إسلام ويب

شرح زاد المستقنع مقدمة كتاب الجنائز [1]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • عيادة المريض من السنن التي حث الشارع عليها ورتب عليها الثواب العظيم، سواء أكان المريض مسلماً أم كافراً، ومقصد الشارع من العيادة أنها من المواساة لذلك المريض وتصبيره، والمريض الذي أوشك على الموت وعرف ذلك بالعلامات الدالة عليه ينبغي أن يذكر بالتوبة والوصية، كما يستحب أن يُحسن ظنه بالله، وأن يلقن الشهادة، ويستخدم معه الوسائل التي تيسر عليه النطق بها، مثل تعاهد بل حلقه بالماء أو بشراب؛ فإن ذلك مما يعين على سهولة نطقه وحديثه، وكذلك ذكر الآيات والأحاديث التي تبين سعة رحمة الله.

    1.   

    بيان أن عيادة المريض من السنة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    يقول المؤلف عليه رحمه الله: [كتاب الجنائز].

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الجنائز].

    الجنائز: جمع جَنازة أو جِنازة -لغتان- وقال بعض العلماء: جَنازةٌ (بالفتح) للميت نفسه، وجِنازة (بالكسر) للسرير الذي يُحمل عليه الميت. وقيل: إنها مأخوذة من جَنز الشيء إذا استتر، و(الجنائز) المراد بها: بيان الأحكام المتعلقة بالميت.

    ومناسبة هذا الكتاب لما تقدم: أن للعبد حالتين: الحالة الأولى تتعلق بدنياه، والحالة الثانية تتعلق بآخرته، فبعد بيان العبادات التي تتعلق بدنياه شرع -رحمه الله- ببيان جملة من المسائل والأحكام الشرعية المتعلقة بالمكلف عند موته أو بعد موته، وذلك من عيادته، وتلقينه، وتغسيله، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه.

    وهذا الباب يعتني به العلماء من المحدثين والفقهاء رحمهم الله، وقد اشتمل على جملة من المسائل والأحكام الشرعية، وختم به المصنف رحمه الله كتاب الصلاة، وكأنه لما عبر بالكتاب جعله وسطاً بين الصلاة والزكاة، والسبب في ذلك: تردد حالة الإنسان في العبادات بين كونها عبادة تتعلق بالدنيا، وعبادة تتعلق بالآخرة، فناسب التقسيم من هذا الوجه، كأنه حينما قال لنا: [كتاب الجنائز] كأنه يقول لك: في هذا الموضع سأذكرُ لك جملةً من الأحكام والمسائل المتعلقة بالميت، وما ينبغي على أهله وذويه إذا نزل به الموت، وكذلك ما ينبغي على المسلمين من الصلاة عليه ودفنه والدعاء له.

    يقول رحمه الله: [تُسن عيادة المريض].

    هذه السنية دلت عليها النصوص المتضافرة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، وعيادة المريض من أجل القربات وأحب الطاعات إلى الله جل وعلا، والتي جمع بها بين قلوب المؤمنين والمؤمنات؛ لما تشتمل عليه من رحمةِ بعضهم ببعض؛ ولما فيها من معونة المسلم لأخيه المسلم في حالة هو أشد ما يكون إلى رؤية إخوانه، والتعزي بما نزل في جسده، وما أُصيبَ به في نفسه.

    وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه العيادة، وأمر بها أصحابه رضوان الله عليهم، وأمته من بعدهم، فكان عليه الصلاة والسلام يعود المريض، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه عاد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه وسلاه، وأخبره بمعجزة من معجزاته صلوات الله وسلامه عليه وهي أنه يعمر، وينتفع به أقوامٌ -وهم المسلمون- ويستضر به أقوامٌ -وهم الكافرون- وكان كما قال.

    وكذلك عاد عليه الصلاة والسلام جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وصبّ وضوءه عليه فشفي.

    وكذلك ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه عاد يهودياً.

    فالسنة بفعله عليه الصلاة والسلام تدل على مشروعية هذه العبادة الجليلة، وكذلك أمر بها عليه الصلاة والسلام، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث البراء أنه أمر بعيادة المريض وإبرار المقسم، وجعلها من السبع التي أمر بها أصحابه وأمته من بعده صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين.

    فضل عيادة المريض

    ندب عليه الصلاة والسلام إلى عيادة المريض، وأخبر عما فيها من عظيم الأجر وجزيل الثواب عند الله سبحانه وتعالى، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من عاد مريضاً فهو في خرفة الجنة حتى يعود، قيل: وما خرفة الجنة؟ قال: جناها) ، وللعلماء في هذا الحديث وجهان:

    الوجه الأول: أن قوله: (من عاد مريضاً فهو في خرفة الجنة) أي: شبه حال الإنسان وهو خارجٌ لعيادة أخيه المسلم بحال الرجل الذي جلس أمام ثمار البستان يجني منها ما لذّ وطاب، فالذي يعود المريض يجني ثمرة عيادته من عظيم الأجر والمثوبة عند الله سبحانه وتعالى، فكما أن صاحب البستان جالسٌ أمام خير من الدنيا، فمن عاد المريض جالسٌ أمام خيرٍ من الآخرة، وهذا يدل على عظيم الفضل، كأنه يجني الثواب بدون حساب؛ من كثرة ما في ذلك من الأجر والمثوبة عند الله سبحانه وتعالى.

    والوجه الثاني: أن قوله: (من عاد مريضاً فهو في خرفة الجنة حتى يعود) أي: أن الطريق الذي سلكه في عيادة أخيه المسلم حال مرضه أشبه بالطريق إلى الجنة، بمعنى: أنه سينتهي به إلى الجنة.

    وهذا كله يؤكد فضل عيادة المريض، ويدل على استحبابها وتأكد هذا الاستحباب.

    ويعظم حق المريض بحسب قربه؛ فإن كان من الوالدين أو من القرابات والأرحام فالأمر في حقه آكد وأشد، ولذلك كان من وصل مريضاً وله قرابةٌ به فإنه يؤجر من وجهين:

    الوجه الأول: من جهة عيادته للمريض، وله أجر عيادة المريض المطلق.

    والوجه الثاني: أنه يؤجر من جهة كونه وصل الرحم وبلها ببلالها، واتقى الله عز وجل فيها.

    فأفضل ما تكون عيادة المرضى، إذا كانت للأقرباء ومن لهم رحمٌ بالإنسان وصلة، فإن حقهم آكد وأعظم، والتقصير في حقهم لاشك أنه أكثرُ إثماً وأعظم جرماً.

    مقصد الشارع من عيادة المريض المسلم والمريض الكافر

    قوله: [تسنُ عيادة المريض]

    هذه العيادة تشمل المسلم، والكافر:

    أما بالنسبة للمسلم فلا إشكال في ذلك، وفي عيادتك للمسلم خيرٌ كثير؛ فبها تقوى نفسه ويرتاح، خاصةً إذا كان بينك وبينه ودٌ وحب؛ فإن المريض ربما نشط برؤية أحبابه وأصحابه أكثر من نشطه بالدواء والعلاج، فرؤيته لمن يحب أنسٌ له، وبهجةٌ لنفسه وراحةٌ لها، وطمأنينة لقلبه.

    وأما بالنسبة لغير المسلم فإنه إذا كان كافراً فإنك تعوده بقصد دعوته إلى الإسلام، كما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه عاد يهودياً ثم لقنه شهادة التوحيد، فنظر إلى والديه فقالا: أطع أبا القاسم، فأطاع النبي صلى الله عليه وسلم وتشهد، فحمد النبي صلى الله عليه وسلم ربه أنه أنقذه من النار بسببه.

    وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (عاد عمه أبا طالب عند حضور الموت، فقال: يا عم! قل: لا إله إلا الله؛ كلمةً أحاج لك بها بين يدي الله) ، فهذا يدل على تأكد جواز ومشروعية عيادة المريض الكافر؛ وذلك بسبب تأليفه للإسلام.

    أما المسلم فإن له حق العيادة، سواء كان براً أو فاجراً، صالحاً أو طالحاً؛ وذلك لأنه حقٌ للمسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) فكونه يقصر فيما بينه وبين الله لا يمنع من أداء حقه في الإسلام من عيادته، ولربما عاد الصالحون الفجار فذكروهم بما عند الله؛ فكان سبباً في حسن الخاتمة لهم وتوبتهم وإنابتهم إلى الله عز وجل.

    وهذا مما يقصده الشرع، فإنه تكثيرٌ لسواد الأمة في الخير، وكذلك طاعةٌ للمطيع لربه، فإن المطيع إذا عاد أمثال هؤلاء وذكرهم بالله عز وجل، فإن هذا يعود بالخير عليه؛ لأنه يؤجر، وهو من الدعوة إلى الله عز وجل.

    ولكن إذا كان الإنسان يغلب على ظنه أنه إذا زار الفاجر أو العاصي أنه سيتأثر وأنه سيتغير، فإنه قد يجب عليه أن يعوده؛ لأن دعوة الناس إلى الخير وهدايتهم متأكدة، فإذا غلب على الظن أنه يرجى نفعها فالأمر آكد.

    آداب عيادة المريض

    قوله: (تسن عيادة المريض) هذه السنية مطلقة، لا تتحدد بزمان ولا بمكان، والأمر يختلف باختلاف العوائد، ولا يحدد لها زمانٌ لا بالليل ولا بالنهار، فتعود المريض بالليل وتعوده بالنهار، على حسب ما يجري في العادة ويقتضيه العرف، وعلى حسب استعداد المريض لتقبل هذه الزيارة وارتياحه لها وحصول المقصود.

    وإذا عاد المسلم أخاه المسلم، فإنه ينبغي عليه أن يحفظ الحقوق في هذه العيادة، فالسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم والهدي عنه كان أكمل الهدي وأكمل السنة، فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا عاد مريضاً يتوخى أفضل الأمور وأحبها إلى الله عز وجل، وهذا هو المقصود من العيادة.

    ولذلك قرر العلماء كما نبه عليه جمعٌ منهم: الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه النفيس -الزاد- عند كلامه عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادة المريض، أن ذلك الهدي أكمل الهدي وأحسنه وأجمله وأفضله، فكان يندب أصحابه إلى إفساح الأجل للمريض، فإذا عاد الإنسان المريض أفسح له في الأجل.

    ومما يدل على مشروعية ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عاد سعد بن أبي وقاص أفسح له في الأجل، وقال له -لما أخبره سعد أنه مريض وأنه يخشى الموت-: (لعلك أن تعمر فينتفع بك أقوامٌ ويستضر بك آخرون) وكان ما كان، فقد نفع الله به الإسلام بخروجه رضي الله عنه للجهاد في سبيل الله، وكسر الله به شوكة الكافرين، فهذا إفساحٌ في الأجل منه عليه الصلاة والسلام، وهو يشهد لحديث ابن ماجة : (من عاد مريضاً فليفسح له في الأجل).

    وإفساح الأجل فيه حسن ظنٍ بالله، وفيه فألٌ حسن، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن؛ لأن الإنسان إذا أحسن ظنه بالله عز وجل قويت عقيدته وكمل يقينه، وكذلك -أيضاً- حينما تفسح له في الأجل فذلك أدعى إلى أن تطول حياته، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (خيركم من طال عمره وحسن عمله).

    1.   

    أمور ينبغي التذكير بها عند عيادة المريض

    وهناك حقوقٌ لله عز وجل وحقوقٌ للعباد ينبغي الإنسان أن يتوخاها عند قيامه بعيادة المريض، ولا يشق على المريض بطول الجلوس وكثرة الحديث وكثرة السؤال، وإنما ينظر إلى الأرفق والأحسن والأفضل بالنسبة لحال ذلك المريض.

    قال المصنف: [وتذكيره التوبة والوصية].

    فهذا من حقوق الله عز وجل التي ينبغي للمسلم أن يحفظها إذا عاد أخاه المسلم.

    التذكير بالتوبة

    قوله: [وتذكيره التوبة] أي: ينبغي للمسلم إذا عاد أخاه المسلم أن يذكره بالتوبة إلى الله عز وجل، وذلك أن المرض من مقدمة الموت، وقد يكون طريقاً إلى الموت، خاصةً إذا ظهرت أمارات المرض الذي لا يرجى له شفاء، فيذكره بالتوبة إلى الله عز وجل.

    والسبب في ذلك: أن المرضى ربما انشغلوا بالعلاج وأخبار المرض، وما يفعلونه في مواجهة ما يعانونه من مشقة المرض، فينشغلون عما هو أهم وما هو مقصود من نزول المرض، فإن نزول المرض بالعبد إنما هو تخفيف للسيئات ورفعةٌ للدرجات واستكثار للحسنات، فينبغي للمسلم إذا زار أخاه المسلم أن يذكره التوبة والإنابة إلى الله عز وجل، والتحلل من مظالم الناس عامها وخاصها، ويذكره بحقوق الناس.

    وإذا كنت تعلم أنه ظلم إنساناً ذكرته مظلمته، وقلت له: يا فلان، تب إلى الله من أذية فلان، يا فلان، إن لفلانٍ عليك حقاً فتحلل منه، إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من كانت له عند أخيه مظلمة فليتحلله منها قبل ألا يكون دينار ولا درهم) ، فهذا من أساليب الدعوة إلى التوبة من حقوق العباد.

