إسلام ويب

تفسير سورة غافر (14)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الله عز وجل هو الذي بنى السماء وجعلها سقفاً محفوظاً، وهو سبحانه الذي دحا الأرض وجعلها قراراً، وهو الذي خلق الإنسان وقومه، وفي أحسن صورة صوره، وجعل خلقه آية إعجاز لمن تدبر ووعى، وكتب عليه الموت كما كتبه على سائر مخلوقاته، ثم يبعثه يوم القيامة للحساب والجزاء، والمصير إلى الجنة أو النار، فهذا الرب العزيز الجبار لا يعصى ولا يكفر، وإنما تخلص له العبادة ويجرد له التوحيد، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الله الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [غافر:64-68].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! اعلموا يرحمني الله وإياكم أن معرفة الله عز وجل ضرورية، وأنه لابد وأن تسأل عن الله حتى تعرفه؛ لأن من لم يعرف الله لا يحبه، ومن لم يعرف الله لا يطيعه، ومن لم يعرف الله لا يتوكل عليه ولا يعبده، فمعرفة الله ضرورية، بل لابد أن تكون عارفاً بالله أكثر من معرفتك بنفسك أو بأبيك أو بابنك.

    وهذه الآيات كلها في بيان معرفة الله؛ لأن من عرف الله معرفة حقيقية لا يقوى على أن يعصي الله، ولا يقدر على أن يخرج عن طاعته، ولا يرضى أبداً أن يعبد معه غيره بحال من الأحوال.

    وهنا قال تعالى أولاً: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [غافر:64]. فالذي جعل لنا الأرض ثابتة قارة ليس آباؤنا وأجدادنا، ولا حكامنا ورؤساؤنا، ولا سحرتنا ودجالونا، بل الذي فعل هذا وجعلها ثابتة هو الله. واخرج الآن من هذا المسجد واذهب إلى الشرق وإلى الغرب وعد فستجده في مكانه، ما يزول شرقاً ولا غرباً؛ لأن الأرض ثابتة، ومع هذا هي في فلكها تدور دوراناً عجباً، وكل شيء مستقر فوقها، فهي قرار ثابت، ولا يقدر على هذا ولا يقوى عليه إلا الله. وهو الذي قال: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا [غافر:64]. وليس هناك من ينكر قرارها وثبوتها إلا مجنون أو أحمق.

    قال تعالى: وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [غافر:64]. فالسماء كالقبة فوقنا، والذي بنى السماء فوقنا هو الله، فهو الذي بناها بناء محكماً بحيث لا تسقط أبداً، حتى يأذن الله في ذلك. فهذا هو الله فاعرفوه.

    ثم قال تعالى ثانياً: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر:64]. فالله هو الذي صورنا في بطون أمهاتنا هذا التصوير العجب، وهو والله لعجب، فلو وقفت الآن بيننا تنظر فلن تجد اثنين لا يفرق بينهما، مع أن الصورة واحدة، وهذه أعظم آية لأولي العقول والبصائر والنهى. فلو يجتمع أهل البلد كلهم فلن تجد اثنين لا يفرق بينهما، بحيث يأخذ هذا زوجة هذا، وهذا يأخذ زوجة هذا، أو بحيث هذا يدخل على هذا في بيته ويقول: أنا فلان، وهذا مع وجود ملايين البشر، والأسماع والأبصار والأفواه كلها واحدة، بل لكل أحد صورة خاصة به. ولا يقوى على هذا التصوير إلا الله. فقولوا: آمنا بالله، فهو الذي صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر:64]، وأجملها وزينها، ولو كنا كالقردة .. كالخنازير .. كالكلاب .. كالذئاب .. كالقطط لكانت وجوهنا من أقبح الوجوه. ولكنه جعلنا أفضل هذه المخلوقات، كما قال: فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر:64].

    ثم قال تعالى ثالثاً: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ [غافر:64]. وهو الحلال اللذيذ الذي ليس بحرام، والذي ليس فيه خبث ولا نجس. وسائر الأطعمة والأشربة رزقناها الله، وهو الذي خلقها، وهدانا إلى طلبها، وأعاننا على ذلك، وعرفنا بها، وليس هناك إلا الله. ثم هم يعبدون عيسى وأمه، وينفون وجود الله ويكذبون به. فهؤلاء لا عقول لهم، وعقولهم تعبث بها الشياطين.

    ثم قال تعالى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ [غافر:64]. فهذا هو الله ربكم، أي: خالقكم ورازقكم، وهذا هو الله الذي تركعون وتسجدون له، والذين ترفعون أكفكم إليه سائلين ضارعين. وأما غير الله فلا يركع له ولا يسجد، ولا يسأل ولا يطلب، ولا يعظم ولا يبجل، ولا يحلف به ولا يعبد أبداً.

    وقوله: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ [غافر:64]، أي: خالقكم. فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [غافر:64]. فقولوا: تبارك الله رب العالمين. فما أكثر خيراته وبركاته في الكون وفي الحياة كلها، فهو رب العالمين وخالقهم، ومالك أمرهم والمدبر لحالهم، سواء كانوا إنساً أو جناً أو ملائكة، أو غير ذلك، فهو رب العالمين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين ...)

    قال تعالى: هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [غافر:65]. ووالله لا إله حق إلا هو، أي: لا خالق ولا رازق ولا مالك ولا مدبر للحياة إلا الله، فلذا لا يؤله -أي: لا يعبد- إلا هو. فلا يعبد إلا الله حتى بالحلف، فلا يجوز أن تحلف بغير ربك عز وجل؛ إذ الحلف بغير الله شرك في عظمة الله وجلاله وكماله، ولذلك قال تعالى: هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غافر:65]. فادعوه واعبدوه، و( الدعاء هو العبادة ). فأعلن عن حاجتك لربك، وأظهر له افتقارك، وارفع كفيك إليه، وارفع رأسك إليه، واسأله حاجاتك؛ فإنه يستجيب لك، وقد طلب منك أن تدعوه، وأما أن تدعو: يا سيدي فلان! .. يا فاطمة ! .. يا رسول الله! .. يا مولاي فلان! فهذا كفر وشرك، وضلال وباطل، بل هذا القول فيه الفساد والشر، فهو إعراض عن الله العليم الحكيم، الذي يسمع صوتك، والذي وخلقه فيك. ألا لعنة الله على المشركين.

    قال تعالى: وأخيراً قولوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [غافر:65]. فاحمدوا الله على هذا الإنعام الكبير، فالحمد لله رب العالمين. وهو الذي عرفنا بنفسه، ولسنا نحن الذين عرفناه، بل هو الذي عرفنا بنفسه، ولذلك علينا أن نقول: الحمد لله رب العالمين. فنحن ما كنا نعرفه حتى عرفنا بنفسه، فالحمد لله رب العالمين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ...)

    قال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ [غافر:66] يا رسولنا! وبلغ أمتك: إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [غافر:66]. فبلغهم أن الله نهاك أن تدعو وتعبد الذين يعبدونه من تلك الأصنام والأحجار والتماثيل حول الكعبة.

    وقوله: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ [غافر:66]، الذي نهى رسول الله هو الله عز وجل. فبلغهم إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [غافر:66]. فلا أعبد إلا الله، والذين تدعونه من دون الله من أصنام وأحجار لا ينفعون ولا يضرون، ولا يميتون ولا يحيون، فلا تدعونهم وتعبدونهم. وقد جاءني هذا النهي لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ [غافر:66]. فلما هنا هي الموقتة للوقت الذي جاءني فيه البينات، ففي الوقت الذي جاءتني البينات نهاني ربي أن أعبد الذين تعبدون أنتم من الأصنام والأحجار. هذا أولاً.

    وثانياً: وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [غافر:66]. فقد أمرني ربي أن أسلم له قلبي ووجهي، وسائر أعمالي، فهو رب العالمين. فهو يقوله لرسوله أن يقول: وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ [غافر:66]، أي: أن يسلم ويعطي قلبه لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [غافر:66]. فلا يتقلب إلا في طلب رضا الله، وكذلك وجهه لا يوجهه إلا إلى الله، ولا يعبد إلا الله.

    إذاً: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغ المشركين بأمر الله تعالى له، فقد قال له: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [غافر:66]، وذلك لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ [غافر:66]، أي: أسلم قلبي ومالي وحياتي كلها لله رب العالمين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ...)

    قال تعالى مخبراً من هو رب العالمين الذي أمر رسوله أن يسلم قلبه ووجهه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ [غافر:67]. فقد خلق آدم من التراب، وتوارث هذا البشرية من عهد آدم إلى اليوم. ولا ينكر هذا إلا المجانين والشياطين، والفلاسفة والكذابين. ومن يوم أن أوجد الله آدم والبشرية تتوالد، وهم مؤمنون بأن آدم خلقه الله من طين، ونفخ فيه من روحه، وأنزله إلى أرضه بعدما عصاه، وأخرج حواء من ضلعه الأيسر، ثم تناسلا، فكانت البشرية. فـهُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ [غافر:67]، أي: خلق آدم من تراب، وخلقنا نحن من تلك القطرة والنطفة، التي هي قطرة المني، ثم النطفة تحولت إلى علقة، ثم تحولت إلى مخلوق آخر إلى إنسان. ولم يفعل هذا أيدينا، بل هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ [غافر:67]. وهي قطعة الدم التي تعلق بالأصبع، فالمني يتحول إلى دم ويعلق بالأصبع. ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر:67]، أي: أطفالاً. ولم يفعل هذا سيدي فلان، ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عيسى ابن مريم ولا موسى الكليم، ولا غيرهم، بل الذي فعل هذا هو الله.

    إذاً: فلا يُعبد غير الله، وليس هناك حق لأحد بأن يُعبد من دون الله، ولكن الشياطين هي التي تضل البشرية، وتحملها على الكفر والشرك؛ حتى تشقى شقائها، وتهلك بهلاكها.

    قال تعالى: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ [غافر:67]. فإذا بلغ السادسة عشرة .. العشرين .. الأربعين فقد بلغ أشده. وسبحان الله! فهو الذي يكبرنا، فالطفل لا يبقى طفلاً، وأنتم لا تكبروه، ولا حتى بالسحر، ووالله أنه ليس في أيدينا شيء لنكبره. ولو كان يبقى الطفل طفلاً فإنه يبلغ الخامسة عشرة وهو كما هو، وما يزيد، ولكن قال تعالى: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا [غافر:67]. فقد كنا أطفالاً، ثم كنا شباباً، ثم أصبحنا شيوخاً. ولم يفعل هذا آباؤنا ولا أمهاتنا، بل الذي فعل هذا هو الله. إذاً: فليُعبد الله، وليدعى الله وحده، وليرهب ويخاف، ولا يعصى، بل يطاع. فـ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ [غافر:67]، أي: قبل أن يصل إلى الشيخوخة، كأن يموت في الأربعين أو الثلاثين أو العشر. وهذا التدبير تدبير الله، وليس تدبير صنم أو حجر، أو إنسان أو شيطان أو جان، بل لا يقوى على هذا إلا الله فقط. فهو الذي يكبر الشخص حتى يكون شيخاً، والذي يصل به إلى هذا المستوى هو الله، وليس آباؤه ولا أجداده ولا وإخوانه، بل هؤلاء يموتون. فقولوا: آمنا بالله.

    وقوله: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ [غافر:67]، أي: قبل أن تبلغوا الشيخوخة. وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى [غافر:67]. فأعمارنا مؤجلة، فهذا عشر سنين، وهذا عشرين، وهذا ثلاثين، وهذا خمسة وأربعين، وهذا سبعين، وهذا كذا. فالآجال والله محدودة بالدقيقة وباللحظة، ولا بد وأن نبلغ آجالنا، فمن كان له أجل إلى الخمسين فإنه يموت في الخمسين، وصاحب العشر في العشر، والعام في العام، وهكذا، كما قال تعالى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى [غافر:67]. وهو المعين عند الله، والمحدد بكذا سنة، وكذا يوماً ودقيقة.

    ثم قال تعالى: وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [غافر:67]. ولو أراد الله أن يخلقنا هكذا لقال: كونوا، وستكون البشرية كلها بلا طين ولا حديد، ولا مني ولا غير هذا. ولكن هذا الترتيب العجيب من نطفة .. علقة .. مضغة، ثم يكون طفلاً .. غلاماً .. شاباً .. شيخاً كبيراً من ترتيب الله، فهو الذي وضع هذا وأوجده، والسبب لهذا هو وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [غافر:67] أنكم مربوبون، وأنكم عبيد، وأن الله خالقكم وإلهكم، فاعبدوه ولا تعبدوا معه غيره.

    وهذه العبادة التي يطلبها ليس هو في حاجة إليها والله، فهو قد كان ولم يكن إنسان ولا ملك. ولكن سر هذه العبادة: أن تزكو نفوسنا، وأن تطيب أرواحنا، وأن نتهيأ لرضا الله، والنزول بجواره في الجنة دار السلام. هذا هو السر فقط، وليس هو في حاجة إلى صلاتك ولا صيامك، ولكن ذلك من أجل أن تطهر نفسك، فيقبلها وتنزل في الملكوت الأعلى مع مواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

    إذاً: معشر الأبناء! هيا نزكي أنفسنا، وهيا نطبها نطهرها، وذلك لا يكون بالماء والصابون، ولا بالعطر والبخور، وإنما بكلمة سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، وبكلمة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأن تخر راكعاً ساجداً. فهذه العبادات هي التي تزكي النفس وتطهرها، ومن أعرض عنها فوالله ما تزكو نفسه، ولا تطيب ولا تطهر. فمن أداها على غير الوجه الذي بينه الله ورسوله فوالله ما تزكو نفسه، ولا تطيب ولا تطهر. ولذلك لا بد وأن نعبد الله كما بين رسوله صلى الله عليه وسلم في كل العبادات، وإلا لم تنتج هذه العبادة الزكاة، ولا الطيب ولا الطهر. والدليل على هذا: لو صلى أحدكم الآن وما أحسن الصلاة فلن يجد عالماً يقول له: صلاتك صحيحة، بل سيقول له: قم أعد صلاتك. ومعنى ذلك: أن هذه الصلاة ما تزكي نفسك ولا تطهرها، بل لابد أن تصلي الصلاة التي من شأنها تزكية النفس وتطهيرها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون)

    قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [غافر:68]، أي: يوجد الحياة والموت. فقد كنا أمواتاً نحن قبل مائة سنة، ثم هو الذي أحيانا وأوجدنا، ثم نموت، وما يمضي مائة سنة إلا وليس هناك أحد منا باقياً أيها الحاضرون! إلا أن يشاء الله. فالذي يميتنا هو الله، كما قال: هُوَ [غافر:68] لا غيره ولا سواه الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا [غافر:68] وحكم به فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [غافر:68] على الفور. وهذا هو الله الذي نحب من أجله، ونكره من أجله، والذي نعيش من أجل عبادته، والذي نحب أن نراه، والذي نعبده ليلاً نهاراً، والذي لا نرفع أيدينا إلا إليه، ولا نعلق قلوبنا إلا به، ولا نرجو مخلوقاً من مخلوقاته سواه. وهو إذا أراد شيئاً قال له: كن، ووالله ما يعجز، بل لا بد وأن يتكون.

    إذاً: كل المعبودات التي يعبدها البشر باطلة إلا الله، فلا عيسى ولا عزير، ولا فلان ولا فلان. والعوام عندهم سيدي فلان ومولاي فلان، فلا إله إلا الله.

    وهذه الآيات بينت لنا عظمة الله، وعرفتنا به، فهيا بنا لا نعبد سواه، بل نعبده وحده، ولا نشرك به. والله تعالى أسأل أن يعيننا ويوفقنا.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    قال: [ هداية الآيات ] الآن مع هداية الآيات.

    [ من هداية ] هذه [ الآيات:

    أولاً: بيان مظاهر قدرة الله تعالى في الخلق والإيجاد والإرزاق، والإحياء والإماتة، وكلها معرفة به تعالى، وموجبة له العبادة والمحبة والإنابة، والرغبة والرهبة، ونافية لها عما سواه من سائر خلقه ] وهذا والله حق. فمظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته هي تلك التي بها عرفناه وعبدناه، وأحببناه وخشيناه وخفناه. وهذه المظاهر في الآيات أعرض عنها البشر؛ وذلك لأنهم لم يقرءوا كتاب الله، ولم يجتمعوا عليه، ولم يتدارسوه فضلوا، والعياذ بالله، وحولوا القرآن إلى الموتى؛ حتى ما يعرفوا الله. والذي يجلس ويسمع هذه الآيات تتلى عليه يعرف الله، وإذا عرف الله عبده، ولم يرض أن يُعبد معه غيره، ولكن مع الأسف صرفونا عن كتاب الله، وحولونا إلى الباطل.

    [ ثانياً: تقرير التوحيد، ووجوب عبادة الله تعالى وحده لا شريك له ] والتوحيد هو: أن يعبد الله تعالى وحده، ولا يعبد معه سواه، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا عبد صالح، فضلاً عن الأحجار والأموات. فلا يعبد إلا الله وحده. وهذه الآيات أدلة على ذلك.

    [ ثالثاً: بيان خلق الإنسان وأطوار حياته، وهي من الآيات الكونية الموجبة للإيمان بالله، وتوحيده في عبادته؛ إذ هو الخالق الرازق، المحيي المميت، لا إله غيره، ولا رب سواه ] فقد خلقنا أولاً نطفة، ثم نتحول إلى علقة، ثم نتحول إلى مضغة، ثم نخرج طفلاً، ثم نتحول إلى شاب، ثم رجل، ثم نتحول إلى شيخ كبير. وهذا لا يفعله إلا يد الله. ومع هذا يُجهل الله ولا يُعرف.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756480530