إسلام ويب

هذا الحبيب يا محب!للشيخ : نبيل العوضي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم شرط في صحة الإيمان، ومن أجل هذه الأهمية الكبرى جاءت هذه المادة مبينة أسباب محبة النبي صلى الله عليه وسلم الذي بعث رحمة للعالمين، فصبر من أجل دعوته، وتحمل مشاقها، فكان قدوة في صبره وأخلاقه وصلته بربه. ولذلك علينا أن نلتزم الوسطية في علاقتنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نجتنب منهجي الإفراط والتفريط في محبة النبي صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    أسباب محبة النبي صلى الله عليه وسلم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    أيها الإخوة الكرام: حديثي إليكم في هذه الجلسة هو من صلب الدين والإيمان، ومن صميم العقيدة، بل لا يتم إيمان العبد إلا بهذا الحديث الذي سوف أتكلم عنه، وتطبيق هذه المسألة من أصول الدين، ألا وهي علاقتنا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم.

    يقول الرب جل وعلا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيكُمْ [التوبة:24].

    هل بقي شيء من الدنيا؟ ما بقي شيء؛ الأولاد، والأزواج، والأقرباء، والعشيرة، والأموال، والتجارات، والمساكن، كل شيء من الدنيا، لو كانت هذه الدنيا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24].. (ثلاث مَن كُنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان -بعض الناس يتساءل: أنا لا أشعر بلذة في الدين؟ لا أشعر بلذة في الطاعات؟ لا أشعر بلذة في الإيمان؟ اعلم أنه: -ثلاث مَن كُنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان -أول الثلاث:- أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) .

    اتباع النبي صلى الله عليه وسلم شرط في قبول العمل

    يأتي رجل من الأنصار فيقول: (يا رسول الله! إنك لأحب إلي من نفسي، وإنك لأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر-فتخيل: الرجل يتذكر النبي في البيت فما يتحمل وما يصبر!! أيُّ حب وأيُّ تعلق بالنبي هذا!- يقول: لا أتحمل حتى آتي فأنظر إليك، وأجلس عندك، يقول: فإذا ذكرت الموت الذي سوف يفرق بيني وبينك فإني لا أطيق ولا أتحمل -أبكي ولا أصبر على فراقك- فيقول له النبي: قال الله جل وعلا: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ [النساء:69].. هذا هو الشرط؛ اتباع النبي- فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ [النساء:69]) .

    يا من تسمعني: ألا تتمنى لقاء النبي عليه الصلاة والسلام؟!

    ألا تتمنى الجلوس بقربه؟!

    ألا تتمنى معانقته ومصافحته؟!

    ألا تتمنى أن تجلس فتستمع إليه؟!

    الشرط: اتباع هديه عليه الصلاة والسلام، وقبله الإخلاص لله، قال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) .

    يأتي رجل فيقول: (يا رسول الله! متى الساعة؟ فيقول له النبي: وما أعددت لها؟ قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله -أعمالي قليلة، لكني أحب الله ورسوله- قال: إنك مع من أحببت) والمرء يحشر يوم القيامة مع من أحب.

    النبي رحمة للعالمين

    نحبه؟ إي والله نحبه!! لِمَ نحبه؟

    لأن الله عز وجل بعثه ليخرج الناس من عبادة العباد ومن عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة رب الأرض والسماء.

    تَعِب عليه الصلاة والسلام، وتحمل في سبيل الدعوة إلى الله ليخرج الناس من الضلال إلى الهدى، ومن الظلام إلى النور، حتى بدأ المشركون يعادونه:

    صبره على تحمل الأذى من أجل الدعوة

    هاهو يأتي يوماً من الأيام فيسجد عند الكعبة، فيأتي أشقى القوم ويلقي على ظهره سلى الجزور، ولا تأتي إلا ابنته فاطمة رضي الله عنها فتزيل عن ظهر أبيها سلى الجزور وهي تبكي، فيتم صلاته عليه الصلاة والسلام، ثم يستقبل القوم فيدعو عليهم واحداً واحداً.

    يأتي يوماً من الأيام يطوف بالبيت وحول البيت الأصنام والأوثان، فيغمزه المشركون ويستهزئون به.

    يأتي أشقى القوم يوماً من الأيام فيخنقه حتى كاد يقتله عليه الصلاة والسلام، ولا يدفعه عنه إلا أبو بكر أشجع الناس رضي الله عنه.. يدفع الفاسق المشرك وهو يقول: أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [غافر:28] فاستقبل المشركون أبا بكر فضربوه حتى أدموه، حتى لم يعرف رأسه من قفاه من شدة الدم، وظن الناس أن أبا بكر قد مات، فحمل إلى بيته فطببته أمه ولم تكن أسلمت في ذلك الحين.

    فلما استفاق فرحت أمه، قالت: يا بني! اشرب شيئاً، يا بني! ذق شراباً، وكل شيئاً من الطعام، قال: لا والله! حتى تأتيني بخبر رسول الله، وأرسلها إلى إحدى النساء فذهبت، قالت: لا أعرف رسول الله ولا أعرف ابنك.

    فجاءت بها إلى أبي بكر، فقال لها أبو بكر: ماذا صنع رسول الله؟ قالت: أمك موجودة -وقد كتمت إيمانها تلك المرأة- فقال: لا عليك إنما هي أمي، أخبريني عن رسول الله، قالت: هو بخير، قال لها أبو بكر: احمليني إليه، فلما هدأ الناس، وسكنت الأصوات، حُمِل أبو بكر بين أمه وتلك المرأة إلى رسول الله.

    وكان رسول الله مستلق وحوله أصحابه الذين كتموا إيمانهم، فلما فتح الباب دخل أبو بكر على رسول الله يقبله وهو يبكي، والصحابة ينظرون، وبكوا من هذا المنظر، فقال أبو بكر: كيف أنت يا رسول الله؟ قال: ليس بي بأس يا أبا بكر! كيف أنت يا أبا بكر! قال: لا بأس بي إلا ما صنع الفاسق من وجهي، يا رسول الله! هذه أمي جاءت مشركة، فادعُ الله لها، فدعا الرسول لها، فلفظت أم أبي بكر الشهادتين، فقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.

    غمزوه ولمزوه وسخروا به، بل وضربوه، وخنقوه، وكادوا يقتلونه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان:31] .

    أوذي، وخُنِق، ومُنع من الدعوة إلى الله، حتى قال فيه أبو لهب لما دعاهم على الصفا: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟

    يستقبل الناس في الحج فيغلقون آذانهم، ويغطون رءوسهم، يدخل عليهم خيامهم خيمة خيمة عليه الصلاة والسلام، يقول: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) فيدخل بعده رجلٌ أحول، وضيع الوجه، إنه عمه أبو لهب، يدخل خلفه فيقول: لا عليكم منه، إنه ابن أخي، إنه مجنون، إنه كذاب، إنه ساحر: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً [الفرقان:31] .

    هاجر إلى الطائف يدعوهم إلى الله، فردوه، وتبعه العبيد والسفهاء بالحجارة، هل دعا عليهم؟ هل طلب من ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين؟ أو دعا على قريش؟ لا وربي. رفع يديه إلى الله، وقال: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني! أم إلى قريب ملكته أمري! إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، لكن عافيتك أوسع لي).

    يخرج وهو مهموم، لم يفق إلا بـقرن الثعالب، (يجلس عند إحدى المزارع، ويرسل إليه أحد المشركين خادماً له اسمه، عدَّاس يأتيه بشيء من العنب، وكان شاباً نصرانياً، فجلس عند رسول الله وقد أدميت قدماه الشريفتان، وسال الدم منهما، فجاء عدَّاس بالعنب إليه، فسمى الله رسول اللهَ فأخذ عدَّاس يسأله، فإذا بالنبي يجيب، فقال له النبي: من أين أنت؟ قال له عدَّاس النصراني: أنا من نينوى، قال: سبحان الله! من بلد النبي الصالح يونس بن مَتَّى، قال: ومن أخبرك بيونس بن مَتَّى؟! قال: إنه أخي، إنه نبي وأنا نبي مثله، فانكب عدَّاس على رسول الله يقبله وهو يبكي) علم أنه لا يعلم عن نبي الله يونس إلا نبي مثله، ورجع النبي إلى بلده .

    صبره في المصائب والإحن

    خرج إلى الدنيا يتيماً لم يرَ أباه، ماتت أمه وهو صغير لم يبلغ الحلم، تربى عند جده، فلما مات جده ثم تربى عند عمه، فلما شب واستقام، دعا إلى الله ونصره أبو طالب الذي مات ولم يُسلم، احترق قلب النبي صلى الله عليه وسلم عليه، استغفر له اللهَ، فمنعه اللهُ جل وعلا.

    تزوج من خديجة فإذا به يحبها كأشد ما يحب إنسان امرأته على وجه الأرض، ولكنها غادرت الدنيا وفارقته، وتُرك في هذه الدنيا بين مستهزئ وساخر، وشاتم وضارب، انظر ماذا يقول الشاعر فيه:

    ولَّى أبوك عن الدنيا ولم تره      وأنت مرتهن لا زلت في الرحمِ

    وماتت الأم لما أن أنست بها      ولم تكن حين ولَّت بالغ الحلمِ

    ومات جدك من بعد الولوع به      فكنت من بعدهم في ذروة اليتمِ

    فجاء عمك حصناً تستكن به      فاختاره الموت والأعداء في الأجمِ

    ترمى وتؤذى بأصناف العذاب فما      رُئيت في ثوب جبار ومنتقمِ

    حتى على كتفيك الطاهرَينِ رموا      سلى الجزور بكف المشرك القزمِ

    أما خديجة من أعطتك بهجتها      وألبستك رداء العطف والكرمِ

    ولت إلى جنة الباري ورحمته      فأسلمتك لجرح غير ملتئمِ

    وشج وجهك ثم الجيش في أحد      يعود ما بين مقتول ومنهزمِ

    لما رزقت بإبراهيم وامتلأت      به حياتك بات الأمر كالعدمِ

    ورغم تلك الرزايا والخطوب وما      رأيت من لوعة كبرى ومن ألمِ

    ما كنت تحمل إلا قلب محتسب      في عزم مفتقد في وجه مبتسمِ

    صلى الله عليه وعلى آله وسلم، انظروا كيف صبر، فكيف لا نحبه؟ أوذي وصبر لأجل من؟ لولا صبره، لولا تحمله، لولا جهاده عليه الصلاة والسلام لكان الواحد منا الآن يعبد ماذا؟ يتأسى بمن؟ ينتهج أي دين؟ ماذا يكون مصيرنا؟

    صبره في تحمل التكاليف

    (لما أرد الهجرة جاء لـأبي بكر -صاحبه وأي صاحب!- في وقت لم يكن يأتيه فيه متقنعاً -الأمر غريب، الوقت ظهيرة- فدخل على أبي بكر، وعنده ابنته الصغيرة عائشة، فقال له أبو بكر: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي ما الذي جاء بك في هذه الساعة؟ قال: يا أبا بكر! اخرج مَن عندك وكانت عائشة جالسة، قال: يا رسول الله! إنما هم أهلك، فقال النبي لـأبي بكر: يا أبا بكر! إن الله قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر: يا رسول الله! إذاً: الصحبة -ماذا يختار؟ ماذا يريد أبو بكر؟ يريد أن يخرج في أخطر هجرة على وجه التاريخ، في أخطر رحلة يعرض فيها نفسه للقتل- فقال النبي: يا أبا بكر! الصحبة، الصحبة يا أبا بكر! فانفجر أبو بكر يبكي، تقول عائشة: والله ما كنت أحسب أن أحداً يبكي من الفرح إلا بعدما رأيت أبي يبكي في ذلك اليوم، يقول: الصحبة يا رسول الله! الصحبة يا رسول الله!) .

    يخرج معه في الهجرة فرحاً، فلما دخلا في الغار، ماذا صنع أبو بكر؟ لقد رأى جحراً في الغار فإذا به يضع رجله فيه ورجله الأخرى في جحرٍ آخر، ويده في جحرٍ ثالث، يخاف على رسول الله! لسعته حية -حي من هوام الأرض- فما أخرج يده، والرسول نائم ورأسه على فخذ أبي بكر، ولم يرفع أبو بكر يده ولا رجله من ذلك الجحر، فدمعت عينا أبي بكر، فسقطت دمعته على وجه رسول الله، فاستيقظ النبي، فقال: ما الذي أصابك يا أبا بكر! قال: لا شيء يا رسول الله! إلا أنه أصابني من هوام الأرض -لسعني شيء من هوام الأرض- فما أردت أن أوقظك، فأخذ النبي رجله فدعا له وبصق عليها، وكأن لم يكن به شيء.

    والنبي يقول لـأبي بكر بعد أن قال لما رأى المشركين عند المغارة يقفون: (لو نظر أحدهم إلى رجله لرآنا قال: أو تخاف يا أبا بكر؟ قال: لا أخاف على نفسي إنما أخاف عليك يا رسول الله! فقال النبي له: لا تخف يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما): إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:4] .

    (يخرجان من الغار، يمضيان إلى المدينة، فيلحقهما سراقة، ولم يكن أسلم في ذلك الوقت، وكان بطلاً شجاعاً -فكاد أن يصل إليهما، فبكى أبو بكر، فقال له النبي: لم تبكِ يا أبا بكر؟ فيقول: يا رسول الله! والله ما أبكي على نفسي، ولكن أبكي عليك، فابتسم النبي، وقال: اللهم اكفناه بما شئت، فغاصت قوائم فرسه في الأرض، فسقط منها، فعلم سراقة أن الأمر فيه شيء، وأن هذا الرجل ليس رجلاً كغيره من الرجال، لا بد أن عنده شيء من السماء -فقال له النبي: هل لك أن ترجع، ولا تخبر بأمرنا؟ قال: وماذا لي يا محمد؟ قال: لك يا سراقة! سوارا كسرى).

    سوارا أعتى رجل على وجه الأرض، وصاحب أكبر دولة على وجه الأرض في ذلك الزمان، إنها فارس، وعليها كسرى.

    سبحان الله! انظروا إلى يقينه بنصر الله، يقينه بموعود الله عز وجل، ثم يموت رسول الله، وتمضي السنون ويموت أبو بكر، فيأتي عهد عمر فتُفتح فارس، ويؤتى بسواري كسرى إلى عمر بن الخطاب، فيقول عمر: [أين سراقة بن مالك؟ أين سراقة بن مالك؟ فيؤتى بـسراقة وكان قد أسلم وجاهد في سبيل الله، فقال له عمر: يا سراقة! إليك سواري كسرى، هذا وعد رسول الله]: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4] .

    يأتي النبي إلى المدينة والصحابة والأنصار ينتظرونه في كل يوم، فإذا اشتد حر الظهيرة رجعوا إلى منازلهم، وفي ذلك اليوم رجعوا لما اشتدت الشمس بحرها، فلما رجعوا فإذا بيهودي يصعد على أطم من الآطام، فيرى ظلين من بعيد، فيعرف أنه الرسول وصاحبه، فيرجع إلى الأنصار، فيقول: يا معشر الأنصار! يا معاشر العرب! هذا جَدُّكم الذي تنتظرون، هذا نبيكم الذي تنتظرون، فثار الأنصار إلى سلاحهم واستقبلوه عند أبوابهم وهم يكبرون، ويقولون: الله أكبر! الله أكبر! جاء نبي الله، جاء نبي الله، استقبلوه في الشوارع، وعلى سطوح المنازل، بالرجال والنساء والأطفال وهم يكبرون.

    هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2] .

    فإذا بالنبي يدخل المدينة، يقول أنس: أضاء في المدينة كل شيء، بنى المسجد، وأسس الدين، ونشر الهداية في قلوب المؤمنين، أسرهم بحبه، وبأخلاقه عليه الصلاة والسلام.

    أخلاقه صلى الله عليه وسلم ومحبة أصحابه له

    كان يجلس مع الشيوخ ويجالس الصبيان والأطفال، فإذا به يسلم عليهم واحداً واحداً.

    تأتي إليه الجارية وهو نبي الله وخير من وَطأ قدمُه الثرى عليه الصلاة والسلام فتمسك يديه الشريفتين فتذهب به حيث شاءت، تسأله عن حاجتها، فيقضي لها حاجتها عليه الصلاة والسلام.

    دعا إلى الله فما جزع ولا كلَّ ولا ملَّ.

    يأتيه الأعرابي يوماً من الأيام وهو يخطب الجمعة، فيقول: (يا رسول الله! علمني ديني، فينزل من خطبته، ويجلس إليه يعلمه أمر دينه) الله أكبر!

    لما أتى رجل من الأعراب فبال في المسجد فكاد الصحابة يقتلونه، أو يهموا به، فيقول للصحابة: (دعوه، دعوه، لا تزرموه -رحمة وأي رحمة!- فيأتيه النبي بعد أن يقضي بوله، يقول له: يا فلان! إن هذه المساجد لم توضع لكذا وكذا، إنما وضعت للصلاة والذكر، وقراءة القرآن والعبادة، فيقول الرجل -بعد أن يرى خلقه-: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، فيبتسم النبي، ويقول له: لقد حجرت واسعاً يا هذا).. وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] .

    كانوا يحبونه حباً جماً، وفي الجهاد تظهر صور من المحبة:

    1- هذا طلحة رضي الله عنه، في غزوة أحد يقاتل دون النبي عليه الصلاة والسلام، وكلما أراد أن يتقدم يؤخره النبي صلى الله عليه وسلم ويقدم غيره. قال: (أنا يا رسول الله! فيقول له النبي: اجلس، فيقاتل أحد الصحابة فيقتل، حتى جاء دور طلحة رضي الله عنه، فيقاتل حتى قُطِعَت أصابعه، فإذا به يقول: حسبي، قال صلى الله عليه وسلم: إذا قلت: باسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون).

    2- أبو طلحة الأنصاري في أحد، يقول: (يا نبي الله! بأبي أنت وأمي لا تُشْرِف لا يصيبنك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك يا رسول الله) .

    3- أبو دجانة في معركة أحد، يترِّس نفسه على النبي، والسهام والنبال تقع على ظهره رضي الله عنه وهو لا يبالي، ولا يهتم رضي الله عنه، لأن السهام تقع على ظهره ولا تصيب رسول الله.

    مَن هذا النبي الذي أحبه الناس هذا الحب؟ قال الشاعر فيه:

    أصفى من الشمس في نطقٍ وموعظةٍ      أمضى من السيف في حُكْم وفي حِكَمِ

    أغَرُّ تشرق من عينيه ملحمةٌ      من الضياء لتجلو الظُّلْم والظُّلَمِ

    في همة عصفت كالدهر واتقدتْ      كم مزقت من أبي جهل ومن صنمِ!

    محرر العقل باني المجد باعثنا      من رقدة في دثار الشرك واللممِ

    بنور هديك كحلنا محاجرنا      لما كتبنا حروفاً صغتَها بدمِ

    4- هذا أحد الأنصار: يقول النبي: (مَن يشتري لنا نفسه؟ فيقول الرجل: أنا يا رسول الله! فيدخل الرجل في صفوف المشركين -انظر للتضحية لرسول الله- فيقاتل الرجل حتى تثخنه الجراح، فيحمل وقد سالت الدماء من على جسده، فيوضع والنبي جالس عليه الصلاة والسلام، فيوضع خده على قدم النبي عليه الصلاة والسلام، ويقول النبي: أدنوه مني، فإذا بالرجل خده على قدم النبي تفيض روحه إلى بارئها) .

    5- سعد بن الربيع: يقول النبي: (أين سعد؟ أين سعد؟ ابحثوا عن سعد، وائتوني بخبره، فيذهب الصحابة يبحثون عنه، فيأتيه رجل وإذا بـسعد يحتضر، في الرمق الأخير، فيقول له: يا سعد! إن رسول الله يقرؤك السلام، ويقول: كيف تجدك؟ فيقول سعد: أبلغه مني السلام، وأخبره أني أجد ريح الجنة -الله أكبر! وهو في الدنيا يشم رائحة الجنة- ثم أخبر قومي الأنصار، وقل لهم: لا عذر لكم! أن يُخْلَص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف) .

    6- هذا أنس بن النضر لما رأى بعض الصحابة جالسين، قال لهم: [ما الذي أجلسكم؟ قالوا: مات رسول الله، قال لهم: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله] فأخذ أنس يخترق صفوف المشركين، فيقاتل في سبيل الله، فيصاب بأكثر من ثمانين ضربة وطعنة، فيخر على الأرض صريعاً: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23] .

    7- أما في حنين وما أدراك ما الذي حصل في حنين؟! لما تراجع الناس تقدم أشجع الناس، إنه رسول الله عليه الصلاة والسلام، يتقدم وهو على بغلة، والصحابة يمسكون زمامها، يريد النبي أن يتقدم في صفوف المشركين رافعاً عصاه وسلاحه وهو يقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، يا عباس! نادِ أصحاب السمرة، نادِ أصحاب البيعة، فيناديهم العباس، فإذا بالصحابة يتذكرون تلك البيعة التي بايعوا فيها النبي على الجهاد، فيرجعون بدوابهم، ومن لم يستطع الرجوع بدابته يرمي نفسه من عليها، وهو يقولون: لبيك رسول الله! لبيك رسول الله! فديناك بآبائنا وأمهاتنا) .

    لما انتهت المعركة قسم النبي الغنائم على الذين أسلموا حديثاً، ولم يعطِ الأنصار شيئاً، خاف الأنصار أن النبي قد هجرهم، وأنه سوف يرجع إلى وطنه، وبلاده، فإذا بالنبي يجمعهم في حائط، فيقول لهم: (يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟! وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟! وعالة فأغناكم الله بي؟! فبكى الأنصار، وقالوا: الله ورسوله أَمَنُّ، الله ورسوله أَمَنُّ.

    ثم قال لهم النبي -اسمع ما الذي قال!-: ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون بالنبي إلى رحالكم؟! فبكى الأنصار، وقالوا: الله ورسوله أَمَنُّ، ثم قال لهم: لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، لو سلك الناس وادياً وشعباً وسلك الأنصار آخر؛ لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار.. أخذ يدعو لهم، فبكى القوم حتى ارتفع صوتهم بالبكاء، واخضلَّت لحاهم وهم يقولون: رضينا برسول الله قَسَماً وحَظَّاً).. لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] .

    حرصه على دعوة الآخرين

    سَمِع النبي صلى الله عليه وسلم أن يهودياً من جيرانه مريض، ماذا يصنع وهم أشد الناس عداوة له؟! ماذا يفعل نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام؟! هل فرح؟! هل استبشر بأن يهودياً مرض؟! هل دعا عليه بالموت؟!

    بل زاره، عاده وجلس عند رأسه، شاب مريض وعنده أبوه، يهودي كبير، أتعرف ماذا قال له؟ قال له النبي: (يا فلان! قل: لا إله إلا الله، واشهد أني رسول الله، فإذا بالشاب لا يرد على النبي عليه الصلاة والسلام، وينظر الشاب إلى أبيه -واليهود يعرفونه كما يعرفون أبناءهم- ماذا يقول له أبوه؟ أتعرف ماذا قال أبوه؟ قال اليهودي الكبير: يا بني! أطع أبا القاسم، فقال الشاب: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فمات الشاب من ساعته، وخرج النبي متهللاً مبتسماً ضاحكاً، وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار بيوَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].

    كان المنافقون يسبونه ويشتمونه، وكان يدعو لهم ويستغفر لهم، بل صلى عليهم حتى قال الله عز وجل: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة:80] قال: لأزيدن عن السبعين مرة، فنهاه الله عز وجل، انظر إلى رحمته!

    كان ينادي حليمة السعدية -مُرْضِعَتَه- وهو قد تجاوز الأربعين من العمر: يا أماه.

    استأذن ربه أن يزور قبر أمه وقد ماتت مشركة، فأذن الله له، فاستأذنه أن يستغفر لها، فلم يأذن الله له، فكان إذا مر على المقبرة زار قبرها، وأخذ يبكي عليه الصلاة والسلام، رحمة وأي رحمة!

    زيد بن حارثة، مولىً من الموالي، خدم عند النبي سنين، فلما جاءه أبوه وأراد أن يرجعه إليه، فطلب زيد من أبيه أن يبقى عند النبي صلى الله عليه وسلم، يقدمونه على آبائهم وأمهاتهم وأبنائهم، حب وأي حب هذا!

    حِلمه صلى الله عليه وسلم

    يأتيه رجل من الأعراب فيجذبه من ردائه، حتى أثَّر الرداء على صفحة عنقه عليه الصلاة والسلام، فإذا بالأعرابي يقول: (يا محمد! أعطني من المال -أعطني شيئاً من المال- فإذا بالنبي يبتسم، ويقول لأصحابه: أعطوه من بيت المال) .

    يسوِّي الصفوف يوماً من الأيام، فإذا برجل من الصحابة متقدم فيدفعه النبي فكأن وجهه قد تغير، فقال له النبي: (أوجعتك؟ قال له: نعم، قال: أتريد أن تقتص؟ قال الصحابي: نعم -الله أكبر! قائد الجيش مع فرد من الأفراد- قال: خذ حقك، والصحابة ينظرون، فقال له الرجل: يا رسول الله! إن بطني مكشوف، فاكشف لي عن بطنك، فكشف النبي عن بطنه -يريد الصحابي الآن أن يأخذ حقه، أتعرف ماذا صنع؟- انكب الصحابي على بطن النبي وأخذ يقبله وهو يبكي، قال النبي: لم فعلت هذا يا فلان؟ قال: أردتُ -قبل الجهاد ربما أموت- أردت أن تمس بشرتي بشرتك قبل أن ألقى الله عز وجل).

    ن وَالْقَلَمِ [القلم:1] انظر للقسم! ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:1-4] مَن الذي يصفه بهذا؟ رب العالمين جل وعلا، يصفه بأنه على خلق عظيم.

    في معركة بدر يقول عبد الرحمن بن عوف: [غمزني شاب عن يميني، قال: يا عم! أين أبو جهل؟ قلت: ما شأنك وشأنه يا غلام؟ قال: لقد سمعت أنه سب رسول الله، فوالله إن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعدل منا! سبحان الله! قال: فغمزني شاب عن يساري، فقال لي نفس الكلام، قال: سمعت أنه سب رسول الله ...].

    أين شباب الأمة اليوم؟! أين هم مِن الذين يسبون رسول الله؟! أين هم من الذين يطعنون في رسول الله؟! أين هم من الذين يستهينون بسنة رسول الله؟! أنا لا أقول: نغتالهم، بل ندافع عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، إن كان الأمر جهاداً فالقتل هو نهاية من يطعن في رسول الله، الحرب والقتل والجهاد.

    قال: [فلما رأيت أبا جهل قلت لهما: هذا صاحبكما، فانقضا عليه كما ينقض الصقر على الفريسة، فأردياه قتيلاً] لمه؟ إنه الحب لرسول الله، الحب الذي لا يعدله حب ألبتة.

    يقول أحد الكفار المستشرقين: لو كان محمدٌ حياً لحل مشاكل الشرق والغرب -كل المشاكل؛ الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية- وهو يشرب فنجان قهوة.

    أتعرف لمه يا عبد الله؟ لأنهم يعرفون قدره.

    صلته بالله تبارك وتعالى وخشيته له

    كان يحب الله عز وجل، كثير العبادة، وكان إذا جاء عليه الليل صلى الله عليه وسلم وأرخى ستوره، يقوم بين يدي الله يصلي ويبكي، يقول لـعائشة يوماً من الأيام: (ذريني يا عائشة! أتعبد ربي، قالت: والله يا رسول الله! إني أحبك وأحب قربك وأحب ما تحبه، فَتَرَكَتْه، تقول: فتوضأ فكبر يصلي، فبكى حتى اخضلَّت لحيته، وبلَّ حجره، وبلَّ الأرض، وكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، ويخشى الله عز وجل أشد الخشية).

    لما كسفت الشمس في حياته فزع فقام من مكانه وذهب إلى الصلاة، يقولون: (حتى نسي رداءه، فجاءه الصحابة بردائه ووضعوه على كتفيه وهو يصلي، فأخذ يصلي ويقرأ قراءة طويلة، يقول الراوي: فأخذ يبكي في الصلاة وهو يقول ويدعو الله عز وجل: ربِّ لم تعذبنا ونحن نستغفرك) .. وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ هذه كرامته على الله، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33] .

    بل كان إذا جاءت الريح يخاف عليه الصلاة والسلام، ويقول: (عُذِّب قومٌ بالريح وظنوا أنه عارض ممطرهم، ولكنها كانت ريحاً فيها عذاب شديد).

    عظم منزلته عند الله

    يوم القيامة انظروا كيف يرفعه الله عز وجل على العالمين (كل الأنبياء يقولون: نفسي.. نفسي.. إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، إلا النبي عليه الصلاة والسلام صاحب الشفاعة الكبرى، الذي يقول للناس: أنا لها.. أنا لها.. فيذهب فيسجد بين يدي الله ولا يحق لأحد السجود إلا رسول الله، حبيبنا عليه الصلاة والسلام، يسجد بين يدي الله عز وجل، فيقول له الرب بعد أن يلهمه تسابيح لم يكن يعلمها في الدنيا: يا محمد! ارفع رأسك، وسَلْ تُعْطَ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، فيقول: اللهم أمتى.. أمتى..) .

    قال فيه الشاعر:

    لما أتتك (قُمِ اللَّيْلَ) استجبت لها     العين تغفو وأما القلب لم ينمِ

    تمسي تناجي الذي أولاك نعمته     حتى تغلغلت الأورام في القدمِ

    أزيز صدرك في جوف الظلام سرى     ودمع عينيك مثل الهاطل العمِمِ الليل تسهره بالوحي تعمره     وشيبتك بهود آيةُ السَّقِمِ

    صبر ودعا إلى الله فلم يجزع يوماً من الأيام، كان يحلم على كل من جهل عليه، كان يدعو إلى الله عز وجل راجياً رجا أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً.

    زهده في الدنيا ورغبته فيما عند الله

    في حجة الوداع أوحى الله إليه: إنك يا محمد! سوف تغادر هذه الدنيا، لقد قاربت المهمة على النهاية، فإذا به يهيء قومه ويهيء المسلمين لهذا: (أيها الناس خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)، ونعاه الله عز وجل بقوله: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:1-3].

    فرجع من حجه (وفي شهر صفر أصيب بوعك شديد، فدخل على عائشة، قالت عائشة: يا رسول الله! وارأساه، قال: بل أنا وارأساه يا عائشة!) فجلس مريضاً.

    واشتد به المرض عليه الصلاة والسلام حتى عصب رأسه يوماً من الأيام فخرج على المنبر في الناس، فجمع الصحابة فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عند الله فاختار العبد ما عند الله.. فبكى من الصحابة رجل واحد -من هو؟ إنه صاحبه أبو بكر رضي الله عنه- قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله! ثم قال: إن مِن أمَنِّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، لكن صاحبكم خليل الرحمن) وأبو بكر يبكي ولا يعلم الناس لِمَ يبكي، علم أبو بكر بالخبر، علم أبو بكر بأن النبي يخبر الناس بأنه هو العبد الذي اختار ما عند الله.

    خرج عليه الصلاة والسلام ليلةً من الليالي مع أبو مويهبة إلى البقيع يستغفر للمؤمنين، قال: (يا أبا مويهبة! إني قد خيرت بين مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، وبين لقاء ربي والجنة، قال أبو مويهبة: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! اختر الخلد في الدنيا والجنة، قال: لا يا أبا مويهبة! اخترت لقاء ربي والجنة) .

    مرت الأيام، اشتد المرض على النبي صلى الله عليه وسلم حتى ارتفعت به الحمى، واشتدت به الحرارة، حتى جاء ذلك اليوم الذي استأذنه بلال بالصلاة، فقال النبي لـعائشة: (مري بلالاً يقرئ أبا بكر السلام، ويقول له أن يصلي بالناس، قالت عائشة: إن أبا بكر رجل أسيف يا رسول الله! مُرْ غيره، قال: مُروا أبا بكر فليصلِّ بالناس) خليفته من بعده، إنها الخلافة الشرعية التي سوف تكون هي الخلافة السياسية.

    فإذا بـبلال يؤذن أبا بكر أن يصلي بالناس، فأقام بلال الصلاة، فكبر أبو بكر بالصلاة وأخذ الصحابة يبكون؛ لأن الإمام وإن كان أبو بكر، لكنه ليس حبيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم!

    يوم ويومان ويشتد بالنبي المرض، كان يسكب عليه الماء الكثير بالقرب، حتى يقوم في الناس ليصلي، ولكنه لم يستطع عليه الصلاة والسلام.

    دخلت عليه فاطمة فبكت لما رأت حاله، وقالت: (واكرب أبتاه! واكرب أبتاه! قال: يا فاطمة! لا كرب على أبيك بعد اليوم، لا كرب على أبيك بعد اليوم، جاءت إليه فأسرَّها بِسِرٍّ؛ فبكت فاطمة، ثم بِسِرٍّ آخر؛ فضحكت فاطمة رضي الله عنها) .

    فقالت عائشة بعد زمن: [ماذا كان ذلك الذي أخبرك به؟ قالت: أخبرني بأنه سوف يفارق الدنيا فبكيت، ثم أخبرني بأنني أول الناس لحوقاً به فضحكت واستبشرت بهذا] .

    مر اليومان ثم في اليوم الثالث اشتد بالنبي عليه الصلاة والسلام المرض، وكان عند عائشة فدخل عبد الرحمن أخوها، وكان بيده سواك، فنظر النبي إلى السواك، فرطَّبته عائشة بريقها، وسوَّكت به النبي عليه الصلاة والسلام، ورأسه بين حجر عائشة ونحرها، وبل ريقه ريقها، ثم بعد قليل قال النبي -بعد أن وصَّى الأمة بما وصَّاها بها-: (لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله.. إن للموت لسكرات، إن للموت لسكرات، ثم قال: بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى) ثم غُمِّضت عيناه، وفارقت تلك الروح الطاهرة ذلك الجسد الطيب، فأظلم في المدينة كل شيء!!

    دمعت أعين الصحابة، وبكى مَن بكى.

    أما علي فلم يقدر على الكلام.

    وأما عثمان فلم يقوَ على القيام.

    وأما عمر رضي الله عنه، فقال: [من زعم أن رسول الله قد مات لأضربنه بالسيف، إنه لم يمت، بل ذهب إلى ربه وسيعود كما ذهب موسى] .

    حتى جاء أبو بكر إلى بيت ابنته عائشة فدخل على النبي وقد سُجِّي بالغطاء، فأزال الغطاء عن وجهه، فدمعت عيناه ثم قبله بين عينيه، وقال: [[طبت حياً وميتاً يا رسول الله! والله لا يذيقنك الله الموت مرة أخر].

    ثم خرج إلى الناس فنظر إلى عمر قال: يا عمر! اجلس. فما جلس.. يا عمر! اجلس.. فما جلس. فقام أبو بكر خطيباً في الناس، فقال: [أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم قرأ قول الله: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]] يقول عمر: [كأنني أسمع الآية لأول مرة] فرددها الصحابة في الطرق والشوارع، والكل يردد هذه الآية.

    ثم غسل النبي عليه الصلاة والسلام، ثم أدخل جسده الطاهر ذلك القبر الشريف، في المكان الذي توفي فيه.

    تقول فاطمة وقد بكت بعد أن دفن: [كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله؟!].

    أما علي رضي الله عنه وهو يغسله يقول وهو يبكي: [ما أطيبك حياً وميتاً يا رسول الله!].

    أما أنس، يقول: [لما دفناه أنكرنا قلوبنا، وأظلم في المدينة كل شيء] .

    حتى بعد أن مضى شيء من الزمان، قال أبو بكر وقد قام في الناس خطيباً: [أما بعد: فقد قال النبي وهو على هذا المنبر، ثم توقف وأخذ يبكي لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم] .

    أما عمر بعد أن فتح بيت المقدس وأذن بلال بالناس، وقف عمر بن الخطاب عند أحد الجدر وأخذ يبكي، وبكى الصحابة معه لما تذكروا إمامهم وقدوتهم محمداً عليه الصلاة والسلام: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] .

    1.   

    علاقة الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم

    إن الناس في علاقتهم بالنبي ثلاثة أصناف:

    الصنف الأول: من يحبه ويرفعه أكثر من قدره عليه الصلاة والسلام، حتى إن بعضهم أوصله لمراتب الألوهية والربوبية، فأصبح يدعوه، ويذبح له، ويستغيث به من دون الله.

    وهؤلاء قد جاوزا الحد، والنبي عليه الصلاة والسلام قد قال: (لا تُطْرُوني كما أَطْرَت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) فهو عبد الله، وهذا أشرف وصف له عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1].

    الصنف الثاني: أناس جفوه عليه الصلاة والسلام، وهجروا سنته -بأبي هو وأمي- لا يتبعون سنته ولا يقتفون أثره عليه الصلاة والسلام، لا يعرفون شيئاً عن حياته ولا شيئاً عن سيرته، لو سألتهم عن اللاعبين والمغنين لجاءوك بحياتهم وسيرتهم، أما عن حياة نبيهم؛ أزواجه، أبنائه، أصحابه؛ سيرته؛ جهاده؛ معاركه؛ عبادته، فلا يعرفون شيئاً عنها، تركوه! حتى إنك لو أتيتهم بحديث لقالوا: لا نأبه بالحديث، نأخذ القرآن وندع السنة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) ، وقال: (من رغب عن سنتي فليس مني) .

    أما الصنف الثالث: فهم المتبعون له عليه الصلاة والسلام، الذين يحشرون معه ويدخلون الجنة معه: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا مَن أبى، قيل: ومَن يأبى يا رسول الله؟! قال: مَن أطاعني دخل الجنة ومَن عصاني فقد أبى) .

    يوم من الأيام يخلع نعاله في الصلاة عليه الصلاة والسلام، فإذا بالصحابة كلهم يخلعون نعالهم، فينظر إليهم وقال: (ما الذي حملكم على هذا؟! قالوا: رأيناك خلعت نعالك فخلعنا نعالنا، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: إن جبريل قد أخبرني أن فيها أذى فخلعتها) أرأيتم اتباعاً كهذا؟!

    أما الناس اليوم إلا من رحم الله، بعضهم قد هجر سنته، واتبع هدياً غير هديه: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] .

    يتشرف الواحد منا لَمَّا يتأسى بهديه عليه الصلاة والسلام، لََمَّا يتأسى بمظهره، بعبادته، بأخلاقه، بدعوته، بجهاده، بسيرته؛ لأنه صاحب الخلق العظيم الذي لَمَّا سئلت عائشة عن خُلُقِه قالت: (كان خلقه القرآن) .

    قال بعضهم:

    يا أمة غفلتْ عن نهجه ومضتْ     تهيم مِن غير لا هديٍ ولا علَمِ

    تعيش في ظلمات التيه دمرها     ضعف الأخوة والإيمان والهممِ

    يوماً مُشَرِّقَةً يوماً مُغَرِّبَةً     تسعى لنيل دواءٍ من ذوي سقمِ

    لن تهتدي أمة في غير منهجه     مهما ارتضتْ من بديع الرأي والنُّظُمِ

    بأبي هو وأمي! كم علتْ همته في البذل الذي بَذَل، والهول الذي احتَمَل لتحرير البشرية من وثنية الشرك والضمير، وضياع المصير.

    فجزاه الله خير ما جزى نبياً عن أمته، وجعله أعلى النبيين درجةً، وأقربهم منه وسيلةً، وأعظمهم عنده جاهاً، وتوفنا اللهم على ملته، وعرفنا وجهه في الجنة، واحشرنا معه غير خزايا ولا نادمين، ولا شاكِّين ولا مبدلين ولا مرتابين.

    وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756216101