إسلام ويب

تفسير سورة التوبة (40)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كان النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر لعمه أبي طالب، وكان الصحابة يستغفرون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك، فأنزل الله عز وجل آيات ينهى فيها عن الاستغفار لمن ماتوا على الشرك والكفر، ويدخل في ذلك النهي عن تقديم القربات والصدقات عنهم؛ لأن ذلك لا ينفعهم، والاستغفار لمثل هؤلاء فيه اعتداء على حكم الله، والله عز وجل لا يرضى لعباده المؤمنين الخروج على حكمه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين...)

    الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وقد انتهت بنا الدراسة إلى سورة التوبة -تاب الله علينا وعلى الجميع-، وها نحن مع هذه الآيات الأربع، فهيا بنا نصغي مستمعين تلاوتها مجودة مرتلة، ونحن نتدبر ونتفكر، ثم نتدارسها إن شاء الله أجمعين.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [التوبة:113-116].

    سبب نزول قوله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين...)

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113].. إن أبا طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم كان واقفاً إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصره ويؤيده، وشاء الله أن تحضر ساعة وفاته، فجاءه الرسول صلى الله عليه وسلم يعوده في مرضه الذي مات فيه، فجلس إلى جنبه وقال له: ( يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله يوم القيامة )، وإلى جنبه أبو جهل الطاغية الكبير، المشرك العظيم وعبد الله بن أمية فكان إذا هم أن يقول: لا إله إلا الله ينظر إليهما فيخافهما، ولا ينطق بـ(لا إله إلا الله).

    فقال له أبو جهل: أترغب عن ملة آبائك وأجدادك -وهي ملة الشرك والكفر-، وتقبل هذه الدعوة؟ أي: دعوة التوحيد، ومع الأسف كان أبو طالب على ملة أبيه عبد المطلب ، وهنا تألم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً: لوفاته إذ كان ناصراً ومؤيداً له قرابة تسع سنوات.

    وثانياً: كيف يموت على الشرك ويدخل جهنم، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن قال: ( لاستغفرن لك ما لم أنه عن ذلك )، أي: وعده أن يستغفر له، ويطلب المغفرة من الله له؛ حتى لا يعذبه في النار ما لم ينه عن ذلك، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    إذاً: وتمضي الأيام وأصبح المؤمنون يستغفرون لآبائهم وإخوانهم الذين ماتوا على الشرك، فنزلت هذه الآية الكريمة: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113] أي: كالأب والابن والأخ وابنه، والصيغة صيغة نفي، ولكن معناها النهي، نهانا عز وجل أن نستغفر للمشركين؛ لأن الله حكم بعذابهم وخلودهم في النار، وقضى بهذا ومضى حكمه، فتأتي أنت فتطلب من الله أن يتنازل عن حكمه، وهذا لا يليق أبداً بالعبد مع ربه.

    فما دام قد حكم الله وقضى فلا تحاول أن تنقض حكمه، مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113] أي: أصحاب قرابة، فمن ثم ترك النبي صلى الله عليه وسلم الاستغفار لأبويه ولـأبي طالب، ودليل ذلك عندما اعتمر صلى الله عليه وسلم في السنة السادسة أو السابعة عمرة الحديبية مر بقبر والدته بالجحفة قريباً من رابغ، فوقف طويلاً يبكي، فسألوه: ( ما أبكاك يا رسول الله! قال: هذه أمي أُذن لي في زيارتها، ولم يأذن لي ربي في الاستغفار لها، فبكيت ).

    معنى قوله تعالى: (من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم)

    قال تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113]، ويتبين لنا أن فلان من أصحاب الجحيم إذا مات على الشرك والكفر، فإذا مات الإنسان ذكراً أو أنثى كافراً مشركاً فهو من أهل النار، فما معنى طلب المغفرة له إذاً؟!

    مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113] والجحيم هي طبقة من طبقات النار ومن أسوئها. والسؤال الآن من هم المشركون الذين لا يجوز الاستغفار لهم إن ماتوا على شركهم؟ أما من أسلم وتاب تاب الله عليه، المشركون هم الذين أشركوا غير الله تعالى من المخلوقات في عبادة الله عز وجل، أي: عبدوهم مع الله غيره، أشركوا أناساً.. أحجاراً.. تماثيل.. ملائكة.. أنبياء رسلاً.. عبدوهم فجعلوهم شركاء لله في حقه في عبادته، إذ العبادة حق الله على كل إنسان، مقابل خلقه ورزقه وتدبير حياته، طلب منه أن يعبده، والله هو الذي يبين ما يعبد به، فمن عبد مع الله غيره يقال فيه: أشرك، فهو مشرك، مشرك لغير الله في عبادة الله، وكل كافر مشرك، فالذي كذب الله ورسوله كفر وعبد الشيطان ومشى وراءه.

    إذاً مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113] قبل أن تنزل هذه الآيات كان الرسول يستغفر لـأبي طالب ، وكان بعض المؤمنين يستغفرون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك، فنزلت هذه الآية فأغلقت الباب، وما بقي لمؤمن أن يقول: اللهم اغفر لفلان وهو قد مات على غير: (لا إله إلا الله)، فلا يحل أبداً، فإذا الاستغفار ممنوع فالصدقة من باب أولى.

    وهنا قد يقول القائل: إبراهيم عليه السلام وعد أباه أن يستغفر له، إذ قال في سورة مريم: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [الممتحنة:4] وهذا وعد.

    وفي سورة الشعراء: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ [الشعراء:86-88]، فإبراهيم عليه السلام وعد أباه مرتين أو ثلاثة بأن يستغفر له قبل أن ينزل عليه وحي يمنعه.

    وجوب الوفاء بالوعود والعهود

    وهنا يحدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حادثة والد إبراهيم في جهنم، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا وقف الناس في عرصات القيامة وساحات فصل القضاء..) وإبراهيم عليه السلام الأب الرحيم، فإبراهيم بالعبرية اليهودية: الأب الرحيم، حقاً والله! لأب رحيم، ولرحمته التي تغمره يستغفر للمشرك من رحمته.

    تتجلى لنا لطيفة: لما علم الله عطف إبراهيم عليه السلام وشفقته ورحمته على الخلق كلهم ابتلاه بأن يذبح ولده إسماعيل، فاستجاب إبراهيم عليه السلام وخرج بولده إلى منى، حيث تراق الدماء، وأسنده إلى الأرض والمدية في يده، وإذا بجبريل عليه السلام إلى جنبه وبيده كبش أملح، ويقول: خذ هذا واترك هذا، قال تعالى: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107].

    ابتلاء عجيب! فلو كان إبراهيم عليه السلام قاسي القلب مثلنا ما ابتلي بهذا، ولكن لرقة قلبه ورحمته بالعامة، فليس ذبح لشاة أو لبعير.. الأب الرحيم في عرصات القيامة يقول: يا رب لقد وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، وهذا أبي الأبعد في النار، فأي خزي أعظم من هذا الخزي؟ إذ قال تعالى في سورة الشعراء: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [الشعراء:87] واستجاب الله له، فطالب إبراهيم ربه تعالى بهذا الوعد من سورة الشعراء، قد وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، وهذا أبي الأبعد في النار، فيأمر الله تعالى ملائكته بأن يخرجوا آزر أبو إبراهيم، ولكن في صورة ضبع ملطخ بالدماء والأوساخ، فيقول له الرب تبارك وتعالى: ( إبراهيم! انظر تحت قدميك، فينظر فإذا أبيه في صورة ذكر الضباع، فما إن يراه حتى يقول: سحقاً سحقاً سحقاً بعداً بعداً بعداً، فيؤخذ من قوائمه الأربع ويلقى في أتون جهنم )، فتطيب نفس إبراهيم عليه السلام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه...)

    قال تعالى منبهاً المؤمنين: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114]، (الأواه) أي: الذي يكثر من كلمات التأسف والتحسر والتألم: آه، (حليم) إذا غضب لا ينتقم أبداً ولا يؤذي، (حليم) لا يقول إلا ما هو حق وخير، ولا يؤذي أحداً فهذا شأنه، وهذه رحمة الله تجلت في إبراهيم عليه السلام فهو حليم أواه منيب.

    إذاً ما بقي لنا حجة الآن لنقول: نستغفر لأبي وهو مات على الشرك، أو نستغفر لأمي وهي ماتت على الكفر، فلا عذر لأحد، فمن مات على غير (لا إله إلا الله) لا يحل الاستغفار له، ولا التصدق عليه أبداً؛ لأن ذلك لا ينفعه ولا يجزيه، بل ويحرم علينا أن نستغفر؛ لأننا نريد أن ينقض الله تعالى حكمه، لقد حكم الجبار بذلكم الحكم العظيم الذي نتلوه ونقرؤه، ونحن عنه غافلون: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، (أفلح) أي: فاز ونجا من عذاب النار ودخل الجنة دار الأبرار، (من) رجل كان أو امرأة، زكى نفسه، أي: طيبها أي: طهرها فأصبحت كأرواح الملائكة أهلاً لأن تنزل دار السلام مع مواكب النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وقد خاب وخسر من دس نفسه.

    فما هي مواد التزكية؛ حتى نزكي أنفسنا إن شاء الله، وما أدوات التدسية حتى نتجنبها ولا نقارفها إن شاء الله؟

    والجواب: مادة التزكية الإيمان الصحيح والعمل الصالح، وهذه هي الروشتة التي يعطيها الطبيب.

    الإيمان الصحيح الذي إذا عرضته على القرآن صدق عليه وقال: أنت مؤمن، عرضته على حياة رسول الله وإيمانه وسلامته وطهارته فوافقت السنة على إيمانك، وهذا أولاً.

    والثاني: العمل الصالح، ويبدأ بإقامة الصلاة وينتهي بإزالة الأذى من طريق المؤمنين، وكل ما شرعه الله ورسوله للقول أو للعمل هو عمل صالح، صالح بالفعل يزكي النفس ويطهرها.

    1.   

    صفات المؤمنين هي مظاهر وأدلة إيمانهم

    معاشر المستمعين! مواد التزكية: الإيمان الصحيح والعمل الصالح، فاعرض إيمانك على القرآن بقراءته والتدبر فيه تجد نفسك مؤمن أو غير مؤمن، واعرض إيمانك على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واقرأ سيرته وما كان يدعو إليه تفهم أنك مؤمن أم لا.

    ففي القرآن الكريم مظهرين للإيمان، فمن وجد نفسه بينهما فليحمد الله وليخر ساجداً، ومن لم يجد نفسه فيهما يظهر مرة ويغيب أخرى يبكي حتى يتوب الله عليه:

    إذا ذكر الله وجلت قلوبهم .. وعلى ربهم يتوكلون

    المظهر الأول: يقول تعالى عندما ادعى بعض المدعين الإيمان باللسان: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الأنفال:2] هذه الصيغة تقول بحق وصدق، وليس بالادعاء والنطق: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، من كان مؤشر الإيمان عنده مائة وسبعين، وعند سماعه لآية تقرأ يرتفع مؤشر الإيمان إلى الثلاثمائة أو الأربعمائة، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، لا على بغي الشيشة والحشيشة، ولا على السرق والنهب والتلصص، ولا على الحاكم أو المحكوم، وإنما على ربهم يتوكلون.

    فمثلاً تقول: يا فلان! لا تبع هذا المحرم، فيقول لك: الزبائن لن يشتروا من عندنا إذا لم نبع هذا، فنحن نبيعه لأجلهم، فهذا توكل على الله أو على بيع الحرام؟!

    يا عبد الله! اشهد الصلوات في بيوت الله، يقول: العمل ما يتناسب معه، نصلي في المنزل أو في العمل، أين التوكل على الله؟

    وَعَلَى رَبِّهِمْ [الأنفال:2] أي: لا على غيره يتوكلون، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:3-4].

    فهل رأيتمونا على هذا المظهر؟

    إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الأنفال:2] بحق الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، أما وهو يشهد المعصية ويباشرها، تقول له: اتق الله، فيضحك، هل يفعل هذا مؤمن؟! والله! ما هو بمؤمن.

    هو يباشر المعصية ويزاولها، فتقول: أما تتقي الله يا فلان! يضحك ويسخر منك، هل هذا مؤمن؟!

    إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الأنفال:2] بحق الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2] أي: خافت واضطربت وتخلت عن المعصية، وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [الأنفال:2-3]، فإن شاء الله تعالى نظهر في هذا المظهر.

    المؤمنون بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف.. ويطيعون الله ورسوله

    المظهر الثاني: وهو من سورة التوبة هذه المباركة، يقول تعالى في بيان المؤمنين والمؤمنات بحق لا بالادعاء والنطق: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [التوبة:71].

    وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] أي: لا يقتل بعضهم بعضاً، أو يذبح بعضهم بعضاً، أو يسب بعضهم بعضاً، أو يأكل بعضهم بعضاً، ويسخر بعضهم من بعض، فمن هذا شأنهم فليسوا بمؤمنين.

    وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ [التوبة:71] فوليك بعد الله هو كل مؤمن ومؤمنة، أي: ينصر بعضهم بعضاً ويحب بعضهم بعضاً، الولاء النصرة والمحبة، فالذي يبغض المؤمنين ويكرههم ما هو بمؤمن، والذي يخذلهم ويسلط عليهم أعداءهم ما هو بمؤمن.

    والآية واضحة: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] مؤمن في الصين وآخر في أمريكا يحب بعضهما بعضاً، وينصر بعضهما بعضاً، إذا تطلب ذلك الزمان، أما مؤمن يسفك دماء المؤمنين ويفجر بنسائهم ويمزق أعراضهم، وينهب أموالهم فليس بوليهم، وإنما عدوهم.

    وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ [التوبة:71] إذا تركه من تركه وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة:71] إذا فعله من فعله، وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ [التوبة:71]، إقام الصلاة كما تفعلون الآن في الحج، فلا يتخلف عن صلاة العشاء أو المغرب أو الصبح والظهر أحد، وهكذا طول العمر وفي أي بلد كنا، وهكذا تقام الصلاة، تقام في بيوت الرب مع جماعة المؤمنين.

    وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [التوبة:71]، فمن كان له مال من النقود وحال عليه الحول يجب أن يخرج زكاته (2.5%)، فإن كان المبلغ ألف ريال يخرج منها خمسة وعشرين ريال، وإذا كان يملك زرعاً وحباً أو ثماراً كذلك إذا حصد يجب أن يخرج زكاة ماله، والذي يملك الماشية من إبل أو بقر أو غنم إذا بلغت نصاباً، وحال الحول يجب أن يخرج زكاتها ونفسه مطمئنة طاهرة، وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة:71].

    معاشر المستمعين والمستمعات! قول ربنا جل ذكره: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة:114] براءة كاملة، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114]، والأواه هو الذي يردد دائماً (آه) أستغفر الله، أتوب إلى الله، ماذا فعلنا ما أعظم ذنوبنا وهكذا، فليس هناك الفرح والرقص والعياط والسياط.

    (أواه حليم) أي: ذاك الذي إذا غضب لا يسب ولا يشتم ولا يمد يده ولا يضرب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم...)

    ثم قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [التوبة:115]، وهذه سنته في خلقه، فلما استغفر المؤمنون لآبائهم وأجدادهم المشركين ما كانوا يعلمون، فالله عز وجل بين لهم أن هذا الاستغفار لا يجوز فتركوه، وهذه ألطاف الله ورحماته بعباده.

    وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ [التوبة:115]، أي: لا يسمح الله لهم أن يضلوا ويفجروا ويفسقوا، ومن هنا أنزل هذه الآية وعلمهم أنه لا يجوز الاستغفار للمشرك الكافر.

    حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [التوبة:115] فإن بين لهم ما يفعلون أو ما يتركون ثم انتكسوا وفعلوا المنهي وتركوا المأمور به هلكوا وضلوا، فليس من شأن الله تعالى أن يضل قوماً بعد إذ هداهم، فمن بين له الطريق، ولم يسلكه اعوج وانحرف وهلك.

    إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التوبة:115] أي: عليم بدقيق الأشياء وجليلها وكثيرها وقليلها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الله له ملك السموات والأرض...)

    قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [التوبة:116]، آمنوا هذا الإيمان إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [التوبة:116] وما فيهما، يحيي من يشاء حياة أبدية ويميت من يشاء، يعطي ويمنع، يضر وينفع، واعلموا أنه: وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [التوبة:116].

    معشر المؤمنين! والله الذي لا إله غيره! ما لنا من ولي ولا نصير، لا أمريكا ولا الصين، ولا اليابان ولا الهنود، ولا البيض ولا السود..، فلنطلب ولاية الله، ولنطلب النصرة من الله؛ وذلك بالإيمان والاستقامة، بالإقبال على الله عز وجل، بطاعته وطاعة رسوله.

    ينفي تعالى -وهو الحق- ما كان لكم من ولي أيها المؤمنون، هل لنا من ولي غير الله؟ هل لنا من نصير غير الله؟

    أين هم نصراؤنا الذين نصرونا، فلنصحح إذاً عقيدتنا ولنرتبط برباط العبادة بربنا فتتحقق لنا ولايته، ونصبح أولياءه إن رفعنا أكفنا إليه ما ردها خائبة، وإن استنصرناه نصرنا وما خذلنا، أما أن نحيد عن الطريق ونتخبط: هذا طالع وهذا هابط، هذا موحد وهذا مشرك، هذا ضال، وهذا مرتد، هذا خرافي.. وهذا..

    فتتحقق الولاية بأن نكون كجسم واحد، بلاد ذات مليونين كأنهم والله! رجل واحد، الولاء والحكم، وكاد لنا العدو وفعل بنا ما فعل فأبعدنا عن القرآن، فهل كان القرآن يدرس كما نحن الآن؟!

    أكثر من أربعمائة سنة ما يجلس عليه اثنين ولا يدرسونه، ومن قال: قال الله.. قيل له: اسكت، كفرت، فحجبونا عن نور الله فضللنا.

    فهيا نعود.. يجلس اثنان يقول: من فضلك! أسمعنا شيئاً من كلام الله عز وجل، فهم آية أو ما فهمها يقول: نسأل العالم: ما معنى قول ربنا كذا وكذا، ليعمل ويعتقد.

    والله تعالى أسأل أن يعلمنا وينفعنا بما يعلمنا، ويدخلنا في رحمته وفي عباده الصالحين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756512961