أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك. آمين.
وها نحن مع سورة النحل، ومع هذه الآيات المباركات الكريمات:
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ [النحل:57-62].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [النحل:57] عمن يتكلم الرب؟ من هم هؤلاء الذين يجعلون لله البنات سبحانه؟ هم قبيلة خزاعة وكنانة من قبائل العرب في هذه الجزيرة.
يقولون: الملائكة بنات الله. ولذا عبدوهم لهذه النسبة؛ لأنهم ما داموا بنات له فإنهم أهل للعبادة، وهذا شرك وكفر ما فوقه كفر ولا شرك؛ لأنه افتراء وكذب محض، إذاً: هم قالوا: الملائكة بنات الله وسنعبدهم.
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [النحل:57] أي: من الذكران. فالذكور لهم وأما البنات فلله، كيف يصح هذا عقلاً فضلاً عن الشرع؟
الله جل جلاله ذو القدرة التي لا يعجزها شيء، والعلم الذي أحاط بكل شيء، والحكمة التي لا يخلو منها شيء تنسب إليه البنات وأنت تتقزز من نسبتهن إليك؟ إنه الجهل وإغواء الشياطين، الشياطين التي تعمل ليلاً ونهاراً على إفساد بني آدم ليشاركوهم في العذاب الأخروي فيخلدوا معهم في جهنم.
هم لا يرتاحون أبداً أن ندخل الجنة ويدخلوا النار، فلهذا إبليس وذريته وأولياؤه وأعوانه يعملون ما استطاعوا لأجل إفساد قلوب البشرية وإبعادها عن العبادة لله وحده، وذلك بعبادة الشيطان حتى يهلكوا، فلا عجب.
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ [النحل:57] تقدس وتعالى وتعاظم وتكبر عن نسبة البنات إليه وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [النحل:57].
وفي سورة الصافات يقول تعالى: أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلا تَذَكَّرُونَ [الصافات:153-155] هل اختار البنات على البنين؟ مع أن الملائكة لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة، فهم خلق آخر ليسوا كعالم الإنس والجن.
وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [النحل:57] ما الذي يشتهونه؟ الذكور.
إذاً: قوله: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى [النحل:58] معناه: إذا قيل لأحدهم: أبشر فقد ولدت امرأتك بنتاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [النحل:58] أي: مملوءاً من الغم والكرب حتى أنه ما يستطيع أن ينطق -كالقربة إذا كظمتها وربطتها- من الهم؛ لأنهم اعتادوا هذه الصفة الرذيلة وعاشوا عليها ونشئوا، إذ كل من يقال له: امرأتك ولدت بنتًا يكرب ويحزن ويغتم.
كيف إذاً تجعلون البنات لله وأنتم تكرهون البنات؟ أين إنصافكم مع ربكم لو كان هناك عقول؟ سيدك ومولاك وخالقك وربك الذي تؤمن بأنه خلقك ورزقك تنسب إليه العجز والبنات وتنزه أنت نفسك عن ذلك؟ والله إن هذا لمن وحي الشيطان وإملائه، فهو الذي قرره في نفوسهم.
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ [النحل:58] طول النهار مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [النحل:58] ما يستطيع أن ينطق من الهم والغم.
وعند بعضهم إذا قاربت المرأة أن تلد ينتظرونها، فيحفرون حفرة ليسيل فيها الدم، فإذا كان المولود ذكراً أخذوه، وإذا كان أنثى دفنوها في نفس المكان.
وعند البعض الآخر تقتل البنت فقط لأنها تحمل العار: فحين يأخذها شخص آخر يذل ويهان والدها لأن ابنته عند فلان أخذها، وهذه تجعل في قلوبهم كراهية البنت.
ثالثاً: يجعلونها للآلهة: يا هبل .. يا فلان! إذا ولد لي ولد فهو لك. فيجعلونها لآلهتهم، وقد جاء في سورة الأنعام قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ [الأنعام:137] وهم الشياطين الذين زينوا لهم قتل أولادهم إما خوفًا من الفقر أو خوفًا من العار، وإما أن ينذروهم لآلهتهم نذراً والعياذ بالله، فها هو ذا تعالى يفضحهم ويبين ما أعطاهم ليعالجهم بهذه الأنوار القرآنية الكريمة.
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ [النحل:58-59] أيمسك المولود وهو بنت. الذي بشر به أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ [النحل:59] على إهانة وذلة وصغار في بيته، أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ [النحل:59] أي: يدفنه حياً أو ميتاً.
أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل:59] (ألا ساء) أي: قبح واشتد قبح ما يحكمون به، حين ينسبون لله البنات وهم يكرهونها لأنفسهم، وهذه ثمرة الجهل والعياذ بالله، ولذا لما جاء نور الله وبعث فيهم رسوله عاد جلهم إلى الحق وتاب وعبد الله عز وجل.
والأمر واضح: فإن إيمانك بالله رباً على كل شيء قدير، يراك حيثما كنت ويسمع كلامك ويأخذ منك ويعطي وهو على كل شيء قدير، إيمانك به يجعلك تخافه وترهبه وما تستطيع أن تعصيه أو تخرج عن طاعته، بل تستحي أن تقول كلمة سوء يكرهها سبحانه، وتخجل أن تفعل فعلة ما يريدها منك.
إذاً: الإيمان بالله إذا ترسخ في النفس وثبت فصاحبه حيي من الله تعالى، ما يقوى على أن يقول كلمة يعلم أن الله يكرهها، ولا يقدر على أن يمشي مشية إذا علم أن الله يكره هذه المشية.
الإيمان بالله بمثابة الروح كما بينا، فإن المؤمن بحق حي والكافر ميت، والدليل العمل: المؤمن يعمل ما أمر الله بعمله ويكره ويترك ما أمر الله بتركه، والكافر لا يفعل ذلك، لماذا؟ لأنه ميت ما آمن وما حيي، فالإيمان بالله عز وجل واليوم الآخر ركنان من أركان الإيمان وهما أعظم الأركان.
فالمؤمن حقاً بالله يعلم أن الله معه يراه ويسمع كلامه ويقدر على أن يبطش به ويذله إذا عصاه، ويأخذ بيده وينصره إذا طاع، لا يخفى عليه من أمره شيء، وبهذا يستحي من الله أن يعصيه، فلا يعصيه حياءً، وأما الخوف فلا تسأل.
الإيمان بيوم القيامة، بالبعث الآخر، بالجزاء في الدار الآخرة، إذا حققه العبد وصدق فسكنت نفسه واطمأنت إلى أنه سيجزى بعمله هذا في الآخرة فإنه يتحاشى أن يفعل جريمة أو يرتكب إثمًا من الآثام؛ لأنه يخاف أن يجزى به مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123].
فالذي تستقر هذه العقيدة في نفسه وتشع أنوارها -والله- إنه ليصبح وهو يغمض عينيه ما يستطيع أن ينظر إلى امرأة لا تحل له أبداً، ما يستطيع أن يتفوه بكلمة كذب أو باطل فضلاً عن السب أو الشتم، ما يقدر أن يمد يده ليتناول ما لا يحل له أبداً، بل لا يمشي خطوة ولا خطوات إلى معصية الله لأنه يعلم أنه سيحاسب الحساب الدقيق عن كل ما قاله وما فعل.
ومن هنا لعلم الله تعالى ورحمته وحكمته يقول: ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة:232]، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النساء:59]، إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة:228]، هذان الركنان عليهما مدار الإيمان بأركانه الستة.
فالجواب: من أجل أن يذكر ويشكر، من أجل أن يعبد؛ إذ قال تعالى في حديث قدسي: ( يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك ) حتى الجنة والنار من أجلنا، هذا يدخل الجنة وهذا يدخل النار، هذا كافر وهذا مؤمن، هذا بار وهذا فاجر، ( وخلقتك من أجلي )، إذاً: فهذه الأكوان كلها مخلوقة من أجلنا، ونحن مخلوقون من أجل الله لنعبده بالذكر والشكر.
والحياة الثانية الآخرة آتية ونحن نقترب والله منها يومياً، كلما مضى يوم اقتربنا خطوة، لم أوجد الله ذلك العالم وفيه عالم شقاء وعالم سعادة، فيه جنة في عليين وجهنم في أسفل سافلين؟ ما السر؟ ما الحكمة؟ أمن أجل أن يعبد؟ الجواب: لا. بل من أجل أن يجزي العاملين في هذه الدنيا.
استخدمهم واستعملهم، فمتى يجزيهم؟ في الدار الآخرة، إذاً: فسر هذه الحياة: العمل، وسر الآخرة الجزاء فقط، أهل الإيمان وصالح الأعمال في جنات عدن، وأهل الفجور والشرك والكفر في جهنم وبئس المصير، هذه الحقيقة التي لا يصح أن تغيب عن أذهان العالمين.
هل تجدون شخصاً يؤمن بلقاء الله والوقوف بين يديه وهو يواصل الفجور؟ يواصل الكذب والخيانة والخداع؟ والله ما كان؛ لأن هذه الأعمال إنما تنتج عن قلب لا يؤمن بلقاء الله أو عن قلب إيمان صاحبه ضعيف هزيل لا قيمة له، أما من آمن إيماناً حقاً أنه سيقف بين يدي الله ويسأل عن كل ما قال وفعل ويجزى به فوالله لا يواصل الجرائم أبداً، وإن كانت قد تزل قدمه، لكنه حينئذ يقول: أستغفر الله وأتوب إليه.
ثم قال تعالى وقوله الحق: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [النحل:60] أي: من صفاته المثلى: العزة والحكمة، فالله عزيز بمعنى: غالب قاهر لا يعجزه شيء، حكيم يضع كل شيء في موضعه ولا يخطئ أبداً، فالحكمة: وضع الشيء في موضعه، أليس كذلك؟ نعم، وإليكم ما يوضح ذلك:
فمثلاً: الآن هل هذا المقام مقام أكل وشرب؟ بالطبع لا ولو أخذ واحد يأكل ويشرب فقد أساء؛ لأنه ليس في ساعة أكل وشرب، وهو بذلك غير حكيم، كذلك لو قال: تزحزحوا لأنام الآن ثم نام بينكم؛ فهل الحكمة تقتضي هذا؟ لا يصح أبداً؛ لأن الحكمة الآن هي الإصغاء والتفهم والتدبر فيما نسمعه من كتاب الله.
فالحكيم: الذي يضع كل شيء في موضعه، والله عز وجل هو العزيز الحكيم، يعز من يشاء ويرحم من يشاء وكل ذلك بحكمه، فيعذب من أراد تعذيبه لأنه كفر به ووصفه بالنقص والضعف ومثل السوء، ويعلي شأن من أراد ويرحمه لأنه أعظم الله وكبره ووصفه بالكمال.
لو أن قائلاً يقول لي: لماذا يسمح الله لهم بالبقاء وهم يكفرون به ويشركون به وينسبون إليه الباطل؟ لم ما قضى عليهم وأبادهم؟
فالجواب في الآية: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ [النحل:61] لا إنسان ولا حيوان، هذا خبر الله أم لا؟
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ [النحل:61] تدب على وجه الأرض؛ فمثلاً: لو أخذ الله تعالى عبد الله بن عبد المطلب وأهلكه أيولد محمد صلى الله عليه وسلم؟ كذلك آزر الكافر الطاغية المشرك لو أهلكه الله من أين يأتي إبراهيم؟ من يلده؟ فتأملوا.
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ [النحل:61] ما بقي على وجه الأرض أحد، لو يمنع الأمطار فقط لماتت البهائم والنباتات وما يبقى دابة تدب على الأرض.
