضيك عنا يا أرحم الراحمين، والله تعالى أعلم.

    الدخول مع الإمام في التشهد الأخير

    السؤال: إذا حضرت صلاة الجماعة والإمام في التشهد الأخير، فهل أصلي معه أم أنتظر جماعة أخرى، أثابكم الله؟

    الجواب: في قول جماهير العلماء يجب عليك أن تدخل مع الجماعة الأولى، ولا يجوز أن يقف الشخص ينتظر جماعة ثانية، والحديث واضح في هذا وصريح، قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) ومن هنا نلحظ الشذوذ عن الجماعة، وقد كان مشايخنا يقولون في هذا: إن الإنسان إذا أتى ولو قبل السلام بلحظة فليكبر ويدرك فضيلة الجماعة الأولى؛ لأن الجماعة الأولى فضيلتها في الوقت، والجماعة الثانية فضيلتها في العدد والتكثير، ويكتب لك فضيلة الخمسة والعشرين درجة مادمت قد أدركت الإمام قبل سلامه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل في مسجده تفضل على صلاته في بيته وسوقه خمساً وعشرين ضعفاً وذلك أنه إذا توضأ فأسبغ الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا كتبت له بها حسنة، وحط عنه بها خطيئة).. الحديث، هذا كما في الصحيح من حديث أبي هريرة، فجعل الخمسة والعشرين درجة للخروج.

    ومن هنا تدرك فضيلة الجماعة الأولى، وأحد أقوال العلماء أن السبعة والعشرين درجة لمن أدرك الجماعة كاملة، والخمسة والعشرين درجة لمن أدرك الجماعة في آخرها، وأياً ما كان فإنك إذا أدركت الجماعة الأولى أدركت فضيلة الوقت، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العبد ليصلي الصلاة وما يصليها في وقتها -أي: قد يكون بين الجماعة الأولى والجماعة الثانية ربع ساعة- ولما فاته من وقتها خير له من الدنيا وما فيها) أي: يمكن لو فاتك من أول الوقت دقيقة، فهذه الدقيقة في الثواب والجزاء خير من الدنيا كلها من أولها إلى آخرها، فقوله: (ولما فاته من وقتها) إشارة إلى أقل شيء من الوقت، (خير من الدنيا وما فيها) فتحرص على فضيلة أول الوقت في الجماعة الأولى، ولا يجوز لك أن تقف؛ لأن هذا شذوذ عن الجماعة، والواجب عليك أن تدخل مع جماعة المسجد، والله تعالى أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756538581