إسلام ويب

الرحمة والتراحم بين المسلمينللشيخ : سعود الشريم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • انعدام الرحمة نتيجة طبيعية للابتعاد عن الله، وكذلك كان أهل الجاهلية، حتى أرسل الله رسوله، ذا الخلق العظيم؛ فكانت حياته تحفر في ذاكرة التاريخ أروع الدروس في الأخلاق، وكان نصيب خلق الرحمة من ذلك عظيماً. فكان رحمة للصغير والضعيف والأرملة واليتيم، بل رحمة للحيوان فيا للروعة!! وكذلك كان الأنبياء، ومن اقتفى أثرهم من السلف الصالح. والله المستعان.

    1.   

    انعدام الرحمة عند أهل الجاهلية

    الحمد لله الذي أعلى كرامة بني الإنسان، وجعلهم خلفاءه في الأرض، كتب على نفسه الرحمة، وأزال عن الناس بدينه الغمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أبدع الكون بقدرته، وملك الخلق بربوبيته، خلت الطرق كلها إلا طريقه، وفسدت المشارب طراً إلا رحيقه، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، نشر الرحمة والتراحم بين الناس، فما أمر حتى أقنع ، وما بنى حتى جمع، فكان سيد الرحماء وإمام الحكماء، تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلاة الله وسلامه عليه وعلى آله الأخيار البررة وصحابته والتابعين لهم بإحسان.

    أما بعد:

    الأخلاق معيار لبقاء الأمم وزوالها

    فيا عباد الله! قرة عين المؤمن وطمأنينة قلبه تبدو واضحة جلية في تقواه لربه، فإن تقوى الله عز وجل هي أساس كل صلاح، وسلوان كل كفاح: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131].

    أيها المسلمون! الأخلاق المثلى عماد الأمم وقوام الشعوب، والأمم باقية ما بقيت أخلاقها، هذه حقيقة مسلمة لا ينازع فيها إلا مريضٌ لم ينقه، أو مغرضٌ لا يفقه، كما أن من المسلم أيضاً أن تدهور الأخلاق ناجمٌ عن نقص الوازع الديني في النفوس، الوازع الديني الزاجر والمنجي، الوازع الديني الذي يمتلك عنان النفس ويسيطر عليها فيكبح جماحها، ويهتن دمعها، ويغسلها بالنقاخ الذي يبرد الفؤاد.

    وإن من أعظم الأخلاق المندوبة والسجايا المطلوبة، خلق الرحمة والتراحم بين المسلمين، ولا غرو؛ إذ هو مفتاح القبول لدى القلوب، ولا جرم أن فقدان الرحمة بين الناس فقدان للحياة الهانئة، وإحلالٌ للجاهلية الجهلاء، والأثرة العمياء.

    قصة الأخدود مثال لأهل القلوب القاسية

    لقد نالت الجاهلية من الرحمة أقسى منال، حتى كأنما وأدتها في مهدها، ولقد كشف الله في كتابه عن فئام من الناس والأمم ممن فقدوا الرحمة، وكأنما قدت قلوبهم من صخرٍ صلب، تمثلت هذه الغلظة والقسوة في أصحاب الأخدود الذين أضرموا النيران، وخدوا الأخاديد في أفواه السكك، وجنبات الطريق، وكان ذلك حينما آمن الناس بما جاء به الغلام المؤمن، فكان من لم يرجع عن دينه يقحم في النار، فتنهش جسده نهشاً حتى لا يرى إلا فحمة أو رماداً: {ولقد جاءت امرأة ومعها صبيٌ لها، فتقاعست أن تقع في النار، فقال لها الغلام: يا أماه! اصبري، فإنك على الحق } رواه مسلم في صحيحه .

    قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:4-8].

    فرعون مثال آخر لمن فقد الرحمة

    لقد كشف الله في كتابه عمن فقد الرحمة وانقض عليها؛ فلم يرع حق أمٍ ولا رضيع، ولم يدع صغيراً ولا كبيراً في عافية: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4].. وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:11-14].

    قال أبو رافع : أوتد فرعون لامرأته أربعة أوتاد، ثم جعل على ظهرها رحىً عظيمة حتى ماتت: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ [القصص:8].. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ [القصص:41] لقد كشف الله في كتابه العزيز عن ممارساتٍ شاذة ممن فقدوا الرحمة أو أماتوها، وعن مكائد خبيثة، تقود يهود بني إسرائيل الذين هم أكثر البشر قسوة وفظاعة، وقلوبهم كالحجارة الصماء؛ بل هي أشد قسوةٌ منها قال تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74] فكشف الله خبثهم، وبين أنهم قتلةٌ مردة، من قديم الزمان فقال تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:72] وبما فعله يهود يحكم الله عليهم باللعنة والحرمان من الرحمة: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ [المائدة:13].

    1.   

    صور من رحمة المصطفى صلى الله عليه وسلم

    عباد الله: إن الله جل وعلا حينما بعث رسله؛ جعل تمكين الأخلاق الفاضلة في النفوس أصلاً من أصول رسالاتهم وأساساً من أسس دعواتهم، وخاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه هو من قال فيه ربه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] وقال فيه أيضاً: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] وقال فيه: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] وقال صلوات الله وسلامه عليه: (إنما بعثت لأتمم محاسن الأخلاق ).

    حث الرسول صلى الله عليه وسلم على الرحمة

    لقد تجلت رحمة المصطفى صلى الله عليه وسلم في جوانب كثيرة من حياته؛ حتى لقد أصبحت سمة بارزة لا يحول دونها ريبة أو قتر في كل شأن من شئونه، فهو عطوف رحيم، أرسله إلى البشرية رحمان رحيم، وأشرب لحمه وبل عروقه إملاج حليمة السعدية له، فكان له من اسمها الحلم والسعادة، أخرج مسلم في صحيحه : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول الله: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:36] وتلا قول عيسى عليه السلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم أمتي أمتي! وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد- وربك أعلم- فسله: ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله، فأخبره صلى الله عليه وسلم بما قال، فقال الله: يا جبريل! اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك } الله أكبر! ما أعظم المصطفى صلى الله عليه وسلم! وما أرحمه بأمته! بأبي هو وأمي!

    لقد تجلت رحمة المصطفى صلى الله عليه وسلم بأمته؛ حتى بلغت تعليم الجاهل، وتوجيه الغافل، ومناغاة العيال والصبيان: {أقسمت بنت من بناته صلى الله عليه وسلم ليأتينها لأجل ابن لها قبض، فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال، فرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي ونفسه تتقعقع، ففاضت عيناه ، قال سعد : يا رسول الله! ما هذا؟

    قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء } رواه البخاري .

    رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بالناس أجمعين

    إن رحمة المصطفى صلى الله عليه وسلم لم تقف عند هذا الحد فحسب، بل لقد حوت رحمته طبقات المجتمع كلها، أرامل وأيتاماً، نساءً ومساكين، صغاراً وكباراً، ولم يقتصر ذلك على فعله، بل عداه بقوله: {الراحمون يرحمهم الرحمن؛ ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء } رواه أبو داود والترمذي ، وقال صلى الله عليه وسلم: {من لا يرحم الناس لا يرحمه الله } رواه مسلم ، وقال في التحذير من الإشقاق على الناس ونزع الرحمة عنهم والتنغيص عليهم: {اللهم من ولي من أمر المسلمين شيئاً، فشق عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر المسلمين شيئاًً، فرفق بهم، فارفق به } رواه مسلم .

    رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوان

    لقد تجلت رحمة المصطفى صلى الله عليه وسلم بالخلق؛ فتعدت نطاق البشرية إلى نطاق الحيوانات العجماوات: {فلقد دخل صلى الله عليه وسلم حائطاً لرجل من الأنصار، فإذا فيه جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن الجمل وذرفت عيناه، فأتاه صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه فسكن، فقال: من رب هذا الجمل؟ فجاءه فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله! فقال له: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟! فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتؤذيه } رواه أبو داود .

    فيا لله العجب! حتى البهائم ألهمت أن الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة، وأنه نبي المرحمة، فأين أنتم -عباد الله- من قصة هذا الرجل؟! أين أنتم من إيذاء تلك البهائم؟! ناهيك عن إيذاء البشر، والإستخفاف بهم، أين أنت يا راعي الغنم؟!

    أين أنت يا سائق الإبل؟!

    أين أنت يا راعي الأسرة؟!

    أين أنت يا راعي المدرسة، وأنت يا راعي الوظيفة؟!

    اتقوا الله جميعاً في من استرعاكم.

    ولئن كان المصطفى صلى الله عليه وسلم قد مات، فلا تصل البهيمة بالشكوى إليه أو البشر بطلب النصرة منه؛ فإن ربه حي لا يموت، يراكم ويسمعكم؛ ولكن يؤخركم إلى أجل لا ريب فيه: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].

    أيها المسلمون: بتجلي خلق الرحمة في ذات المصطفى صلى الله عليه وسلم عالج محو الجاهلية، وقطع ظلامها بأنوار الرحمة والعطف، فكفكف من نزوات الجاهلية وقسوة قلوبها، وأقام أركان المجتمع على دعائم الرحمة والشفقة وحسن التخلق، وذلك من محاسن الشريعة، وإن كمال العلم في الرحمة، ولين الكلام مفتاح القلوب، يستطيع المسلم من خلاله أن يعالج أمراض النفوس، وهو مطمئن القلب رخي البال، وإلا انفض الناس من حوله، فعاشوا جهالاً، وماتوا جهالاً، وذلك هو الشقاء وهو سببه وعلته.

    1.   

    حال الأخلاق بين السلف والخلف

    عباد الله: في طوايا الظلام تدرس الأخلاق كما يدرس وجه الثوب، بل هما ما كان في الصالحين المخلصين، لقد طغى طوفان المادة الجافة، فأغرق جسوم الرحمة إلا من ملص منها، ولقد بدت نواعي الحياة عند البعض: إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب، وإن لم تجهل يُجهل عليك، وإن لم تتغد بزيد تعشى بك، بل لقد صور العالم لدى البعض أنه دنياً فسيحة، يحدها من الشرق الرغيف، ومن الغرب الدينار، ومن الشمال الجاه، ومن الجنوب الشيطان.

    لقد رجعت بعض النفوس منداة الجسم بعرق القسوة والغلظة، وإذا تندت الجسوم وجب نزع المبلول، وإلا فهي العلة ناقلة النفوس، ما أشده مضضاً ما تعانيه الأمة الإسلامية اليوم! إن أمرها ليذهب فرطاً، وإن الغفلة قد بلغت من الناس مبلغ من يظن أنه حي في الحياة؛ فلا تجد إلا قلباً أيراً، وصدراً وحراً، ولسانا ولقاً ينصنص؛ إلا من عصم ربي، وقليل ماهم!

    مقارنات بين السلف والخلف

    لقد مضى عهد السلف الصالح ، فسخفت الحياة من بعدهم، وصاروا ككتب قد انطوت على حقائقها، وختمت كما وضعت، لا يستطيع أحد أن يخرج للناس من حقيقتهم نصف حقيقة، ولا شبه حقيقة، ولا تزويراً على حقيقة، إنما هي لا غير، الحقائق كلها قد اكتنفوها، ولقد أثبتوا بتجلي الرحمة في قلوبهم؛ بأنه ليس في نفوسهم وطباعهم إلا الإخلاص وإن كان حرماناً، وإلا المروءة وإن كانت مشقة، وإلا محبة الصادقين وإن كانت ألماً، وإلا الجد وإن كان عناءً، وإلا القناعة وإن كانت فقراً.

    إن من النجاة: الفكر في البلاء والتفكر في الأمور، وإذا نبهت العزيمة تغلغل أثرها في البدن كله؛ فيكون علاجاً يحدث به النشاط، ويرهف منه الطبع، وتلجم عليه النفس، وإن هذا لهو الدواء إذا استشرى الداء، وهو النصر حين تخذل القوة.

    إن النفس ينبغي أن ترغب بعد كل كمال فيما هو أكمل منه، وبعد الحسن فيما هو الأحسن، وأن تستحث من كل هجعة راحة بفجر نصر جديد، ولو أدرك المسلم أن أول حق للمسلمين عليه أن يحمل في نفسه معنى الناس لا معنى نفسه؛ لعلم أن من فاق الناس بنفسه الكبيرة دون تميز كانت عظمته في أن يفوق نفسه الكبيرة، إن الناس أحرار متى حكمتهم معاني الرحمة والشفقة والتواد والتعاطف تحت ظل الإسلام الوارف، قال صلوات الله وسلامه عليه: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى } رواه مسلم .

    وبذلك كله يتصل ما بين العظيم والسوقة، وما بين الغني والفقير اتصال الرحمة في كل شيء، أما ربط الرحمة والتراحم بالدينار والدرهم في مقابل استبعاد كل تلك المعاني الحيوية التي ينبغي أن تسود المجتمع، فهو المائج في الحياة بعضها ببعض، وهو الذي يقلب الموازين، ويجعل الصحيح والفاسد في ملك الإنسان لا في عمله، وتكون المنفعة الذاتية هي الآمر الناهي، فيرى كل إنسان كأنما ديناره ودرهمه أكبر قيمة من دينار الآخر ودرهمه، فإذا أعطى نقص فغش، وإذا استقصى زاد فسرق، ويتعامل الناس في التعاطف والتراحم على أساس من المعدة لا من الروح.

    وتكون يقظة التاجر في غفلة الشاري، فإذا عظمت الأمة الدينار والدرهم؛ فإنما تمزمز النفاق والطمع والقسوة، وإنما هيبة الإسلام في الرحمة في النفس لا بالمال، وفي بذل الحياة لا في المعك فيها، وفي أخلاق الروح لا في أخلاق اليد، وفي وضع حدود الفضائل بين الناس لا في وضع حدود الدراهم، وفي جعل أول الثروة الرحمة والشفقة لا الذهب والفضة، هذا هو الإسلام الذي غلب الأمم؛ لأنه قبل ذلك غلب المطيطاء والقسوة والجزع.

    أبو بكر وعمر وخلق الرحمة

    و السلف الصالح خير من ترجم معاني الرحمة إبان عيشهم، فهاهو الصديق أبو الصديقة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [التوبة:40] الذي جبل نفسه على الرحمة والتراحم منذ نعومة أظفاره، وما سمي العتيق إلا لكثرة ما يعتق من العبيد رحمة بهم وإنقاذاً لهم من سطوة غلاظ الأكباد وشرار الخلق.

    كان رضي الله عنه يتعهد امرأة عمياء في المدينة يقضي لها حاجاتها سراً إبان خلافته للمسلمين، كما أنه كان يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع بالخلافة قالت جارية منهم: الآن لا يحلب لنا منائح دارنا، فسمعها فقال: [[بلى لأحلبنها لكم، وإني أرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه ]]، ولقد تجلت الرحمة في أعلى صورها في الخليفة الفاروق رضي الله عنه الذي بلغ من القسوة والغلظة في جاهليته أعظمها، فلما ذاق طعم الإيمان انقلبت نفسه ظهراً على عقب، وكأنه لم يكن قط قاسي النفس غليظ القلب، فلما ولي الخلافة خطب الناس قائلاً لهم: [[اعلموا أن تلك الشدة قد أُضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والقصد؛ فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحداً يظلم أحداً أو يعتدي عليه حتى أضع خده وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن للحق، وإني بعد شدتي تلك أضع خدي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف ]] فرحم الله عمر الفاروق ورضي عنه وعن الصحابة أجمعين.

    فاتقوا الله -معاشر المسلمين- واعموا أن المرء المسلم مطالب بالرحمة والتراحم بما استطاع من تحلم وتصبر، وعليه أن يترفق أولاً في أهله، وثانياً في رعيته وجيرانه ومواطنيه وموظفيه، فلا يكون عوناً لزوجته على النشوز، ولا لأبنائه على العقوق، ولا لجيرانه على الإساءة، ولا لرعيته على التمرد، ولا للناس كافة على هجره ومباغضته، واعملوا بمثل قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه وإكرام ذي السلطان المقسط } رواه أبو داود ، وحذار من الوقوع فيما حذر منه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: {ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا } رواه أبو داود .

    بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه .. إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    صيام يوم عاشوراء

    وتأصيلاً لقواعدٍ عظيمة من قواعد الإسلام، وهي مخالفة اليهود والنصارى والمشركين، وقطعاً لمادة التشبه بهم من كل طريق عزم المصطفى صلى الله عليه وسلم في آخر عمره على ألا يصومه مفرداً مخالفةً لأهل الكتاب، فقال: (فإذا كان العام المقبل إن شاء الله؛ صمنا اليوم التاسع؛ فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ) رواه مسلم .

    فيستحب لكم -أيها المسلمون- صيام هذا اليوم، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكل خير في اتباع ماجاء به، وكل شر في ابتداع ما جاء به.

    هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك في قوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] وقال صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الصحيح: (من صلى عليَّ صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً ).

    اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم .. إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين .. إنك حميدٌ مجيد.

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.

    اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الرحمين.

    اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأفعال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ما سألناك من الخير فأعطنا، وما لم نسألك فابتدئنا، وما قصرت عنه آمالنا من الخيرات فبلغنا.

    عباد الله! اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756336084