    وأما بالنسبة لحقوق الله جل وعلا فيذكره التوبة من الذنوب كبيرها وصغيرها، وجليلها وحقيرها، ويحسن ظنه بالله عز وجل أنه الغفور الرحيم، وأنه الجواد الكريم، وأنه اللطيف الحليم، ويقوي بهذا الأمر -حسن الظن بالله عز وجل- عزمه على التوبة، فإن الإنسان إذا ذكرته بالتوبة وعطفت -مع تذكيرك بالتوبة- بذكر سعة مغفرة الله وعفوه وحلمه؛ قويت نفسه على التوبة، وقويت نفسه على الرجوع إلى الله؛ لأن المذنب ربما يأتيه الشيطان فيعظم له الذنب، وكلما فكر الإنسان في التوبة جاءه الشيطان من باب إعظام الذنب، فقال له: أنت فعلت وقلت، ولا يمكن لهذا الفعل أو القول أن يغفر، فهو فعل عظيم وقول عظيم، فلا يزال يتعاظم ذنبه على الله حتى يحجب عن التوبة والعياذ بالله!

    وهذا من القنوط من رحمة الله واليأس من روح الله، فلا ينبغي للمسلم ذلك، فعلاج هذه الوساوس التي تكون في صدر الإنسان من الذنوب: أن يحسن ظنه بالله عز وجل، ولذلك وردت الآيات والأحاديث التي ترغب في التوبة، مذيلة بصفات الله التي تدل على سعة رحمته، وسعة حلمه وعفوه وكرمه وجوده، وأنه سبحانه وتعالى لا تضره معصية العاصين ولا تنفعه طاعة المطيعين، فإذا كان الإنسان أثناء بيانه للتوبة، أو دعوته للتوبة يعطف بذكر سعة رحمة الله؛ قويت النفوس على طلب هذه الرحمة، واشتاقت الأرواح إلى رحمة الله جل جلاله، وكان عندها مع هذا الشوق قوة اليقين بالله سبحانه وتعالى.

    ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يندب أمته إلى حسن الظن بالله عز وجل، خاصةً في هذا الموطن العظيم التي تزل فيه القدم بعد ثبوتها.. نسأل الله السلامة والعافية.

    والإنسان إذا تاب إلى الله عز وجل توبةً صادقة تاب الله عليه ولو أتى ربه بقراب الأرض خطايا، فإن الله سبحانه وتعالى إذا تاب العبد توبة نصوحاً تاب عليه، قال تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82] ، نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر:49] ، قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]، وتتلى مثل هذه الآيات التي تقوي اليقين بالله سبحانه وتعالى عند المريض.

    فمن حق الله عز وجل الذي ينبغي عليك إذا عُدت المريض أن تذكره بهذا الحق، والناس قد تساهلوا في هذه الأمور، فكثير منهم عندما يزور أخاه ويجلس عنده، ينهمك في الأحاديث عن فضول الدنيا، وقل أن يذكره بالتوبة والإنابة إلى الله، بل قد تجد من قرابة المريض من يتذمر ويتسخط إذا حدثت المريض بهذه الأمور، وكأنك إذا قلت للإنسان: تُبْ إلى الله، أو إن هذا المرض ينبغي على الإنسان أن يستحضر معه التوبة، وأن ينكسر فيه لله عز وجل؛ إذا قلت له ذلك كأنما جنيت عليه جناية -نسأل الله السلامة والعافية- فهو يظن أنك تسيء الظن به، وأن هذا البلاء نزل به بسبب ذنوبه ومعاصيه، والواقع كذلك؛ فإن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون، وما علينا إلا أن نقوم بالسنة.

    والأفضل للزائر أن يذكر المريض فيما بينه وبين الله بالتوبة، ولا يخاطبه أمام الناس إذا خشي إساءة الظن، فإذا دنوت إلى المريض ومسحت برأسه -إذا كان يحتمل ذلك ويحب ذلك- ثم همست في أذنه بالكلمات الطيبة مما يذكر بالتوبة إلى الله والإنابة إليه، مثل يا فلان! إنا نكثر الذنوب، فتب إلى الله، وهذه الحالة حالة طيبة تقرب الإنسان من الله، والعبد إذا نزل به الضر فإن الله يحب منه أن يقرع بابه: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا [الأنعام:43]، فيكلمه بهذه الكلمات الطيبة، وبهذا النصح الذي يكون بينه وبينه؛ حتى لا يسيء الناس الظن بالزائر ولا يكون مدعاة لسخط قرابة المريض.

    والتوبة من الذنوب مشروعة في كل حال وزمان ومكان، والله جل وعلا أمر عباده أن يتوبوا إليه، ولم يقيد ذلك بحال، لكن العلماء رحمهم الله ذكروا ذلك في مثل هذه المواطن؛ لأن الأمر أدعى، فقد يكون هذا البلاء أو المرض نزل بسبب دعوة مظلوم، أو لربما نزل بسبب أذيته لقريب، ولربما نزل بسبب ضره بالناس، فإذا ذكرته ربما تاب إلى الله عز وجل وغير من حاله، فأصبح المرض نعمةً عليه.

    يقول بعض أهل العلم: إن الإنسان قد يلتبس عليه التفريق بين المرض إذا كان بلاءً، أو رفعة درجة.

    والواقع أن المرض يكون بسبب الذنب، وقد يكون بلاءً يقصد منه رفع الدرجة، فيشكل على الإنسان أن يعرف هل هذا البلاء لرفعة درجة، أم بسبب بذنب.

    قالوا: فينبغي على الإنسان إذا نزل به المرض أو نزل به البلاء أن يعتبر أنه بسبب الذنب؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79]، فالأصل أن الله لا يظلم الناس شيئاً وأن الناس أنفسهم يظلمون، وأن ما نزل من الأسقام والآلام إنما هو بسبب قليل من الذنوب، وإلا لو أخذ الله الإنسان بذنبه لكان الأمر وأشد، كما قال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [فاطر:45]، فالإنسان إذا تفكر في هذا، دعاه ذلك إلى أن يصلح حاله مع الله عز وجل، فإذا تاب وأناب، وأحس أن هذا البلاء نزل بسبب الذنب، فأخذ يستغفر ويسترحم، ويعاهد الله على التوبة والإنابة إليه سبحانه وتعالى؛ فإنه رفعة درجة.

    ولذلك يقولون: قد ينزل البلاء بسبب الذنب؛ فيكون طريقاً إلى الرحمة والفوز بمغفرة الله عز وجل، وصلاح العبد في دنياه وآخرته.

    التذكير بالوصية

    قوله: [وتذكيره التوبة والوصية]:

    أي: تذكر المريض أن يوصي إذا كانت عليه حقوق، والوصية تكون واجبة، وتكون مندوبة مستحبة.

    أما الوصية الواجبة: فإذا كان على الإنسان حقوق، كأن يكون عليه دين، أو يكون لإنسان عليه حق، فعليه أن يكتب هذه الحقوق كاملة لأصحابها، ويأمر بردها لأصحابها، ولا يجوز للإنسان أن يتساهل في هذا.

    وكل إنسان ابتلي بالدين قليلاً كان أو كثيراً فالواجب عليه أحد أمرين:

    إما أن يكتب هذا الدين ويشهد عليه ويعطي الكتاب لصاحب الدين؛ لأمر الله عز وجل بذلك في كتابه المبين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282]، فأمر بكتابة الدين.

    وإما أن يكتب الوصية المشتملة على حقوق الله وحقوق العباد، فإذا كتب الدين في وصيته فقد برئت ذمته إن شاء الله تعالى.

    وإذا كانت عليك حقوق لله، مثل الحج إلى بيته الحرام، إذا كان الإنسان قد قدر على الحج ولكنه قصّر فلم يحج، فعليه أن يكتب أنه لم يحج، وإذا كانت هناك كفارات واجبة عليه كتب أن عليه كفارات من أيمان أو نحو ذلك، ويكتب عددها، وما هو واجبٌ لله عز وجل في هذا، وهكذا بالنسبة لبقية الحقوق المالية لله عز وجل.

    أما الوصية المندوبة، فهي أن توصي لقريب ضعيف، كأن يكون لك ابن عم، أو ابن خال، أو قريبٌ فقير ليس عنده مال، وأنت ستترك لورثتك مالاً، فتأخذ من وصيتك في حدود الثلث فتوصي لأقاربك؛ إذا لم يكونوا من أهل الإرث، أما إذا كانوا وارثين فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، فقال: (لا وصيةَ لوارث).

    وقد أعطى الله الحقوق لأصحابها في الميراث، فإذا كان القريب وارثاً فلا توص له، وإنما توصي للقريب الذي لا يرث، كابن عمٍ محجوب، أو ابن أخت أو ابن خالة أو ابن عمة، وتعلم أنه محتاج فتوصي له، فهذه وصيةٌ مندوبة مستحبة.

    وقد تصدق الله عز وجل على العباد بثلث أموالهم، وذلك هو الحد الذي يوصي الإنسان به، لما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (الثلث والثلثُ كثير) ، حينما كان سعد يريد أن يوصي بكل ماله.

    فالثلث هو الذي يوصي به الإنسان، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (لو أن الناس غضوا من الثلث). يعني: إذا أردت أن توصي فلا تصل إلى الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والثلث كثير) ، وسيأتي إن شاء الله بيان أحكام الوصايا في كتابها وبابها.

    والحاصل أن من حقوق المريض أن تأمره بالتوبة وتأمره بالوصية، وتقول له: يا فلان! إذا كانت عليك حقوق أو ديون فاكتبها، فهذا المرض الذي نزل بك يوجب عليك أن تحتاط لنفسك، وتستبرئ لذمتك، فتكتب ما عليك من الحقوق للعباد ولله.

    وإن كان على الإنسان صيام أيام كتبها، أو نحو ذلك من الحقوق والواجبات التي تقضى عنه بعد موته.

    1.   

    استحباب ولاية أمر المريض لأحب الناس إليه وأصبرهم عليه

    يقول المصنف رحمه الله: [وإذا نُزل به سن تعاهد بلّ حلقه بماءٍ أو شراب].

    قوله: (وإذا نزل به) أي: نزل به الموت، وللموت أمارات وتكون قبل سكرات الموت، ثم تفضي بالإنسان إلى السكرات، ثم تنتهي به إلى الممات، فمن أمارات الموت وعلاماته: أن يكون المرض ميئوساً منه، أو يكون مرضه من الأمراض التي لا يرجى شفاؤها، ولله عز وجل سنن كونية جعلها تدل على ما ينشأ أو يقع، فإذا كان هناك أطباء قرروا أن المرض الذي أصيب به المريض قد ثبت بالتجربة والعادة والاستقراء أنه لا يبقى صاحبه، فهذه من علامات الموت.

    ومن العلامات التي تدل أن الإنسان سينتهي به مرضه -في الغالب- إلى الموت أن يشتد به المرض، أو يحصل له من الحوادث أو الوقائع ما يدل على أنه لا يرجى برؤه ولا يرجى بقاؤه، فهذه كلها من الأمارات التي تسبق الموت وتدل عليه.

    فإذا كان الإنسان قد رأى علامات الموت، أو اطلع الأطباء على أن المرض الذي معه لا يرجى برؤه؛ فينبغي على الإنسان أن يتهيأ، وعلى أقرباء المريض إذا رأوا أن المرض لا يرجى برؤه، فعليهم أن يتركوا أمر المريض إلى أحب الناس إليه وأرفقهم به؛ وذلك لأن هذه الساعات الأخيرة من الدنيا يكثر فيها شكاية المريض، ويكثر فيها توجعه، ويكثرُ تفجعه وتألمه.

    فإذا كان الذي يتولى أمره معروف باللطف والإحسان في المعاملة، فإنه يتسع صدره في تحمل هذه الأمور، ويكون أدعى إلى الرفق بالميت.

    ولذلك نبه العلماء رحمة الله عليهم والسلف الصالح -منهم الإمام الشافعي - على أنه يستحب أن يترك أمر ولاية المريض في آخر حياته إلى أرفق الناس به، وقد يكون أرفق الناس به ابنه، وقد تكون إحدى بناته، وقد تكون إحدى زوجاته، وقد يكون أحد أقاربه من أبناء الأعمام أو أبناء الأخوال، فالشخص الذي يُعرف ارتياح المريض له، وكذلك حبه له وأنسه به، هو الذي يترك له القيام على شأنه.

    ويُتأكد ذلك حينما تكون هناك الأسباب والعواقب الحميدة لهذه الولاية؛ منها: الرفق بالمريض وعدم التضجر والسآمة، بخلاف ما إذا وليه من هو دون ذلك، فإنه ربما يضجر ويسأم، فالمريض في شدة المرض إذا رأى السآمة والملل من الذي يليه وقع بين نارين، لا يدري أيصبر على مرضه فيكتوي بنار المرض، أم يبوح بسره أنه يحتاج إلى أمر فيكتوي بنار المذلة والمهانة والتضجر والسآمة، خاصةً إذا كان عزيزاً كريم النفس، فإنه ربما لو رأى الموت لا يسأل الناس؛ من شدة كرامة نفسه عليه وأنفته.

    فينبغي أن يترك أمر ولاية المريض إلى أرفق الناس به، وألطفهم في معاملته وأحلمهم به، ويجب على المسلم أن يتقي الله في المريض، فإن المريض ممن يرحم ويستحق الرحمة؛ ولذلك لما سُئل أحد الحكماء العقلاء من العرب في الجاهلية: من أحب ولدك إليك، وأكثر عطفك عليه؟ قال: (الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ) فالمريض يحتاج إلى العطف والرحمة والشفقة.

    وينبغي للإنسان مهما رأى من الأذية والضجر أن يتسع صدره، خاصةً إذا كان المريض أحد الوالدين، أو ممن له حق أو فضل كالعالم؛ لأن المريض أثناء المرض تضيق عليه الأرض بما رحبت، بل وتضيق عليه نفسه التي بين جنبيه، ومن شدة وطأة المرض قد لا يستطيع أن يترفق في أسلوبه ولا في كلامه ولا في معاملته، وقد يغلب عليه الجفاء، وقد يكون فظاً في كلامه وحديثه، فينبغي للإنسان أن يتسع صدره.

    أمور تعين من يلي المريض على سعة الصدر

    ومما يوسع الصدر: العلم بسعة ثواب الله جل وعلا، خاصةً إذا كان من الوالدين ومن القرابة؛ فإن الله يعظم أجرك ويجزل ثوابك، فترحمه.

    فاستشعار عظم الثواب عند الله عز وجل، فإنه مهما تضجر المريض منك وآذاك وثقل عليك؛ إذا تذكرت ما لك عند الله من المثوبة، هان عليك كل ما يكون منه، ولذلك كلما تذكر المسلم عظم الثواب هانت عليه مشقة الطاعات وعناؤها وكدرها.

    ومن ذلك أن تنزل نفسك منزلته، فإنك حينما ترى ما هو فيه من الألم والمشقة والعناء؛ فإنه يتسع صدرك لتحمل ما يكون منه، وتقول: لو كنت مكانه لفعلت أشد، ولقلت ما هو أسوأ من هذا.

    ومن الأمور التي تعين على سعة الصدر: أن تذكر حقه عليك إن كان والداً ونحوه، فإن تذكُّر الحقوق يدعو إلى الصبر؛ فتتذكر اليد والنعمة والإحسان حتى تصبر على ما يكون من أذية وامتهان، ومن شأن الكرماء والعقلاء أنهم لا ينسون الفضل. قال الإمام الشافعي رحمه الله: الحر من حفظ وداد لحظة وتعليم لفظة. فلا يزال الإنسان مملوكاً لمن أحسن إليه، وكأنه رقيق يملكه؛ بسبب ما كان منه من إحسان.

    فإذا تذكرت ما للوالد من فضائل، وأنه كلما مرضت داواك وقام عليك، وتحمل مشقتك وعناءك، والأم في ذلك أشد وأكثر، فإنه يهون عليك ما تراه من الأذية والضجر.

    والعلماء رحمهم الله نبهوا على أنه ينبغي أن يلي أمر المريض من هو أرفق وألطف به.

    ثم إذا وليه ينبغي له أن ينتبه لحقوق الله وحقوق العباد التي سبق ذكرها، ويهيئه لما فيه الخير.

    أمور ينبغي الإلمام بها لمن ولي أمر المريض

    من الأمور التي ينبغي على من ولي أمر المريض أن يكون على إلمام بها إذا رأى أمارات الموت:

    أن يذكر سعة رحمة الله عز وجل، فعند قرب الأجل ينبغي دائماً الاستكثار من ذكر الآيات والأحاديث وقصص السلف الصالح التي تقوي يقين الإنسان بالله جل وعلا، وتحسن ظنه بالله سبحانه وتعالى، فيتلو آيات الرحمة وآيات المغفرة، وآيات الجنة وما أعد الله فيها لعباده من رفعة الدرجات والنعيم المقيم والرضوان العظيم، فهذه تُحسن الظن بالله سبحانه وتعالى.

    ورد عن بعض السلف أنه لما حضرته الوفاة، أمر ابنه أن يقرأ عليه الأحاديث التي فيها ذكرُ التوبة، فكان السلف الصالح رحمهم الله يحبون ذكرها عند الموت؛ لأنها تحسن الظن، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قبل أن يموت بثلاث ليال: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل).

    والسبب في هذا: أن الميت إذا نزل به الموت، وكان قد تهيأ له بحسن الظن بالله، أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه؛ والمرء يختم له بما كان عليه من خيرٍ أو شر، فنسأل الله العظيم أن يختم لنا ولكم بخاتمة الحسنى.

    ورئي سلمان الفارسي رحمه الله بعد موته -كما روى أبو نعيم في الحلية- فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: ما وجدت مثل حسن الظن بالله.

    فحسن الظن بالله عز وجل من الفأل الحسن، وهو يقوي يقين الإنسان بالله سبحانه وتعالى، ولما شُكي للنبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان ربما يتفجع ويكره الموت قال: (إنما ذلك العبد الصالح، إذا حضرته الملائكة فبشرته بما عند الله من المثوبة؛ أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، والعبد الفاجر إذا نزل به الموت فبشرته الملائكة بما عند الله من العقوبة؛ كره لقاء الله فكره الله لقاءه) نسأل الله السلامة والعافية.

    وقد ذكر العلماء رحمهم الله -ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى في الجزء الثامن عشر- أن السلف الصالح تسامحوا في بعض الرؤى والقصص والمنامات، بشرط ألا تعارض الأصول الشرعية، وألا تشتمل على محاذير؛ فبعض الرؤى التي تتضمن ما دلت عليه النصوص في الكتاب والسنة من حسن الظن بالله، لا حرج أن يحكيها الإنسان ويخبر عنها ما لم تعارض كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ما عند الله فوق ما فيها من البشارة؛ فإنه مهما كان في نفسك من حسن الظن بالله، فاعلم أن الله فوقه دون أن يخطر لك على بال.

    أثر عن الإمام مالك رحمه الله أنه مرض مرضَ الموت، فأغمي عليه ثلاثة أيام، ولما أفاق في اليوم الرابع -وكان آخر أيامه من الدنيا- قالوا له: كيف أنت يا أبا عبد الله ؟ قال: أرى الموت -أي ما أظن إلا أني ميت- ولكنكم ستعاينون من رحمة الله ما لم يخطر لكم على بال.

    وهذه بشارةٌ عظيمة من هذا الإمام العظيم رحمة الله عليه، ولذلك إذا رأى المؤمن دلائل البشائر، ورأى أمارات السرور من الملائكة التي تتلقاه؛ لو خيّر ساعتها بين الرجوع إلى الدنيا وما عند الله لاختار ما عند الله على أهله وماله وولده والناس كافة.

    فلا شك أن حسن الظن بالله مطلوب، فمن يلي المريض يقوي مثل هذه الأمور في نفسه، ويقص عليه من قصص السلف الصالح وأخبارهم، وكيف كانت خواتمهم؛ فإن ذلك مما يقوي يقينه بالله سبحانه وتعالى؛ ويعينه على ما هو فيه من شدة الموت وسكراته.

    1.   

    استحباب تعاهد بل حلق المريض بماء أو بشراب وبيان العلة في ذلك

    قول المصنف رحمه الله: [سن تعاهد بل حلقه بماء أو شراب]:

    المراد به أن يقوى المريض على قول لا إله إلا الله، وهذا من الرفق بالمريض؛ وذلك أنه إذا خُتِمَ له بهذه الكلمة العظيمة دخل الجنة، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة).

    قال بعض العلماء: أي قالها بقوة إيمانٍ ويقين كامل؛ فإنه سيدخل الجنة. بمعنى: أنه لا يسبقه على ذلك عذاب من الله سبحانه وتعالى، وهذا إذا كمل توحيده، وكَمُل إخلاصه، فإنه يقولها عند الموت بقوة يقين؛ لأنه قد ترك الدنيا وراء ظهره، وأقبل على الآخرة؛ ولذلك تجده في هذه الحالة أصدق ما يكون، ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه لما بلغ هذا المبلغ عند ذكر وصيته قال: في ساعةٍ يؤمن فيها الكافر، ويوقن فيها الفاجر، وذلك بسبب ما يرى الإنسان من إمارات الحق لدار الحق والصدق وهي الآخرة، فإذا قال الإنسان هذه الكلمة خُتِمَ له بخاتمة السعداء، وهذه من علامات حسن الخاتمة.

    علامات حسن الخاتمة

    للخاتمة الحسنة علامات في الأقوال والأفعال، وظواهر الموتى، فمن علامات حسن الخاتمة القولية: قول "لا إله إلا الله"، والموت على ذكر الله جل جلاله، ومن هنا قال العلماء: (من أكثر من شيء في الدنيا فإنه يُختمُ له به)، أي: في الغالب، فإن كان كثير الطاعة لله جل جلاله، كثير الصلاة، كثير الصيام، كثير القربة؛ فإنه يأتيه الموت وهو ساجد بين يدي الله أو راكعٌ أو صائم، أو يأتيه وهو ذاكرٌ تال للقرآن، أو يأتيه وهو على تسبيح أو على استغفار أو تهليلٍ أو تحميد، أو غير ذلك من الطاعات والقربات.

    ومن أكثر من الصلة والبر والإحسان إلى الضعفة والمساكين؛ ربما جاءه الموت وهو خارجٌ في صلةِ رحم، أو بر والدين، أو طاعةٍ لله سبحانه وتعالى على حسب ما استكثر.

    وأما من استكثر من الحرام والفحش، فإن الله عز وجل يختم له بما كان له من غالب حاله، حتى لربما ذُكّر بلا إله إلا الله فامتنع عن قولها، ولربما تكلم بالحرام، ولربما تكلم بالغناء والفُحش والدعارة وهو في آخر لحظاته من الدنيا فيختم له بخاتمة السوء، نسأل الله السلامة والعافية!

    وفي حوادث الناس وأخبارهم ما تشيب له رءوس الولدان مما كان من حسن الخاتمة وسوئها، فالإنسان إذا أكثر من الخير فإن الله يختم له بخير، ومن هنا قال بعض العلماء في قوله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]؛ قالوا: الإنسان لا يملك أن يموت على الإسلام، بمعنى أنه لا يستطيع أن يقطع أن يموت مسلماً، ولكن المراد من الآية وكونوا على الإسلام، حتى إذا جاءكم موت جاءكم وأنتم على طاعة الله جل جلاله وعلى محبته ومرضاته؛ فيُختم للإنسان بالخاتمة الحسنة.

    ومن علامة حُسن الخاتمة التي تكون في الأفعال: أن يموت وهو في صلاة، أو يموت وهو في حج، أو يموت وهو في عمرة، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الرجل الذي وقصته ناقته: (اغسلوه بماءٍ وسدر، وكفنوه في ثوبيه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) .

    فقوله: (إنه يبعث يوم القيامة ملبياً) أي: يبعث على هذه الحالة التي مات عليها من طاعة الله تبارك وتعالى، ولذلك ينبغي للمسلم -كما قلنا- أن يكون على خصال البر حتى يختم الله عز وجل له بالخاتمة الحسنة، ومن هنا شدد العلماء في تعاطي المحرمات التي قد تفضي إلى الموت -كشرب الخمر والعياذ بالله- فإن الإنسان إذا تعاطى مثل هذه المحرمات قد يُختمُ له بها، فقد يموت شارباً للخمر فيهوي في النار لزوال عقله، فيحرق بنار الدنيا قبل نار الآخرة، وقد يكون شارباً للخمر فيتردى من فوق بيته أو من شاهق، أو يطعن نفسه أو ينتحر والعياذ بالله، فهذه من علامة سوء الخاتمة في الأفعال، فكما أن حسن الخاتمة يكون في الأفعال كذلك -أيضاً- سوء الخاتمة يكون بهذه الأفعال.

    ومن علامات حسن الخاتمة: رشح الجبين، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن موت المؤمن يكون بعرق الجبين)، فإنه يرشح جبينه، وتكون على المؤمن الصالح البر التقي علامات الطمأنينة وعلامات الاستبشار، حتى أن بعضهم يموت وهو مبتسم؛ مما يرى عند الله عز وجل من البشائر الحسنة، فتجد ثغره باسماً يتهلل.

    بل إن بعض الأموات من الأخيار والصالحين لا ترى في وجوههم وحشة الموت، ولقد رأيت أحد الفضلاء وقد كان كثير الصدقات، كثير الإحسان، بعيداً عن أذية الناس، كثير الخير للضعفاء والمساكين، رأيته بعد موته فوالله ما رأيت أشرق منه وجهاً تلك الساعة، ولقد كنت أتمنى ألا يحجب وجهه عن رؤيته من لذة ما تراه، فو الله الذي لا إله إلا هو لكأنك تنظر إلى شمسٍ تتهلل من النور والضياء، وكأنه حيّ، لا ترى عليه وحشة الميت؛ وهذا كله بفضل الله عز وجل؛ ثم بما كان من الإنسان من الأعمال الصالحة.

    أثر عن عبد الله بن المبارك رحمه الله أنه لما حضرته الوفاة، لقنوه قول "لا إله إلا الله" ثم نظر إلى السماء فتبسم ثم قال: لمثل هذا فليعمل العاملون.

    وهذا يدل على أنه رأى خيراً من الله سبحانه وتعالى، وهي بشارةٌ حسنة، وكم في قصص الأخيار والصالحين من حسن الختام، والبشائر التي تدل على لطف الله عز وجل بأوليائه وأحبابه!

    ولا شك أن الإنسان إذا عمل العمل الصالح، فإنه ينتظر من الله أن يرحمه ولا يعذبه، وينتظر من الله عز وجل أن يعزه ولا يذله، وأن يكرمه ولا يهينه، وألا يخزيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، فمن عاجل ما أعد الله للأخيار الصالحين: أن الله لا يخزيهم في الدنيا ولا يخزيهم في الآخرة؛ ولذلك تكون خاتمتهم على أحسن ما تكون عليه الخواتم، وترى من ثناء الناس ودعائهم وتفطر القلوب على فراقهم، ما يشهد بالقبول من الله جل وعلا، فإن الله إذا وضع القبول للعبد في السماء وضعه له في الأرض.

    قوله: [تعاهد بل حلقه بماء أو شراب] أي: حتى يسهل عليه النطق بهذه الكلمة، وحتى يكون آخر ما يقول "لا إله إلا الله"، وإذا قال: "لا إله إلا الله" (مرة) سكت عنه حتى لا يضجر، فإن تكلم بعدها بكلام من الدنيا أعيدت عليه بعد فراغه من كلام الدنيا وقضاء حاجته.

    وفي تلقين الأموات أحوال: فبعضهم قد تخاف منه السآمة والضجر، وبضعهم لا تخشى منه شيئاً، بل إن بعضهم يفرح حين يجد من يلقنه التهليل ويستبشر، وتجد عليه الأنس والسرور، فهذا لا إشكال فيه.

    أما إذا كنت تخشى منه الضجر أو تخشى منه السآمة فعليك أن تلقنه بطريق غير مباشر، كأن تذكر شيئاً من عظمة الله عز وجل، ثم تقول: لا إله إلا الله، أو تقولها بلسان خاشع وقلب خاشع إذا رأيت منه الغفلة؛ فإن هذا يدعوه إلى التأسي بك والاقتداء بك، فإن ذكر الله يحث على ذكره سبحانه وتعالى، ويشوق إلى ذكر هذه الكلمة الطيبة.

    يتعاهد بل حلقه بالماء أو بالشراب إذا كان هناك عصير ونحو ذلك مما يعين على سهولة نطقه وحديثه.

    وكذلك بل الحلق بالماء فيه فائدة ثانية، وهي أنه ربما يحتاج المريض إلى شيء، فإذا احتاج إلى هذا الشيء لا يستطيع أن يتكلم وحلقه جاف، وفي جفاف الحلق عسر عليه وأذية ومرض، فمن اللطف والرحمة به أن يبله، وهذا يدخل في عمومات الشريعة التي تدل على الرحمة والإحسان.

    يقول المصنف رحمه الله: [ وندي شفتيه بقطنةٍ ].

    قوله: [ويندي شفتيه بقطنة] كل ذلك من أجل أن يسهل عليه الكلام والحديث، وهو أيضاً أرفق؛ لأنه إذا اخشوشن حلقه ربما تضرر، وحصلت له المشقة إذا طلب شيئاً أو سأله، وربما تعذر عليه أن يتكلم بما يحتاج.

    قال المصنف: [وتلقينه "لا إله إلا الله" (مرةً) ولا يزد على ثلاث، إلا أن يتكلم بعده فيعيد تلقينه برفقٍ ].

    هذه من علامات حسن الخاتمة، وقد تقدم الحديث عليها، ومنها أن يختم للإنسان بقول "لا إله إلا لله"، ومن قال: "لا إله إلا الله" في آخر حاله من الدنيا؛ فإن الله عز وجل يحجبه عن النار على أحد الأقوال.

    وقال بعض العلماء: قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) أي: أنه إذا كان عاصياً أو عنده كبائر ذنوب وأراد الله أن يعذبه، فإن الله لا يخلده في النار، وأن أمره سينتهي به إلى الجنة.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يجعل أسعد اللحظات وأعزها لحظة الوقوف بين يديه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

    1.   

    الأسئلة

    تكرار عيادة المريض

    السؤال: هل من السنة تكرار عيادة المريض، خاصةً إذا طال مرضه أثابكم الله؟

    الجواب: لا يخلو تكرار عيادة المريض من أحوال:

    الحالة الأولى: أن يكون المريض محتاجاً إلى هذا التكرار فلا إشكال في مشروعيته، وقد يتأكد، وقد يجب وذلك إذا كان المريض شديد القرابة كالوالدين والأبناء والبنات والإخوان والأخوات، فهؤلاء جرت العادة أن الإنسان يعودهم، بل قد تجري العادة في بعض الأحيان ألا يفارقهم إلا عند الحاجة والضرورة؛ فلذلك يتأكد على الإنسان أن يكرر عيادتهم ويتفقد أحوالهم.

    الحالة الثانية: أن تكون تكرار عيادة المريض موجبة للسآمة والملل والضجر، فهذا ينبغي للإنسان أن يتقيه، وفيه مضرة وأذية للمريض، وأذية لأهل المريض، بل ينبغي على الإنسان أن يخفف عنهم، حتى في حال الزيارة لا يطيل القعود، ولا يطيل المكث، إلا إذا كان المريض يرتاح لذلك، وغلب على ظنك أنه يأنس بك، وأما إذا كان إنساناً ثقيلاً فإنه ينبغي عدم الإطالة، وإذا رأيت من المريض السآمة والملل، فإنه يشرع لك أن تقيم هذا العائد بأسلوب ليس فيه طرداً له، خاصةً إذا رأيت تعب المريض وضجره، فإن بعض الناس يمل ويثقل ويؤذي، وربما يدخل في العيادة بعض المشاكل أو بعض الفتن التي تقع بين القرابات أو تسبب خصومة، فمثل هذا يرى بعض العلماء أنه يشرع حجبه إذا كان في تكراره ما يوجب ذلك، أو يحصل به هذا المكروه؛ فإن درء المفاسد مطلوب، وما يتوقف عليه درء المفاسد يعتبر لازماً؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فدرء المفاسد واجب، وما لا يتم تحقيق هذا الواجب إلا به فهو واجب.

    أما الحالة الثالثة: فهي أن يطول العهد بينك وبين المريض، أو تريد أن تطمئن عليه فلا ترتاح نفسك، كحبك وصديقك، فتريد أن تتفقد حاله؛ لأنك لا ترتاح حتى تراه وتطمئن عليه، فهذا تؤجر عليه، وهو -إن شاء الله- يعتبر من الإحسان الذي نُدب إليه، والله تعالى أعلم.

    قياس أجر زيارة المريض بصاحب الهم والمصيبة

    السؤال: هل تقاس زيارة المهموم وذي المصيبة على زيارة المريض من حيث ثواب الزيارة والعيادة أثابكم الله؟

    الجواب: أما الثواب فهو أمرٌ غيبي لا يعلمه إلا الله علاّم الغيوب، ليس هناك نص معين يدل على مقدار ما للإنسان إذا واسى مصاباً أو عزى من له ميت، فهذا مما يسكت عنه ويوكل الأمر إلى الله جل جلاله، فقد يكون ثوابه أكثر من عيادة المريض، وقد يكون مساوياً له، وقد يكون أقل، فعلم ذلك إلى الله جل وعلا، وهذه الأمور يسميها العلماء بالأمور التوقيفية، ويسمونها بالسمعيات؛ لأنه يتوقف فيها، ولا يتكلم المفتي فيها إلا بحدود النصوص، وليس في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على تحديد مقدار الأجر في ذلك، هل هو أكثر من العيادة أو مثلها أو دونها، ولذلك يتوقف في هذا الأمر، والظن بالله حسن.. والله تعالى أعلم.

    نبش القبر إذا قبر الميت دون غسل

    السؤال: هل ينبش قبر الميت ويغسل إذا قبر قبل غسله؟

    الجواب: نعم، هذه من الأحوال التي تبيح نبش القبور، إذا أُمن التغير ودفن قبل أن يغسل أو قبل أن يكفن، فإنه في هذه الحالة يطلب نبش القبر وتغسيله وتكفينه والقيام بحقه، والسبب في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالقيام بحق الميت من تغسيلٍ وتكفين، فقال -كما في الصحيحين من حديث ابن عباس - في الذي وقصته دابته: (اغسلوه بماءٍ وسدر -هذا أمر، والأمر للوجوب- وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنطوه، ولا تمسوه بطيب، ولا تخمّروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) فأمر صلوات الله وسلامه عليه بهذه الأوامر، ونهى عن هذه النواهي، وهذا يدل على اللزوم والوجوب.

    وكذلك قال في ابنته : (اغسلنها بماءٍ وسدر) (اغسلنها): أمر، فذلك في الرجال وهذا في النساء، فهذا يدل على وجوب القيام بتغسيل الميت وتكفينه ورعاية حقه، فإذا قبر الميت قبل أن يغسل، أو قبل أن يكفن فإنه يشرع نبش القبر وتغسيله وتكفينه.

    وهكذا إذا غسله ولم يتم تغسيله على الوجه الذي يحصل به القيام بالواجب، كأن يكون ترك عضواً من أعضائه ، فحينئذ ينبش ثم يغسل مرة ثانية ويكفن وهكذا إذا قُبر عارياً بدون كفن، فإنه يشرع أن ينبش ثم يكفن ويقام بحقه على الوجه المعتبر.. والله تعالى أعلم.

    حكم كشف وجه الميت في القبر

    السؤال: هل يصح كشف وجه الميت في القبر أثابكم الله؟

    الجواب: هذا ذكره العلماء في الكشف عن وجه الميت، قالوا: لأن التكفين إنما هو للجسد، ويكشف بمكان الحساب، ولا أحفظ في ذلك نصاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجرى به عمل الناس، ولكن لا يحكم ببطلانه إلا بدليل، خاصةً وأن بعض العلماء -رحمة الله عليهم- أشاروا إليه، وقالوا: إنه تحل عن الميت الأربطة، ويكون حل الأربطة في القبر لمكان الإقعاد، وفي الصحيح (يأتيان ملكان فيقعدانه) قالوا: فتحل الأربطة ويكشف عن الوجه؛ وذلك لمكان السؤال والحساب.. والله تعالى أعلم.

    حكم صلاة الجنازة على المحدود في حد من حدود الله عز وجل

    السؤال: ما حكم صلاة الميت على المقتول حداً، أو كان مقتولاً بحد الحرابة أثابكم الله؟

    الجواب: الميت المسلم إذا قتل بحد، كأن يكون زانياً محصناً، ثم رجم حتى مات، أو قتل عمداً وعدواناً، ثم اقتص منه فقتل، أو قتل حرابةً؛ فإنه يشرع تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، ويُصلى عليه ويدعى له ويستغفر له ويترحم عليه؛ لأنه من المسلمين، وهو أحق بالاستغفار والترحم؛ لمكان حاجته إلى توبة الله عز وجل عليه، وإن كان قيام الحدود بالمذنبين كفارةٌ لهم في الدنيا، وكفارةٌ لهم في الآخرة، ولكن كونه على جرم أو كونه على فسق؛ أدعى أن يستغفر له الإنسان وأن يترحم عليه، وهكذا إذا كان مبتلى بالمسكرات والمخدرات يشرع أن يصلى عليه، وأن يعزى أهله، وليس هناك دليل يخرجه من الإسلام حتى يحكم بمعاملته معاملة الكافر.

    فبعض من الناس -أصلحهم الله- يغلو، فتجده لا يعزي أهل الميت إذا مات في شرب خمر، أو مات في معصية من كبائر الذنوب، وهذا خطأ! فإن المسلم العاصي إذا لم تبلغ معصيته به إلى الكفر يشرع معاملته معاملة المسلم المطيع.

    ولكن الذي ذكره العلماء رحمة الله عليهم: أنه لا يصلي الإمام العام ومن له تقدم كأهل الفضل، على أهل المعصية؛ زجراً للناس أن يفعلوا فعلهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على ماعز .

    والصحيح: أنه يشرع أن يصلى عليه، وخاصةً إذا اعترف بذنبه وأقر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له عمر : (أتصلي عليها وقد فعلت ما فعلت -المرأة التي زنت-؟! قال: والذي نفسي بيده! لقد تابت توبةً لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم) وأثنى عليها عليه الصلاة والسلام، لأنها تابت وأقرت.

    قالوا: كما أنها تابت وأقرت، كذلك من أقيم عليه الحد، فإنه في حكم ذلك، وهذا هو الصحيح، فإذا أقر بذنبه وأقيم عليه الحد شرع أن يصلي عليه حتى الإمام الراتب؛ لأنه تاب وخرج من ذنبه، فبقي على الأصل العام، بل إنه إذا صلى عليه الإمام الراتب، دعا أن يسلكوا مسلكه ليتوبوا إلى الله وينيبوا من ذنوبهم.

    أما لو أقيم عليه الحد بدون إقرار منه، فبعض العلماء يقول: إنه لا يصلي عليه الإمام الراتب، زجراً للناس، فإن كان هذا المعنى -وهو الزجر- يتحقق، قد يشرع له على هذا القول، أما إذا كان لا يتحقق فإنه لا مانع أن الإمام يصلي عليه؛ لأنه يفوت على نفسه فضيلة القراءة في الصلاة عليه والاستغفار له والترحم عليه.

    ولذلك يشرع أن يصلى على أموات المسلمين عموماً، وأن يقام بحقوقهم، وأن يدعى لهم، ويستغفر لهم، وكونهم أذنبوا فيما بينهم وبين الله لا يمنع أن نقوم بحقهم من الدعاء والاستغفار لهم؛ ولذلك قالوا عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: إنه كان يغبط الحجاج على أمرين -وكان الحجاج كثير المعصية لله عز وجل بما كان منه عمل- فكان عمر بن عبد العزيز يغبطه على أمرين:

    الأمر الأول: أنه كان يعتني بكتاب الله عز وجل، وكانت عنايته بالكتاب عجيبة.

    وأما الأمر الثاني الذي غبطه عليه: أنه قال قبل أن يموت: اللهم اغفر لي؛ فإنهم يزعمون أنك لا تغفر لي. أي: إن مغفرتك وحلمك وعفوك أوسع من هؤلاء، وإني أسألك -مع أنهم يقولون إنك لا تغفر لي- أن تغفر لي، فإن يقيني بك أنك ستغفر لي. فغبطه على هذه الكلمة، حتى إن الحسن البصري رجا له الخير حينما سمع عنه أنه قال هذه الكلمة.

    فالعصاة والمذنبون ربما يكون بينهم وبين الله عز وجل توبة، وقد يكون بينهم وبين الله عز وجل عمل، فيغفر الله لهم ما كان منهم.

    وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المخطئين والمذنبين من الأئمة: (فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم -أي: عملكم الصالح- وعليهم -أي: خطؤهم عليهم-) فهذا مذنب وذنبه عليه، ولكن كونك أنت مسلم تحس بما بينك وبينه من حقوق، فلا يمنع أن تترحم عليه، وتستغفر له وتدعو له بالخير، ولعل الله عز وجل أن يرحمه بشفاعتك، فيكون هذا من الخير لك في دينك ودنياك وآخرتك؛ فإن الله عز وجل يرحم من عباده الرحماء، فيستغفر لهم ويترحم لهم، ويُذكرون بما كان منهم من صالح الأعمال، ويكف عن سيئاتهم.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756456313