هو: وضع الشيء في غير موضعه، فلو أن شخصاً أوقف سيارته بحيث يسد بها الطريق فقد ظلم، ولو أن شخصاً يقوم لإمام يسبه ويشتمه فهل هذا السب وهذا الشتم وقع في موقعه؟ لا أبداً، ولو أنه شتم أو سب فاجراً كافراً بحقه وقع في موقعه.
اذكر فقط طعامك وشرابك وتنفسك الهواء، من فعل هذا لك؟ أليس الله؟ فكيف تعبد غيره؟ فلهذا يقول تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] هذه قالها لقمان الحكيم لولده فرضيها الله وأنزلها في كتابه، إذ قال لابنه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ [لقمان:13] لماذا؟ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].
وجاء من سورة الأنعام أيضاً -يا أهل القرآن- قول الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] (الذين آمنوا) بعد أن أسلموا أولاً وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ [الأنعام:82] أي: ولم يخلطوا إيمانهم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] آمنون من عذاب الله في الدنيا والآخرة، وهم مهتدون إلى طريق السعادة وإلى دار السلام.
ولم يخلطوا إيمانهم بظلم أي: عبدوا الله ولم يشركوا به شيئاً، لا وليًا من الأولياء ولا نبيًا من الأنبياء ولا صالحًا في الصالحين فضلاً عن الجمادات من الأصنام والأحجار والتماثيل، لم يخلطوا إيمانهم بظلم.
معاشر المستمعين! تعرفون ما أصاب هذه الأمة من جهل وما نزل بها من مظاهر الشرك فنزلت من علياء السماء إلى الأرض، كما تعرفون الذين يدعون غير الله، يقول أحدهم: يا سيدي فلان أنا خادمك، أنا في حماك، أنا في كذا.. إلخ يوجه نداءه لميت من الأولياء، فهذا والله لقد أشرك وظلم، ولو كان يصح أن ندعو أحداً ونقول: يا سيدي لكان رسول الله أولى بذلك، والله الذي لا إله غيره ما جاز لمؤمن أن يقول: يا رسول الله المدد، أو يا رسول الله أنا بين يديك افعل بي كذا وكذا، اسأل الله لي كذا وكذا. والله ما جاز ولا فعله أحد من أصحاب رسول الله ولا أولادهم ولا أحفادهم ولا أحفاد أحفادهم لمدة ثلاثمائة سنة، حتى ظهر الشرك في العالم الإسلامي.
لا يسأل غير الله أبداً، نعم تسأل أخاك أمامك: من فضلك ناولني كذا فهذا يجوز؛ لأنه يسمعك ويراك ويقدر على أن يعطيك.
أرأيت لو سألت أعمى وقلت: يا أعمى أوصلني إلى بيتي أيصح هذا؟ أو وقفت على باب منزل خرب وقلت: يا أهل البيت .. يا أهل الدار إني جائع فأطعموني. يا أهل البيت إني عارٍ فاكسوني. أيجوز هذا؟ لو رآك أحد سيقول لك: يا مجنون هذا البيت ما فيه أحد، هذه العمارة خالية، من تدعو؟
فهذه صورة لمن يدعون الأموات ويسألونهم ويستغيثون بهم، ظلموا الله وجهلوا ربهم السميع العليم وأعرضوا عن ذكره وأقبلوا على المخلوقات يسألونها، وهذا شأن المشركين فإنهم كانوا يدعون وينذرون لآلهتهم، وأما نحن فقد أذن الله لنا أن ننذر له تعالى، فتقول: يا رب! لك علي أن أصوم كذا أو أطعم مسكينًا كذا أو أتصدق بكذا، نتقرب بذلك إليك يا رب. فيقبلك الله عز وجل، ولك أن تشترط فتقول: يا رب إن أرجعتني إلى بلدي سليماً فسأذبح شاة للفقراء والمساكين. لا بأس بهذا.
أما أن تواجه قبراً من القبور وميتًا من الأموات وتقول: يا سيدي فلان! إذا كان الله أعطاني كذا فسأذبح لك كذا، فهذا نذر لغير الله عز وجل، وهو والله من الظلم العظيم، لأن أصحابه أخذوا حق الله وأعطوه لمخلوقين من مخلوقاته، ولا يستحق العبادة إلا الله الذي له المثل الأعلى، فلا إله إلا الله.
فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ [النحل:61] الأجل الوقت المحدد المعين فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل:61] أخرى، إذا دقت ساعة أجل العبد والله لا تتقدم بساعة ولا تتأخر بأخرى، لا بد من الوقت بالضبط، ونهاية هذه الحياة لها ساعة أيضاً والله لا يستطيع أحد تقديمها ولا تأخيرها.
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ [النحل:58-59]، وهم وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [النحل:57].
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى [النحل:62] قالوا: الجنة نحن أهلها، الحسنى هي الجنة، قالوا: نحن أهل الجنة.
يقال: أفرط يفرط: إذا تقدم. يسبقون الناس إلى النار والعياذ بالله، لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ [النحل:62] إليها، و(مفرطون) متركون فيها أيضاً. قراءتان سبعيتان، سبحان الله.
ماذا يقول تعالى عنهم؟ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [النحل:62] ما الذي يكرهونه؟ البنات، فقالوا: الملائكة بنات الله.
وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى [النحل:62] الجنة، يقولون: الجنة لنا لن يدخلها أحد غيرنا. قال تعالى: لا جَرَمَ [النحل:62] أي: حقاً حقاً أَنَّ لَهُمُ النَّارَ [النحل:62] وهم فيها مفرطون هالكون متروكون إلى الأبد بلا نهاية.
عائشة
بهذا فيمسلم
، فالذي يرزقه الله بنتين فيحسن إليهما ويربيهما يبعث مع رسول الله في الجنة، والذي يرزق بنات ويحسن إليهن بتربيتهن حتى يبلغن ثم يزوجهن، هذا العمل لا يوازيه عمل آخر، فلنحافظ إذاً على البنات. (عائشة
ذكرت للرسول صلى الله عليه وسلم أن امرأة جاءت ومعها بنتان لها تستطعمعائشة
، وما عندها إلا ثلاث تمرات فأعطتهن إياها، كل بنت تأخذ تمرة، أعطت البنتين تمرة تمرة وبقيت واحدة في يدها، فلما رفعتها إلى فيها استطعمتها إياها ابنتاها، فرق قلبها وأعطتهما التي في يدها وما أكلتها، فأخبرت الرسول بهذا فقال: إن الله قد أوجب لها الجنة وأعتقها من النارآزر
الذي ظلم أشد الظلم، لو أهلكه الله فمن أين يولد إبراهيم ولده؟ وهكذا. [ رابعاً: بيان سوء اعتقاد الذين لا يؤمنون بالآخرة، وهو أنهم ينسبون إلى نفوسهم الحسنى ] أي: الجنة [ ويجعلون لله ما يكرهون من البنات والشركاء مع سبهم الرسل وامتهانهم ]، وسبب هذا كما قلت لكم عدم الإيمان بالآخرة، الذي ما تثبت عنده عقيدة الإيمان بالبعث الآخر والجزاء على العمل في الدنيا ما يستقيم، لا تعجب أن يفعل الشر ويقوله، إذا خلا القلب من الإيمان اليقيني بأنه سيسأل يوم القيامة عن كل ما قال وعمله فصاحب هذا القلب لا يستقيم أبداً، يفجر ويفسق ويظلم ويفعل ما شاء؛ لأنه ما هناك مانع يمنعه. فالإيمان بالله واليوم الآخر قوهما في صدرك وأكثر من ذكرهما حتى تصبح أهلاً لأن تستقيم بين الناس ولا تعوج ولا تنحرف يميناً ولا شمالاً. والله تعالى أسأل أن ينفعني وإياكم بما ندرس ونسمع.من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر