أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
بسم الله الرحمن الرحيم، سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1].
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع فاتحة سورة الإسراء، فهيا بنا نصغي لنستمع تلاوة هذه الآيات المباركة، ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس.
قال تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: سُبْحَانَ [الإسراء:1]، ما معنى كلمة (سبحان)؟ معناها: ننزه الله تعالى عن كل سوء، من قال: سبحان الله، قال: أنزه الله عن كل سوء؛ فلا زوجة له ولا ولد، ولا شريك له في الكون، فهو منزه مقدس عن كل الصفات الذميمة.
و: الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1] المراد بعبده هنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
واختار الله تعالى له اسم العبودية؛ لأنه أشرف الأسماء عند الله عز وجل، واسمه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي العدناني، ولكن اختار الله له اسم العبودية، فقال سبحانه: الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء:1] أي: بالليل، وأسرى في أول الليل، وسرى في آخر النهار، ويصح أن يطلق الإسراء والسري على أول الليل وآخره، وهذه الليلة المباركة هي ليلة الإسراء من مكة المكرمة إلى بيت المقدس، ومن بيت المقدس إلى الملكوت الأعلى، ذلكم هو المعراج والعروج إلى الملكوت الأعلى.
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [الإسراء:1]، وهو مكة المكرمة، وفيها المسجد الحرام.
إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1] أي: الأبعد؛ إذ هو أبعد من المسجد الحرام، فالمسجد الحرام بمكة والمسجد الأقصى ببيت المقدس، فهو أقصى، بمعنى: بعيد وأبعد.
وقوله: الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1] يعني: حول بيت المقدس في أرض الشام باركها الله بما فيها من الثمار والخيرات، والمسجد نفسه مبارك الصلاة فيه بخمسمائة صلاة، وحوله دفن الأنبياء، وما أكثرهم في تلك البلاد.
وقوله تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا [الإسراء:1] أي: أسرينا برسولنا ليلاً وعرجنا به إلى الملكوت الأعلى من أجل أن نريه آياتنا وعجائب خلقنا، وسوف نسمع هذا من ابن جرير الطبري بعد قليل؛ إذ فصل الإسراء والمعراج تفصيلاً كاملاً.
إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1] أي: الله تعالى هو السميع لأقوال عباده البصير بأعمالهم، يسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، عليم بكل ما في الكون، لا يخفى عنه ظاهر ولا باطن، ولذلك استحق أن يعبد، وكان أهلاً لأن يؤله، فيقال: لا إله إلا هو.
لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [الإسراء:1] أي: بالليل من المسجد الحرام بمكة، إذ أُخرج من بيت أم هانئ وغسل قلبه بماء زمزم، وحشي إيماناً وحكمة، ثم أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه جمع الله تعالى له الأنبياء في المسجد الأقصى، وصلى بهم إماماً، فكان بذلك إمام الأنبياء وخاتمهم، ثم عرج به إلى السماء.. سماء بعد سماء يجد في كل سماء مقربيها، إلى أن انتهى إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى، ثم عرج به إلى أن انتهى إلى مستوى سمع فيه صرير الأقلام ] أي: أقلام القدر.
[ وقوله تعالى: الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1] أي: حول المسجد الأقصى، معنى حوله: خارجه ]، حول المسجد: خارج المسجد.
[ وذلك بالأشجار والأنهار والثمار، أما داخله فالبركة الدينية بمضاعفة الصلاة فيه، أي: أجرها إذ الصلاة فيه بخمسمائة صلاة أجراً ومثوبة.
وقوله تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا [الإسراء:1] تعليل للإسراء ]، لماذا كان الإسراء والمعراج؟ قال: لنريه. تعليلاً لذلك، [ وهو أنه تعالى أسرى به وعرج به ليريه من عجائب صنعه في مخلوقاته في الملكوت الأعلى، وليكون ما علمه من طريق الوحي قد علمه بالرؤية والمشاهدة.
وقوله تعالى: إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1]، يعني تعالى نفسه؛ بأنه هو السميع لأقوال عباده، البصير بأعمالهم وأحوالهم؛ فاقتضت حكمته هذا الإسراء العجيب ليزداد الذين آمنوا إيماناً، وليرتاب المرتابون ويزدادون كفراً وعناداً ] والعياذ بالله.
أولاً: تقرير عقيدة الإسراء والمعراج بالنبي صلى الله عليه وسلم بالروح والجسد معاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم إلى السماوات العلى إلى مستوى سمع فيه صوت الأقلام وصريرها، وأوحى إليه تعالى ما أوحى، وفرض عليه وعلى أمته الصلوات الخمس.
ثانياً: شرف المساجد الثلاثة: الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى.
أما المسجد الحرام والأقصى فقد ذكرا بالنص ] في الآية الكريمة [ وأما مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ذكر بالإشارة والإيماء؛ إذ قوله (الأقصى) يقتضي قصياً، فالقصي هو المسجد النبوي، والأقصى هو مسجد بيت المقدس.
ثالثاً: بيان الحكمة في الإسراء والمعراج: وهي أن يرى الرسول صلى الله عليه وسلم بعيني رأسه ما كان آمن به وعلمه من طريق الوحي، فأصبح الغيب لدى رسول الله شهادة ].
قال رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري الصاحب المعروف.
قال: وحدثني الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر قال: أخبرنا أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري واللفظ لحديث الحسن بن يحيى في قوله: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1].
وقال الشيخ: قال أبو هارون في حديث أبي سعيد : ( ثم جيء بالمعراج الذي تعرج فيه أرواح بني آدم، فإذا هو أحسن ما رأيت، ألم تر -أيها السامع- إلى الميت كيف يحد بصره إليه )، الرجل الذي على فراش الموت لما نشاهده ينظر إليه بصره كاملاً، ما يتلفت أبداً إلى غيره، فهو يحد بصره إليه، هذا المعراج الذي تعرج فيه الأرواح.
قال: ( فإذا هو أحسن ما رأيت، ألم تر إلى الميت كيف يحد بصره إليه؟ قال: فعرج بنا فيه حتى انتهينا إلى باب السماء الدنيا، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبرائيل؟ قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم، ففتحوا وسلموا علي، وإذا ملك موكل يحرس السماء يقال له: إسماعيل، معه سبعون ألف ملك مع كل ملك منهم مائة ألف، ثم قرأ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31]. وإذا أنا برجل كهيئته يوم خلقه الله لم يتغير منه شيء، فإذا هو تعرض عليه أرواح ذريته، فإذا كانت روح مؤمن، قال: روح طيبة، وريح طيبة، اجعلوا كتابه في عليين؛ وإذا كانت روح كافر، قال: روح خبيثة وريح خبيثة، اجعلوا كتابه في سجيل، فقلت: يا جبريل! من هذا؟ قال: أبوك آدم، فسلم علي ورحب بي ودعا لي بخير، وقال: مرحباً بالنبي الصالح والعبد الصالح. ثم نظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل -حواجب عيونهم- وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم، ثم يجعل في أفواههم صخراً من نار يخرج من أسافلهم، قلت: يا جبريل! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً. ثم نظرت فإذا أنا بقوم يحذى من جلودهم ويرد في أفواههم، ثم يقال: كلوا كما أكلتم، فإذا أكره ما خلق الله لهم ذلك، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الهمازون اللمازون الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم بالسب. ثم نظرت فإذا أنا بقوم على مائدة عليها لحم مشوي كأحسن ما رأيت من اللحم، وإذا حولهم جيف، فجعلوا يميلون على الجيف يأكلون منها ويدعون ذلك اللحم، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزناة عمدوا إلى ما حرم الله عليهم، وتركوا ما أحل الله لهم. ثم نظرت فإذا أنا بقوم لهم بطون كأنها البيوت، وهي على سابلة آل فرعون، فإذا مر بهم آل فرعون ثاروا، فيميل بأحدهم بطنه فيقع، فيتوطؤهم آل فرعون بأرجلهم، وهم يعرضون على النار غدواً وعشياً؛ قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا، ربا في بطونهم، فمثلهم كمثل الذي يتخبطه الشيطان من المس. ثم نظرت فإذا أنا بنساء معلقات بثديهن، ونساء منكسات بأرجلهن، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هن اللاتي يزنين ويقتلن أولادهن. قال: ثم صعدنا إلى السماء الثانية، فإذا أنا بيوسف وحوله تبع من أمته، ووجهه كالقمر ليلة البدر، فسلم علي ورحب بي، ثم مضينا إلى السماء الثالثة، فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى، يشبه أحدهما صاحبه، ثيابهما وشعرهما، فسلما علي ورحبا بي، ثم مضينا إلى السماء الرابعة، فإذا أنا بإدريس، فسلم علي ورحب، وقد قال الله: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [مريم:57]، ثم مضينا إلى السماء الخامسة، فإذا أنا بهارون المحبب في قومه، حوله تبع كثير من أمته، فوصفه النبي صلى الله عليه وسلم: طويل اللحية تكاد لحيته تمس سرته، فسلم علي ورحب؛ ثم مضينا إلى السماء السادسة، فإذا أنا بموسى بن عمران، فوصفه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كثير الشعر، لو كان عليه قميصان خرج شعره منهما؛ قال موسى: تزعم الناس أني أكرم الخلق على الله، فهذا أكرم على الله مني -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- ولو كان وحده لم أكن أبالي، ولكن كل نبي ومن تبعه من أمته؛ ثم مضينا إلى السماء السابعة، فإذا أنا بإبراهيم، وهو جالس مسند ظهره إلى البيت المعمور، فسلم علي، وقال: مرحباً بالنبي الصالح والولد الصالح، فقيل: هذا مكانك ومكان أمتك، ثم تلا: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:68]. ثم دخلت البيت المعمور فصليت فيه، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إلى يوم القيامة؛ ثم نظرت فإذا أنا بشجرة إن كانت الورقة منها لمغطية هذه الأمة -الورقة منها تغطي هذه الأمة- فإذا في أصلها عين تجري قد تشعبت شعبتين، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما هذا فهو نهر الرحمة، وأما هذا فهو الكوثر الذي أعطاكه الله
قال: ( فاغتسلت في نهر الرحمة فغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، ثم أخذت على الكوثر حتى دخلت جنة، فإذا فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وإذا فيها رمان كأنه جلود الإبل المقتبة، وإذا فيها طير كأنها البخت، فقال
وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر