إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الإجارة [7]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • اختلف العلماء في حكم أخذ الأجرة على الأذان وتعليم القرآن والفتوى وغيرها من القربات، فمنهم من قال بالجواز، ومنهم من قال بالتحريم، وطائفة فصلوا في هذه المسألة، ولكل صاحب قول أدلته، ولكن الراجح القول بالجواز. ويلزم المؤجر تجهيز كل ما يلزم في العين المؤجرة حتى يتم للمستأجر الانتفاع بها حسب العرف.

    1.   

    حكم أخذ الأجرة على الأذان أو تعليم القرآنٍ ونحوهما

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    قال المصنف رحمه الله: [ولا تصح على عمل يختص أن يكون فاعله من أهل القربة].

    شرع المصنف رحمه الله في بيان جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بمحل الإجارة، فبيَّن أن مما يمتنع ولا يصح أن يؤجر عليه: أعمال القربة التي يختص فاعلها بالتعبد، وتوضيح ذلك: أن العبادات منها ما هو فرض عين على المكلف، قصد الشرع أن يقوم المكلف بفعله بنفسه، فهذا النوع من العبادات لا يستقيم أن يقيم غيره مقامه، وبعبارة أخرى كما يقول العلماء رحمهم الله: إن هذا النوع من العبادة لا تدخله النيابة من حيث الأصل، فيشمل ذلك الصلاة، فلا يجوز أن يصلي شخص مكان آخر، ولا أن يقوم بفعلها نيابة عن قريب أو غريب.

    فهذا النوع من العبادات والتي يسميها العلماء بفرائض العين، وفرض العين هو الذي قصد الشرع أن يقوم المكلف به بعينه، فحينئذٍ لو دخل بديل عن هذا المكلف فإن مقصود الشرع لا يتحقق، فلو قال رجل لآخر: صل عني الصلوات الخمس أو بعضها وأعطيك عن كل صلاة كذا وكذا؛ لم يصح.

    فإذاً: لا يصح أن يستأجره للقيام بفريضة العين؛ لأن الشرع قصد أن يقوم بها المكلف بنفسه عيناً، فلا يستقيم أن يقوم غيره مقامه، لا على سيبل التبرع ولا على سبيل العوض، هذا بالنسبة لفرائض الأعيان.

    وهناك قربات أخر دل الشرع على جواز النيابة فيها، وبالإمكان أن يقوم شخص مقام آخر في القيام بهذه العبادات، أو تكون الطاعة نفسها مما يتقرب به إلى الله عز وجل، ويكون قربة للشخص نفسه، فمثلاً: الأذان، وتعليم القرآن، والإمامة في الصلوات، والتعليم والتدريب والفتوى... ونحو ذلك من الأمور المتعلقة بالطاعات والعبادات في تعليمها والقيام بها، فلو أن شخصاً أراد أن يستأجر شخصاً للأذان، أو أراد أن يستأجره للقيام بالفتوى أو الإمامة أو التدريس ونحو ذلك، فهل تجوز الإجارة على هذا النحو من القربات؟

    للسلف رحمهم الله في هذه المسألة ثلاثة أقوال، وهي المسألة التي ذكرها المصنف رحمه الله وصدر بها هذه الجملة:

    القول الأول: لا يستأجر على هذه الطاعات والقربات، فلا يجوز أن تدفع المال من أجل أن يؤذن، ولا يجوز أن تدفع المال من أجل أن يعلم القرآن، ولا يجوز أن تدفع المال إليه من أجل التعليم والإمامة ونحو ذلك من القربات التي ذكرنا، وهذا القول قال به طائفة من السلف رحمة الله عليهم، وقال به أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي وكذلك قال به ابن المنذر ، وقال به إسحاق بن راهويه ، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، وهو مذهب الحنفية، أي: أنه لا يجوز أن يستأجر الغير للقيام بالطاعات التي ذكرناها، لا أذاناً ولا صلاة ولا إمامة ولا تدريساً ولا نحو ذلك من الطاعات والقربات.

    بناءً على هذا القول: لو انعقدت الإجارة بين الطرفين على فعل هذه الأمور فإنه لا يستحق الأجير شيئاً، ولا تكون الإجارة شرعية.

    القول الثاني: يجوز أن يستأجر الغير للقيام بهذه الأعمال والطاعات، ولا بأس بذلك، وهذا هو مذهب المالكية والشافعية ورواية عن الإمام أحمد -رحمة الله على الجميع- ولذلك ينسبه بعض أهل العلم إلى الجمهور: أنه يجوز أن تستأجر الشخص للقيام بتعليم القرآن، وتقول له: علم ابني هذا الجزء من القرآن برواية نافع ، أو برواية حفص ، أو برواية ورش عن نافع ، ونحو ذلك من الاتفاق الذي تبينه له، ولا بأس بذلك ولا حرج، ويجوز أن تستأجره للأذان وللإمامة وللتدريس والتعليم ونحو ذلك، وهو مذهب الجمهور كما ذكرنا.

    القول الثالث: التفصيل: قال: إن وقع العقد بالشرط فلا يجوز، وإن وقع بدون شرط فهو جائز.

    ومرادهم بكونه بشرط أن يقول الشخص: أنا لا أدرس حتى تعطيني المال، أو لا أؤذن حتى تعطيني كذا وكذا، أو لا أؤم الناس حتى تعطيني كذا وكذا. فهذا النوع يسمى المشارطة، أي: أنه جعل العوض والأجرة شرطاً للقيام بالطاعة، وهذا القول هو رواية عن الإمام أحمد ، رحمة الله على الجميع.

    تحصل معنا أن في هذه المسألة ثلاثة أقوال: قول بالمنع مطلقاً، وقول بالجواز مطلقاً، وقول بالتفصيل.

    حالة التفصيل يجيزون إذا لم يشترط الشخص، ومثال عدم الاشتراط: يأتي الشخص للأذان أو للإمامة، فيعطى الأجرة بدون أن يشترط ذلك، ولو قال له قائل: لا نعطيك الأجرة. لاستمر في أذانه أو في إمامته، فهو إذاً لا يجعل الأجرة قصداً أو هدفاً من إمامته، بل يكون مستعداً أن يقوم بالفعل والطاعة قربة لله عز وجل، فصار أجر الدنيا تبعاً ولا قصداً، هذا بالنسبة للتفريق بين المشارطة وعدمها.

    أدلة من يقول بعدم جواز أخذ أجرة على تعليم القرآن وغيره

    استدل الذين قالوا بعدم الجواز بدليل الكتاب والسنة والعقل:

    أما دليلهم من كتاب الله عز وجل فقالوا: إن القرآن نص على تحريم عقد الأجرة على الوحي، قال تعالى: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:109].. قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سبأ:47] إلى غير ذلك من الآيات التي نصت على أنه لا أجر ولا حظ لقاء القيام بهذا الوحي، فشمل ذلك القرآن تعليماً وتدريساً وبياناً، وكل ما يتصل بالقرآن من المنافع التي يراد بها التقرب لله سبحانه وتعالى.

    ودليل السنة هو: أن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه علم رجلاً من أهل الصفة شيئاً من كتاب الله عز وجل فأهدى إليه قوساً، قال: (فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته، فقال: إن أحببت أن يقلدك الله به قوساً من نار فتقلده) ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم رتب الوعيد على أخذ الأجرة من الطاعة والقربة المتمثلة بتعليم القرآن، فدل على أنه لا يجوز أن يأخذ الشخص أجرة على تعليمهم القرآن، ويتبع ذلك تعليمهم العلم عموماً.

    أما الدليل الثالث: فقالوا: حديث أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه، وفيه: (أنه أهدى إليه رجل علمه شيئاً من كتاب الله فأهدى إليه خميصة، فلما أهدى إليه الخميصة قال عليه الصلاة والسلام: لو أنك لبستها لكساك الله بها ثوباً من النار).

    وهذان الحديثان في إسنادهما كلام عند أهل العلم رحمة الله عليهم، فهما ضعيفا الإسناد كما سنبينه في الترجيح.

    أيضاً هناك دليل فيه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الأكل بالقرآن: (اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به ولا تستكثروا) وفيه كلام أيضاً، وإن كان بعض العلماء قد حسن إسناده، لكن الكلام فيه قوي.

    فهذا مجموع دليلهم من الكتاب والسنة، أما دليلهم من العقل فقالوا: لا تجوز الإجارة على هذه القربات -أي: تعليم القرآن والتعليم والإمامة والأذان ونحوها من الطاعات- كما لا تجوز الإجارة على الصلاة والصيام، يقولون:

    أنتم تتفقون معنا على أنه لا يجوز أن يستأجر شخص شخصاً من أجل أن يصوم عنه، وتتفقون معنا على أنه لا يجوز أن يستأجر شخص شخصاً من أجل أن يصلي عنه، وإذا كنا متفقين على أنه لا يجوز أن يستأجر شخص آخر للصلاة ولا أن يستأجره للصيام، فنقول: تعليم القرآن والأذان وتعليم العلم كالصلاة، أليس المراد بها أن يتحصل صاحبها على الأجر والمثوبة؟ قلنا: بلى. قالوا: ما دام أنه يريد تحصيل الأجر والمثوبة والكل قربة، وكما حرم أصل الأجرة على هذه القربة يحرم أصل الأجرة على هذه القربة بجامع كون كل منهما طاعة وقربة لله عز وجل.

    هذا بالنسبة للدليل العام الذي ورد.

    أيضاً قالوا: مسألة الأذان لا يجوز أخذ الأجرة عليها لثبوت الحديث الخاص، وهو حديث السنن، عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه وأرضاه، وكان قد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، قال رضي الله عنه: (وكان آخر ما عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن اتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً) والحديث صحيح، قالوا: فهذا نص، وركبوا منه دليل العقل فقالوا: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نص على عدم أخذ الأجرة على الأذان وهو من القربة والطاعة، كذلك لا يجوز أخذ الأجرة على التعليم، ولا يجوز أخذ الأجرة على الفتوى، ولا غير ذلك من الأمور التي يقصد بها القربة والطاعة.

    هذه هي محصل أدلة أصحاب القول الأول من النقل والعقل.

    أدلة من يقول بجواز أخذ أجرة على تعليم العلم والقرآن

    أما دليل من قال بالجواز، فقد استدلوا بأدلة ثابتة في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدلة من القياس والنظر.

    أما دليلهم من السنة الصحيحة فقالوا: عندنا عدة أحاديث وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كلها تدل على أنه يجوز أن يأخذ المسلم أجرة على القيام بهذه الطاعات والقرب:

    الدليل الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه -وهو ثابت في الصحيحين- في قصة المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فصعد فيها النظر وصوبه عليه الصلاة والسلام، وقال له رجل: يا رسول الله! إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها. فقال له: (هل معك شيء تصدقها إياه؟.. إلى أن قال: زوجتكها، وفي رواية: أنكحتكها، وفي رواية أخرى: ملكتكها بما معك من القرآن) فالرجل يحفظ عدة سور، فزوجه النبي صلى الله عليه وسلم من هذه المرأة على أن يعلمها هذه السور، حيث قال: (أنكحتكها بما معك من القرآن).

    فإذا تأملت هذا الحديث وجدت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل تعليم القرآن عوضاً وصداقاً لنكاح المرأة، فدل ذلك على جواز أن يكون التعليم عوضاً عن شيء دنيوي، وأنه لا بأس أن يأخذ عليه أجراً من الدنيا ما دام أن نيته الأصلية هي ابتغاء الله عز وجل، فقالوا: فلا يضر، لأنه ينوي الطاعة والقربة بتعليمهم القرآن، ولكن كونه يأخذ شيئاً من الدنيا فذلك من تيسير الله عز وجل له حتى يستعين به على المئونة، ويستعين به على طلب العلم، ويستعين به على الخير.

    إذاً: حديث أبي هريرة دل على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن.

    طبعاً هم يقولون: أليس المرأة إذا أراد الرجل أن يتزوجها يدفع المال من الذهب والفضة؟ قلنا: بلى، يدفع المال من الذهب والفضة.

    قالوا: فإذا كان يدفع المال من الذهب والفضة فإن النبي صلى الله عليه وسلم نزل تعليم القرآن عوضاً عن مهر المرأة، فدل على أنه يجوز أن يكون تعليم القرآن معاوضاً عليه، يعني: لقاء عوض وبدل.

    أما الدليل الثاني: فقالوا: حديث أبي سعيد في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنهم نزلوا بحي من أحياء العرب، وفيه رجل به ألم، فقيل لهم: إنكم أتيتم من عند هذا الرجل فهل عندكم من راق؟ فأتي بالرجل، قال: فكنت أقرأ عليه بفاتحة القرآن، فأجمع رقيقي ثم أتفل عليه (ثلاثة أيام) فكأنما نشط من عقال)، أي: فشفاه الله عز وجل بما جعل الله في هذا القرآن من البركة، كما قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29] فجعل الله عز وجل فيه البركة؛ فشفي سيد القوم، فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم، وفي بعض الروايات أن أبا سعيد اشترط وقال: (لا نرقي حتى تجعلوا لنا جعلاً). فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم، فلما جعلوا لهم الجعل قرأ ورقى فشفي سيد القوم.

    ومثله قضية اللديغ حينما لدغ وقرءوا عليه بفاتحة الكتاب؛ فشفاه الله عز وجل.

    قال أبو سعيد : (فلما رجعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سألناه -أي: سألناه عن أخذ العوض عن القرآن والرقية- فقال عليه الصلاة والسلام: إنكم أكلتم برقية حق، وإن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله، كلوا واضربوا لي معكم متاعاً) وفي رواية: (خذوا واضربوا لي معكم بسهم) فأحل لهم العوض، والعوض وقع لقاء الرقية، والرقية نوع من الطاعة والقربة؛ لأنها لا تقع القربة إلا إذا تلا القرآن معتقداً فيه التقرب لله عز وجل، كما لو أذن معتقداً وكما لو علم معتقداً، وهكذا.

    فقال أصحاب هذا القول رحمة الله عليهم: إنه يجوز أخذ العوض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز لهؤلاء الصحابة أخذ الجعل، وعده غير قادح في كون العمل قربة، وقال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله).

    كذلك أيضاً لهم دليل ثالث، وهو: النظر والعقل، قالوا: يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن وعلى الأذان والإمامة والفتوى ونحو ذلك من القربات، كما يجوز أخذ الأجرة على بناء المسجد وكتابة العلم، والكل متفق على أنه لو استأجر شخص ليبني مسجداً فإنه يجوز بالإجماع، وبناء المسجد يقع قربة ويقع عادة من العادات، ولذلك قالوا: ممكن أن ينوي به القربة ويحصل أجر الدنيا وأجر الآخرة، قالوا: فيجوز أن يأخذ العوض عليه من هذا الوجه.

    أدلة من يفصل في مسألة أخذ أجرة على تعليم القرآن

    وأما القول الثالث: الذي قال بالفرق بين المشارطة وعدمها فإنهم يجمعون بين الأدلة، ويقولون: إن الآية التي حرمت نص فيها الله عز وجل على أن التحريم للمشارطة قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ [سبأ:47] ، قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الفرقان:57] ، وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الشعراء:109] ، وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [يوسف:104] فالسؤال مشارطة، فجعل المشارطة مؤثرة في الحل، فالمنع جاء بصورة خاصة وهي أن يسأل، والمشترط سائل، فكأنه يقول: لا أصلي حتى تعطوني ألفاً. يقولون له: صل بنا إماماً. يقول: أقبل أن أصلي بكم الشهر بخمسمائة.

    قيل للإمام أحمد رحمة الله عليه: إن رجلاً يقول: لا أصلي بكم التراويح حتى تعطوني كذا وكذا. قال: أعوذ بالله! من يصلي وراء هذا؟! فما دام أنه يقول: لا أصلي بكم حتى تعطوني كذلك. معناه: أنه لا يريد الصلاة ولا يريد العبادة إلا من أجل المال.

    فإذاً قالوا: إنه إذا شارط كان سائلاً، والله نهى ومنع وحرم، وجعل السؤال للأجر لقاء الوحي محظوراً على المرء، وكما أنه محظور على نبي الأمة صلى الله عليه وسلم فمن بعده قائم مقامه في كونه ممنوعاً من هذا الأمر؛ لما فيه من الإخلال بحق الدعوة والتعليم.

    وكذلك أيضاً قالوا: إن الجواز دلت عليه الأدلة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتحريم دلت عليه أدلة أخرى، فنجمع بين الدليلين ونقول: من اشترط منع، ومن لم يشترط لا يمنع.

    واعترض على هذا المذهب باعتراض، قيل لهم: أنتم تقولون: إننا نجمع بين أدلة الجواز والتحريم، فما رأيكم بحديث أبي سعيد والرقية، فإن حديث الرقية فيه: (لا نرقي حتى تجعلوا لنا جعلاً) فجعلوا الشرط موجوداً.

    فقالوا: نعم، حديث أبي سعيد نقره ولا ننكره، ونقبله ولا نرده، ولكنه بين مسلم وكافر؛ لأن هؤلاء كفار وليسوا مسلمين، وإنما حظر إذا كان بين مسلم ومسلم.

    وأجابوا من وجه آخر فقالوا: إن حديث أبي سعيد رضي الله عنه خرج مخرج المداواة؛ لأن الرقية نوع من العلاج والتداوي، والعلاج والتداوي فيه شبهة الدنيا مع وجود القربة والطاعة، فصار مثل: داء المس، فيمكن أن يقع طاعة ويمكن أن يقع غير طاعة، فوسع فيه أكثر من غيره، فخففوا من حديث أبي سعيد رضي الله عنه من هذا الوجه.

    الراجح في مسألة أخذ الأجرة على تعليم القرآن ونحوه

    وفي الحقيقة: إذا تأمل المتأمل فإنه سيجد أن دليل من قال بالجواز أصح وأقوى من حيث الإسناد والثبوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك فالأشبه والأقوى القول بالجواز، وخاصة إذا كان من بيت المال.

    وأما مسألة الأذان فيشكل على حديث الأذان حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم : (واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً) فإن هذا الحديث يعارض بحديث أبي محذورة رضي الله عنه وأرضاه، وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قفل من الطائف بعد قسمه لغنائم حنين بالجعرانة، وجاء أبو محذورة رضي الله عنه وأذن الأذان، قال: فألقى إلي صرة من فضة).

    فألقى النبي صلى الله عليه وسلم له صرة من فضة، فأخذ على أذانه الأجر، فنقول: الأشبه في قوله (واتخذ مؤذناً لا يتخذ على أذانه أجراً) أي: لا يطلب على أذانه الأجر، أي: أنه يدخل تحت ما قلناه: عند المشارطة يقع الحظر والمنع، ولذلك القول بأنه يجوز هو الأصل، وفي النفس شيء إن كان الرجل يشارط، أعني إذا كان يقول: لا أفعل حتى تعطوني. فهذا في النفس منه شيء.

    وبناءً على ذلك: فالأشبه الجواز، وخاصة إذا كان من بيت مال المسلمين.

    وقوى بعض العلماء في هذه المسألة جوانب، قالوا: الأقوى والأشبه الجواز، كأن يكون طالب العلم لا دخل له إلا هذا الذي يأخذه من بيت المال، أو يغلب على ظنه أنه إذا لم يتفرغ للتعليم على هذا الوجه فإنه سيتعرض لذل المسألة، أو يتعرض لأمانات الناس ويضيعها، ولذلك كان الإمام أحمد يفضل التعليم بالمال على نحوه من التكسب الذي فيه تحمل لأمانات الناس وحقوقهم، فلعله ألا يتمكن من ذلك فيضيع حقوقهم.

    وقال بعض العلماء: ينبغي للإنسان أن يوطن نفسه إذا كان مؤذناً أو إماماً وأخذ الأجر، أن يحرص في الابتداء ألا يأخذ، ويحاول قدر استطاعته ألا يتقبل العطاء، فإذا فرض عليه نوى في قرارة قلبه أنه لو قطع عنه لاستمر في عمله وطاعته، وأن ذلك لا يقطعه عن الخير.

    قالوا: فلو قيل له: نقطع عنك راتبك الذي تأخذه. فينقطع؛ فحينئذٍ تكون الشبهة فيه قوية؛ لأنه يريد حظ الدنيا، نسأل الله السلامة والعافية.

    وبناء على ذلك نقول: إن الآيات التي منعت قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الفرقان:57] قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سبأ:47] إلى غير ذلك من الآيات محمولة على من اشترط وقصد المال وقدم الدنيا على الآخرة.

    وأما حديث أبي وحديث عبادة بن الصامت فنقول: إنها أحاديث فيها ما فيها من حيث السند، وهي أضعف إسناداً، والقاعدة: أن الضعيف لا يقوى على معارضة ما هو أصح منه.

    وهناك جواب يختاره بعض مشايخنا رحمة الله عليهم، فيقول: إن أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه ابتدأ تعليم الرجل لوجه الله، ثم جاءه بعد ذلك بقوس هدية، فحينئذٍ من ابتدأ التعليم قاصداً به وجه الله، فجاءته هدية أو جاءه شيء من الدنيا كأنه رغب عن ثواب الله إلى مثوبة العباد، وقال له: (إن أحببت أن يقلدك الله به قوساً من نار) بالانخراط فصرفه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأكمل والأحظ، وهو: إرادة ما عند الله عز وجل، فيفرق بين من ابتدأ وهو ينوي الآخرة، ونشأت عليه الدنيا، وبين من يكون في الأصل له حظ الدنيا.

    وقالوا: النبي صلى الله عليه وسلم رغب في الجهاد مع كونه قربة وطاعة بحظ من الدنيا، وقال: (من قتل قتيلاً فله سلبه) فرغب في الطاعة، فقويت الحمية وقويت الشوكة في ذات الله بحظ من الدنيا، وهذا يدل على أنه إذا أراد حظ الدنيا لم يؤثر.

    1.   

    حالات من يعطى أجرة على تعليم القرآن وغيره

    ومن هنا نقول: من طلب العلم وأعطي راتباً، أو ترتب على كونه يأخذ العلم منزلة أو مرتبة أو شهادة ينال بها شيئاً من الدنيا ففيه ثلاث حالات:

    الحالة الأولى: أن تكون نيته الآخرة محضة، وحظ الدنيا لا يلتفت إليه بالكلية. إن أعطي شيئاً وإلا لم يتلفت إليه.

    الحالة الثانية: أن يكون قصده الآخرة، ويجعل حظ الدنيا تبعاً لا أساساً، بحيث لو قيل له: لا نعطيك هذه الدرجة ولا هذه الشهادة. لاستمر واستدام، فحينئذٍ نية الآخرة راجحة ونية الدنيا مرجوحة.

    الحالة الثالثة: أن يستويا.

    الحالة الرابعة: أن يكون العكس والعياذ بالله، فتكون نيته هذه المنزلة من الدنيا.

    فأما إذا كانت نيته الآخرة، وكان قصده من تعلمه أن يتعلم ما فرض الله عليه ويعلم أبناء المسلمين، ويعمل بما علم؛ فهو بخير المنازل؛ لأنه أراد وجه الله عز وجل، وقد نصت نصوص الكتاب والسنة على أن من أراد الله والدار الآخرة فإن الله عز وجل يعطيه أجره ولا يضيع عمله، هذا إذا كان أصله الآخرة.

    الحالة الثانية: أن يكون أصله الآخرة وجاءت الدنيا تبعاً، بحيث يقول: أنا فعلاً أريد أن أتعلم، وأعمل بما علمت، وأعلم الناس بعد ذلك، وأحب أن تكون لي شهادة، وأن تكون لي وظيفة منها أنفع الناس، وأكف وجهي عن سؤال الناس، ومنها أسترزق حتى لا أتعرض لذل الدين وفاقته وأعرض أهلي وعيالي للذل.

    فإذاً: عنده طلب للدنيا، لكنه أقل من طلب الآخرة، فإذا كانت نية الآخرة هي الأساس ووقعت نية الدنيا تبعاً لم يضر، والدليل على ذلك دليل الكتاب والسنة.

    أما دليل الكتاب فإن الله عز وجل قال عن أهل بدر: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الأنفال:7] والله سبحانه وتعالى المطلع على القلوب والضمائر يقول في أهل بدر: (وَتَوَدُّونَ) أي: (تتمنون) من باب قوله عليه الصلاة والسلام: قال: (إن الله وعدني إحدى الحسنيين: إما الجهاد وإما العير) فخرجوا رضوان الله عليهم وهم يتمنون أنها تكون العير.

    وليس معنى ذلك أنهم يفضلون الدنيا على الآخرة، إنما كان شيئاً يريدون به كسر شوكة أعدائهم، وارتفاقهم بالدنيا لعزة وغلبة يرجونها لدين الله عز وجل، فقال: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الأنفال:7] فكانوا يودون العير، ومع ذلك جعل الله لأهل بدر ما لم يجعله لغيرهم من أهل الغزوات، قال صلى الله عليه وسلم -في الصحيح-: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) فهذا كله يدل على أن نية الدنيا إذا وقعت تبعاً لم تضر.

    الدليل الثاني من السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل قتيلاً فله سلبه) وهذا في الجهاد، فجعل للإنسان إذا قتل رجلاً من الأعداء أنه يأخذ سلبه، وهو ما عليه من السلاح والعتاد كما قدمنا في كتاب الجهاد- فهذا السلب منفعة ومصلحة دنيوية، رغب في طاعة وقربة بمصلحة دنيوية، لكنها كانت تبعاً ولم تكن أساساً، وهذا من أدق ما قاله العلماء في هذه المسألة، وهو اختيار الأئمة كالإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري إمام المفسرين رحمة الله عليه، واختاره أئمة من المتأخرين كشيخ الإسلام ابن تيمية ، والإمام الحافظ ابن عبد البر من المتقدمين، وكذلك الإمام الحافظ ابن حجر من المتأخرين. ولذلك قد يأتي بعض طلاب العلم ويشوش عليك فيقول: كيف تطلب العلم وأنت تريد كذا؟

    قل له: أطلب العلم لله وللدار الآخرة، وأجعل نية الدنيا تبعاً ولا أجعلها أساساً ومقصداً. وهذا هو الفصل في هذه المسألة.

    الحالة الثالثة: أن تستوي -والعياذ بالله- النيتان، وتصبح إرادته للدنيا كإرادته للآخرة، وحظ الدنيا عنده كحظ الآخرة لا فضل لأحدهما على الآخر، فهذا هو فاتحة الشر على الإنسان، وفاتحة شر المنازل أن يجعل مع الله نداً في محبته وطلب مرضاته، فيحب الدنيا كما يحب الآخرة، فهذا نيته مؤثرة، كما قال تعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) فهذا يدل على أنه لا يجوز في الطاعات والقربات أن تشرك نية الدنيا مع الآخرة على سبيل الاستواء.

    وأما بالنسبة للحالة الأخيرة، وهي أن تكون نيته الدنيا هي الأساس ونية الآخرة تبعاً، فهذا كما حكى الله عز وجل عن المنافقين وهو شأن أهل النفاق (أنهم لو يعلمون عظماً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد أحدهم العشاء).. وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:142] فهذا في شر المنازل، نسأل الله السلامة والعافية.

    1.   

    تقديم الإخلاص في القربات والطاعات

    ينبغي التنبيه على أمر مهم، وهو: أمر الإخلاص في القربات والطاعات، مع كون العلماء رحمهم الله يقررون الجواز ويبينونه، لكن ينبغي التنبيه على أن الأفضل والأكمل لطالب العلم ولمعلم الناس أن يعلم لله، وأن يؤذن المؤذن لله، وأن يصلي لله، وأن يحتسب ثوابه عند الله عز وجل، وأن يقوم بسائر القربات التي ذكرنا ولا يريد بها إلا وجه الله عز وجل، ومن استغنى بالله أغناه، ومن جعل الآخرة أكبر همه ومبلغ علمه وغاية رغبته وسؤله؛ جعل الله الدنيا تحت قدميه وجاءته ذليلة صاغرة، وملأ الله قلبه بالغنى، فلو عاش مرقع الثياب حافي القدمين لوجدته في عزة وكرامة لا يبلغها أغنى الأغنياء في الدنيا.

    ولذلك لما دخل سليمان بن عبد الملك رحمه الله إلى مكة وطاف بها وأدى عمرته، كان معه عطاء بن أبي رباح، وهو عطاء ، وكان ديواناً من دواوين العلم والعمل- فقال: يا عطاء ! سلني حاجتك. فقال: يا أمير المؤمنين! إني لأستحي أن أسأل مخلوقاً في بيت الله عز وجل.

    هؤلاء العلماء الذين عرفوا كيف يعاملون الله سبحانه وتعالى، فقال: إني لأستحي أن أسأل مخلوقاً في بيت الله عز وجل.

    ولا شك أن هذا من فضل سليمان ، وكانوا يتفقدون أهل العلم ويحبون إكرامهم، وهي فضل لـسليمان وفضل لـعطاء ، فكل على خير، ولكنها مواقف تكتب بماء الذهب لأئمة الإسلام، ولقلوب ملئت بمحبة الله عز وجل فنسيت ما سواه، وامتلأت بالغنى بالله عز وجل فلم تعرف للفقر سبيلاً؛ لأنها غنية بالله جل جلاله.

    فلما خرج قال: يا عطاء ! ها قد خرجنا فسلني حاجتك.

    قال: يا أمير المؤمنين! إن حاجتي أن يغفر لي ربي ذنبي.

    فقال: إن هذا ليس بيدي، إنما سألتك أن تسألني من أمور الدنيا لا من أمور الآخرة.

    فقال له رحمه الله: يا أمير المؤمنين! ما سألت الدنيا ممن يملكها أفأسألها ممن لا يملكها؟! فرحمه الله برحمته الواسعة.

    فضل الاستغناء بالله

    ومن عرف الله عز وجل فإن الله يغنيه، ودائماً أمور الدنيا تأتي تبعاً، حتى في قضايا وأمور العوام، فمن أنزل حاجته بالله فإن الله عز وجل يتأذن له بالفرج العاجل والآجل، ومما ذكره الأئمة: قصة ذلك الرجل الذي دخل المسجد على عظيم من عظماء الدنيا، وكان من الأئمة والخلفاء، فانتظره حتى صلى الفجر ثم صلى بعدما طلعت الشمس، فوجد هذا الرجل الخليفة بعدما صلى رفع كفه يدعو ربه، فلما رآه يرفع يديه إلى الله عز وجل قال: سبحان الله! هذا يسأل ربه وأنا أسأله حاجتي!

    فلما رأى ذلك استغنى بالله، واعتقد في قرارة قلبه أنه ينبغي أن يكون فقره إلى الله لا إلى شيء سواه، فانصرف من المسجد وفي نيته ذلك، ولما خرج رجع إلى عياله وولده فأدركته الهاجرة والظهيرة في كهف، فدخل الكهف وهو في شدة الإعياء والتعب وفي حيرة من أمره كيف يقول لأهله وولده! فلما أراد أن يضع رأسه إذا به في مكان مشرف ومرتفع، فأراد أن يسوي حتى يضع عليه ما يرتفق به من فراشه، فإذا به بشيء كالفخار قد انكسر فوقعت يده على جرة مملوءة ذهباً، فحصل من خير الدنيا، مع ما حصله من أجر الآخرة.

    ومن ألذ المقامات وأهنأ الساعات وأشرف اللحظات لحظة الاستغناء بالله جل جلاله؛ لأنها تعني معاني كثيرة، فانظر كيف محبة الله لمن يدعوه، وانظر كيف يحب الله السؤال؛ لأن السؤال يدل على التوحيد، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة)؛ لأن الذي يرفع كفه سائلاً لله معناه أنه يؤمن بوجود الله، ويؤمن بأن الأمر كله لله، وأن الغنى العز من الله، وأن أمان خوفه من الله، وأن كرامته وعزته من الله؛ فرفع الكف إلى الله الذي لا يسأل سواه.

    فإذا كان العبد في مقام عرضت عليه الدنيا وعرضت عليه الآخرة فآثر الآخرة؛ فإن الله سبحانه وتعالى يعوضه عن الدنيا مع ما حصل من قصد التوحيد؛ لأن انصرافك عن الدنيا باعتقادك أنك مع الله وأن الله سيغنيك، هي منزلة من منازل التوحيد، ومنزلة من منازل اليقين بالله سبحانه وتعالى.

    استغناء الإمام البغوي عن سؤال الناس

    ذكروا عن الإمام البغوي رحمه الله أنه لما كتب تفسيره المشهور، وكانوا في القديم يعييهم كتابة العلم، وكانوا يستنسخون النساخ، فسمع هذا الإمام بعظيم من العظماء يكرم العلماء، وأنه يحب كتب العلم، فأخذ تفسيره معه واستأجر مركباً في دجلة حتى ينزل إلى الخليل، ثم بعد ذلك يسافر إلى هذا الرجل ويسأله حاجته في نسخ الكتاب، وما يريد شيئاً من الدنيا، إنما يريد أن ينسخ الكتاب وينتشر العلم.

    فما كانوا يريدون الدنيا أبداً، بل يثق كل إنسان أنه ليس هناك أغنى من العلماء إذا عرفوا الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49] فهم أعرف الناس بالله عز وجل.

    فلما ركب المركبة قال: فنظرت فرأيت رجلاً يمشي بالساحل والطريق، فأمرت صاحب المركب أن يأخذه معنا، فلما ركب معنا قال للإمام البغوي : من أنت؟

    قال: أنا فلان بن فلان البغوي .

    قال له: إلى أين أنت ذاهب؟

    قال: بلغني أن فلاناً من العظماء يكرم العلماء، فأخذت هذا التفسير حتى ينظر فيه ويأمر بكتابته ونسخه ونشره للناس حتى ينتفعوا به.

    فقال له الرجل: سبحان الله! ماذا قلت في تفسير قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]؟

    ففسر له الآية وعلم مراده، فعقد العزم على أن يرجع إلى بيته من ساعته، فلما رجع إلى بيته لم تمض ثلاثة أيام إلا ورسول الخليفة يقرع عليه الباب ويقول له: بلغ فلاناً -أي: الخليفة- أنك كتبت كتاباً في العلم يحب أن يراه، فأخذ الكتاب منه، ثم لما رآه وقرأه وأعجبه ونظر إلى علمه رحمة الله عليه؛ أمر أن يوضع في كفة، وأن يصب الذهب في الكفة الأخرى، وأن يبعث بهذا الذهب إلى الإمام البغوي .

    إن الله يحب أولياءه ويصونهم عن ذل السؤال لغيره، ولكن يكون ذلك إذا عرفوه سبحانه، ومن عرف الله عز وجل فإن الله تعالى يعينه ويوفقه، ويفتح له من أبواب الفرج ما لم يخطر له على بال.

    فنحن إذا ذكرنا جواز مثل هذه الأمور؛ فهناك الجواز وهناك الأفضل والأكمل، ولا يعني هذا التواكل وترك الأسباب، إنما هي في مواطن يصون الإنسان بها علمه، ويصون بها ماء وجهه؛ حتى يكون ذلك أبلغ في إكرام دين الله وصونه، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ألا يسأل الناس شيئاً وأضمن له الجنة) منزلة من منازل الإيمان والتسليم ألا يسأل الناس شيئاً.

    وكان الصحابي إذا سقط سوطه لم يسأل أحداً أن يرفعه له، فهذه منزلة من منازل الإيمان، فمع كون العلماء رحمهم الله يقولون بالجواز، لكن ينبغي أن نعلم أن هناك حظوظاً عظيمة، فتصور إذا تقدم الإنسان إماماً وهو يتلو آيات الله عز وجل كم له في كل حرف من الحسنات! وكم له في ركوعه وسجوده وغير ذلك من طاعاته وقرباته وتذكيره ووعظه! وإذا علم الله من قرارة قلبه أنه يريد وجهه ويريد ماعنده، وأنه قصد من ذلك كله أجر الله سبحانه وتعالى، فبخ.. بخ.. وقد ربح البيع وعظمت التجارة كما أخبر الله عز وجل عن الذين يتلون كتابه آناء الليل وأطراف النهار وهم يريدون وجهه؛ أنهم يرجون تجارة لن تبور، وأنه سيوفيهم أجورهم وسيزيدهم من فضله، فأخبر عن أمرين: توفية الأجرة، والزيادة من الفضل.

    ومن غريب ما يكون أن الله تكفل في كتابه أن من أراد الآخرة ضمن له الدنيا، وأن من عمل لله عز وجل وإرادة الآخرة، فإن الله يجعل حظه في الآخرة أكبر من حظه في الدنيا، وهذه النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم متظافرة وكثيرة، ولكن نسأل الله بعزته وجلاله أن يجعل غنانا به، وأن يجعل فقرنا إليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    1.   

    ما يلزم المؤجر عند التأجير

    وقوله: [وعلى المؤجر كل ما يتمكن به من النفع كزمام الجمل ورحله وحزامه، والشد عليه، وشد الأحمال والمحامل، والرفع والحط، ولزوم البعير، ومفاتيح الدار وعمارتها].

    عقد الإجارة عقد بين طرفين، وكل واحد من الطرفين ملزم بالتزامات، وينبغي أن يوفي كل مسلم لأخيه ما التزمه، فالمؤجر التزم بتأجير الدار مثلاً، حيث قال له: أجرتك هذه العمارة سنة بعشرة آلاف ريال. فالواجب: أن يمكنه من الانتفاع بهذه العمارة، وأن يمكنه من سكناها، وأن يهيئ كل الأسباب التي تعين على الانتفاع بهذه العمارة.

    وفرع العلماء على هذا الأصل: أنه ينبغي أن تكون العمارة بحالة يتمكن من خلالها المستأجر من أخذ المنفعة. ونصوا على أنه يبني ما انهدم منها إذا انهدم، فمثلاً لو أنه استأجرها سنة، وأثناء السنة سقط جدار في البيت بدون تفريط من المستأجر، وبدون تسبب من المستأجر، فنقول للمؤجر: ابن هذا الجدار وأعده كما كان.

    ولو أن الأرض تغيرت بدون إضرار من المستأجر فنلزم المؤجر بإصلاحها، وهكذا إذا تعطلت مرافق الماء، أو مرافق الكهرباء، فإنه يطالب بإصلاحها ولكن بشرط: ألا تكون قد تعطلت بسبب من المستأجر، أما إذا كان بتفريط من المستأجر، وهو الذي كسر هذه الأدوات أو أخل بها فلا، فإنه يطالب بضمان؛ لأن اليد يد أمانة.

    وهكذا بالنسبة لإجارة الدواب كما ذكر المصنف رحمه الله من الرحل على الدابة والزمام، لأنه لا يمكن أن يقود البعير إلا إذا كان بزمامه، وكذلك الرحل والشداد -الذي يسمى في عرف اليوم (الشداد) شداد البعير- وشد المتاع أيضاً. وإذا كان قد استأجر صاحب سيارة من أجل أن يركب للحج، فيطالب بكل شيء جرى عرف السيارات بتهيئته في إجارة الحج، فلو أنه استأجره لنقله من المدينة إلى مكة ومعه عفشه أو متاعه، وهذا العفش والمتاع جرت العادة أن يوضع على سطح السيارة وأن يشد ويغطى، فنقول: يلزمك شداد ويلزمك شده وتغطيته؛ لأنه لو لم يغط ربما استضر بالمطر، ولو لم يغط ربما مع الهواء يطير، وربما يتفسخ ويتضرر، فنقول: يلزمك شداده ويلزمك غطاؤه؛ لأن العرف جار بهذا.

    فإذاً: الشريعة تقول: كلا الطرفين ينبغي عليه أن يوفي بالتزاماته، وتتفرع على هذا جميع مسائل الانتفاع والارتفاق بالعيون المؤجرة والأشخاص والدواب، وكلها ينبغي للمؤجر أن يفي للمستأجر بجميع الالتزامات، وأنه يمكنه من الأعيان على وجه يستطيع أن يحصل المنفعة التي استأجر من أجلها، سواءً كانت للسكنى أو للركوب أو لغير ذلك من المنافع.

    فلو أن رجلاً استأجر رجلاً من أجل أن يوصله إلى مكان فركب معه، نقول: كل شيء يتعلق بمركبه، ينبغي أن يهيئه وأن يحافظ عليه، وأن يكون على وجه لا يضر فيه أخاه، وأن يمكن الذي دفع الأجرة له أن يكون على الوجه المعروف، ولا يضر به، فلو أن المركب الذي يركب عليه تعطل، أو المركب الذي يركب عليه لا يستطيع أن يرتاح فيه فيستضر أثناء مشي الدابة أو السيارة، نقول: يلزمك أن تهيئ له مركباً لا يستضر به.

    كذلك أيضاً: لو كان نوع السيارة التي استأجرها والقيمة التي دفعها لسيارة ينبغي أن تكون مكيفة، فينبغي أن يهيئ مكيفاً، فلو قال: المكيف عطلان. فلهذا الرجل أن ينقص من أجرته، وتكون أجرته أجرة السيارة الذي ليس فيها هذا النوع من التكييف؛ لأن العدل والقسط أن مثل هذه السيارات يعطى له هذا النوع من الأجرة.

    كذلك ذكروا في مسألة وضع الأمتعة أنهم كانوا في القديم متعارفين على أن رائد البعير أو الجمال الذي يقوم بقيادته هو الذي يضع الأمتعة وينزلها، قال أبو هريرة رضي الله عنه: (كنت أخدم آل غزوان، أقودهم إذا ركبوا وأحمل نساءهم إذا نزلوا). وهذا يدل على أن المؤجر في الأصل يلزم بمسألة حط الرحل ورفعه على الدابة.

    في زماننا: وضع الأمتعة على السيارة، لا يأتي يقول للراكب: أنت الذي تضع الأمتعة. هذه كلها أمور مقررة، جرى العرف أن السائق هو الذي يقوم بوضع هذه الأمتعة ورصفها والقيام بها على الوجه الذي جرى به العرف.

    فهذه كلها التزامات، ولكن هناك أمور لا تلزم، فمثلاً: لو أنه ركب في سيارته ثم نزلوا في محطة أو استراحة، فقال له: أريد أن أجلس في هذه الاستراحة ساعة وعليك أن تدفع الأجرة لي. نقول: صاحب السيارة ليس ملزماً بهذا، لأن هذا خارج عن منفعة الركوب، وليس له علاقة بالركوب، لكن مسألة رفع وإنزال المتاع كله تابع للركوب، وعليه القيام بحفظ الدابة ورعايتها كما سيذكر المصنف رحمه الله في قيادتها والقيام برعايتها حتى يتمكن المستأجر من أخذ منفعته على الوجه المعروف.

    وقوله: [ومفاتيح الدار وعمارتها].

    وبالنسبة للدور فيعطيه مفتاح الدار، فإذا أجره يقول له: هذا مفتاح الدار.

    فإذا أجره وأعطاه مفتاح الدار، وكانت الدار (كوالينها) -كما هو موجود في زماننا- معطلة، فنقول: أنت ملزم بإصلاح هذه (الكوالين)، ما لم يكن المستأجر قد دخل إلى الدار ورأى كوالينها معطلة ورضي بذلك، فليس بملزم؛ لأنه رضي بالشيء الموجود، وحينئذ إذا أراد أن يضع من عنده كوالين فليضع، ولكن إذا كان لا يعلم، وقال له: أجرتك شقة أو عمارة في الموضع الفلاني بصفة كذا وكذا، ولم يجد بها حفظاً أو حداً لأبوابها، فيطالبه بها.

    ونحن نقصد بذكر الأشياء الموجودة الآن لأنها تعم بها البلوى، كما لو نزل في فندق أو نزل في استراحة فلم يجد سخان الماء في زمان بارد، فنقول: أنت ملزم؛ لأنه لا يمكن لأحد أن ينتفع بهذا المنزل إلا إذا كان ماؤه ميسراً، وإذا كان البيت لا سخان به فيكون في هذه الحالة قد أضر ما لم يقل له: إن هذه الاستراحة أو هذا المنزل لا سخان فيه مثلاً.

    فإذاً: لابد أن يكون المؤجر قد هيأ جميع الأسباب للمستأجر حتى يتحصل على حقه على الوجه المعروف.

    وقوله: [فأما تفريغ البالوعة والكنيف فيلزم المستأجر إذا تسلمها فارغة].

    هذا ما يسمى في بزماننا بـ(البيَّارات) -أكرمكم الله- وهي أماكن تحفر، وكانوا في القديم قبل الصرف الصحي، تكون هناك بالوعات -أكرمكم الله- والبالوعات: مجاري الماء التي تفضي إلى البيارات ونحوها، فكان يقع الشجار بين المؤجر والمستأجر على تنظيف البيارات.

    والذي اختاره جمهور العلماء رحمهم الله: أن البيارات -في الأصل- ينبغي أن تكون نظيفة حتى يتمكن المستأجر من الانتفاع بالعين، فإذا استلمها نظيفة مفرغة ثم ملأها المستأجر، فنقول للمستأجر: أنت الملزم بتفريغها وتسليمها كما استلمتها، لكن في زماننا الآن يوجد الصرف الصحي، فإذا كان للصرف الصحي مال وكلفة، فيدفع المؤجر الكلفة قبل دخول المستأجر، ثم إذا دخل المستأجر فيلزمه المؤجر بدفع قيمة الصرف خلال مدة الإجارة، وقس على ذلك بقية الحقوق المتعلقة بالاستهلاك.

    1.   

    الأسئلة

    هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر

    السؤال: ما هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان؟

    الجواب: إن العشر الأواخر هي أفضل ما في هذا الشهر؛ لأن فيها ليلة القدر، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحيا ليالي العشر، والتفضيل للعشر من جهة الليالي لا من جهة الأيام، بمعنى: أن الفضيلة في العشر من جهة إدراك ليلة القدر، ومن هنا قال العلماء رحمهم الله: إن أيام عشر من ذي الحجة أفضل من العشر الأواخر؛ لأن فضيلتها شاملة لليل والنهار، ولذلك لما أقسم الله عز وجل وقال: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1-2] خص الفضيلة بالليالي العشر، وجعلت فضيلة العشر الأواخر من جهة الليل؛ ولذلك شد النبي صلى الله عليه وسلم مئزرة وأحيا ليله، فالعشر الأواخر فضلها بالليل، فيحرص المسلم على إحياء هذا الليل؛ طلباً والتماساً لليلة القدر.

    وقد جاءت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان هديه في هذه العشر، فقد كان عليه الصلاة والسلام يبين فضلها ويرغب فيها كما ثبت في الحديث الصحيح؛ أنه جاءه جبريل حينما اعتكف العشر الوسطى من رمضان، وقال: (يا محمد! إن الذي تطلبه أمامك) أي: إن ليلة القدر التي تطلبها ليست في النصف الأوسط من رمضان وإنما هي في العشر الأواخر، فاعتكف عليه الصلاة والسلام العشر الأواخر.

    وكان من هديه عليه الصلاة والسلام: أنه يدخل قبل غروب الشمس من ليلة إحدى وعشرين، فيدخل عليه الصلاة والسلام إلى مسجده، ويدخل قبته بعد فجره صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه لابد للنفس من راحة.

    وكان من هديه عليه الصلاة والسلام البقاء في هذه العشر تامة، أي: يعتكفها تامة، وهذا أفضل وأكمل، وأما لو اعتكف بعضها وترك البعض فإنه لا بأس بذلك، وهذا شبه إجماع بين العلماء رحمهم الله أنه لا بأس باعتكاف العشر كاملة أو اعتكاف بعضها أو الاعتكاف في سائر أيام السنة، أما الأفضل والأكمل فأن يعتكف العشر تامة كاملة تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وأفضل ما في هذه العشر الليالي الوتر؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (تحروها، فمن كان متحرها فليتحرها في الوتر من العشر الأواخر).

    وكان مما نص العلماء رحمة الله عليهم من فضله وما ينبغي على المعتكف أن يشتغل به: كثرة تلاوة القرآن، وإذا كان بالليل فإن الأفضل له والأكمل أن يتلو القرآن وهو قائم في صلاته، بأن يجعل تلاوة القرآن في ليله في الصلاة.

    وبين النبي صلى الله عليه وسلم السنة والفضل لمن أدرك ليلة القدر أن يكون من دعائه أن يلتمس عفو الله عز وجل، فإن أعظم نعمة ينعم الله بها على العبد بعد الإيمان والتوحيد أن يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقد قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! ماذا أقول لو أني أريتها؟ قال عليه الصلاة والسلام: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) فاستفتح عليه الصلاة والسلام بتمجيد ربه والثناء عليه بما هو أهله، وجعل الثناء مجانساً للمسألة والحاجة، فقال: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني).

    فيستشعر المسلم أن هذه العشر ليال مفضلة، وأنه لا ينبغي له أن يكون أخسر الناس صفقة من رحمة الله عز وجل، فإن الغبن غبن الآخرة، وأما غبن الدنيا فإنه يسير، والله يجبر كسرها، ولكن ليس لكسر الآخرة من جبران، ولذلك كان من سؤال المسلم: اللهم لا تجعل مصيبتي في ديني، فالإنسان يستشعر أن هذه العشر أيام نفحات ورحمات وبركات ودرجات ومغفرات، وغير ذلك مما ينزل الله عز وجل من الخيرات.

    فاستشعر ألا تكون أخسر الناس صفقة في جنب الله عز وجل، بل عليك أن تحسن الظن بالله، وأن تقبل عليه بصدق ورغبة وقوة يقين في الله جل جلاله، فإن الله يحب من عبده أن يحسن الظن به، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عن أعز المواطن وأشدها كرباً على العبد وهي حالة الموت-: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله).

    فالأفضل أن تدخل العشر على الإنسان وهو يحسن الظن بالله عز وجل، أنه لا أرحم ولا أكرم منه سبحانه، وأنه سبحانه وتعالى ربما يغفر للإنسان في لحظة من لحظات الخشوع، ولربما دمعة تغسل ذنوب العبد، فهذه شربة ماء لكلب من بغي من بغايا بني إسرائيل غفر الله بها ذنوبها، وغصن شوك يزحزح عن طريق المسلمين غفر الله به الذنب وأدخل به الجنة، والله كريم.

    فينبغي أن تدخل العشر على المسلم وهو يحسن الظن بالله، بأنه لا أكرم لا أعظم من الله سبحانه وتعالى في بره وإحسانه ورحمته، ويثني على الله بما هو أهله، ويتذكر العبد أنه مسيء ومخطئ ومذنب، وأنه لا ملجأ ولا منجى له من الله إلا إليه.

    أما الأمر الثاني: فيوصى المسلم في اتباعه لهدي النبي صلى الله عليه وسلم بالإخلاص، فإذا أراد أن يعتكف العشر الأواخر فليدخل المعتكف وهو يريد وجه الله، ولا يعلم أحداً بأنه معتكف، ويحرص على ألا يراه أحد من الناس، وألا يشعر الناس أنه معتكف؛ حتى يكون أبلغ في إخلاصه وإرادته لوجه ربه، وأن يكون كل ما يصدر منه من قول وعمل وتلاوة وركوع وخشوع وخضوع وسجود وإنابة وغير ذلك من ذكر الله عز وجل، خالصاً لوجه الله، ليس فيه لأحد سواه حظ ولا نصيب، فإذا بلغ هذه المرتبة المنيفة تقبل الله أقواله وتقبل الله طاعته، ووجد لاعتكافه لذة وحلاوة وطلاوة، ووجد له أثراً في قلبه، وبارك الله له في ساعات ليله ونهاره.

    كذلك أيضاً: ينبغي عليه أن يهيئ الأسباب لعمارة الوقت بذكر الله عز وجل، فهو يتصور لو أن هذه الليلة التي اعتكفها هي آخر ليلة يعتكفها، ويتصور هل يدرك رمضان آخر أم لا يدركه، ولو أدرك رمضان الآخر هل يكون مشغولاً أو غير مشغول، فيحس أن الله أنعم عليه بنعمة إذ فرغه لهذا الخير، فيحرص على ألا يغبن في هذه المهلة، وأن يغتنم كل دقيقة وكل ثانية وكل لحظة.

    كذلك أيضاً: ينبغي عليه أن يحرص في حال اعتكافه على كمال المراتب، وأكمل ما يكون الإنسان في ذكره لربه في الخشوع، والخشوع سر بين العبد وبين ربه في قلبه، فإنه إذا خشع قلبه لله سبحانه وتعالى سكنت جوارحه واستكانت وتذللت لله سبحانه؛ فأحب الله مقامه، وهذا من مقامات العبودية لله، وهو مقام الخشوع الذي أثنى الله على أهله، ووعدهم بجنات عدن، ووعدهم بالمنازل الحسنى في الآخرة.

    فإن كمال العبادة أن يكون المرء حريصاً على الإخلاص وكثرة الذكر، وإذا صحب هذين الأمرين خشوع صادق فإنه بخير المنازل.

    إذا جاء يصلي وراء الإمام فليستشعر أنه ينافس غيره، ويسأل الله أن يكون أخشع الناس عند سماع هذا القرآن، وإذا جاء يصلي وهو وحده يسأل الله عز وجل أن يكون أخشع الناس في مقامه في تلك الساعة وتلك اللحظة، فيسأل الله عز وجل منازل العلى في طاعته، ويهيئ لنفسه الأسباب من الاستكانة والذلة.

    وكذلك: عليه إذا أدى العبادة ألا يفرح وألا يغتر، فإن الأمور مدارها على القبول، وألا يحس أنه يدل على الله بطاعته، فكل كلمة يقولها وكل طاعة يتقرب بها إلى الله فالفضل فيها كله لله سبحانه وتعالى، فكلما انتهى من طاعة أثنى على الله بما هو أهله، وعليه أن يسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منه، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من أوفر عباده حظاً في هذه العشر وفي كل فضل، وفي كل رحمة ينزلها، وفي كل بركة يقسمها، وألا يحول بيننا وبين فضله ورحمته بما يكون من ذنوبنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

    حكم الاشتراط في الاعتكاف

    السؤال: هل يصح الاشتراط في الاعتكاف؟

    الجواب: الاشتراط في الاعتكاف مذهب قياسي مبني على قياس عبادة على عبادة، حيث قالوا: يجوز الاشتراط في الاعتكاف كما يجوز الاشتراط في الحج، والاشتراط في الحج والعمرة أصله حديث ضباعة رضي الله عنها أنها قالت: (إني أريد الحج وأنا شاكية. فقال لها: أهلي واشترطي أن محلي حيث حبستني. فإن لك على ربك ما اشترطت) وهذا الأصل فيه ما فيه، ولكن المنبغي والأفضل أن الإنسان يدخل المعتكف وقد هيأ لنفسه أن يعتكف اعتكافاً تاماً كاملاً، فإن جاءه ظرف ضروري خرج لهذا الظرف الضروري وقطع اعتكافه واستأنف بعد ذلك.

    أما الاشتراط فمسألة مبنية على القياس، ومن قال بها من أهل العلم فقوله صحيح على حسب قواعد العلماء بأن مذهب القياس على الأصل الصحيح صحيح، ولكن الإشكال: أن الأصل في الاعتكاف اللزوم، والأصل الذي قيس عليه وألصق به هذا الفرع مختلف فيه؛ لأن الاشتراط في الحج جاء على صورة خاصة، وخرج عن القياس، والقاعدة في الأصول: أن ما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس.

    وتوضيح ذلك: أن الأصل تمام الحج، ولذلك قال تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] فلما جاءت ضباعة رضي الله عنها وقالت: (إني أريد الحج وأنا شاكية) معناه: أن حالتها حالة مرض، ومع ذلك كلفت نفسها مع وجود المرض أن تحج، فأعطاها النبي صلى الله عليه وسلم رخصة لوجود هذا العذر، وقال لها: (أهلي واشترطي) ولذلك قوي مذهب من يقول إنه خارج عن الأصل، وهذا الذي يطمأن إليه كما قدمناه في كتاب المناسك، وذكرنا أقوال العلماء في هذا الحديث، ووجهنا هذا الحديث، وبينا أن الأقوى والأشبه في هذه الرخصة تقييدها بالنص النبوي الوارد؛ لأن القاعدة في التعليل والأقيسة: أن تفقه وتفهم المراد من نفس النص، فالنص إن جاء أصلاً بذاته قست عليه غيره؛ لأن الأصل إتمام الحج، وهنا يقول لها: (محلك حيث حبسك) مع أنه في الحج والعمرة لو أحصر بالعدو فإنه يتحلل بالدم، وهنا يتحلل بدون دم، وهذا يقوي على أنه خارج عن الأصل، ولذلك مذهب طائفة من العلماء ومذهب الجمهور على أنه يتقيد بما ورد، وأنه لا يقاس عليه من لم يكن عليه حاجة من مرض ونحوه.

    ولذلك لو جئنا نقيس الاعتكاف، فالاعتكاف من حيث هو عبادة خاصة لها أصل شرعي قصد منه تهذيب النفس وقيامها على محبة الله ومرضاته على وجه تام كامل لتحصيل فضيلة ليلة القدر، فهو إذا جاء يشترط ويخرج في الليل أثناء الاشتراط خالف المقصود؛ لأن المقصود لزوم المساجد للعبادة.

    أنا أقول هذا كمسلك أصولي، أي: الكلام على المسألة كمسألة أصولية، لكن لو أنك سألت عالماً وقال بالاشتراط ورأيت قوله؛ فلا بأس أن تعمل به، لكن فيما يظهر من ناحية الأدلة ومن ناحية النظر في النصوص الواردة أن مذهب الاشتراط مذهب قياسي بلا إشكال، قاسوا الاعتكاف على الحج والعمرة، والحج والعمرة نفس الاشتراط فيه خلاف.

    ثم إذا قلنا في الحج والعمرة بجواز الاشتراط فقد سلكوا مسلكين:

    مسلك يقول: أنا أقتصر على النص، فالنص جاء في ضباعة، وهي مريضة، فالمريض الذي عنده مرض ودخل الحج والعمرة وهو مريض يشترط، أما من كان صحيحاً فإنه لا يشترط، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى إلى ذي الحليفة بعد قضية ضباعة، وأهل مع الصحابة وما قال: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني، ولم يقل لمن أراد النسك: اشترطوا على أنفسكم: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني. ما قاله إلا لامرأة شاكية عندها عذر، فنعمل كل نص كما ورد.

    نقول: الأصل إتمام الحج والعمرة، ونفعل كفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نشترط إلا عند وجود العذر، والقاعدة: أنه إذا جاء النص على وجه خاص خارج عن القياس والأصل وفيه ما يشعر بتخصيص الحكم به؛ وجب تخصيص الحكم به.

    فأنت إذا رأيت الاشتراط تخفيف ومخالف للأصل الملزم بالإتمام، ومسقط للدم الواجب عند الحصر، فذلك كله خلاف نصوص واردة، أما الإتمام الذي ألزمنا به فلنصه تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] وهذا لا يتم؛ لأنه إذا قال: إن حبسني حابس. فإنه يريد أن يتحلل مباشرة.

    ثانياً: أنه لا يتم للمرض، والأصل في المرض: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى [البقرة:196] له فديته، وله ارتفاقه في المرض، فجاء لأن وجود هذا المرض الذي يحول بينه وبين إتمام الحج أن يشترط ويحج، فخالف الأصول، فإذا جئنا نقيس فينبغي أن نقيس على أصل لذاته يمكن القياس عليه، أما بالنسبة لأصل مختلف في عمومه لذاته، أي: حتى في نفس العبادة التي هو فيها مختلف فيه هل هو عام بحيث يشترط في كل حج وعمرة، ولكل شخص أن يشترط؟ أم هو خاص بمن كان عنده حاجة وضرورة ودخل الحج والعمرة؟

    ولو أردت أن تحرر القياس صحيحاً فتقول: ممكن أن يشترط المعتكف إذا كان عنده مرض أو عنده ضرورة، حتى يكون هناك نوع من التوافق في تركيب الفرع على الأصل، أما أن يأتي الرجل السوي ويقول: أشترط أن أخرج للاتصال على والدتي، وأشترط أني بعد المغرب أتصل على أهلي، وأشترط أنني كذا وأنني كذا..! هذا كله خلاف الأصل.

    قد كان عليه الصلاة والسلام يمر على المريض ولا يعرج عليه كما في حديث عائشة رضي الله عنها، وكان عليه الصلاة والسلام لا يخرج إلا لحاجة.

    فنحن نقول: الأصل في الاعتكاف؛ بل الاعتكاف أصله يدل على اللزوم والملازمة للعبادة، فإذا أصبح الشخص يخرج كل حين، فيخرج لقضاء حاجته، ثم يشترط فطوره، ثم يشترط سحوره، وإن تيسر بينهما أكلة بين الأكلتين فلا بأس أن يشترط، فتجد الآن الشخص ينام النهار من بعد الفجر إلى الظهر، ثم بعد الظهر إذا ذهب وتوضأ ربما أنه يجلس بين الظهر والعصر يحدث أخاه عن بعض الأمور التي وقعت له في وضوئه أو زحامه، أو ما رآه أثناء خروجه ودخوله، ثم إذا أذن العصر قرأ ما تيسر له من القرآن، وقبل المغرب ينشغل بتهيئة فطوره، ثم إذا انتهى من الفطور رغب في أن يأكل شيئاً ما إن تيسر، وبعد العشاء يصلي التراويح، فإذا انتهى من التراويح أصبح محتاجاً كل حين إلى الذهاب إلى دورة المياه.

    وهذا واقع، حتى عدنا لا نجد للاعتكاف لذة! ثم يذهب لقضاء حاجته، ولربما يكون قد اشترط أن يأكل بين التراويح وبين التهجد شيئاً يعين على التهجد، وكأنه جاء إلى أمر فيه كرب شديد أو خطب عظيم، فلا يوجد استشعار أن الاعتكاف مدرسة يراد بها تهذيب النفوس بالاستغناء بالله عز وجل.

    وأبو ذر رضي الله عنه مكث أربعين يوماً على ماء زمزم، فلو أننا أخذنا بالفتوى وقلنا: عنده طعام وطعم وشفاء سقم، فلا حاجة في الاعتكاف لأن يخرج للسحور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه طعام طعم وشفاء سقم).

    وإذا خرج بعد التراويح إلى طعامه وأكل ما تيسر ثم صلى التهجد فيحتاج أيضاً أن يذهب لقضاء حاجته، ثم إذا انتهى من التهجد اضطجع؛ لأنه يحس بالإرهاق والتعب، ثم يؤذن الفجر..! فأين الاعتكاف..؟!

    وهذه عبادة يراد بها قوة الشكيمة في الطاعة، وأناس خرجوا من الاعتكاف وهم يحبون القرآن وختمه كل ثلاث ليال؛ لأنه في أثناء الاعتكاف وطن نفسه على ذكر الله عز وجل، وأناس يعتكفون فيخرجون من الاعتكاف بالتهذيبات: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له)، والمداومة على (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، والمداومة على أذكار الصباح والمساء، حتى أنه حفظها أثناء العشرة الأيام؛ فأصبحت ديدنه للعام.

    فهذه الأوقات معينة يقصد منها تهذيب النفوس، ولا يقصد منها الجلوس مع زيد وعمرو، فقد تجد المعتكف الكامل الاعتكاف الذي يدخل وهو يحس بلذة المناجاة لله، وحلاوة الأنس بالله سبحانه وتعالى، حتى إن أكره ساعة عنده أن يأتي أحد يقطعه عن ذكره لله سبحانه وتعالى، فيقول في نفسه: طيلة العام وأنا بين الناس، أليست هذه ساعات وسويعات أتفرغ فيها لذكر الله عز وجل؟! وخاصة في الليل، ففي الليل لا أعرف أحداً، وأستغني بالله سبحانه وتعالى.

    وليس معنى ذلك أنه يهين البدن، لكن ينبغي أن يهيئ الإنسان نفسه لهذه المدرسة وهذه العبادة، بحيث تكون شكيمته في الطاعة قوية، وعلى قدر الجد والاجتهاد في الطاعات والقربات تتبوأ المنزلة، فانظر إلى العلم.. إلى القيام.. إلى الصيام.. إلى الذكر، فأي عبادة جعل الله فيها مراتب كاملة وحصلَّها المكلف على أتم وجوهها فإنه يجد ثمرتها على أتم الوجوه وأكملها؛ فلذلك ينبغي لطالب العلم وعلى العامة أن يعلموا، كيف يكون الإنسان معتكفاً على أتم الوجوه وأكملها، وجماع الخير كله في تقوى الله سبحانه وتعالى والأنس به جل جلاله.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ممن اتقاه، والتمس رضاه، ووفقه فيما رجاه، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصاً لوجهه الكريم، وموجباً لرضوانه العظيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756508740