إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب أهل الزكاة [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • هناك أصناف لا يجوز دفع الزكاة إليهم، وهم: بنو هاشم وبنو المطلب ومواليهم، وأصول المزكي وفروعه، ومن تجب عليه نفقته، والزوج والعبد.. ونحوهم. ولا يجوز دفع الزكاة إلا لمن يستحقها بصدق، ومعرفة المستحق تتحقق بأمور ذكرها الشيخ في هذه المادة، وذكر فضل صدقة التطوع وبعض ما يتعلق بها من أحكام.

    1.   

    حكم دفع الزكاة إلى بني هاشم وبني المطلب ومواليهم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    قال المصنف رحمه الله: [فصل: ولا تدفع إلى هاشمي ومطّلبي ومواليهما].

    فبعد أن بيّن المصنف رحمه الله الأصناف الثمانية الذين سمّى الله في كتابه، وأمرنا بدفع الزكاة إليهم، شرع في بيان هذا الفصل المهم، والذي يتعلّق بالصفات التي تمنع استحقاف أخذ الزكاة، فهذه الأوصاف التي سيذكرها المصنف رحمه الله تعتبر مانعة من أخذ الإنسان للزكاة ولو كانت فيه صفة من صفات أهل الزكاة، كأن يكون فقيراً أو مسكيناً، فإذا وُجد فيه مانع من هذه الموانع فإنه لا تُصرف الزكاة إليه.

    ولما قال المصنف رحمه الله: (ولا تدفع) لا نافية، أي: لا يجوز دفعها لهاشمي، وفيه مسائل:

    المسألة الأولى: أنه لا يجوز الدفع إلى هؤلاء الذين سيذكرهم رحمة الله عليه، ويكون هذا دالاً على تحريم الدفع، فمن كان يعلم أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى هاشمي فدفعها للهاشمي، فإنه يأثم.

    المسألة الثانية: أنه لما قال: أنها إذا دُفعت وعلم الإنسان أنه تحرُم الصدقة والزكاة على هذا النوع، فدفع إلى هذا الممنوع من دفعها إليه، فإنه لا تجزيه الزكاة، ويجب عليه أن يقضي، وتعتبر صدقة من الصدقات النافلة، أما بالنسبة للفريضة فلا تزال في ذمته، ولو كان جاهلاً ثم علم بالحكم؛ فإنه يلزمه القضاء، ويسقط عنه الإثم لمكان الجهل، ولكنه يُطالب بضمان حق الله عز وجل على الأصل المقرر في الجاهل، أن الجهل يوجب سقوط الإثم، ولكنه لا يُسقط الضمان في الحقوق.

    وبناءً على ذلك فإن المصنف رحمه الله حينما نص على حرمة الدفع لمن نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن دفع الزكاة إليه فكأنه يقرر هذين الأمرين: حرمة الدفع، وأن من دفع لا يجزيه ذلك عن زكاة الفرض وأن عليه القضاء.

    تعيين بني هاشم

    قوله رحمه الله: (إلى هاشمي): هو نسبة إلى هاشم بن عبد مناف ، وهو جد النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل في تحريم دفع الزكاة لبني هاشم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الصدقة لا تحلّ لمحمدٍ ولا لآل محمد) ، فأجمع العلماء رحمهم الله على حرمة دفعها لبطون بني هاشم، ويشمل ذلك: آل العباس، وآل عقيل، وآل علي، وآل جعفر، وآل الحارث بن عبد المطلب، واختلف في آل أبي لهب -وهم البطن السادس-، هل يجوز أن تصرف لهم الزكاة، أو لا يجوز دفعها إليهم؟

    فقال بعض العلماء: آل أبي لهب يعتبرون من آل النبي صلى الله عليه وسلم الذين لا يجوز صرف الزكاة إليهم.

    وقال بعض العلماء: إن آل أبي لهب يخرجون من هذا المنع؛ لأن أبا لهب كان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه نزل ما ذكر الله عز وجل في كتابه من الوعيد الشديد له لتكذيبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأذيته له على رءوس الناس، فقالوا: خرجوا من هذا؛ لأن المنع للفضل والتكريم، وكان أبو لهب شديداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم معادياً للإسلام، فخرج من هذا.

    ولـأبي لهب عتبة ومعتِّب وقيل: معْتِب ، اللذان أسلما وشهدا فتح الطائف مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهل ذرِّيتهما يمنعان من الزكاة كما يمنع بقية الآل أو لا؟

    هذان الوجهان للعلماء رحمهم الله، والأصل يقتضي أن تمنع الزكاة عنهم؛ لأنهم داخلون في آل النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا فهمنا من الآل النصرة مع القرابة، فحينئذٍ لا يدخلون، ولكن الأول أوجه بمقتضى لفظ النبي صلى الله عليه وسلم.

    أقوال العلماء في دخول بني المطلب مع بني هاشم

    قوله: (ولا لمطَّلبي):

    بنو المطلب هم نسبة إلى المطلب بن عبد مناف وهو أخٌ لـهاشم ، وله أخوان آخران وهما نوفل وعبد شمس ؛ لأن عبد مناف له أربعة من الولد وهم: هاشم والمطلب ونوفل وعبد شمس.

    فالنوفليون والعبشميون، وهم نسبة إلى نوفل وعبد شمس لا يدخلون في آل النبي صلى الله عليه وسلم ولا تحرُم الصدقة عليهم بالإجماع، بل يجوز دفع الزكاة إليهم، وآل هاشم يدخلون بالإجماع على التفصيل الذي ذكرناه.

    واختلف في المطلب بن عبد مناف ، فظاهر النص عن النبي صلى الله عليه وسلم أن آل المطلب بن عبد مناف داخلون في المنع، وأنهم من آل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا القول يختاره فقهاء الشافعية، وهو قولٌ عند المالكية، ورواية عن الإمام أحمد اختارها المصنف رحمة الله عليه، فإن آل المطلب بن عبد مناف تحرُم عليهم الصدقة، ويدخلون في آل النبي صلى الله عليه وسلم.

    واستدل الذين قالوا بأن آل المطلب يدخلون في آل النبي بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيهم: (إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيءٌ واحد) وفي رواية: (لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام)، وهذا نصٌ صحيح صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم في اعتبار آل المطلب كآل هاشم، وإذا كان هذا من النبي صلى الله عليه وسلم ورد بسبب النصرة، فإن هذا لا يقتضي تخصيص الحكم؛ لأن القاعدة في الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا اللفظ في مسألة الخُمس، فأدخلهم في خُمس الخُمس، وعدهم من آله وقرابته عليه الصلاة والسلام الذين يصرف لهم خمس الخمس، وقال: (إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد) ، وقال: (إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام) ؛ لأنهم حُوصروا في شعب أبي طالب مع آل هاشم، فدل هذا النص على أنهم مع بني هاشم كالشيء الواحد، وإذا كان الأمر كذلك فظاهر اللفظ أنهم يُمنعون.

    القول الثاني: ذهب طائفة من العلماء من فقهاء الحنفية وبعض فقهاء المالكية، وقيل: إنه هو المعتمد في مذهب الإمام مالك ، ورواية عن الإمام أحمد : أنهم لا يدخلون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خص الحكم بدخول بني المطلب في مسألة خمس الخمس، وقالوا: إن هذا يدل على أنهم مع بني هاشم من جهة النصرة لا من جهة العموم.

    والصحيح هو القول الذي اختاره المصنف على ظاهر النص؛ لأن القاعدة في الأصول: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد) دل ذلك على أنهم شيءٌ واحد دون تفريق، وكونه يرد لسبب خاص لا يقتضي التخصيص.

    إضافة إلى أمر ثان: وهو أننا لو سلّمنا أن الحديث ورد في مسألة خمس الخمس، فإنه قد جاء في الرواية الأخرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يخاطب آله : (إني أرغب لكم عن أوساخ أيدي الناس، ولكم في الخمس غِنَى) أي: أنه جعل في وجود خُمس الخمس غنى عن الصدقات.

    فإذا تأملت هذا الحديث -أن خُمس الخمس غنى عن الصدقات- وآل المطلب هم داخلون مع آل هاشم في خمس الخمس دلّ على أنهم كذلك يمنعون؛ لأن المعنى موجود فيهم، فلو سلم النص الذي يستدلون به على التخصيص، فإننا نقول: علّته تقتضي التعميم.

    وعلى هذا فيحرم دفع الزكاة إلى: آل العباس بن عبد المطلب، وآل عقيل بن أبي طالب، وآل علي بن أبي طالب، وآل جعفر بن أبي طالب، وآل الحارث بن عبد المطلب، وكذلك آل أبي لهب، على أصح قولي العلماء رحمة الله على الجميع، وهؤلاء كلهم من بني هاشم، ثم يلحق بهم آل المطلب بن عبد مناف، وعلى هذا يحرم دفع الزكاة إلى هؤلاء.

    العلة في تحريم دفع الزكاة إلى بني هاشم وبني المطلب

    لقد علّل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأن الزكاة تعتبر طُهرة للناس وطهرة لأموالهم، كما قال سبحانه وتعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103] فأخبر أنها طُهرة، فإذا كانت طُهرة فإن آل النبي صلى الله عليه وسلم لهم من الشرف والمكان ما هم أرفع من أن يقبلوا هذه الطهرة، كما جاء في الخبر: (إنها أوساخ الناس).

    وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه رأى الحسن أو الحسين يتناول تمرة من تمرات الصدقة فقال: كخ كخ، إنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) ، وعلى هذا فإن تحريم الصدقة عليهم لمكان الشرف؛ ولأن الله سبحانه وتعالى فضلهم بهذه المزية لمكان قرابتهم من النبي صلى الله عليه وسلم.

    ولا شك أن لهم الحق ولهم الفضل الذي يجب على كل مسلم أن يحفظه لهم، وأن يرعى لهم الحرمة، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على تفضيل آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وإجلالهم وإكرامهم، وأن ذلك مما يُتقرب به إلى الله عز وجل، ولكن بشرط أن يكون في الحدود الشرعية بعيداً عن الغلو، فلا يجحِف الإنسان بحقهم فيساويهم بعامة الناس كما هو صنيع الجهال والرعاع، ولا يرفعهم عن مقامهم الذي يليق بهم، وإنما يعطيهم الحق، قالوا: إنهم يفضلون حتى في المجالس، فيُكرمون ويجلُّون ويقدَّرون؛ لمكان قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (والله لا آذن، والله لا آذن، والله لا آذن، إنما فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها) ، فجعل آله عليه الصلاة والسلام ومن هم منه بمثابته هو عليه الصلاة والسلام قال: (إنما فاطمة بضعة مني) ، ولذلك عظُمت حرمتهم ووجب حفظ حقوقهم.

    شرف الانتساب إلى آل النبي صلى الله عليه وسلم

    وقوله رحمه الله: (ولا تدفع إلى هاشمي ومطّلبي) قلنا: إن المطّلبي يلحق بالهاشمي على الصحيح، وآل النبي صلى الله عليه وسلم يُعرفون بإثبات النسب، كأن تكون لهم الشجرة التي تثبت نسبتهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فمن كان عنده الشجرة التي تثبت النسبة حلّ له أن ينتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرُم عليه أن يقبل الزكاة من الناس، وهكذا الصدقات النافلة على أصح قولي العلماء كما سيأتي.

    وكذلك يعرف كذلك آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، بالشهرة والسماع، والقاعدة عند العلماء: أن السماع يثبت النسب، فهناك شهادة تسمى عند العلماء بشهادة السماع والاستفاضة، وهي أن يُعرف أن هذا البيت من آل النبي صلى الله عليه وسلم، أو يكون هناك لقب معروف على مستوى الحي أو على مستوى المدينة يعرف أنه لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وينتسب الإنسان إليه، فهذا من القرائن الظاهرة.

    وتعتبر شهادة الاستفاضة والسماع موجبة لثبوت النسب، ولذلك يحكم العلماء رحمهم الله بها في القضاء كما قرر الفقهاء رحمهم الله في باب الشهادة، فإذا استفاض أن فلاناً ينتسب لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذ أحكامهم، ولا يجوز لأحد أن يطعن في آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أو يشكك في أنسابهم، فذلك من الخطورة بمكان، فإن هذا يعتبر من أشد أنواع القذف وأسوئها، أن ينفي نسبة إنسان إلى آل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ثبوت نسبته أو اشتهاره بين الناس أنه من آل النبي صلى الله عليه وسلم، فيجمع بين كبائر:

    أولها: قذفه بإخراج نسبه عن الأصل الصحيح فينسبه إلى غير أهله.

    وثانياً: لما فيه من الأذية لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.

    وقذف غيرهم ليس كقذفهم، ولذلك جعل الله عز وجل عظيم الوعيد لمن قذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وعلى هذا فإنه إذا ثبت واستقر عن الإنسان أنه ينتسب لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم سرت عليه الأحكام؛ فحرُم إعطاء الصدقة إليه، وحرُم دفع الزكاة له، وحرُم قبوله للصدقات.

    أقوال العلماء في حكم إعطاء موالي بني هاشم وبني المطلب من الزكاة

    وقوله: (ومواليهما): يعني: موالي بني هاشم وموالي بني المطلب.

    المولى: هو العتيق، يكون عند الإنسان عبد ثم يعتقه، فإذا أعتقه فإنه يكون مولى له، وحينئذٍ يقال: مولى بني فلان، وينسب ويقال: الهاشمي مولاهم، يعني نسبته إلى بني هاشم من جهة الولاء.

    وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم هذا الولاء، وقال: (قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق)، فأخبر أن الولاء لمن أعتق، فإذا أعتق الهاشمي عبداً فإنه يعتبر مولىً لبني هاشم، ولو أعتق المطَّلبي عبداً فإنه يعتبر مولىً لبني المطّلب، وحينئذٍ فهؤلاء الموالي الذين أصلهم عبيد يعتبرون آخذين لحكم أسيادهم الذين أعتقوهم، فتحرُم عليهم الصدقة سواءً كانت فريضة أو كانت نافلة على الصحيح.

    والدليل على ذلك: أن أبا رافع وكان مولىً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصل ولايته لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة فتح الطائف حينما حاصرها عليه الصلاة والسلام، فنزل رضي الله عنه وأرضاه، ثم أعتقه فكان مولىً للنبي صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى أبي رافع رجلٌ من بني مخزوم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد استعمل هذا الرجل المخزومي على الصدقة، فقال الرجل المخزومي لـأبي رافع: اصحبني كيما تصيب مما أصيب، يعني حتى يكون لك شيءٌ مما آخذه في عمالتي على الزكاة، فقال أبو رافع: لا، حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحرّم عليه ذلك وقال: (إن مولى القوم منهم).

    فهذا نصٌ صحيح صريح يدل على أن موالي آل البيت لا يجوز صرف الزكاة إليهم، ولا يحل أخذهم لهذه الزكاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مولى القوم منهم).

    ولما ثبت في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (الولاء لحمة كلحمة النسب) ، فجعل الولاء لحمة كلحمة النسب، فلما كان آل بني هاشم يحرم عليهم بالانتساب للبيت فكذلك مواليهم يعتبرون منتسبين للبيت من جهة الولاء، فلا يجوز دفع الزكاة إليهم.

    هذا على القول الراجح وهو قول الجماهير؛ لأن بعض المالكية وبعض الحنفية يجيز دفع الصدقة للموالي، وهذا القول يعتبر مرجوحاً، ويعتذر لأصحاب مالك رحمة الله عليهم الذين يقولون بجواز دفعها للمولى بأنه ربما لم يطّلعوا على الحديث الذي دلّ على التحريم، وإلا فالأصل أن الحديث إذا استبانت حجّته للفقيه لم يجز له أن يخالفه.

    وعلى هذا فإنه لا يجوز دفع الصدقة إلى موالي بني هاشم وبني المطلب، وهذا هو أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم.

    حكم إعطاء الهاشمي والمطلبي من صدقة النافلة

    من ظاهر قوله: (ولا تدفع لهاشمي ومطلبي) أنه لا يجوز دفع الزكاة، لكن يرد سؤال عن الصدقة النافلة، فللعلماء فيها وجهان:

    الوجه الأول: أنها تحرُم عليهم كما تحرم الزكاة الواجبة.

    والوجه الثاني: أنها تحل لهم الصدقة النافلة وتحرم عليهم الصدقة الواجبة.

    واستدل الذين قالوا بحرمة أخذهم من الصدقات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)، وهذا كلام عام يدل على أن الصدقة على الإطلاق لا يجوز دفعها إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.

    ولما في أخذهم الصدقة من الغضاضة والحط من قدرهم، ولذلك قالوا: إنه لا يُشرع أخذهم للصدقة والزكاة الواجبة، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس، وهو اختيار جمعٍ من العلماء رحمة الله عليهم.

    وأما ما ورد من قوله: (إنما هي أوساخ الناس) فهذا ورد ورد تعليلاً لخاص، وإذا ورد التعليل لخاص لم يقتض ذلك تعميم الحكم، بل يُقصر، أي: إنني منعتك من هذه الزكاة الواجبة؛ لأنها أوساخ الناس.

    فالذي يظهر منعهم من الصدقة عموماً لفضل الانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما لهم من خمس الخمس؛ لأن الله جعل لهم في خُمس الخُمس غناءً عن هذه الصدقة.

    فلو قال قائل: إنه قد يأتي زمان ولا يوجد خمس الخمس؟ قالوا: إن هذا أصل شرعي، وقد كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يوجد خمس الخمس إلا في حالات الجهاد، وهي أحوال خاصة، ومع ذلك كانوا يعيشون في ضيق وشدة وحاجة، حتى جاءته بنته فاطمة تشتكي له أنها طحنت النوى بيدها حتى مجلت، ومع ذلك لم يحلّ دفع الزكاة إليها. وعليه فإنه لا تدفع الزكاة إليهم، وكذلك الصدقة النافلة.

    وبقي سؤال: لو أنه افتقر حتى بلغ إلى مقام الضرورة، هل يجوز له أن يأكل من الصدقة، سواءً كانت نافلة أو واجبة؟

    والجواب: أما بالنسبة من بلغ إلى مقام الضرورة فقد رخّص له العلماء رحمهم الله إذا خشي الهلاك أن يطعم من الزكاة بقدر الضرورة، وأما إذا لم يبلغ هذا القدر، ولم يصل إلى هذه الدرجة، فإنه يبقى على الأصل الموجب لتحريم أكله لصدقات الناس.

    1.   

    حكم دفع الزكاة إلى فقيرة تحت غني

    قال رحمه الله: [ولا إلى فقيرة تحت غني منفق].

    الأصل في ذلك أن المرأة إذا كانت تحت زوج أن الزوج مطالبٌ بالإنفاق عليها، فإذا كان زوجها فقيراً وهي فقيرة جاز دفع الزكاة بالإجماع إليها وإليه؛ وذلك لوجود السبب الموجب لصرفها إليهما، لكن لو كانت هي فقيرة وهو غني فإنه لا يجوز دفعها إليها، أي: إلى هذه الفقيرة؛ لأن زوجها سيقوم بحقها.

    فلو أن هذا الزوج كان غنياً بخيلاً، لا ينفق على زوجته ويقتِّر عليها، فهل يجوز الدفع، أو لا يجوز؟

    الجمهور على عدم جواز الدفع؛ لأنها إذا أرادت حقها فإنها تطالبه وتقاضيه.

    وقال بعض العلماء: إنه إذا كان بخيلاً جاز دفع الزكاة إليها؛ لأن وجود هذا الغني وعدمه على حدٍ سواء، فغناه لا يفيدها شيئاً، بل إنها تتضرر أكثر؛ لأن الناس يمتنعون من الإعطاء إليها لمكان غنى زوجها، وهم لا يعرفون أنه في الحقيقة مقتِّر ومقصر عليها.

    وقوله: (ولا إلى فقيرة تحت غني) يفهم منه أنها إذا كانت تحت فقير أنه يجوز الدفع إليه وإليها، والعكس يجوز، فلو كانت المرأة غنية والزوج فقيراً جاز دفع الزكاة إلى الزوج؛ لأن الزوجة لا تنفق على زوجها، ولذلك خصّ الزوجة ولم ينص على الزوج؛ لأن الزوج إذا كان فقيراً وكانت زوجته من أثرى خلق الله فلا يجب على الزوجة أن تعطيه من مالها ولا أن تغنيه وحاله حال فقر، فيجوز دفع الزكاة إليه؛ لأنها ليست مطالبة بالإنفاق على زوجها.

    1.   

    حكم دفع الزكاة إلى فرع أو أصل

    قال المصنف رحمه الله: [ولا إلى فرعه وأصله].

    أي: ولا يجوز دفع الزكاة إلى الفرع ولا إلى الأصل.

    والفرع: هو الذي ينبني على غيره، تقول: فروع الشجرة؛ لأنها منبنية على أصلها، وتقول: الجريد فرع النخلة؛ لأنه منبن على جذعها، فالفرع هو الذي انبنى على غيره، والأصل هو الذي ينبني عليه غيره، فالفرع مبني على غيره.

    والأصل مبنيٌ عليه الغير، وعلى هذا يقولون في الإنسان: أصوله آباؤه وأمهاته، الأقربون والأبعدون، فأبوه وجدُّه وإن علا يعتبر أصلاً له، وأمه وجدته وإن علت أصلٌ له، ويشمل ذلك المباشر وغير المباشر.

    الفرع: وهم الذين يلدهم الإنسان، فله عليهم ولادة كابنه وبنته، وإن نزل الابن وإن نزلت البنت كبنت بنت البنت، وابن ابن الابن، كل هؤلاء يعتبرون من الفروع.

    فلا يجوز دفع الزكاة لا إلى الأصول ولا إلى الفروع، والدليل على ذلك السنة الصحيحة التي دلت على أن الفرع مع الأصل كالشيء الواحد، وهذه المسألة نص عليها جماهير العلماء، حتى حُكي الإجماع على أنه لا يجوز صرف الزكاة لا إلى الفروع ولا إلى الأصول، والدليل على ذلك من السنة الصحيحة حديث فاطمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما فاطمة بضعة مني)، وبضعة الشيء كالشيء؛ لأنها قطعة منه، فدل على أنها وإياه كالشيء الواحد.

    وأخذ العلماء من هذا دليلاً على أنه لا يجوز أن يصرف الزكاة لأبنائه ولا لبناته؛ لأنه إذا فعل فكأنما يصرف لنفسه، لأنه قال: (إنما فاطمة بضعة مني)، وتأكد هذا أيضاً بالحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) ، وقال للرجل: (أنت ومالك لأبيك). فهذه نصوص صحيحة من السنة جعلت جماهير العلماء رحمة الله عليهم يحكمون بعدم جواز صرف الزكاة للأصول وكذلك للفروع؛ لأن السنة دلت على أن الأصل والفرع كالشيء الواحد، وعلى هذا فلو أعطى أباه أو أمه من الزكاة فكأنه يعطي نفسه، وإنما يجب عليه أن يقوم بحق والديه من الإحسان إليهما.

    ولا شك أنه من أعظم العقوق أن يكون الابن غنياً أو تكون البنت غنية -والمراد بالغني من عنده الفضل عن حاجته- ومع ذلك يرى والديه في الفقر والشدة ولا ينفق على والديه، فهذا من أشد العقوق الذي يؤذن بمحق البركة من المال، بل وبمحق التوفيق للإنسان، نسأل الله السلامة والعافية.

    فلن تجد إنساناً يحرم والديه من فضلٍ أعطاه الله إياه إلا محق الله له البركة فيما أعطاه، وقد يجعل ما أعطاه وبالاً عليه في دنياه أو قد يجمع له بين وبال الدنيا والآخرة، نسأل الله السلامة والعافية.

    ولذلك ينبغي على الإنسان أن لا يبخل بماله على والديه، وإذا استطاع أن يبادرهما بالإنفاق قبل أن يسألاه فذلك من أكمل البر، ولذلك قال الله تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [البقرة:83] ، فأصل التقدير: أحسنوا بالوالدين إحساناً، وقال تعالى: إِحْسَانًا [البقرة:83] وهذا مطلقٌ في الإحسان، أي: قدر ما تستطيعون من بذل الإحسان، وما يحسُن به حال الإنسان، أي: ما يُحسِن به إلى والديه في حالهما، سواءً بالقول أو الفعل، ولذلك لا يجوز أن يكون عنده المال ويؤدي الزكاة ووالديه في فقر ومسكنة، فهذا يعتبر من العقوق، ونص العلماء رحمهم الله على وجوب قيام الابن بالإنفاق على والديه إذا احتاجا.

    1.   

    حكم دفع الزكاة إلى العبد

    قال المصنف رحمه الله: [ولا إلى عبدٍ].

    أي: ولا تدفع الزكاة إلى عبد؛ لأن العبد لا يملك، ولو دفع له انصرفت إلى سيده، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع)، فهذا الحديث يدل على أن العبد لا يملك، وعلى هذا فقد أخلى يد العبد من الملكية، وجعل ماله إما للبائع وإما للمشتري، فدل على أنه لا يملك.

    وعلى هذا فلا يتأتى أن يصرف الزكاة إليه؛ لأنه لا يملك، وإذا صرفها إليه فكأنه يعطيها لسيده، فإذا كان السيد محتاجاً جاز دفع الزكاة إليه بوجود الحاجة التي يؤذن بصرف الزكاة بسببها.

    في حالة واحدة يستثنى فيها العبد، وهي إذا كان مكاتباً، وقد بيّنا هذا في قوله: وَفِي الرِّقَابِ [التوبة:60] ، فإن الله عز وجل نص على دفع الزكاة للمكَاتَب كما في قوله تعالى: وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور:33] ، فتصرف الزكاة إلى العبد إذا كان مكاتباً لسيده، وأما غير ذلك فإنه لا تصرف الزكاة إليه.

    1.   

    حكم دفع الزكاة من الزوجة للزوج

    قال المصنف رحمه الله: [وزوج].

    أي: ولا إلى زوج .. أي: ولا يجوز للمرأة أن تدفع زكاتها لزوجها، وهذا إذا وجد في الزوج ما يدل على حاجته وفقره ومسكنته، وهذه المسألة للعلماء رحمة الله عليهم فيها وجهان:

    بعض العلماء يقول: يجوز دفع زكاة الزوجة لزوجها، وأنه لا حرج عليها في ذلك، واستدلوا:

    أولاً: بعموم الآية الكريمة التي وردت في أصناف الزكاة.

    وثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ زينب امرأة عبد الله بن مسعود حينما استأذنته أن تنفق صدقتها على عبد الله وأولاده، فأخبرها أنها إذا تصدّقت على زوجها وأولاده أنها تكون حائزة لأجرين: الصدقة، وصلة الرحم، قالوا: فهذا يدل على أنه يجوز لها أن تدفع زكاتها إلى زوجها.

    والذين منعوا استدلوا: بأن الزوج ينفق على زوجته، وإذا كان الزوج ينفق على زوجته، فكأنها إذا أعطته الزكاة فهي مستفيدة من المال لا شك؛ لأن الزوج إنما يفتقر من أجل الإنفاق على نفسه وعلى من يعول، وزوجته ممن يعول، فكأنها إذا أعطته الزكاة أعطته لنفسها، فقال بعض العلماء: إنه لا يجوز إعطاء الزكاة لأجل هذه العلّة؛ لأن الزوج ينفق على زوجته من هذا الوجه.

    والذي يظهر والله أعلم أنه يجوز صرف زكاتها إلى زوجها:

    أولاً: لعموم آية الزكاة.

    وثانياً: أن هناك ما يدل على جواز الصرف عند اختلاف اليد: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما غلا القدر بلحمٍ أُعطي لـبريرة صدقة، وأراد أن يأكل منه قالت عائشة : إنه صدقة، فقال: (هو لها صدقة ولنا هدية) ، فأخبر باختلاف اليد.

    فعلى هذا فلها أن تعطيه الزكاة، ثم إذا أنفق عليها ينفق كان ذلك بسبب شرعي وهو الاستمتاع، قال تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [النساء:24] ، فاختلفت اليد، والقاعدة: أنه إذا اختلفت اليد اختلف الحكم باختلاف اليد، وعلى هذا فإنه إنما يستقيم أن لو كان ينفق عليها بدون موجب، وعليه فإنه يجوز صرف الزكاة من الزوجة لزوجها.

    وأجابوا عن الوالد مع ولده بأن الاستحقاق وإن كان مختلفاً فورود السنة بالنصية على أنه مالٌ للأب ومالٌ للفرع، يدل على أنهما كالشيء الواحد، ولو أخذه باستحقاق، ففُرِّق بين الوالدين وبين الزوجين من هذا الوجه، فيجوز صرف الزكاة من الزوجة لزوجها ومن الزوج لزوجته، قالوا: ولا حرج في ذلك، وحينئذٍ إذا صرفت زكاتها لزوجها يشترط أن لا تحابيه في قدر الزكاة الذي تعطيه له، فإذا كان يستحق ثلاثة آلاف لم يجز أن تزيد عليها، فإن زادت رجعت الزيادة نافلة، فلو كانت زكاتها أربعة آلاف ريال وزوجها يستحق الألفين فأعطته أربعة آلاف، فألفان زكاة وألفان صدقة، ويجب عليها أن تقضي الألفين؛ لأنه لا يستحق أن تُصرف إليه.

    1.   

    حكم إعطاء الزكاة لمن لا يستحقها

    قال المصنف رحمه الله: [وإن أعطاها لمن ظنه غير أهلٍ فبان أهلاً أو بالعكس لم يجزه].

    وذلك كأن يعطيها لإنسان يظنه فقيراً أو مسكيناً وهو غني، ثم بان بأنه ليس بأهل؛ فإنه يجب عليه أن يقضي.

    وهنا ينبغي أن ننبه على مسألة مهمة، وهي أن الواجب على الإنسان إذا وجبت عليه الزكاة في ماله أن ينظر في حاله، فلا يخلو من أحوال:

    الحالة الأولى: أن يعلم بوجود ضعفاء أو فقراء مستحقين للزكاة، أو أن يكون عالماً بأناس مستحقين للزكاة، علماً شخصياً بنفسه، كأن يعرف جيراناً له فقراء، أو يعرف أقارب له فقراء، ففي هذه الحالة لا يجوز له أن يصرف لأي شخص غيرهم؛ لأنه إذا صرفها للغير الذي يشك في حاله كأنه ينتقل من اليقين إلى الشك على وجه يشك في براءة ذمته.

    ولذلك يقول العلماء: إذا علم الإنسان فقراء محتاجين، وجاءه سائل يشك في أمره لم يجُز له أن ينصرف عن اليقين إلى شك، والقاعدة في الشرع: أن القدرة على اليقين تمنع من الشك، فما دمت قادراً على صرفها على وجه تستيقن منه أنها تصل إلى مستحقها فلا يجوز لك أن تعدل إلى وجهٍ تشك فيه.

    وتفرّع على هذه القاعدة مسائل كثيرة، ومنها هذه المسألة، أنه ما دمت تعلم أن البيت الفلاني فيه فقراء وضعفاء محتاجون، وتعلم حاجتهم وأنهم مستحقون للزكاة، وجاءك من تشك في أمره يسألك لدين أو حادث أو فقر، لم يجز لك أن تنصرف من الأمر الذي تستيقن به صرف الزكاة على وجهها إلى أمر تشك فيه.

    الحالة الثانية: أن لا يعرف الناس بنفسه، ولكن يعرفهم عن طريق الثقات، أو أناس فيهم أمانة وعدالة، ويغلب على ظنه أنهم يوصلون المال إلى مستحقه، فهؤلاء الأشخاص جاءوك وأخبروك أن هناك بيتاً من الفقراء أو المساكين، أو أن هناك شخصاً مديوناً، ويعلمون صدقه وحاجته وفقره، فحينئذٍ تنزّل هذه الحالة منزلة الحالة الأولى، ولا يجوز لك أن تعدل عن هذا الأمر الذي غلب على ظنك فيه وصول الزكاة إلى مستحقها إلى أمر تشك فيه، وتعتبر هذه الحالة لاحقة بالحالة الأولى.

    الحالة الثالثة: أن لا تعلم أناساً، وليس هناك أشخاص تستطيع أن تعتمد عليهم في الكشف والتحري، وجاءك من يسأل، فلا تخلو أيضاً من حالتين:

    إما أن يمكنك أن تتحرى وتتثبت في أمره؛ فلا يجوز أن تدفع له مباشرة قبل أن تتحرى وتتثبت.

    مثال ذلك أن يقول لك: إنه يسكن في حي ما، فتقول له: اذهب وأحضر لي شهادة من إمام المسجد أو أحضر لي من جيرانك من أعرفه يزكيك أو يشهد بأنك محتاج أو أنك فقير، ففي هذه الحالة إذا أمكنك بالتحري والسؤال أن تعرف جليّة أمره، كان من التساهل والتفريط في حق الله عز وجل أن يُدفع المال إليه مباشرة؛ والأمانة والصدق في القول من العدالة، والله عز وجل يقول: وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72] فأخبر بكونه ظالماً وجاهلاً، فكان الأصل أنه ينبغي أن يزكَّى، حتى يغلب على الظن صِدْقُه، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيمن كان على ظهر غنى وأصاب ماله جائحة أن يقوم اثنان من ذوي الحجى يشهدان بأن مال فلان قد أصابته جائحة.

    فعلى هذا يكون من التفريط والتساهل أن يأتي الإنسان إلى صدقة واجبة عليه فيعطيها لكل من سأل، ومن جاءه أعطاه، ومن أخبر له صدّقه، فهذا من التساهل والتضييع.

    بل قد تجد أجرأ الناس على السؤال من أكذب خلق الله وأكثرهم حيلة، بل قد تجده يملك من الأموال ما لا يملكه الذي يتصدق عليه، وقد رأينا ذلك بأعيننا، ولا نبالغ فيه، بل وجدنا من يملك العمارة والعمارتين وهو يسأل ويكذب ويدعي أنه محتاج، وقد بنى ثروته وأمواله على السؤال، خاصة في هذا الزمان، عندما تساهل كثير من الأغنياء.

    ولذلك لما تساهل الأغنياء في صرف الزكاة إلى المستحقين عظُمت حاجة الناس، ووجد الضعفاء والفقراء الذين هم في فقر وضعف ومسكنة لا يعلمها إلا الله عز وجل، وضاعت حقوقهم بسبب هؤلاء السؤَّال، والغني يحضر ماله وكل الذي يريده أن يخلص من هذه الزكاة، ويحس أنه من الورع أن يتخلص منها مباشرة، ويعطيها لكل من هب ودب، وهذا لا تبرأ به الذمة، وأنت تعلم أن هذا الزمان فيه الكذب وفيه الغش وفيه التدليس، فتأتي إلى حق الضعفاء والفقراء والمساكين والمديونين والمعسرين، فتتساهل فيه فتعطيه لكل سائل، وتعطيه لكل من يقف عليك، فهذا من التساهل.

    فإن كنت عاجزاً بحثت عمن تثق بدينه وأمانته، بأن تذهب إلى إمام مسجد أو تذهب إلى عالم تثق بدينه وأمانته، فتعتمد عليه بعد الله عز وجل في صرف زكاتك، أما أن تُعطى الزكاة لكل من سأل، ثم إذا بان غنياً عفي منها فلا، هذا من الصعوبة بمكان، ولا شك أنه يضيِّع حقوق الفقراء والضعفاء والمساكين، وعلى هذا فإنه ينبغي التفصيل.

    أولاً: إن كان الشخص بنفسه يعلم الضعفاء والفقراء لم يَجُز له أن يصرف المال للسؤَّال الذين يشك في أمرهم.

    ثانياً: إذا كان لا يعرف ولكنه يستطيع أن يعتمد على من يثق بدينه وأمانته من أهل العقل والحجى ويسلمهم زكاته وجب عليه ذلك، ولم يجز له أن يعطي الزكاة لكل سائل وهو لا يعرف أهو صادق أو كاذب.

    ثالثاً: إذا لم يمكنه الأمران، وأمكنه أن يعتمد على تزكية إمام مسجد أو تزكية جيران يثق بهم طولب بذلك.

    فإن تعذر عليه في هذه الحالة، ولم يستطع أن يستجلي الأمر بنفسه، ولم يستطع أن يطالبه كأن تكون حاجة نازلة، أو يكون غريباً منقطعاً، كابن السبيل، فحينئذٍ إن دفع له الزكاة على هذا الوجه فإنه يتحرى فيما في وسعه، كأن يسأله: متى قدمت، أو يسأله عن أمورٍ يظهر بها صدقه وكذبه.

    فإذا فعل ذلك وتحرّى وبان خطؤه، فمذهب طائفة من العلماء: أنها تجزيه؛ لأنه اجتهد وتحرّى ولم يكلّفه الله إلا ما في وسعه.

    ومذهب طائفة من العلماء: أنه يلزمه الضمان لأنه قصّر، ولو تحرى لتبيّن له الأمر، ومن قصّر يلزم بعاقبة تقصيره، والتفصيل في هذه المسألة قوي:

    فإن كان هناك ضعفاء غير هذا الفقير وتساهل في صرفها إلى هذا السائل المشكوك في أمره ضمن، وإلا قوي القول الذي يقول بالإسقاط وببراءة الذمة.

    وقوله: (وإن أعطاها لمن ظنه غير أهلٍ فبان أهلاً أو بالعكس لم يجزه).

    أي: إن أعطاها لمن ظنه أهلاً فبان أنه غير أهل، أو أعطاها لغير المستأهل كأن يعطيها لغني، فلو أعطاها لإنسان يظنه غنياً ثم بان فقيراً فهل تجزي؟

    للعلماء قولان: قال بعض العلماء: تجزيه؛ لأنها وصلت للمستحق، وقال بعضهم: لا تجزيه، وهو الصحيح. والسبب في هذا: أنه إذا أعطاها لغني فهو مستهتر خارجٌ عن قصد القربة والعبادة بالزكاة، فتخلّفت نية الزكاة المعتبرة، وحينئذٍ تكون هبة لمحض الفضل منه، ولا تكون زكاة شرعية، ويلزمه قضاؤها.

    قال المصنف رحمه الله: [إلا لغني ظنه فقيراً].

    والأصل في ذلك حديث الصحيح في قصة الرجل الذي تصدّق على الزانية وتصدق على الغني، فقيل له: (أما الزانية فلعلها أن تستعف، وأما الغني فلعله أن يتّعظ ويدَّكر)، قالوا: إن هذا يدل على أنه إذا تصدَّق على غني يظنه فقيراً أنه يجزيه.

    وقال بعض العلماء: لا يجزيه؛ لأنه قصَّر، والحديث شرع من قبلنا وهو شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، والأصل في الشرع أنه يجب عليه أن يتحرى ويسأل، وعلى هذا فلا يجزيه، والحديث وارد في صدقة النافلة، ولا يعتبر دليلاً على جواز الاعتداد بها في صدقة الفريضة.

    1.   

    فضل صدقة التطوع

    قال المصنف رحمه الله: [وصدقة التطوُّع مستحبة].

    التطوُّع: تفعُّلٌ من الطاعة، ووُصِف التطوع بكونه تطوعاً؛ لأن الإنسان يزداد تقرباً وتحبباً إلى الله عز وجل بفعله.

    وكأنه بفعله لهذه الطاعة غير الواجبة ازداد امتثالاً للشرع؛ لأن الشرع أوجب عليه الفرائض ولم يوجب عليه النوافل، فكونه يفعل النوافل فيه دلالة على قربه من الله عز وجل وحبِّه لله سبحانه وتعالى، ولذلك سميت صدقة؛ لأن صاحبها يصدق في حبه لله عز وجل، ويصدق في قصد التقرُّب إليه سبحانه وتعالى.

    وقوله: (مستحبة) أي: مندوب إليها شرعاً، يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، والأصل في أنها مستحبة نصوص الكتاب والسنة.

    أما نصوص الكتاب: فإن الله شرّف الصدقات النافلة وفضّلها وعظّم شأنها، حتى وصفها بوصف قلّ أن يصف به غيرها، فقال سبحانه: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245] ، فجاء بأمرين:

    أحدهما: أنه وصف الصدقة النافلة بأنها قرض، والله أغنى الأغنياء، ولا غنى فوق غنى الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك وصف كون المتصدق بأنه يُقرض الله عز وجل، ولذلك لما نزلت هذه الآية جاء أبو الدحداح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أيستقرضنا الله وهو غني عنا؟!).

    وهذا يدل على أن الصحابة كانوا يتأملون ألفاظ القرآن، وكلّما تأمّلت ألفاظه وتدبرتها وجدت فيها معاني عجيبة، تزيد من خير الإنسان وتزيد من طاعته لله عز وجل.

    فكم من مرة يقرأ الإنسان قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245] ولا يتأمل، لكنك لو تأملت أن الله ملك الملوك وأغنى الأغنياء سبحانه وتعالى يقول: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245]، إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ [التغابن:17] ، هذا كله يدل على فضل الإنفاق، فقال:

    (يا رسول الله! أيستقرضنا الله وهو غني عنا؟! فقال صلى الله عليه وسلم: نعم؛ ليرفع من درجاتكم، ويكفر من خطيئاتكم) أي: يستقرضكم وهو غنيٌ عنكم، فلا تنفعه طاعتكم ولا تضره معصيتكم، ولكنه يستقرضكم لأمرين: يرفع من درجاتكم بالحسنات، ويكفر من خطيئاتكم والسيئات، فقال رضي الله عنه: (يا رسول الله! إن لي بالمدينة حائطاً فيه ستمائة نخلة، أشهدك أنها لله ورسوله) .

    كان الجيش بكامله والسرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم تمشي بجرابٍ من تمر، فستمائة نخلة ليست بالهينة وليست باليسيرة، وقد تكون عناء حياته، وقد تكون رأس ماله.

    فانطلق رضي الله عنه إلى حائطه، فوجد امرأته وهي تجمع التمر من تحت النخل هي وصبيانها، فقال رضي الله عنه يخاطبها:

    بيني، أي: اخرجي.

    بيني من الحائط بالوداد فقد مضى قرضاً إلى التنادي

    أقرضته الله على اعتماد إلا رجاء الضعف في المعاد

    والبر لا شك فخير زاد قدّمه المرء إلى التنادي

    لكن من المرأة الصالحة المؤمنة، ما قالت له: ضيّعتنا، ولا قالت: أفقرتنا، ولا قالت: ما هذا الذي تفعله، ولا قالت: أمجنون أنت، بل قالت له:

    بشّرك الله بخير وفرح مثلُك أدى ما لديه ومنح

    قد متّع الله عيالي وفرح بالعجوة السوداء والزهو البلح

    والعبد يسعى وله ما قد كدح طول الليالي وعليه ما اجترح

    ثم ضربت أيدي صبيانها وخرجت من الحائط بلا تمرة واحدة.

    كان الصحابة رضوان الله عليهم رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، يشترون مرضاة الله عز وجل، ولذلك فضّل الله الصدقة.

    فخرج إلى الحائط، وقطّع عراجينه، وجاء إلى المسجد وعلّق فيه تلك العراجين، فخرج صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، فلما خرج نزل عليه جبريل من السماء بالوحي، فقال كلماته المشهورة عليه الصلاة والسلام: (كم لـأبي الدحداح من دار فياح وعذق رداح في الجنة) أي: أن الله تقبل صدقته؛ لأنها خرجت بصدقٍ مع الله عز وجل.

    فمن أفضل ما يتقرب الإنسان به إلى الله عز وجل الصدقات، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تطفئ غضب الرب، ونصّ العلماء رحمة الله عليهم على أنه إذا نزلت النكبة بالعبد شرع له أن يتصدّق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الكسوف: (فصلوا وادعوا وتصدقوا) ؛ لأن الصدقة تطفئ غضب الله على العبد، والبلاء ينزل بسبب الغضب.

    بل جعل الله عز وجل الصدقة سبباً في دفع بلاء الدنيا والآخرة، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن عدي : (فاتقوا النار ولو بشق تمرة) ، فإن الله قد يحجب العبد عن النار بسبب نصف تمرة، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: أنه دخل على عائشة فقصت له قصة المسكينة مع بنتيها: (دخلت امرأة مسكينة على عائشة فاستطعمتها فأعطتها ثلاث تمرات، فأخذت تمرة، وأعطت بنتها تمرة، وأعطت الثانية تمرة، فلما أرادت أن تطعم التمرة التي عندها، وقد أخرجت نواها وأرادت أن تأكلها استطعمتها إحدى البنتين، فأعطتها التمرة ولم تمتنع منها، فلما أعطتها عجبت عائشة رضي الله عنها من كرمها وجودها وإيثارها ورحمتها ببنتها، فلما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته، فقال صلى الله عليه وسلم: أوتعجبين من أمرها، إن الله حرّمها على النار بتمرتها تلك).

    فالصدقة فيها فضلٌ عظيم وثواب كريم، ولذلك ندب الله عز وجل إليها ونص العلماء على استحبابها وتفضيلها، وأفضل ما تكون الصدقة إذا كانت للمحتاج المضطر إليها كالمديون والمعسر، والذي يشتد به الأمر في مخمصة ومجاعة.

    وكذلك إذا كان بائس الحال في نفسه كاليتيم والأرملة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة واليتيم كالصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر)، وهذا يدل على فضل الإنفاق والصدقة.

    وقد ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث الصحيحة التي تدل على أن الإنسان إذا تصدق أخلف الله عليه، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً) قال العلماء: هذه دعوة ملكٍ لا تُرد؛ لأن الله ما أنزله لكي يدعو هذه الدعوة إلا لتستجاب، قالوا: والخلف له يأتي على وجهين: إما خلف يعجله الله عز وجل له في الدنيا، وإما خلف يدّخره له في الآخرة، والخلف الذي في الدنيا يعجِّله لا ينقص مما عند الله في الآخرة.

    فإذا كان كامل الإنفاق لوجه الله عز وجل ربما ادخر الله له الخلف في الآخرة، فيجده أوفر ما يكون، كما في صحيح مسلم قوله: (إن الإنسان إذا تصدّق بالصدقة تلقاها الرحمن بيمينه، وكلتا يدي الرحمن يمين، فيربيها له وينميها له كما يربي أحدكم فلوه)، ولذلك قالوا: إذا نويت الصدقة فلا تتأخر، لا تقل: إلى الصبح، لا تقل: إن شاء الله غداً يكون خيراً ..؛ لأن كل لحظة ودقيقة تعتبر زائدة في ميزان حسناتك، وبمجرد أن تضعها في يد الفقير، فإنك في هذه الحالة تعتبر معاملاً لله عز وجل حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فإذا قمت بين يدي الله كان خلفك عند الله عز وجل، وعِوضك من الله سبحانه وتعالى، فهي مستحبة، وقد أجمع العلماء على استحبابها، وأنها من أفضل الطاعات وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى.

    حكم تصدق الإنسان بماله كله

    ولكن السؤال: هل يجوز للإنسان أن يتصدق بكل ماله، أم أن هذا الاستحباب مقصور على بعض المال دون بعض؟

    قال بعض العلماء: لا يجوز أن يتصدّق بكل ماله؛ لأنه إذا تصدق بجميع المال ضيّع أهله وضيّع نفسه، واضطر إلى الدين، واضطر إلى ذل سؤال الناس، والحاجة إليهم، ولا ينبغي للمسلم أن يورد نفسه هذه الموارد.

    وقال بعض العلماء: يجوز أن يتصدّق بجميع ماله، ولا حرج عليه في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل من أبي بكر أن يتصدق بجميع ماله.

    والصحيح: أن الناس يختلفون في اليقين، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءت عنه نصوص قبل فيها من بعض الصحابة كل المال، وجاءت نصوص لم يقبل فيها وردّهم إلى الأقل، فقبل من أبي بكر كل ماله كما في الحديث الصحيح عن عمر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى الصدقة، قال عمر : وكان عندي في ذلك اليوم فضل مال، فقلت: كنت سابقاً أبا بكر فسأسبقه اليوم، فمضى إلى ماله وقسمه قسمين، فجاء بنصفه يحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا تركت لأهلك؟ قال: مثله -يعني: أن هذا نصف ما أملك- قال فلم يشعر إلا وأبو بكر قد جاء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله -يعني: ما تركت لهم من شيء- ، فعتِب عمر على نفسه وأنه لن ينافس أبا بكر بعدها في خير؛ لأنه يعلم أنه سيسبقه، بمعنى: أنه لا يعتقد أنه سيصل إلى منزلةأبي بكر فضلاً عن أن يفوقه.

    فأوتي أبو بكر رضي الله عنه من اليقين ما لم يؤته أحد من هذه الأمة بعد نبيه عليه الصلاة والسلام، ولذلك فضِّل رضي الله عنه وأرضاه على الأمة كلها، بعد نبيها، فهو أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك ليقينه بالله عز وجل.

    فإذا كان عند الإنسان يقين، وصبر وإيمان وتوكل على الله عز وجل، أن الله لن يخيِّبه، وأن الله سبحانه وتعالى سيربط على قلبه، وأن هذا المال حقيرٌ في عينه، وأنه يريد ما عند الله، ورأى نكبة أو فاجعة تستحق أن يضحي بكل ماله فضحّى؛ فهو على خير، وهذا يجوز، بل هذا من أفضل الطاعات.

    ولذلك أُثر عن بعض الصحابة والتابعين منهم الحسن أنه خرج من ماله مرتين، أي: أنه تصدّق بجميع ماله صدقةً لله عز وجل، خاصة إذا كان عند الإنسان اليقين وقوة الإيمان بحيث لا يندم ولا يضجر.

    أما إذا كان ضعيف الإيمان، أو يُخشى منه أن يندم، أو يُخشى منه سوء العاقبة بأن ينتكس والعياذ بالله فلا، ولذلك لما أراد سعد أن يوصي بماله كله، قال عليه الصلاة والسلام: لا، قال: (يا رسول الله! إن لي مالاً وليس لي وارث إلا ابنة، أفأوصي بكل مالي؟ قال: لا، قال فبثلثيه؟ قال: لا، قال: فبنصفه؟ قال: لا، قال: فبثلثه؟ قال: نعم، الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس).

    فإذا كان الإنسان عنده ذرية ضعيفة ويخشى عليها المسألة والدين، فحينئذٍ يبقي لهم حقهم الذي فرضه الله عليه أن ينفقه عليهم، ثم بعد ذلك يتصدّق بما زاد عنه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ابدأ بنفسك وبمن تعول) ، ولما أخبره الرجل أن عنده ديناراً، قال: (أنفقه على نفسك، قال: عندي غيره، قال: أنفقه على أهلك.. فلما انتهى من الحقوق قال: عندي غيره، قال: شأنك به) أي: أنفق به حيث شئت، وعلى هذا فلا يجوز أن يعرِّض نفسه لأمرٍ يضعف به يقينه إذا كان ضعيف اليقين.

    ومن هنا خرّج العلماء قبول النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الصدقات دون بعضها؛ لأن الناس يتفاوتون في كمال الإيمان، وكمال اليقين في الله سبحانه وتعالى.

    ولا شك أنه إذا كمُل يقين الإنسان وعظُم إيمانه بالله جل وعلا فوالله لن يخيب، ولو أطبقت عليه السماوات والأرض وما فيها بالضيق والفقر والشدة لجعل الله له من بينها فرجاً ومخرجاً، والأمر كله مردّه إلى مرتبة الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، بمعنى: أن يكون عندك قوة إيمان أن الله لن يضيِّعك، وأن الله لن يخيِّبك، وقد رأينا هذا في مشايخنا وعلمائنا، أنه ربما ضاقت على الإنسان منهم الضائقة، ويأتيه المحتاج وليس عنده إلا قوته أو قوت أولاده، فيؤثر على نفسه وعلى ولده، ومع ذلك لا يلبث أن يأتيه الفرج من حيث لا يحتسب.

    ولذلك لما بات أبو طلحة رضي الله عنه مع الضيف كما في الحديث الصحيح، قال لزوجته أم طلحة : (عللي الصبية حتى يناموا، وأطفئي السراج حتى يظن الضيف أننا نأكل، فأكل الضيف حتى شبع، وهو يظن أنهما يأكلان معه ولم يأكلا، فلمّا أصبحا أصبحا طاويين فقيرين، جائعين، ولكنهما قد غفر لهما ذنوبهما، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لما مضى أبو طلحة إليه، قال له: (عجب الله من صنيعكما البارحة)، عجب الله من فوق سبع سماوات لهذا الإيثار، ولهذا الإيمان أكرمتما ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعجب صفة من صفات الله جل جلاله.

    وهنيئاً لمن عجب الله له، ولذلك عجب لشاب ليست له صبوة الحرام لعظيم ما قدم من العفة عن الحرام، وعجب لهذين الزوجين لأنهما آثرا على أنفسهما، ونزل قوله سبحانه وتعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9] ، فأثنى عليهما من فوق سبع سماوات، فدل على أن من يقدم ماله ويؤثر على أهله وولده من غير مضيعة أنه على خير وأنه على طاعة وبر، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

    استحباب التصدق في رمضان

    قال المصنف رحمه الله: [وفي رمضان وأوقات الحاجات أفضل].

    في رمضان لفضل الزمان، فأفضل الشهور طاعة شهر رمضان، وأفضل الأيام والليالي طاعة عشرٌ من ذي الحجة، وأفضل الليالي طاعة العشر الأواخر من رمضان، وهذا هو أعدل الأقوال في مسائل التفضيل الزمانية.

    فأفضل الشهور شهر رمضان، والله اختاره من بين الشهور، وأفضل الليالي ليالي العشر، وأفضلها ليلة القدر، وأفضل الأيام العشر الأُول من ذي الحجة، وعلى هذا تستقيم النصوص، ويبقى لكل ذي فضلٍ فضله.

    وأما داخل الأسبوع فأفضل أيامه يوم الجمعة، وحينئذٍ لا يكون هناك تعارض بين النصوص، فيكون التفضيل نسبياً، ففي الأيام نقول: عشرٌ من ذي الحجة أفضل الأيام، وفيها يتقرّب الإنسان بعموم الطاعات والقربات، وأفضل الليالي ليالي العشر، والفضيلة فيها بالإحياء، يعني بالقيام والصلاة، ففضلت عشرٌ من ذي الحجة على العشر الأواخر؛ لأن الطاعات فيها مطلقة، وأما بالنسبة للعشر الأواخر فاختُصّت بالقيام، ولذلك قال: (من قام ليلة القدر ..) فاختُصَّت بنوع من الفضائل، ولم يبق لها المزية المفضلة المطلقة كعشرٍ من ذي الحجة.

    وأما بالنسبة لرمضان فهو أفضل الشهور، وأما أيام الأسبوع فأفضلها يوم الجمعة، وأفضل أيام السنة على الإطلاق يوم عرفة، وعلى هذا يكون التفضيل نسبياً كما ذكره المحققون من العلماء.

    فأفضل ما يُتصدق فيه شهر رمضان، وقد نص العلماء على فضيلة التصدق فيه لما فيه من فضيلة الزمان، والدليل على تفضيل الصدقات في رمضان ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) يعني أنه لا يتوانى، ولا يتأخر في الصدقات والخير، وإذا أرسل الخير كان أكثر من الريح إذا أرسلت، وهذا يدل على سرعة مبادرته عليه الصلاة والسلام للخير، وعلى هذا قال رضي الله عنه: (وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن).

    وهذا يدل على أن مدارسة القرآن تزيد من الطاعة والبر والخير، ومن اشتكى ضعفاً في هدايته والتزامه فلينظر ما بينه وبين القرآن في ختمه وتعاهده، فإنه ما نقصت هداية الإنسان إلا وبينه وبين القرآن فجوة، حتى ولو كان يختم كل ثلاث ليال، فتجده قد تغيّر في خشوعه وتدبره للقرآن.

    فـابن عباس ينبه على هذا المعنى، يقول: (وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن) ، فدل هذا على فضيلة تخصيص رمضان بالصدقات، والصدقات هنا هي النافلة.

    أما الفريضة وهي الزكاة ففيها تفصيل: إن كان الحول يتم قبل رمضان فيحرم التأخير إلى رمضان؛ لأن بعض الناس عن جهل منهم تكون الزكاة واجبة عليه في رجب فيؤخر إلى رمضان، وهذا لا يجوز، بل يأثم بكل ليلة وبكل ساعة؛ لأنه يجب عليه أن يبادر بدفع الزكاة إلى مستحقها، أما لو كانت صدقته واجبة عليه في ذي القعدة، فيعجل في رمضان خاصة لوجود المحتاجين والفقراء، فهذا أفضل، ويكون له فضل التعجيل، وفضل الزمان، أما أن يؤخر الصدقة المفروضة إلى رمضان، وقد وجبت عليه قبل رمضان فإنه لا يجوز.

    حكم الصدقة بما يضر النفس ومن يعول

    قال المصنف رحمه الله: [وتسن بالفاضل عن كفايته ومن يمونه، ويأثم بما ينقصها].

    قوله رحمه الله: (تسن بالفاضل عن قوته) أي: بالشيء الزائد عن قوته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ابدأ بنفسك وبمن تعول) ، فيبدأ الإنسان بنفسه وبقوته وقوت عياله، ثم بالنسبة لما وراء ذلك شأنه به.

    وقوله: (ويأثم) أي: يأثم في حال تفضيل الفقير على أهله؛ لأن الله أوجب عليه نفقة أهله وولده، فلا يجوز أن يصرف ما هم بحاجة إليه إلى غيره، ولأنه قد وجب عليه أن ينفق على أهله وذوي قرابته الذين تلزمه نفقتهم، وأما بالنسبة للفقير، فلا يجب عليه أن يتصدق عليه أو ينفق عليه، فحينئذٍ لا يسعه أن يبدأ بالنافلة ويترك الفريضة.

    ولكن استثني من ذلك من كان عنده يقين بالله عز وجل في حدودٍ لا تصل إلى حد الضرر بأهله وولده، كأن يصلوا إلى درجة المخمصة أو الضرورة، فهذا يُعتبر ممنوعاً، أما لو كان في الحدود المعقولة مع أنه يمكن أهله الصبر، أو نزلت فاقة وحاجة شديدة وأراد أن يفضلهم فلا حرج.

    وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن ادخار اللحوم فوق ثلاث ليال، ثم قال: (كنت نهيتكم عن الادخار فادخروا) ، وقال: (إنما نهيتكم من أجل الدافة)، فجعل الدافة؛ وهم أقوام كانوا يأتون ضعافاً من خارج المدينة ويرتفقون في المدينة، فنهى الصحابة عن أن يدخروا فوق ثلاث ليال، وذلك حتى يواسوا إخوانهم الضعفاء، مع أن ادخار الثلاث فيه مزية بإنفاقه على الأولاد وعلى الأهل والتوسعة عليهم.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756459482