أما بعــد:
أيها الإخوة الكرام: أيها الأخ المستمع! أيتها الأخت المستمعة! حديثي إليكم في هذه الليلة عن بر الوالدين، ولا أظن مثلي يستحق أن يتكلم بهذه الكلمات، ولا أظن أني أهل.. لهذا الموضوع، ولكن من باب: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى
[المائدة:2].
بر الوالدين مقام عظيم، وأظن أن من سمع هذه القصص والحكايات واعتبر فسوف يتهم نفسه بالعقوق، ولا أظن أحداً -أيها الإخوة- سوف يسمع هذه القصص وتلك العبر، إلا وسوف يتهم نفسه بكبيرة من الكبائر، بل هي بعد الإشراك بالله جلَّ وعلا، ألا وهي عقوق الوالدين، بل لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل؟ قال: (الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) فهو خير حتى من الجهاد في سبيل الله، والعقوق شر من الفرار يوم الزحف.
مهما فعلت -يا عبد الله- ومهما أحسنت إليها، فإنك -يا أخي الكريم- لن تصل إلى حقها ولو فعلت ما فعلت.
واسمع إلى القصة الأولى، وسوف نسرد هذه القصص ونتلوها ببعض العبر، وأرجو منك أخي الكريم أن ترعي لي سمعك وتنتبه، فهذه القصص ليست من نسج الخيال بل هي من واقعنا وواقع من قبلنا، ثم اعلم -يا عبد الله- بأن القصص غير هذه كثيرة وكثيرة، وغير هذه الحكايات أكثر، بل إنني استحيت من ذكر بعض القصص، وخجلت من ذكرها، لما فيها من وقاحة وعقوق وأنزه هذا المسجد وأنزه سمعك الطيب عن سماع مثل هذه القصص.
لعلها لا تحمل لنا الابن، كأنها أصبحت خادمة، فعاتبه بائع المجوهرات، ثم ذهب إلى السيارة، وقال لأمه: خذي الخاتم إن كنت تريدين، خذي هذا الذهب إن أردتيه، فقالت أمه: لا والله لا أريد الذهب، ولا أريد الخاتم، ولكني أردت أن أفرح بالعيد كما يفرح الناس، فقتلت سعادتي فسامحك الله، فسامحك الله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ
[الإسراء:23] فبعد التوحيد والعبادة، ماذا يا رب:
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ
[الإسراء:23] لأن وقت الكبر أحوج ما يكونان إلى الأبناء، إلى الولد.
يا عبد الله! هذا وقت الحاجة، وهنا ترد الجميل، وهنا تحسن إليهما كما أحسنا إليك: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ
[الإسراء:23] هل سمعت بكلمة أصغر من أف؟ إنك تستجيب ولكن بتأفف، تقول لك أمك: افعل، تفعل ولكنك متأفف، فهذا عقوق، وهذه كبيرة من الكبائر:
فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا
[الإسراء:23] أي: أنك تشير بيديك إشارة، كأنك متضايق منهما، فتستجيب ولكن لا ترد عليهما بالكلام، ولكنها إشارة تدل على أنك تنهرهما:
وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً
[الإسراء:23-24].
وكم وكم يا عبد الله من الرجال في هذه الأيام يقدمون الزوجة على الأم! يأتي إلى البيت بهدية، وتنظر الأم وترى بعينيها، لمن هذه الهدية؟ إنها للزوجة، يدخل الغرفة ويغلق الباب فيعطيها لزوجته، أين حق الأم؟ نسي الأم، فما تذكرها، يشتري لزوجته الملابس، ويسكنها أفخم الأثاث، ويلبسها أغلى الذهب والمجوهرات، ولكن أين أمه؟ لقد نسيها، منذ متى عرفت زوجتك يا عبد الله؟! كم أحسنت إليك الزوجة؟!
إن أمك قبل أن توجد على وجه الأرض كانت تحسن إليك، وكانت ترأف بك وكانت ترحمك وتشقى لأجلك قبل أن تنزل على وجه الأرض، أنسيتها -يا عبد الله- حينما تزوجت ولم تذكر حقها؟!
يا عبد الله! كم وكم من الرجال من يأخذ زوجته في سفر، وفي رحلة، وفي نزهة، ولا يكلف نفسه أن يقول لأمه: أتريدين الذهاب معنا؟ هلا سافرت معنا! فتجده لا يريدها.
يقول: الأم تضايقني، ولا تجعلني أرتاح مع زوجتي.
يقول ابن عباس رضي الله عنه: [إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله من بر الوالدة] يقول: ما في الدنيا عمل أكثر قربة إلى الله من بر الوالدة: (الزم قدميها فثم الجنة).
في السير أن أحد الأعراب وفد على الخليفة يبكي، فقال له: ما بك؟ قال: أصبت في ولدي بأعظم من كل مصيبة. قال: وما هي؟ -تخيل شيخاً كبيراً يبكي، وتخيل رجلاً كبيراً في السن يبكي بين يدي الخليفة- قال: ربيت ولدي، سهرت ونام، وأشبعته وجعت، وتعبت وارتاح، فلما كبر وأصابني الدهر واحدودب الظهر، تغمط حقي، ثم بكى بكاءً مراً، وقال:
تغمط حقي ظالماً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه |
فبكى وأبكى كل من في المجلس.
أيعقل أن يكون في الأولاد من يأخذ المال من أبيه ظلماً؟!
أيعقل أن تصل الوقاحة في الشخص أن يظلم والده؟!
أيعقل أن يكون هناك في الناس عقوق مثل هذه العقوق؟!
اسمع ماذا يقول الشاعر على لسان الأب كأنه يخاطب ابنه، وكن أنت كأن أباك يخاطبك بهذه الكلمات، فاسمعها وعها يا عبد الله:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تُعلُّ بما أجري عليك وتنهل |
إذا ليلة نابتك بالسقم لم أبت لشكواك إلا ساهراً أتململ |
كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيني تهمل |
تخاف الردى نفسي عليك وإنني لأعلم أن الموت حتم مؤجل |
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أؤمل |
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل |
فليتك إذلم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل |
يا ليتك عاملت أباك كما يفعل الجار! يا ليتك جعلته كالصاحب! كم وكم من الناس من يزعمون الصلاح ومن يتظاهرون بالإسلام، ومن يتمسكون ببعض السنة؛ يحسن إلى صاحبه، ويعامل أصدقاءه بأحسن معاملة، فإذا جاء لأبيه وإذا جاء لأمه، اسمع لكلمات العقوق، واسمع للرفض، إذا قالت له أمه: أريد زيارة فلانة؟ قال: ألا يوجد غيري في البيت؟! اذهبي إلى فلان، ليذهب بك فلان، سبحان الله! أما إذا قال له صاحبه، وصديقه وجاره وخليله، فإنه لا يتأفف ولا يتردد، بل يستجيب أيما استجابة.
عبد الله: أسمعت بعقوق كهذا؟! أسمعت في الناس من يفعل مثل هذه الأفعال؟!
يقول الراوي: إنه خرج مع أسرته إلى شاطئ البحر، فلما وصل -هو وعائلته- يقول: رأينا عجوزاً على بساط على الشاطئ لوحدها، يقول: فجلسنا على الشاطئ، فتعشينا في الليل، يقول: ثم بعد العشاء تسامرنا، وأخذنا نلهو ونتحدث حتى حلَّ منتصف الليل، يقول: وأردنا الرجوع، فلما أردنا الرجوع قلت في نفسي: سبحان الله! ما بال هذه العجوز جالسة لوحدها؟! لم يأتها أحد، ولم يقربها أحد، يقول: فلما قفلنا جئتها، فقلت لها -اسمع إلى هذا الخبر، واسمع إلى هذا العقوق- فقلت لها: يا أماه! خيراً إن شاء الله، أنت لوحدك وليس معك أنيس ولا جليس، فقالت هذه العجوز: إن ابني أتى بي إلى هنا، وقال لي: أن عنده عملاً سوف يذهب إليه ثم يرجع.
فقال لها: يا أماه! الوقت متأخر فهلا رجعت معنا؟ قالت: لا. سوف أنتظر ابني ولو تأخر، فقد أخبرني أنه: سوف يتأخر وسوف يرجع.
قال: يا أماه! لكن الوقت متأخر جداً ولا أحد في هذا المكان. قالت: لن أرجع حتى يرجع ابني، وعدني أنه سوف يرجع، وأعطاني هذه الورقة. قال: وما هذه الورقة؟ فقالت: اقرأها تعرف ما فيها.
فقرأتها فإذا في هذه الورقة: يرجى ممن يقرأ هذه الورقة أن يأخذ العجوز إلى دار الرعاية.
لعن الله من لعن والديه، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من لعن والديه، فهذه في الكلمات فكيف إذا كانت في الأفعال؟! يرميها على شاطئ البحر ويقول: يرجى ممن عثر على هذه العجوز أن يأخذها إلى دار الرعاية.
اسمع هذه الأم، والشاعر يتكلم بلسانها، وكأنها تقول:
لا تسبوا ولدي ما كنت رغم الغدر خصمه |
لا تسبوه مهما فعل.
إن لي في قلبه حباً وليس الحب تهمه |
هو طفلي وأنا أضمنه مذ كان لحمه |
هو في الليل سميري وأنيسي في الملمه |
فإذا خاف سكبت الأمن كي أذهب همه |
وإذا عاد تداعيت له صوتاً ونغمه |
فأناغيه بلحن وأناجيه بكلمه |
ولدي ما عقني بل فعله بر ورحمه |
جاء بي للبحر كي أنعم في رمل ونسمه |
فدعوه ولا تسيئوا الظن فيه بالمذمه |
واذهبوا للدار بي ما الدار للأبناء وصمه |
غاب عني لم يغب إلا لأمر قد أهمه |
هو مشغول وللمشغول أعذار وحرمه |
وسيأتي ولدي للدار إن أنهى المهمه |
ولدي أعرفه من ذا الذي ينكر أمه |
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ
[الإسراء:23-24].
أهذا هو جناح الذل أن ترميها في دار الرعاية؟!
أهذا هو جناح الذل أن ترميها على البحر؟!
أهذا جناح الذل أن تطردها لأجل الزوجة؟!
أهذا جناح الذل أن تتركها في البيت لوحدها، وتذهب مع زوجتك لبيت فاخر، وتسكن مع الزوجة، وتلهو مع الأولاد، وقد تركتها بين أربعة جدران؟!
أهذا هو البر أم هذا هو العقوق بعينه يا عبد الله؟! (رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما فدخل النار).
لمن شيخان قد نشدا كلاباً كتاب الله لو قبل الكتابا |
إذا هتفت حمامة بطن وجٍّ على بيضاتها ذكرا كلاباً |
إلى أين تركه يا عبد الله؟ تركه للجهاد، ونحن نخاطب من ترك أباه وترك أمه لأجل عمل دنيوي، أو لأجل زوجة وأولاد، أو لأجل معصية يسافر إليها.
تركت أباك مرعشة يداه وأمك ما تسيغ لها شرابا |
تلفظ مهده شفقاً عليه وتجنبه أباعرها الصعابا |
فإنك والتماس الأجر بعدي كباغ الماء يتبع السرابا |
ثم جاء إلى الخليفة، من هو الخليفة؟ إنه عمر بن الخطاب، جاء إليه هذا الأب وهذا الشيخ الكبير فدخل على عمر فهل تعرف ماذا قال لـعمر؛ لأنه الذي أرسله للجهاد؟ قال:
فلو فلق الفؤاد شديد وجد لهم سواد قلبي بانفلاق |
سأستعدي على الفاروق رباً له دفع الحجيج إلى بساق |
وأدعو الله مجتهداً عليه ببطن الأخشبين إلى دقاق |
إذا الفاروق لم يردد كلاباً على شيخين هامهما زواقِ |
ولما سمع عمر هذه الأبيات بكى، وأرجع الولد من الجهاد، فسأله؟ وقال له: ما شأنك وأبوك؟ فأخبره ببره بأبيه، وكيف كان يحلب لهما، ويطعمهما، ويسقيهما، ويخدمهما من الصباح إلى المساء، فلما سمع بحاله، أمره بالرجوع إلى والده، فنادى عمر والده الشيخ الكبير، وكان قد عمي من شدة البكاء، فأدخله في مجلسه، فأمر ابنه كلاباً أن يحلب له، فحلب له.
فقال عمر لهذا الشيخ الكبير: ماذا يسرك من الدنيا؟
قال: لا شيء، وأي خير أرجوه من الدنيا، قال: بل ترجو شيئاً؟
قال: أرجو أن أضم ولدي ضمة وأشمه وأقبله قبل الموت.
فقال له عمر: اشرب من هذا اللبن، فشرب من اللبن، ثم قال لـعمر: يا أمير المؤمنين! إني أجد في اللبن رائحة ولدي كلاب .
