إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن نصابنا في هذا اليوم بداية باب صلاة التطوع، وعندنا فيه أربعة أحاديث:
والتطوع مأخوذ من الطوع، وهو نقيض الكره، كما قال الله عز وجل: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا [آل عمران:83]، نقول: جاء فلان طائعاً، أي: مختاراً غير مكره، وهو مأخوذ من الطاعة؛ لأن الإنسان الذي يأتي بالتطوع، يأتي غير ملزم بذلك.
فصلوات التطوع ليس فيها إلزام وإيجاب وحتم، وإنما هي مأمور بها على سبيل الندب والاستحباب، لا على سبيل الحتم والإيجاب، فهذا جانب من جوانب الدلالة اللغوية في معنى كلمة: (تطوع).
الجانب الثاني: أن العرب تقول: فلان طوعت له نفسه كذا، يعني: توقته له وسهلته له، كما في قوله تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ [المائدة:30] في قصة ابني آدم التي ذكرها الله تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ [المائدة:30]، وقد تكلم أهل اللغة في معنى هذا الحرف: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ [المائدة:30].
وخلاصة ما قاله جماعة منهم: أن المعنى رخصت له هذا الأمر، وسهلته له، ويسرت أسبابه، فهو مأخوذ من الطواعية والله تعالى أعلم، حتى هذا المعنى مأخوذ من الطاعة والطواعية، كأن النفس جعلت هذا الإنسان مطيعاً لها، منقاداً فيما أمرته به من قتله، وسهلت له منه.
وقد يؤخذ من هذا الاشتقاق أيضاً معنى آخر: وهو أن التطوع سهل ميسر، وما ذلك إلا لأنه إن شق على الإنسان، فإنه يتركه ولا شيء عليه فيه، بخلاف الفرض، فإنه حتم على الإنسان أن يفعله، ولو شق عليه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة : ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك )، وفي لفظ: ( لفرضت عليهم السواك ).
والْمُطَّوِّعُ: بضم الميم، وفتح الطاء المشددة، والواو المشددة أيضاً المكسورة، المطوِّع: هو المتطوع، ولكن التاء أدغمت في الطاء، قال الله تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:79].
فالمطوع أو المتطوع: هو في الأصل الذي يفعل الشيء تبرعاً من نفسه، من غير إلزام، كما في الآية الكريمة في قوله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158]، وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا يعني: فعل الخير تطوعاً، من الحج أو العمرة أو غيرهما، وكما في قوله تعالى في آية أخرى من سورة البقرة، من يذكرها فيها لفظ: (تطوع) فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:184]، حتى قال بعض المفسرين: (من تطوع خيراً) يعني: أطعم أكثر من مسكين أو تصدق بأكثر مما يجب عليه.
فالمقصود (بتطوع الخير) يعني: فعل الخير على سبيل الاستحباب والندب لا على سبيل الإيجاب والحتم.
فأما قولنا: (فعل الطاعة) فإنه يدخل فيه الطاعة المشروعة، فإنها لا تكون طاعة إلا إذا شرعها الله تعالى في كتابه، أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الطاعة هي ما جاء بها شرع من قرآن أو سنة، فيخرج في ذلك ما ليس بمشروع، مثل: أن يبتدع الإنسان عبادة من عند نفسه صلاة، أو نسكاً.. أو غير ذلك من عند نفسه، لم يأذن به الله عز وجل، فهذا لا يسمى طاعة، ولا يتقرب به إلى الله تعالى، فإنه لا يتقرب إلى الله تعالى إلا بالعمل الصالح، الذي أريد به وجهه، فهذا معنى قولنا: (فعل الطاعة).
وقولنا: (من غير وجوب) أو فعل الطاعة غير الواجبة، أخرجنا بذلك الطاعة الواجبة، كالفرائض مثلاً، من فرائض الصلاة والصيام والحج ..وغيرها، فإن هذا لا يسمى تطوعاً، بل هو فريضة وواجب، وأدخلنا فيه الطاعات الأخرى، أو الأُخر التي أمر بها الشارع أو نقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله، سواء داوم عليها، أو فعلها حيناً وتركها حيناً، ولم يأتِ دليل على وجوبها.
فلا بد من التوقيف في العبادة، التوقيف في زمان العبادة، فليس لأحد حق أن يعتقد أفضلية زمان معين لعبادة ما، إلا بنص عن الشارع، فهو الذي جعل هذا وقت كراهة .. وهذا وقت فضيلة ..وهذا فريضة ..وما أشبه ذلك: والله تعالى يخلق ما يشاء ويختار .
إذاً: العبادة لابد فيها من التوقيف بزمانها، فليس لأحد حق أن يختار زماناً لعبادة معينة، أو يمتنع في زمان ما عن عبادة أخرى، على اعتقاد أن هذا مشروع، أو ذاك ممنوع، وإنما الشرع والمنع هو إلى الله تعالى، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومبناها على التوقيف في مكانها، فليس لأحد من البشر حق في أن يعتقد أفضلية مكان ما لعبادة معينة، أن يوقعها فيه، إلا أن يكون الشرع ورد بذلك؛ ولهذا جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى )، يعني: ليس لأحد حق أن يسافر إلى بقعة معينة بقصد التعبد بها، إلا هذه البقاع التي أذن الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم .
إذاً: فاختيار بقعة ما لاعتقاد أفضليتها عن سواها، دون أن يكون في ذلك توقيف عن الشارع، هو نوع من التشريع الذي لا يجوز للإنسان.
كما أن العبادة مبناها على التوقيف أيضاً في صفتها، فليس لأحد حق أن يبتكر عبادة على صفة معينة وهيئة معينة لم يأتِ بها الشرع .
والعبادة مبناها على التوقيف أيضاً في سببها، فإن أسباب العبادات هي من الشرع، فصلاة الفريضة تجب بدخول الوقت مثلاً هذا سبب شرعي، وليس لأحد أن يخترع سبباً من عند نفسه، فلو أن إنساناً اخترع صلاة بمناسبة ليلة الإسراء والمعراج، فهل هذا السبب مشروع؟ كلا، ولا يجوز.
ولو أن آخر اخترع صلاة بمناسبة الانتهاء والفراغ من الطعام، فكلما فرغ من غدائه رأى أن من المشروع له أو من المستحب له أن يصلي ركعتين، فهل هذا السبب مشروع؟ كلا .
و العبادة مبناها على التوقيف أيضاً في جنسها، فليس لأحد حق أن يخترع جنس عبادة لم يأذن بها الله تعالى مثلاً: قد تجد في الديانات الأخرى كما عند البراهمة والهندوك وغيرهم ألواناً من العبادات، فيها إيذاء للبدن ومشقة، حتى إن منهم من يحفر لجسده ويدفنه في التراب، ويعذبه بألوان التعذيب، ويرى أن الروح تنعطف وترق وتشرق إذا عذب الإنسان جسده، فهل هذا اللون من العبادة مشروع في ديننا؟ كلا، جنس العبادة هذه غير مشروع، ومثله: لو أن الإنسان تقرب إلى الله تعالى في الهدي والأضحية مثلاً ببعض ما لم يشرعه الله تعالى من ألوان الحيوانات والطيور وغيرها، فهل هذه العبادة مشروعة، ويتقرب بها إلى الله؟ كلا، فلا بد إذاً أن تكون العبادة توقيفية منقولة عن الشرع في ذلك كله، هذا فيما يتعلق بقولنا: (فعل الطاعة).
القسم الأول: يسمونها: السنن، وهي التي واظب عليها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتركها.
ومنها: السنن والرواتب والوتر أيضاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدع ذلك في حال إقامته.
النوع الثاني: يسمونها: المستحبات، وهي التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يواظب عليها، بل كان يتركها حيناً ويفعلها حيناً، مثل: صلاة الضحى، فإنها على هذا تسمى من المستحبات.
النوع الثالث: يسمونها: التطوعات، وهذه التطوعات لم يرد فيها نقل بخصوصها عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل يفعلها الإنسان ابتداءً، وبعضهم قد يسمي هذه النوافل المطلقة مثل: الزيادة على إحدى عشرة ركعة في صلاة الليل، أيضاً السنة قبل صلاة العشاء.
وأما ما بين الأذانين هذا ما ورد فيه حديث: ( بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة )، والحديث الآخر: ( صلوا قبل المغرب .. صلوا قبل المغرب، ثم قال في الثالثة: لمن شاء).
المهم لو أن إنساناً تطوع بما شاء الله له في غير وقت النهي، وجد في نفسه نشاطاً، فصلى ركعتين أو أربع ركعات.. أو غير ذلك، فهذا من التطوع المأذون به، إنما يمنع في وقت النهي فحسب، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في الليل والنهار صلوات كثيرات، فريضة وتطوعاً، كم تتوقع تقريباً عدد الركعات التي كان يصليها النبي صلى الله عليه وسلم في يومه وليلته، ما بين فريضة ونافلة قريباً من أربعين ركعة ما بين فريضة ونافلة، منها: صلاة الظهر أربعاً والعصر أربعاً، هذه ثمان، والمغرب ثلاثاً، هذه إحدى عشرة، والعشاء أربعاً هذه خمس عشرة، والفجر ركعتين، هذه سبع عشرة ركعة من الفرائض.
ثم عندك السنن الرواتب: كم كان يصلي من السنن عليه الصلاة والسلام؟
يصلي ثنتي عشرة ركعة، هذه تسع وعشرون ركعة، ثم كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، هذه أربعون ركعة، هذا فضلاً عن صلاة الضحى، فضلاً عن غيرها من السنن التي يؤديها عليه الصلاة والسلام في مسجده، أو في بيته، أو إذا قدم من سفر ..أو ما أشبه ذلك، المهم أنه كان يحافظ على هذه الأربعين في يومه وليلته.
ومنهم: من يحد الرواتب بعشر، كما في حديث عبد الله بن عمر، وسوف يأتي من يحدها باثنتي عشرة ركعة، كما يدل عليه حديث عائشة رضي الله عنها، وحديث أم حبيبة .. وغيرهما، وهو قول جماهير أهل العلم، وعليه العمل عند أكثرهم.
ومنهم: من يزيد في ذلك، ويقدر بأشياء لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل قد يعتمد فيها على أحاديث ضعيفة، وربما كانت أحاديث باطلة، كمن يروي الأحاديث في الصلاة بين المغرب والعشاء، والإطالة في ذلك، وكمن يروي الأحاديث في إحياء ليلة العيد، ( وأن من أحياها لم يمت قلبه يوم تموت القلوب )، وهذا الحديث لا يصح، بل هو حديث موضوع.
بل وأكثر من ذلك ما تجده في بعض كتب الرقائق، ككتاب قوت القلوب لـأبي طالب المكي، وكما في كتاب الإمام أبي حامد الغزالي والشيخ عبد القادر وغيرهم، فإنهم يذكرون ألواناً من الصلوات الأسبوعية والحولية والشهرية، ويذكرون الصلاة الألفية، التي تؤدى في أول شهر رجب، أو في النصف من شهر شعبان.. وغير ذلك مما لم يرد له أصل في الشرع.
فبعض هؤلاء تلقوا هذه الأشياء، وظنوها من الشرع، وأنه جاء بها دليل فصاروا يصلونها، وهم بلا شك مخطئون في هذا الاعتقاد، وإن كانوا قد يكونون مأجورين بما قام بقلوبهم من الطاعة لله ورسوله، ومن التعبد، ومن الابتهال، ولكن لا شك أنهم مخطئون في اعتقاد مشروعية مثل هذه الأشياء.
أما من علم أنها ليست مشروعة وصلاها، فلا شك أنه غير مأجور، بل يخشى عليه من الإثم، ولا يقدمها على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد في قلبه إيمان، بل الأولى بالعبد أن يقتصر على ما وردت به السنة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله، كما في قوله: ( بين كل أذانين صلاة )، ( صلوا قبل المغرب )، ( من صلى في يومه وليلته ثنتي عشرة ركعة ) .. وما أشبه ذلك، أو من فِعله صلى الله عليه وسلم، كما كان عليه الصلاة والسلام يصلي قبل الظهر أربعاً، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب وبعد العشاء وقبل الفجر، ويصلي من الليل إحدى عشرة ركعة .. إلى غير ذلك: ( وصلى في بيت
فمن اقتصر على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله أو فعله، فإن ذلك فيه خير كثير وغنية وكفاية.
فكأن هذا هو تعليل لما سبق من أمره بالقيام والصلاة، وطول الوقوف بين يدي الله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:5]، فلا يصبر على الدعوة وجهادها ولأوائها وتعبها ونصبها إلا من تزود بذلك، بأن يصف قدميه بين يدي الله تعالى، ويعفر جبهته في التراب، ويسأل الله تعالى ويرجوه ويستعينه على ما يواجه في حياته: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].
وهي أيضاً أسباب للفوز برضوان الله تعالى وجنته، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6].
قال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14-15]، قال بعض المفسرين: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى يعني: أخرج زكاة الفطر، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى صلاة العيد، وهذا يصلح فيه ما قاله غير واحد: أنه من التفسير بالمثال، فهو تفسير للآية بمثال من أمثلتها: فإن زكاة الفطر نموذج فقط من الزكاة المفروضة، وصلاة العيد نموذج فقط للصلاة المشروعة، وإلا فكل زكاة داخلة في قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى:14]، سواء كان زكاة المال المفروضة أو الصدقة المستحبة، أو كانت تزكية النفس بالأعمال الصالحة أيضاً .. وغير ذلك.
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:15] صلّى لله الفريضة فهي أول ما يدخل في ذلك، وصلى لله تعالى ما شاء الله له من الرواتب والسنن والمستحبات وسائر التطوعات.
فالصلاة إذاً هي عنوان الفلاح، وسره ورمزه، وعلى العبد أن يحرص ألا يقصر في صلاة الفريضة؛ بالإقبال عليها، والمبادرة إليها، والحرص ما أمكن، وألا يقصر في السنن الرواتب، فإنه لا أقل منها، مع ما شاء الله له من قيام الليل، ولو أن يصلي ثلاث ركعات من الليل.
فأولها: حديث ربيعة بن مالك الأسلمي رضي الله عنه قال: ( قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: سل، قلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود )، والحديث رواه مسلم كما ذكر المصنف، نعم.
إذاً: ربيعة بن كعب هو نفسه ربيعة بن مالك، وقد استدرك عليّ هذا أحد الإخوة، حيث ذكرت ربيعة بن مالك في محاضرة (الحيل النفسية)، وكنت اعتمدت في نقلي آنذاك على بلوغ المرام؛ لأنه لم يكن معي صحيح مسلم وهو هو، فـربيعة بن مالك هو ربيعة بن كعب، وقد قال رضي الله عنه في صحيح مسلم قال: ( كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآتيه بوضوئه وحاجته، فقال لي: سل )، هكذا في صحيح مسلم .
والحديث أيضاً أخرجه أبو عوانة في مسنده المستخرج على صحيح مسلم، أخرجه أيضاً في كتاب الصلاة، في فصل السجود والحث عليه أيضاً، وذكر فيه قصته، قال رضي الله عنه: ( أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوئه وحاجته، فكان يقوم من الليل فيقول: سبحان ربي وبحمده، سبحان ربي وبحمده، الهوي من الليل ) يعني: وقتاً طويلاً وهو يقول هذا، ثم يقول صلى الله عليه وسلم: ( سبحان رب العالمين، سبحان رب العالمين )، انتهى الحديث.
ثم ساق أبو عوانة رحمه الله حديثاً آخر بالإسناد عنه رضي الله عنه، وفيه ذكر هذه القصة: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: سل، قال: يا رسول الله! أسألك مرافقتك في الجنة، قال أَوَ غير ذلك؟ قال: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود ).
ربيعة بن كعب بن مالك الأسلمي
رضي الله عنه، فإنه إن شاء الله تعالى من أهل الجنة، كما هو ظاهر هذه الرواية، ومن فضيلته أيضاً: أنه آثر الآخرة على الدنيا. ومن فوائد الحديث: فضيلة الدعاء ونأخذ هذه الفائدة أن هذا الرجل: هل كان يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم مرافقته في الجنة أو يسأل الله تعالى؟ الجنة تسأل من الرسول أو من الله؟ من الله تعالى، إذاً: هو ماذا يطلب من الرسول؟ أن يدعو له أو يشفع له عند الله تعالى، والشفاعة هي نفسها أيضاً دعاء، ففي ذلك دليل على فضيلة الدعاء. وفيه فائدة أيضاً: لغوية وشرعية أنه قد يطلق الجزء ويقصد الكل، فأطلق السجود على لفظ الصلاة. وفيه دليل على مشروعية النوافل مطلقاً؛ لأنه لم يحددها بشيء: (حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: ( حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الصبح )، والحديث متفق عليه، وفي رواية لهما للبخاري ومسلم : ( وركعتين بعد الجمعة في بيته ).
ورواه مسلم، في كتاب صلاة المسافرين، باب فضل السنن الراتبة.
ورواه أيضاً الترمذي وأبو داود والنسائي في سننهم، ومالك في الموطأ، وأحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه .. وغيرهم.
منها: بيان عدد السنن الراتبة، وأنها خمس تسليمات (عشر ركعات)، كما ذكرها في حديث ابن عمر، وسوف يأتي زيادة عليها.
الفائدة الثانية: بيان مواضع هذه السنن، وأنها كما ذكر: ركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر.
الفائدة الثالثة: أن السنة في أداء التطوع أن يكون في البيت؛ لقوله: ( وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين بعد الجمعة في بيته )، فإن السنة في الصلوات، أن تكون في البيوت إلا الفريضة؛ ولهذا جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة )، وقال عليه الصلاة والسلام: ( صلوا في بيوتكم )، وقال: ( اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ).
في أحاديث كثيرة تدل على أن الأفضل فيما عدا الفريضة أن تصلى في البيوت؛ وذلك لفوائد:
منها: أنه أبعد عن الرياء، وأقرب إلى الخشوع.
ومنها: أن فيه تعويداً لأهل البيت من النساء والصغار على الصلاة، وعلى القيام، وعلى هيئة الصلاة.
ومنها: أن في ذلك طرداً للشياطين عن المنازل.
ومن فوائد الحديث: فضيلة المحافظة على السنن الرواتب؛ لأنه حفظها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يدل على أنه كان عليه الصلاة والسلام لا يدعها، بل يحافظ عليها ما دام مقيماً غير مسافر.
وأخذ بعض أهل العلم من الحديث أن الرواتب الليلية، هي التي يشرع أداؤها في البيوت، في قوله: ( وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته )، فقالوا: هذا دليل على أن الرواتب التي تصلى في البيوت هي السنن الليلية، ولكن يشكل على هذا قوله: ( وركعتين بعد الجمعة في بيته )، والأحاديث الأخرى التي سقناها مما يدل على أن كل الرواتب السنة فعلها في المنزل.
ومن فوائد الحديث أيضاً: مشروعية صلاة ركعتين بعد الجمعة، وأن حقها أن تكون في المنزل.
وفي الحديث فوائد أخرى غير هذه.
قال: ولـمسلم : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين ).
وظاهر صنيع المصنف أن الحديث من رواية من؟ من صحابيه؟
عبد الله بن عمر، وليس الأمر كذلك، وإن كان هذا الحديث من رواية ابن عمر، فإنه إنما رواه رضي الله عنه عن حفصة أخته، أم المؤمنين زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنها وعن ابن عمر، فهذا الحديث هو من رواية ابن عمر عن حفصة، قال ابن عمر رضي الله عنه: عن حفصة رضي الله عنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين )، فحقه أن يكون في مسند حفصة، فصنيع المصنف رحمه الله وقوله:(ولـمسلم ) فيه ما فيه، فإن ظاهره: أنه عن ابن عمر، والصواب أنه من حديث حفصة رضي الله عنها.
منها: مشروعية صلاة ركعتين قبل صلاة الفجر وآكديتهما؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليهما ويحافظ عليهما.
ومن فوائده: أنهما لا تشرعان إلا بعد طلوع الفجر، فوقت الركعتين هو وقت صلاة الفجر، وهكذا كل السنن الرواتب، إنما يكون وقتها بدخول وقت الصلاة، فراتبة الظهر مثلاً تشرع بعد زوال الشمس، وهكذا راتبة المغرب، ليس للمغرب راتبة قبلها وهو المقصود، وإنما بعدها، فلا بد أن توقع راتبة المغرب التي بعدها قبل دخول وقت العشاء، وهكذا راتبة العشاء بعدها قبل خروج وقت العشاء، وراتبة الفجر قبلها لا تكون إلا بعد دخول الوقت.
ومن فوائد الحديث: أنه لا يشرع شيء من النوافل غير هذه الراتبة بعد طلوع الفجر، قال بعضهم: لأن هذا الوقت وقت نهي، وقال آخرون: لا دليل على أنه وقت نهي، وإنما وقت النهي يبدأ بعد صلاة الفجر، وهذا البحث مر معنا في باب مواقيت الصلاة، وفي مبحث أوقات النهي في حديث أبي سعيد وأبي هريرة .. وغيرهما، عرضنا لهذا البحث، مسألة: هل يبدأ وقت النهي بطلوع الفجر، أم يبدأ بصلاة الفجر؟
ومن فوائد الحديث: مشروعية تخفيف ركعتي الفجر، وقد جاء في تخفيفهما أحاديث:
منها: حديث عن عائشة رضي الله عنها وهو في الصحيحين: أنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخففهما، حتى إني أقول: أقرأ بأم الكتاب؟ ) هل تمكن أن يقرأ فاتحة الكتاب؟ وهو يقيناً قرأها، لكن كانت تتعجب من تخفيفه لهاتين الركعتين، وكيف تمكن من قراءة الفاتحة في هذا الوقت اليسير.
عن عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أربعاً قبل الظهر، وركعتين قبل الغداة ).
البخاري
، فإنالبخاري
رحمه الله بوب على هذا الحديث بعينه: باب الركعتين قبل الظهر، فأخذ منه القدر الثابت المتفق عليه بينابن عمر
وعائشة
، وهو ركعتين قبل الظهر، والحديث لا شك دليل على مشروعيتهما، وهو أيضاً دليل على مشروعية ما زاد عليهما كما سوف أذكره. والفائدة الثالثة: هي مشروعية صلاة أربع قبل الظهر، وبإضافة هاتين الركعتين تكون السنن الرواتب كم؟ ثنتي عشرة ركعة، زيادة على ما في حديثابن عمر
، حيث لم يذكر فيه إلا عشراً. فهاتان الركعتان الزائدتان في حديثعائشة
: اختلف فيها كلام أهل العلم. فمنهم من قال: إن كلاً منابن عمر
وعائشة
ذكر ما رآه، فرأىابن عمر
ركعتين، ورأتعائشة
رضي الله تعالى عنها أربعاً، وهو عدد زائد، ولا شك أن الأخذ بالزائد هو المتعين، فإن ركعتيابن عمر
تدخل في أربع ركعات ذكرتهاعائشة
رضي الله عنها. وقيل: بل نسيابن عمر
ركعتين، وحفظتعائشة
أربعاً، وهذا فيه بعد؛ لأن فيه توهيماً لـابن عمر
من غير حاجة. وقيل -هذا القول الثالث-: أن يحمل هذا على اختلاف الأحوال، على حالتين: فحيناً كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قبل الظهر أربعاً. وحيناً كان يصلي قبل الظهر ركعتين. قال بعضهم: إن كان في المسجد صلاها ركعتين، وإن صلاها في بيته صلاها أربعاً. وهذا الذي رجحه الإمامابن القيم
رحمه الله تعالى في زاد المعاد، في الجزء الأول، في هديه صلى الله عليه وسلم في السنن الرواتب. وقيل: إنه كان يصلي في البيت ركعتين، ثم يخرج إلى المسجد فيصلي فيه ركعتين أيضاً، فأماابن عمر
فلم يرَ إلا ما صلى في المسجد عليه الصلاة والسلام، وأماعائشة
فرأت ما صلاه في منزله، وعلمت عما صلى في المسجد فذكرت الأربع، وهذا وإن كان ممكناً إلا أنه يشكل عليه ما رواهأحمد
وأبو داود
، وهو في صحيحمسلم
رحمه الله عنعائشة
رضي الله عنها: (مسلم
: في بيتي- أربعاً ثم يخرج فيصلي بالناس الظهرابن القيم
رحمه الله في زاد المعاد، وأطال تقريره في الموضع المشار إليه، وكذلك ذكرهالصنعاني
في سبل السلام احتمالاً، وذكره غير واحد من أهل العلم: (عائشة
، والركعتين اللتين ذكرهماابن عمر
، واستنكر هذا الإمامابن تيمية
رحمه الله، كما في مختصر الفتاوى المصرية (ص76) فإنه عدّ هذا من الأعمال والسنن التي لم تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هي غير صحيحة. وأماابن القيم
رحمه الله فقال: يحتمل أن تكون الأربع ورداً لزوال الشمس، لا تعلق لها براتبة الظهر، وقرر ذلك في أحاديث رواها عنابن السائب
وأبي أيوب
.. وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم، فكأنه قال: إنها صلاة مستقلة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بعد الزوال، ونقل مثل هذا عنابن مسعود
.. وغيره.
الجواب: ذكر الحافظ في الفتح، أن اللفظ الثاني لـعمر كذلك، وأن قول البخاري : وزاد نافع عن ابن عمر أنه قال: أي أن عمر قال، هذا احتمال، يبقى احتمالاً.
الجواب: لعل قصده أنه ذكر فعلها في البيت، هذا ذكر العلماء فيه أوجهاً كثيرة؛ بحسب اختلافهم في اجتهادهم في المسألة نفسها، وهي هل المشروع أن تؤدى في المسجد أو تؤدى في المنزل؟
قد يكون سكوت ابن عمر دليلاً على أنه صلى الله عليه وسلم صلاها في المسجد، وقد يكون صلى الله عليه وسلم حافظ على هذه الأشياء في بيته أكثر، أما الأخرى فكان يصليها في بيته أحياناً، وفي المسجد أحياناً، بحسب الأحوال، فقد يشغله الناس، وقد تكون أمور أخرى غير هذا.
الجواب: لا، قلنا: الطوع ضد الكره، ومنه: الطاعة أيضاً.
الجواب: لا يختلف هذا عن هذا، هو حديث آخر، إذا اختلف الصحابي فيه، هذا حديث عائشة، وهذا حديث حفصة رضي الله عنهما.
الجواب: عائشة رضي الله عنها تقول: ( لم أرَ النبي عليه الصلاة والسلام يصلي الضحى، وإني لأصليها ).
وكذلك أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة وأبا ذر .. وغيرهما، فلا بأس أن يحافظ الإنسان على ركعتي الضحى أو يزيد، ولو تركها حيناً لم يكن عليه من حرج أيضاً.
الجواب: هذا يحتاج مراجعة، المشهور عند الفقهاء أنه لا يثبت، لكن يراجع.
الجواب: نعم، هو رواه إسماعيل بن إسحاق الجهضمي، ونسبه بعضهم لـابن أبي عاصم كما ذكر الحافظ، فالحقيقة -أنا أظن ولست متأكداً- أن لـابن أبي عاصم كتاباً في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم غير كتاب إسحاق الجهضمي .
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر