إسلام ويب

شرح زاد المستقنع كتاب النكاح [6]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من الشروط الواجب توافرها في عقود النكاح وجود الشاهدين، لما في وجودهما من حفظ للحقوق في الحياة وبعد الممات، ولما في ذلك من دفع للضرر عن الزوجين، وعن ذريتهما مستقبلاً. ولا يكون الشاهد في النكاح معتبراً إلا إذا كان ذكراً عدلاً مكلفاً غير أصم ولا أبكم.

    1.   

    الشهادة شرط من شروط عقد النكاح

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين:

    أما بعد:

    قال رحمه الله تعالى: [ فصل: الرابع: الشهادة ]:

    الرابع من شروط عقد النكاح: الشهادة، وتطلق بمعانٍ؛ يقال: شهد الشيء إذا حضره، قال تعالى: وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ [القصص:44] يعني: من الحاضرين، وقيل: سمي الشهيد شهيداً؛ لأنه تحضره الملائكة كما ثبت في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه لما استشهد عبد الله بن حرام والد جابر رضي الله عنه وعن أبيه جعل جابر يكشف الثوب عن وجه أبيه ويبكي، وقيل للنبي: إن أخته تبكيه، فقال صلى الله عليه وسلم: (ابكيه أو لا تبكيه فما زالت الملائكة تظله حتى رفعتموه ) فقالوا: الشهادة الحضور، ويقال: شهد بالشيء إذا علمه، ومنه قولك: أشهد أن لا إله إلا الله، أي: أعلم علماً يقينياً، وتقول: أشهد أن محمداً صادق، وأشهد أن محمداً بر، ونحو ذلك، أي: أعلم هذا منه.

    فالشهادة تطلق بمعنى العلم وتطلق بمعنى الحضور.

    وقوله: (الشهادة): الشهادة شرط لصحة عقد النكاح، وذلك للتفريق بين النكاح والسفاح، ومن مميزات الشهادة على عقود النكاح أنها تدفع الضرر، فإن حقوق المرأة تضيع إذا لم يكن هناك شهود يثبتون أنها زوجة لفلان، ولربما جحد الرجل أنه زوج لفلانة، فوجود الشهود يحفظ الحقوق سواءً في الحياة أو بعد الموت، ثم الشهادة تحفظ حقوق الذرية، فلربما مات الزوجان أو ذهبا في حادثٍ أو نحوه، فيبقى النسل، ويشهد الشهود بأنه نكاح صحيح، وأن هذا الولد منهما من زواج صحيح، فالشهادة للاستيثاق والحقوق، وفرق بين النكاح والسفاح، والدليل على اشتراط الشهادة قوله عليه الصلاة والسلام: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) فلابد من وجود عقد النكاح في قول جمهور العلماء رحمهم الله.

    الشروط التي يجب توافرها في الشهود

    قال رحمه الله: [فلا يصح إلا بشاهدين عدلين]:

    لا يصح النكاح إلا بحضور شاهدين عدلين، والعدل تقدم ضابطه.

    والدليل على ذلك: أن الله تعالى قال في الرجعة: (وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ [الطلاق:2] فقال: وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2] هذا في الرجعة، والرجعة مبنية على النكاح، فإذا أمر الله بالشهادة في الرجعة فلَأَن تثبت الشهادة في الأصل من باب أولى وأحرى، ولذلك قال: وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ [الطلاق:2] وخص الشهادة بالعدول، ومما يدل على اشتراط العدالة في الشهادة على النكاح وغيره قوله تعالى في الشهود: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282] وإنما يُرْضَى من كان مستقيماً في دينه وشهادته.

    قال: [ذكرين]

    فالنساء لا تقبل شهادتهن في غير الأموال.

    والدليل على ذلك أن الله تعالى خص بدلية النساء عن الرجال في شهادة الأموال في قوله: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [البقرة:282] وهذا على الوصية في المال في السفر فقال: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ [البقرة:282]، ولما جاء في حد الزنا لم يقبل إلا شهادة الأربعة من الشهود الذكور، ولم يذكر البدل، ولذلك قال جماهير العلماء: لا يقبل النساء في غير شهادة الأموال.

    والسبب في هذا: أن في النساء من الخصائص ما ليس في الرجال، وهذه الخصائص التي جعلها الله في النساء كمالاً لهن في أمورهن الخاصة لا تقوى معها المرأة على تحمل الشهادة؛ ومن ذلك أنها من قوة العاطفة فيها ضعف حفظها، وهذا ثابت حتى طبياً الآن، ولذلك قال تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة:282].

    فلا تقبل شهادة المرأة في الجنايات والجرائم، وهذا مشاهد مجرب؛ لأن المرأة كما ذكرنا في طبيعتها الضعف، وهذا الضعف هو الذي جعله الله رحمة بالرجل، فكملت نقص الرجل بالرحمة والضعف الذي فيها، لكن هذا الضعف لا يستطيع أن يقف في الحوادث، ولذلك تشاهد المرأة إذا جاءت أمام جريمة أو أمام حادث تضع يديها مباشرة على عينيها ولا تحب أن ترى، ولا تستطيع؛ لأنها لا تتحمل، ولو قلنا أنها تشهد، فقد حملناها ما لا تطيق، فعندما نقول: إن شهادة المرأة ترد، فإن هذا ليس طعناً في الإسلام كما يفهم السذج، بل هو كمال في الإسلام، لما فيه الرحمة والتيسير على المرأة وإعطائها حقها وقدرها؛ لأن الله عز وجل عدل فأعطى كل ذي حقٍ حقه، فلا يستطيع أحد أن يدخل في شرع الله عز وجل، ولذلك المرأة عندما تخرجها عن طبيعتها وفطرتها وتحملها ما لا تطيق تعذبها، وتجعلها في عنت لا يعلمه إلا الله عز وجل.

    فالشاهد: أن الشهادة في غير الأموال لا تستطيعها المرأة، ومن هنا لا تتحمل حتى في الأموال، قال تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة:282] وفي قراءة: فَتُذْكِرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة:282] أي: تقويها حتى تصير بمرتبة الذكر من القوة التي في الذكر، فالشاهد: أن النساء في الحدود والجرائم وفي غير الأموال لا تقبل شهادتهن لحكمة من الله سبحانه وتعالى، وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41] قبل الله شهادتهن في الأموال فقبلنا، ولم يذكر شهادتهن في غير الأموال.

    والأصل فيهن أن يقرن في بيوتهن، فليس هناك مجال لاستشهادهن وهن في أمور أتقن لها وأحفظ لها وأرعى لها من الرجال، وهذا من حكمة الله، فقد جعل لكل ذي حقٍ حقه؛ خلق الله الأسد وجعل فيه من القوة والشكيمة ما الله به عليم، وإذا رأيت الأسد في البطش عجبت منه وقلت: لا إله إلا الله، يعني: عن حكمة الله وقدرته في خلقه والقوة التي جعلها فيه، ثم إذا جئت لأي أمر يحتاج إلى رحمة ولين وعطف فوضعت الأسد أمامه فإذا به يفسده غاية الإفساد، فتجد تلك القوة لا تصلح في هذا المقام، فتجد الشديد في مقام العطف لا ينفع، وتجد الضعيف في مقام القوة لا ينفع.

    فمن يكلف الأشياء ضد طباعها ليس عنده حكمة ولا عنده عقل، فعندما تأتي إلى جنس ضعيف لطيف، الله سبحانه وتعالى خلقه وقدره، حينما تجده يقوم على بيته وعلى ولده، ويعطف على أسرته بحنانه وعطفه وإحسانه تسبح الله وتذكره لعظيم تدبيره، وحينها تعرف كيف تقوم البيوت، وكيف تتربى الأسر والأجيال بهذا العطف والحنان، هذا العطف والحنان الذي جبلت عليه المرأة لا تستطيع أن تكلفه القوة وتحمله ما لا يطيق، وإنما تجعله على قدره وحقه وما يطيق.

    تقبل شهادة الذكور دون الإناث كما ذكرنا، وسيأتي إن شاء الله بيان هذه المسألة في كتاب الشهادة، ونذكر أقوال العلماء وتفصيلاتهم في هذه المسائل، وما الذي يستثنى من هذا العموم.

    قال: [مكلفين]

    فلا تقبل شهادة المجنون ولا الصبي، فالصبي لا تقبل شهادته، والسبب في هذا: أن الصبي يقبل التلقين، ولا تقبل شهادة الصبيان إلا في مسائل مفردة استثناها بعض السلف؛ منها: قضاء عبد الله بن الزبير ، فقد كان يقبل شهادة الأحداث والصغار في الجرائم بشرط أن يؤخذوا من مسرح الجريمة -يعني: مكان الجريمة- مباشرة قبل أن يلقنهم الكبار وقبل أن يختلطوا، فكان يقبل شهادة الصبيان فقط في حال إذا وقع بينهم شيء وأخذوا مباشرة دون أن يوجد هناك أحد يلقنهم أو يتصلوا بأحد يلقنهم، هذا الذي استثناه عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وعن أبيه في هذا، وسنذكر هذه المسألة ونبينها، أما غير ذلك فلا تقبل شهادة الصبيان؛ لأن الصبي ضعيف الإدراك فيستعجل في الأمور، ضعيف التمييز فلا يحسن الإخبار عن الأمور، ولذلك يفرق بينه وبين غيره فليس كالكبير البالغ.

    قال: [سميعين]

    لأن الشهادة تحتاج إلى سمع، فلا تقبل شهادة الأصم؛ لأنه سيشهد أن فلاناً زوج فلانة، فإذاً لابد أن يسمع الولي مزوجاً الزوج ، فإذا كان أصمّ لا يسمع لا يمكن أن يشهد، فالأصم لا تقبل شهادته.

    قال: [ناطقين]

    لأنه سيُحتاج إلى شهادته للاستيثاق، فلابد أن يكون قادراً على الكلام قادراً على الإفصاح عن مكنون نفسه، فإذا كان لا يتكلم لا تقبل شهادته.

    1.   

    بيان معنى الكفاءة وأنها ليست شرطاً في صحة النكاح

    قال رحمه الله: [ وليست الكفاءة: وهي دين، ومنصب: وهو النسب والحرية شرطاً في صحته ]

    قوله: (وليست الكفاءة وهي دين) الدين من حيث الإسلام والكفر، فلا يمكن أن يزوج كافر بمسلمة، ونص القرآن في هذا واضح، لكن بالنسبة للدين من حيث الاستقامة والطاعة، فلو أن رجلاً مستقيماً صالحاً وامرأة ليس عندها تلك الاستقامة وذلك الصلاح؛ إنما هي تصلي، وتؤدي فقط الأمور الأساسية لكنها قد تقع في بعض المحرمات، وعندها بعض التقصير، ولا تصل إلى درجة الصلاح، فهل يجوز زواج غير الصالحة بالصالح؟

    الجواب: نعم، فلربما أصلحها، وأيضاً: يجوز زواج غير الصالح بالصالحة فلربما أصلحته، وإن كان الأولى والأحرى أن يحتاط في هذه الأمور، لكن من حيث الأصل يجوز؛ لأن هناك شيئاً اسمه صحة النكاح، فالنكاح هنا يصح، فلو أن امرأة صالحة جاءها ابن عمها أو قريب لها وهو على غير صلاح، فقال لها والدها: فلان يريدكِ، فقالت: ما دام والدي اختاره لي، وهذا ابن عمي فأتقي الله عز وجل وأصل الرحم، وأقوم بحقوقه، ولعل الله أن يهديه على يدي، ونوت ذلك فيما بينها وبين الله، فهذه تؤجر وتثاب، ولها من الله معين وظهير، وزواجها تؤجر عليه؛ لأنها نوت الخير، فما دام أن في نيتها أن تصلحه فهذه هي الداعية بحق؛ لأنها نظرت أن أحق من يدعى أقرب الناس منها، ووقع من هذا شيء كثير، حتى إن من الرجال من أصلحهم الله بصلاح بنات العم وبنات الخال.

    وفي بر الوالدين بركة وخير، فالمرأة إذا برت والديها جعل الله لها فيه خيراً كثيراً، كأن تكون المرأة بنت خمس عشرة سنة وهي في عز جمالها وشبابها ونظارتها، ويأتيها والدها بصديق له ماتت زوجته، وقد يكون ابن أربعين سنة، أو خمس وأربعين سنة، أو ابن خمسين سنة، ويقول لها: يا فلانة! فلان يريدكِ، وأريد أن أزوجكِ من فلان، فتقول له: ما دمت تريده أنا موافقة، وتتزوج ابن أربعين وهي بنت خمسة عشر عاماً، وتتزوج ابن خمسين وهي بنت خمسة عشر عاماً، بشرط أن يكون قادراً على حقها ويعطيها حقها في فراشها، فسيعطيها الله عز وجل من السعادة والرحمة والراحة ما الله به عليم؛ لأنه مع كبر سنه يحس أنها كالهدية، فيغدق عليها من الإحسان والخير ما الله به عليم.

    لكن لما أصبحت المرأة لا تبالي بأبيها، وأصبحت تتأثر التأثر بآراء الذين ليس عندهم بر بآبائهم، فأصبحت المرأة يأتيها أبوها بزوج في سنها كابن عمها أو قريبها ويقول لها: يا فلانة! عمكِ جاءني يريدكِ لابنه، فتقول: لا. هذا مستقبلي، لا تدمر حياتي، لا تنغص عيشتي، فلقنت، وكانت المرأة لا ترفع رأسها في وجه أبيها، ولا يمكن أن تحل شيئاً عقده والدها، من الإكرام والإجلال، وتجد من الخير ما الله به عليم، والله كم عرفنا من القرابة وغير القرابة ومن الأسر من بيوت بنيت بالبر وصلحت بالبر.

    أصبحت بعض النساء -وهذا ملموس من الأسئلة والفتاوى- تحس دائماً أن والدها إذا تدخل في الزوج أنه يريد أن يهدم مستقبلها؛ لأن كل ما قرأته من القصص المعاصرة والواقع المعاصر ينصب في هذا؛ أن الوالد لا يتدخل في شيء، وهذا من أكبر الخطأ، ومما ينبغي على النساء أن يحفظنه ويحافظن على إحيائه في أخواتهن وفي النساء تقوى الله في بر الوالدين، فالمرأة إذا اتقت الله وبرت والديها جعل الله لها من السعادة والخير وعوضها خيراً كثيراً، وكم والله رأيت من قصص عجيبة، فتجد الرجل يحب امرأة معينة وتأتيه والدته وتصرفه إلى امرأة أخرى، فيتقي الله عز وجل ولا يقول: أنتِ تتدخلين في أمري، أنتِ كذا، أنتِ كذا، أبداً، بل يسلم لوالدته ويطيع فيجعل الله له من الخير ما لم يكن له في حسبان.

    فإن أحدهم أصرت عليه أمه أن يتزوج ابنة خالته، وكانت ليست بدينة -هذا على مسألة إذا زوجت الصالحة من غير الصالح والصالح من غير الصالحة- فقالت له: يا بُني! هذه بنت خالتكِ، وأحب أن يكون بيني وبين أختي شيء من الصلة، فيا ليتك تدخل السرور عليَّ بزواجك من بنت خالتك. فاتصل بي وقال: كيف تتدخل والدتي في أمري، وكيف.. وكيف.. مما هو سائد وموجود، فقلت له: يا أخي! هذا بر للوالدين إذا لم يكن فيها عيب ينفرك منها، قال: هي تصلي، وتقوم بحق الله لكن دينها ليس بذاك، ولكني أريد فلانة الصالحة، جارته أو من بنات جيرانه، فأصر على ما هو عليه، فمكث أكثر من شهر وهو يراجعني، حتى شاء الله عز وجل في آخر لحظة أن يلين قلبه، قال: أوافق على ما قالت الوالدة؛ لأني قلت له في الأخير: ما دمت مصراً على رأيك لا تستشرني، قد قلت لك رأيي، وقد قلت لك وجهة نظري؛ أنك إذا بررت والدتك وكانت نيتك صالحة فلن يخيبك الله.

    فوالله فوجئت قبل سنة أو سنتين وأنا داخل إلى مدينة من المدن وإذا به يشير إليَّ فوقفت، فقال لي: تعرفني؟ قلت: لا أذكر، قال: أنا الذي اتصلت بك وكنتُ كذا وكذا وإذا به يذكرني بحادثته، قال لي: الآن الذي معي بنت خالتي التي أصرت والدتي على الزواج بها، أصبحت من أصلح خلق الله، وداعية إلى الخير، ولي منها الآن أطفال، وأنا الآن في سعادة لا يعلمها إلا الله، وبنت الجيران التي كنت أريد زواجها انتكست -والعياذ بالله- بعد زواجها، وسبحان الله قد يصرفك الله إلى خير لك ببر الوالدين، تشعر أو لا تشعر، إذا كان البر يضر فالعقوق أضر.

    إذا كانت المرأة تقول: والدي يتدخل في مستقبلي. لا والله، لا يوسد والدكِ في قبره إلا وقد خرج من هذه الدنيا وهو راضٍ عنكِ لأنكِ أشعرته بالأبوة.

    إذا أصبح الوالد ليس له أمر في زواجكِ ولا يختار لكِ، فما هي حياتكِ معه؟ فينبغي أن تنزع المرأة من نفسها هذه المشاعر التي هي دخيلة على المسلمين، وينبغي على المرأة أن تنظر إلى الرجل، ولو أنها تزوجت غير الصالح، فإذا حدث مرة أنها تزوجت غير صالح وحصلت مشاكل وحصل الطلاق والفراق، وحدث أن بعضهن تقول: قد بررت والدي وحدث ما حدث، ورغم ذلك لم أنعم في حياتي الزوجية، فأقول لها: ثقي ثقة تامة أن هذا الزواج الأول الذي وقعت بسببه في الألم والاضطهاد والأذية من هذا الرجل غير الصالح سيكون درساً نافعاً لك، بحيث إذا تزوجت ثانية تكونين كأحسن ما يكون، فإن الذي يذوق المرارة ويذوق من بعدها الحلاوة يحس بلذة الحلاوة، وذق شيئاً مراً ثم ذق بعده حلواً، فإنك تجد للحلو لذة، وإن كنت تراه قبل المرارة حلواً فإنه بعد المرارة أحلى.

    وكان من كلام العقلاء الحكماء ومما ذكره بعض أهل الحكم: أن عظيماً من العظماء أراد أن يتزوج، فقال لجلاسه: اختاروا لي امرأة، فقال أحدهم: عليك بالجميلة، وقال الآخر: عليك بالطويلة، وعليك! وعليك، فأخذوا بضروب النساء وأصنافهن، فقال كلمتين: ابغوا لي امرأة يطلب مثلها -يعني: فيها صفات المرأة من حيث هي ولو كان جمالاً نسبياً- لكن ماذا قال؟ أدبها الفقر فعرفت قيمة الغنى، أي: أدبها الفقر وأدبها الضعف والشدة حتى إذا جاءت إلى بيت الزوجية بعد هذا عرفت قدر الغنى.

    فالمقصود: أنه إذا زوج الصالح من غير الصالحة والصالحة من غير الصالح وكان هذا الزواج مبنياً على بر الوالدين فسيجعل الله فيه خيراً، ويجعل فيه منفعة في مستقبل المرأة وفي حياتها، وإن كان الأولى والمنبغي دائماً أن يزوج الطيب من الطيبة كما قال تعالى: الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ [النور:26].

    قال: [ومنصب: وهو النسب والحرية]

    يكون هذا بالنسبة للكفاءة، يعني: لو زوجت الغنية من الفقير، وزوجت الرفيعة من الوضيع، هذا الارتفاع والضعة هذا شيء نص الله عز وجل عليه بقوله: وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [الزخرف:32]. فالمرأة التي مثلاً لها بيت يكون بيتها بيتاً له.

    هناك شيء يسمى: الحسب والنسب، النسب هو: الإضافة؛ فلان ابن فلان.. من قبيلة فلان.. من بني فلان.. من جماعة فلان، وهذا موجود في سائر الأجناس، والحسب موجود في سائر الأجناس، لكن كل جنس بحسبه، والحسب يخالف النسب؛ لأن الحسب يحتسب الإنسان به أجداده، يعني: مثلاً يقولون: هذه فلانة، والدها فلان الكريم، يعني: رجل مشهور بالكرم والإحسان إلى الناس والصدقات حتى أصبحت الناس تذكره بالخير وتثني عليه حياً أو ميتاً، فهذا يسمى: حسب أو يقال: جدها فلان الشجاع، له شجاعة وله مكانة، وأبلى بلاءً حسناً، فهذا من الحسب، أو يقال: جدها العالم فلان، هذا أيضاً من الحسب؛ لأن العلم أعظم الشرف، فتجمع بين شرف الدين والدنيا في هذا.

    فإذاً: الحسب: أن يحسب الإنسان آباءه أو يعدهم، ولذلك قد: يتكاثر الناس، وتجد إذا حصل بينهم ذلك يعدون هذه المآثر والمفاخر، وإذا كان على سبيل الحق فلا بأس، كأن يقال: فلان له حق علينا، فإن والده فلان، أو هو من ذرية فلان، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال في الحديث الصحيح: (أنزلوا الناس منازلهم) ولذلك قال صلى الله عليه وسلم حينما مر على سفانة وهي أسيرة، وقالت لـعلي أن يشفع لها، فقال لها: إذا مر رسول الله صلى الله عليه وسلم فدونكِ تكلمي، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: (يا محمد! إن أبي كان يقري الضيف ويحمل الكل، ويعين على نوائب الحق، فقال لها: من أبوكِ؟)، قالت: حاتم الطائي ، قال: (خلوا عنها -يعني: أطلقوها من أسرها- فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، لو كان أبوكِ مسلماً لترحمنا عليه) فعدت هذه المفاخر والمآثر وهي في الجاهلية، فكيف إذا اقترنت بالإسلام وعرفت المرأة أنها بنت فلان، والسبب في هذا: أن البيوت المعروفة سواءً كانت بيوت فضل وكرم وشجاعة ينتقل السر إلى الأولاد، فالبيوت المعروفة بالبخل والشح -نسأل الله السلامة والعافية- وعدم الإنفاق والخوف على الدنيا ينتقل بلاؤها إلى الأولاد، وكذلك أيضاً بيوت الكرم والشجاعة يبقى فيهم السر، كما قال الشاعر:

    إن الأصول الطيبات لها فروع زاكية

    والإنسان دائماً إذا كان من بيت طيب يستحي وينكف وينزجر عما لا يليق به، فلو أن المرأة كانت من بيت حسيب فزوجت ممن هو دون، فليس هذا من الحق والعدل إذا وجد الكفء لها، يعني مثلاً: الآن نجد بعض النساء تقول: إنها تريد أن تتزوج، فيصر والدها على تزويجها من ابن عمها، نقول: نعم تتزوج ابن عمها إذا كان كفئاً كريماً فهو أولى وأحق، وأما بالنسبة لغير ابن العم فربما تحدث كثير من الأشياء، يعني: الزواج من غير القريب له سلبياته وله إيجابياته، وقد تقدم معنا في اختيار الزوجة وبينا هذا، لكن لو أنها زوجت من غير الكفء الذي لا نسب له لكن عنده الدين وعنده الصلاح، أو عنده العلم أو الخير، أو فيه الكرم أو الشجاعة، يعرف بفضله لا بأبيه ولا جده، هذا يسمى العصامي.

    والناس فيهم عصامي، وفيهم عظامي، وفيهم عصامي عظامي، وفيهم من ليس في العير ولا في النفير -أعاذنا الله وإياكم- أي: ليس بعصامي ولا عظامي، والعصامي: هو الذي جعل الله فخره وفضله في نفسه، وما كان له أب ولا قرابة من قرابته من يعرف بما هو فيه من الفضل، سواء كان فضل الدين أو الدنيا، فهذا عصامي.

    والعظامي هو الذي يقول: كان أبي، فهو يفتخر بآبائه وأجداده الذين ماتوا، يعني فخره بعظامه. هذا يسمونه العظامي.

    والعصامي العظامي هو الرجل أو المرأة الذي يكون من بيت فضل وسؤدد وشرف وعزة، وأيضاً هو على ذلك الفضل والشرف والسؤدد والعزة، فتجده عالماً ابن عالم، كريماً ابن كريم، شجاعاً ابن شجاع.. ونحو ذلك، فهذا عصامي عظامي، جمع الله له بين الحسنيين، لكن إذا كان لا عصامياً ولا عظامياً، فهذا لا في العير ولا في النفير.

    فإذا جيء إلى التزويج ينبغي للوالد أن ينظر، والسبب في هذا: أنها لو زوجت وهي بنت كفء كريم من غير الكفء ربما أضر بها، ولذلك تعرفون أن أعراف الناس وبيوتات الناس تتأثر، فمثلاً: عندنا بيوت وأُسر وجماعات وقبائل من شتى الأجناس، عندها عاداتٍ حميدة وأخلاق طيبة، في بعض الأحيان نجد جماعات وقبائل تحافظ مثلاً على الاجتماعات، فإذا حصلت مناسبة طيبة، أو مناسبة غير طيبة تجدهم كلهم يجتمعون ويترابطون ويتواصلون، وتجد أناساً في بعض البيئات لا يتواصلون، ولربما يقال لأحدهم: والدتك مريضة فيقول: اذهبوا بها إلى المستشفى، لا يملك من الإحساس والمشاعر شيئاً، فلو جئت تزوج امرأة من بيئة محافظة لرجل من بيئة غير محافظة ستقع أمور ومشاكل كثيرة لا تحمد.

    ولذلك يستضر أولياء المرأة من هذا الجانب، فإذا كانوا في شدة لم يجدوه وفقدوه وفقدوا من معه، ولربما عيرهم الناس بذلك، فمثل هذه الأشياء في بعض الأحيان تكون عذراً للولي أن يمنع من زواج المرأة إذا كانت لبيئة من مثل هذه البيئة التي تتساهل في الحقوق أو تتساهل في الواجبات، أو يحدث منها الضرر، والعكس له نفس الحكم، فإذا كان الزوج من بيئة محافظة ويريد أن يتزوج من بيئة غير محافظة؛ لأن الأولاد والذرية والنسل سيتأثرون بهذه الأخلاق، فكم من أسر منهم أولاد وأبناء على محافظة، فلما تزوجوا من أسر أخرى نزع الأولاد إلى أخوالهم، ولذلك كانوا في القديم يخافون من شيئين: الزواج والرضاعة، بل كانوا يخافون في الرضاعة أشد من الزواج، فإنه إذا ارتضع من أهل الكرم ورث الكرم، ولربما ارتضع من لئيمة، ولذلك كانوا يقولون: لا ترضعه من الحمقاء ولا من الخرقاء ولا من نحوهن من ذوات البلاء؛ لئلا يسري البلاء إلى الولد.

    فإذا زوج من غير الكفء فإن هذا فيه ضرر على الأولياء، لكن النكاح يصح، ثم للأولياء إذا تقدموا إلى القاضي وذكروا عيوباً في الزوج، أو ذكروا من هو أحق من القرابة كان من حقهم الفسخ، أو خافوا أن تحدث فتنة أو حدث أن جاء أولياء المرأة وقالوا: إذا بقي فلان زوجاً لموليتنا سيحدث كذا وكذا، فمن حق القاضي أن ينظر إلى الأصلح وأن يفسخ النكاح، هذه أمور تقدر بقدرها، والناس يختلفون باختلاف بيئاتهم، لكن الزواج صحيح، لكن إذا حدث ضرر وأراد الفسخ فللقاضي النظر في ذلك، وكذلك لولي الأمر النظر في الأصلح.

    قال: [ وليست الكفاءة: وهي دين، ومنصب: وهو النسب والحرية شرطاً في صحته ]

    قال سبحانه وتعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] فالناس في الإسلام يتساوون والفخر بالتقوى، قيل: (يا رسول الله! من أكرم الناس؟ قال: أتقاهم لله) لأن التقي إذا قلت له في زلته على موليتك: اتقِ الله، اتقى الله، قيل للحسن : إن لي بنتاً لمن أزوجها؟ قال: زوجها التقي، فإنه إذا أمسكها أكرمها، وإذا طلقها لم يظلمها، فالتقوى هي أساس كل خير، ومن زوج للمال فإن الله يذهب المال ويفقر من زوج، ومن زوج للجمال فإن الجمال يذهب، وكم من امرأة ذات جمال أذهب الله جمالها، وكذلك كم من رجل ذي جمال أذهب الله جماله، ومن تزوج للدين فإنه الخير العاجل والآجل الذي لا يضيع الله أجر صاحبه ومن قصده.

    قال رحمه الله: [ فلو زوج الأب عفيفة بفاجر أو عربية بأعجمي ]

    زواج العفيفة بالفاجر تقدم معنا، أما زواج العربية بالعجمي، فلا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى، هذا من حيث الأصل، والله تعالى فضل بعض الناس على بعض، وفضل بني هاشم على قريش لوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، وفضل قريشاً على قبائل العرب كلها لمكان النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك فضل العرب على غيرهم لوجود النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله كما ثبت في الصحيح: (إن الله اختارني من بني هاشم، واختار من كنانة بني هاشم، واختار من قريش كنانة، واختار من العرب قريشاً، فأنا خيار من خيار من خيار).

    فهذا تفضيل راجع إلى تفضيل الدين، ولكن لا ينبغي أن يتخذ هذا الأمر سبيلاً لاحتقار عباد الله وانتقاصهم، ووجود النعرات ونحوها، فهذا مما حرمه الله ورسوله، ونص عليه الصلاة والسلام أنه من أدران الجاهلية، فمن يفتخر بحسبه ويفتخر بنسبه فإن فيه خصلة من خصال الجاهلية، ولذلك قال تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:1-2] فكانوا يتكاثرون بالآباء والأجداد ويفتخرون بهم، أما إذا ذكر هذا من باب الحق ومن باب التحدث بنعمة الله فلا يرد على صاحبه؛ لأن هذه نعمة والنعمة يتحدث بها، أما إذا اتخذت وسيلة للمز الناس واحتقارهم وانتقاصهم وسبهم فهذا صنيع أهل الجاهلية، ومن فعل ذلك فقد عصى الله ورسوله، وآذى المؤمنين.

    ولا يجوز للمسلم أن ينتهك حدود الله عز وجل بذلك، بل عليه أن يتقي الله، وأن يعلم أن الفضل بطاعة الله ومرضاته، وأنه ليس بينه وبين الله حسب، وليس بينه وبين الله نسب، فإن أبا لهب كان عماً للنبي صلى الله عليه وسلم فأخبر الله تعالى أنه: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [المسد:3-5]، فهو في نار جهنم خالداً مخلداً فيها، فلا تنفع القرابة إذا لم تقم على الدين وعلى طاعة الله ومرضاته.

    فلا ينبغي أن يُتَّخَذ مثل هذا وسيلة لاحتقار الناس وازدرائهم، ومدارُ الخير كله في تقوى الله عز وجل، وجماعُ الخير في تقوى الله عز وجل، ومن كان على تقوى الله فإنه على الخير الذي يجعله الله عز وجل به في خير المنازل في الدنيا والآخرة.

    قال: [ فلمن لم يرض من المرأة أو الأولياء الفسخ ]:

    إذا كان هناك ضرر -مثلما ذكرنا- فتضرر أولياء المرأة وقالوا: إن هذا فيه ضرر أو كان الذي زُوِّج حشفاً وسوء كيلة، فهو ليس بذاك في دينه واستقامته، ومع ذلك فيه ضرر بدخوله على جماعتهم، فإنه يجوز لهم الفسخ، وقد تقدم هذا في بيان الخطبة واختيار الزوجة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756621226