فقال له عمر: هو ذا ابنك يا فلان! فضمه وقبله، وأخذا يبكيان، فبكى عمر، وأبكى من حوله: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا
[الأحقاف:16] يعني البارين بآبائهم، يعني من كان باراً بوالدته وباراً بأبيه اسمع إلى جزائه:
أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ
[الأحقاف:16]. هل فكرت أخي الكريم أن تدخل على أمك فتقبل رأسها وتطلب العفو منها؟ أو أن تدخل على أبيك فتقبل رأسه ويده وتطلب الصفح منه؛ وتطلب منهما أن يغفرا لك؟
هل فكرت -يا عبد الله- وحاسبت نفسك لو لقيت الله بهذا الجرم العظيم؛ جرم العقوق، وهو كبيرة من الكبائر؟ هل فكرت كيف تلقى الله به؟
عبد الله: هلا ذهبت هذه الليلة إلى أمك قبل أن تنام، وإلى أبيك قبل أن ينام، فقبلت رأسيهما، ثم طلبت الصفح والعفو منهما؟
ولدها مهما فعل تحبه، ولدها -والله- مهما عقها ومهما فعل بها فإن في قلب الأم حباً لولدها مهما فعل.
قالت: أريد أن أضمه وأقبله قبل الموت، فاتصلوا بولدها، فقالوا له: إن أمك تحتضر، وتريد أن تراك وتقبلك، فقال هذا المجرم: ليس عندي وقت، وقتي ضيق، وعندي أعمال وتجارات وعقارات، ما عندي وقت، ثم أغلق الهاتف، ثم ماتت هذه الأم ولم تر ولدها، ماتت ساخطة عليه، فاتصل المسئولون بالولد فقالوا له: يا فلان! لقد ماتت أمك، لقد ماتت أمك العجوز، فماذا تظنونه يقول؟ قال: أكملوا الإجراءات وادفنوها.
لأمك حق لو علمت كثير كثيرك يا هذا لديه يسير |
فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي لها من جواها أنة وزفير |
وفي الوضع لو تدري عليها مشقة فمن غصص منها الفؤاد يطير |
وكم غسّلت عنك الأذى بيمينها وما حجرها إلا لديك سرير |
نسيت فهل -يا عبد الله- وهي تغسل النجاسات من عليك؟! وهل نسيت -يا عبد الله- سهرها وأنت نائم؟!
وهل نسيت -يا عبد الله- مشقتها في المشي لأنك في بطنها؟! وهل نسيت -يا عبد الله- صراخها، وبكاءها وسهرها عليك؟! فهل نسيت هذا لأجل زوجة أو تجارة أو أصحاب؟! تباً لهؤلاء كلهم إذا كانوا سبباً للعقوق!
وكم غسّلت عنك الأذى بيمينها وما حجرها إلا لديك سرير |
وتفديك مما تشتكيه بنفسها ومن ثديها شرب لديك نمير |
وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها حناناً وإشفاقاً وأنت صغير |
فضيعتها لما أسنت جهالة فطال عليك الأمر وهو قصير |
فآهٍ لذي عقل ويتبع الهوى وآهٍ لأعمى القلب وهو بصير |
لعن الله من لعن والديه، لعن الله من لعن والديه.
قال: ولا تمش أمامه.
فانظر كيف وصلوا إلى البر، يقول: إذا مشيت فامش خلفه، تواضعاً واحترماً ومن خفض الجناح بالذل له.
قال: ولا تجلس قبله.
إذا دخلت في مجلس وهو قائم فقم معه، ولا تجلس في مجلس قبله، انظروا كيف وصلوا إلى البر.
وهذا رجل -يا عبد الله- لا يصعد إلى الطابق الأعلى إذا كانت أمه في الطابق الأسفل، يقول: كيف أصعد على طابق وأمي تحتي، فهو يعتبر هذا من العقوق.
وذاك رجل لا يأكل مع أمه في صحن واحد، فيُسأل: لم يا فلان لا تأكل مع أمك في صحن واحد؟ فيقول: أخاف أن تمتد يدي إلى لقمة وأمي تنظر إليها، أخاف أن آكل لقمة وأمي قد اشتهتها.
انظر كيف وصلوا إلى البر، وانظر كيف أصبح الناس هذه الأيام في العقوق.
ويأتي رجل فيبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة، فيقول له: (كيف تركت أبويك؟ فيقول: تركتهما يبكيان، فيقول له: ارجع إليهما وأضحكهما كما أبكيتهما).
ويأتي رجل يريد الجهاد فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألك أم؟ فيقول: نعم. قال: أتريد الأجر والمثوبة من الله؟ قال: نعم. قال: الزم قدمها فثم الجنة).
ولنرجع إلى البيوت -يا عباد الله- فلنلزم أقدامهن، فهناك الجنة، وهناك الروح والريحان، وهناك الجنان، وهنالك الأنهار، وتلك هي القصور، فباب الجنة -يا عبد الله- عند قدم أمك؛ فكيف ضيعت ذلك الباب؟ وكيف فرطت في الجنة وأبوابها؟
واسمع إلى هذا العاق، هذا الرجل العاق كيف وصل به العقوق إلى هذه الدرجة، فهو يضرب به المثل، واسمه منازل، وهذا الرجل كان فاجراً عاصياً عاقاً لأبيه، أتاه أبوه يوماً من الأيام، فأمره بالطاعة، وأمره بالإحسان، وأمره بالاستجابة لله جلَّ وعلا، فهل تعرف ماذا فعل؟ لطم أباه على وجهه، فذهب أبوه يبكي، وقال: والله! لأحجن إلى بيت الله الحرام وأدعو عليه هناك، فحج الأب إلى بيت الله الحرام، وتعلق بأستار الكعبة، ثم رفع يديه، فقال:
يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا أرض المهامه من قرب ومن بعد |
إني أتيتك يا من لا يخيب من يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمد |
هذا منازل لا يرتد عن عققي فخذ بحقي يا رحمان من ولدي |
وشل منه بحول منك جانبه يا من تقدس لم يولد ولم يلد |
فما أنزل الأب يديه إلا وقد شل الله نصف جسده، وأصبح مشلولاً إلى أن مات: (ثلاث دعوات مستجابات -لا شك فيهن- منها: دعوة الوالد على ولده).
إذا أردت الدعوة يا عبد الله، فاذهب إلى أمك، واذهب إلى أبيك، وسلهما دعوة صالحة، وسلهما دعوة خالصة.
واسمع إلى العاق، كيف يصفه الله جلا وعلا: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
[الأحقاف:17] يا بني صلِّ.. يا بني اذهب إلى المسجد.. يا بني اترك الفساد.. يا بني اترك المعاصي.. يا بني اترك هؤلاء الصحبة.. يا بني لا تنفعك هذه الأغاني.. فيرد عليهما:
أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
[الأحقاف:17] أتعرف ما عقوبته؟
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ
[الأحقاف:18].
اسمع إلى هذا الرجل الذي ملَّ والده، وقد أحسن إليه وبره لكن طال عليه الأمر وشق عليه العمل، وكبر أبوه فتأفف من أبيه، وكم نسمع هذه الأيام -والعياذ بالله- من رجل يُسأل: من هذا؟ فيستحي أن يقول: هذا أبي، فيقول: هذا السائق، وكم سمعنا من فتاة يُقال لها: من هذه؟ فتستحي فتقول: هذه الخادمة. أو هذه المربية. أو هذه الغسالة. أف لهذه الكلمات، وتعس أولئك الذين يستحون أن يقول أحدهم: هذا أبي. وتستحي أن تقول: هذه أمي. ولا يدعوه إلى وليمة، ولا يدعوه إلى وجبة، يستحي أن يراه أصحابه، كم وكم من العاقين من أمثال هؤلاء.
قال: يا أبي! لقد مللتك، ولقد سئمتك.
قال: وماذا تريد؟
قال: أريد أن أذبحك.
فقال: يا بني! ماذا تقول؟
قال: أريد أن أذبحك لقد مللتك يا أبي!
فقال له: إن كنت ولا بد فاعلاً فاذبحني عند تلك الصخرة.
قال: ولم يا أبي؟ قال: فإني قد قتلت أبي عند هذه الصخرة، فاقتلني عندها وسوف ترى من يقتلك من أبنائك عند هذه الصخرة: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ
[النساء:123] الجزاء من جنس العمل.
بر والديك، وأباك، وأمك، فسوف يأتي من أبنائك من يبرك، أو عقهما فوالله الذي لا إله غيره، يقول عليه الصلاة والسلام وهو حديث صحيح، يقول: (كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإنه يعجل لصاحبه).
اسمع كيف يعامل أمه، واسمع كيف يهددها، واسمع كيف ينذرها، تباً له وتعس، فذهب هذا الرجل، وأوصل أمه، وبعد ثلاثين دقيقة بالضبط، أتاها فضرب الزمور، مرة أو مرتين فما خرجت، فذهب وولى وتركها، تركها لوحدها، فإذا به في أثناء الطريق يصاب بحادث فيجلس في المستشفى ستة أشهر لا يستطيع أن يتحرك.
هل جزاء الإحسان إلا الإحسان يا عبد الله؟! هل هذا هو الإحسان إلى والديك؟! هل هكذا تبرهما؟!
يقول لك الأب: أريد حاجة، وتقول لك الأم: أريد حاجة من السوق، أو تذهب بي إلى فلانة، فتقول: لا أستطيع، عندي عمل! سبحان الله أين بر الوالدين؟! أنسيتهما وضيعت حقهما؟!
فالمدة ليست يوماً ولا يومين، بل تسعة أشهر، لا تستطيع فيها تنام مثل الناس، ولا تأكل مثل الناس، ثم بعدها عامين -يا عبد الله- تقوم في الليل ست أو سبع مرات لأجلك، تبكي إذا بكيت، وتسهر إذا تعبت، والأب لا يرتاح حتى يعطيك لقمة العيش لتسد بها جوعك، والله! لا يلبس وأنت تلبس، ولا ينام وأنت تنام، ولا يرتاح وأنت ترتاح، ثم بعد هذا نسيت حقهما يا عبد الله! أي فجور بعد هذا الفجور؟!
والله لو تغسل الأذى منهما، ولو تحمله بيدك عنهما، ولقد فعلا هذا -يا عبد الله- وأنت صغير أفلا تفعله وهما في الكبر؟!
يا عبد الله! لو لم تنم الليل وتضيع تجارتك كلها وعملك الدنيوي كله لأجل الإحسان إليهما، لكان قليلاً عليهما.
عبد الله: كيف تنام وقد سهرا عليك.
عبد الله: كيف يهنأ لك بال وقد كانا يتعبان عليك، ألذ ما عندهما وأفرح ما عندهما سعادتك، أما الآن رميتهما، ولم تدر عنهما، حتى إنك تسمع بعض الناس يقول: هل يكفي أن أزوره في الأسبوع مرة؟ سبحان الله! في الأسبوع مرة، هل تأتي لزوجتك في الأسبوع مرة؟! هل تجلس مع أولادك في الأسبوع مرة؟! هل تجلس مع الأصحاب والأحباب في الأسبوع مرة؟! حتى تسألني!! (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك، قال: ثم من؟ قال: الأقرب فالأقرب) قبل الزوجة قبل الأولاد قبل الأصحاب قبل الأقرباء، أمك لها ثلاثة أرباع الحقوق، ثم الأب له ربع الحق.
يا عبد الله: إياك إياك أن تنساهما ولو ماتا ولو توفيا! هذا نوح عليه السلام يقول: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً
[نوح:28]. أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
وصلَّ اللهم وسلم على نبينا محمد.
.
الجواب: بالنسبة لهذا السؤال أنهما دائماً يسبانه -أخي الكريم- بل حتى لو ضرباك، بل حتى لو عذباك فإن البر يبقى ويبقى، بل أخي الكريم وإن جاهداك على أن تشرك بالله ما ليس لك به علم فلا تطعهما في هذه المعصية، ولكن صاحبهما في الدنيا معروفاً، بل البر بالوالدين يجوز حتى للمشركين، حتى لو كانا مشركين فبرهما وأحسن إليهما يا عبد الله، فكيف إذا كانا مؤمنين، إن سباك فادع لهما بالمغفرة، وإن شتماك فأحسن إليهما، وهذا رجل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (إن لي رحماً أصلهم ويقطعونني، وأحلم عليهم ويجهلون عليَّ، قال: إن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل).
إذاً: -يا عبد الله- استمر على هذا واصبر عليه وادعهما إلى الله جلَّ وعلا، وادع لهما بالمغفرة لعل الله أن يجعل لك من أمرك فرجاً.
الجواب: إن كان -يا عبد الله- يعلم بهذا الدين وبأن الصلاة عمود الإسلام وبأن تاركها يكفر فإن هذا لا يستحق الدعاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة) وقال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) وهذه أم النبي صلى الله عليه وسلم، طلب النبي صلى الله عليه وسلم من ربه أن يزور قبرها، فأذن الله له، فاستأذنه أن يدعو لها فلم يأذن الله له، فما أذن الله لنبيه أن يدعو لها برحمة ولا بمغفرة، وكان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويجلس عند قبرها ويتذكر شأن أمه وحال الآخرة وكان يبكي عليه الصلاة والسلام.
أما الدعاء فإنه لهذا ولغيره ممن لم يسجد لله سجدة ولم يركع لله ركعة فإنه لا يجوز، والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر