وسبحان من سبحت له السماوات وأملاكها, والنجوم وأفلاكها, والأرض وسكانها, والبحار وحيتانها, والجبال والشجر والدواب والرمال, وكل رطب ويابس, وكل حي وميت، لا إله إلا الله وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ
[الإسراء:44] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, كلمة قامت بها الأرض والسماوات, وخلقت لأجلها جميع المخلوقات، وبها أرسل الله تعالى رسله, وأنزل كتبه, وشرع شرائعه, ولأجلها نصبت الموازين، ووضعت الدواوين.
لا إله إلا الله، لأجلها قام سوق الجنة والنار, ولا إله إلا الله، بها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار, تلكم شهادة أن لا إله إلا الله.
وهي منشأ الخلق والأمر والثواب والعقاب, وهي الحق الذي خلقت له الخليقة, وعن حقوق: لا إله إلا الله، ويكون السؤال والحساب يوم لا ينفع مال ولا بنون، وعن لا إله إلا الله يكون الحساب والثواب, وعليها يقع الثواب والعقاب, ولا إله إلا الله عليها نصبت القبلة, ولا إله إلا الله عليها أسست الملة, ولا إله إلا الله لأجلها جردت سيوف الجهاد, إنها كلمة لا إله إلا الله؛ حق الله على جميع العباد.
فهي كلمة الإسلام ومفتاح دار السلام, وعن شهادة أن لا إله إلا الله يسأل الأولون والآخرون؛ فلا تزول قدم العبد بين يدي الله حتى يسأل عن مسألتين: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟
فجواب الأولى: بتحقيق لا إله إلا الله؛ معرفةً وإقراراً وعملاً, وجواب الثانية: تحقيق أن محمداً رسول الله؛ معرفةً وإقراراً وانقياداً وطاعة.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وأمينه على وحيه, وخيرته من خلقه, وسفيره بينه وبين عباده، المبعوث بالدين القويم, والمنهج المستقيم, أرسله الله رحمة للعالمين وإماماً للمتقين, وحجة على الخلائق أجمعين, أرسله على حين فترة من الرسل، فهدى به إلى أعظم الطرق وأوضح السبل, وافترض على العباد طاعته وتعزيره، وتوقيره ومحبته, والقيام بحقوقه, وسدّ ربُّ العزة والجلال دون جنته الطريق، فلن تفتح لأحد إلا من طريقه صلَّى الله عليه وسلم -بعد الشفاعة الكبرى التي يتبرأ منها أولو العزم من الرسل- اللهم فصلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
لقد أوضح لنا الدليل, وأنار السبيل, ونصح لأمته، وتركها على المحجة البيضاء؛ ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك, بلَّغ رسالة ربِّه صلوات الله وسلامه عليه.
فواجب ثم واجب ثم واجب على كل مسلم يؤمن بالله ورسوله أن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حباً من نفسه, وولده, ووالده, ومن الناس أجمعين، وقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يؤمن عبد حتى يكون هو أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين, ولما قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: {لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي, قال صلى الله عليه وسلم: لا حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بنا من أنفسنا في المحبة ولوازمها, فإنه يتحتم على من أراد الفلاح والسعادة والهداية في الدنيا والآخرة، أن يتبع هدي هذا الرسول النبي الأمي؛ الذي نوه الله بذكره في جميع الكتب المنزلة, وبشرت به جميع الأنبياء، وأمر الله باتباعه في محكم البيان؛ قال جلَّ وعلا: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
[الأعراف:158].
فكيف -يا عباد الله- لا يحب العبد بكل قلبه وجوارحه من يديم عليه النعم, بعدد الأنفاس, فالله يدر عليه النعم, والصحة والعافية بعدد الأنفاس، ومع ذلك العبد يسيء ويقصر, فخير الله إليه نازل وشره إليه صاعد, يتحبب إليه ربه بالنعم, وهو غني عنه, والعبد يتبغض إليه بالمعاصي, وهو فقير إليه, فلا إله إلا الله.
فلا إله إلا الله أجود الأجودين, وأكرم الأكرمين, أعطى عبده قبل أن يسأله فوق ما يؤمله, يشكر القليل من العمل وينميه, ويغفر الكثير من الزلل ويمحوه, لا إله إلا الله: يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ
[الرحمن:29] لا يشغله سمع عن سمع, ولا يضجر بكثرة المسائل, ولا يتبرم بإلحاح الملحين, بل يحب الملحين في الدعاء, قال تعالى:
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً
[الأعراف:55] وقال سبحانه:
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ
[غافر:60] فهو يحب أن يُسأل, ويغضب إذا لم يُسأل, فهو الذي ينزل تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: (من يدعوني فأستجيب له, من يسألني فأعطيه, من يستغفرني فأغفر له) فلك الحمد -يا رب العالمين- فقد جبلت قلوب المؤمنين على محبتك, اللهم اجعلنا مؤمنين بك يا رب العالمين.
عباد الله: كيف لا تحب القلوب من لا يأتي بالحسنات إلا هو؟ ولا يذهب بالسيئات إلا هو؟ ولا يجيب الدعوات, ويقيل العثرات, ويغفر الخطيئات, ويستر العورات, ويكشف الكربات, ويغيث اللهفات, وينيل الطلبات إلا هو سبحانه وتعالى؟ فهو أحق من ذكر, وأحق من شكر, وأحق من عبد, وأحق من حمد, وأرأف من ملك, وأعز من التُجئ إليه, ورب العزة والجلال أرحم من استرحم, أرحم بعبده من الوالدة بولدها, وهو الذي أخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا, يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم, يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم, يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم, يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم, يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني, ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني, يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم, ما زاد ذلك في ملكي شيئاً, يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً, يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر, يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم, ثم أوفيكم إياها, فمن وجد خيراً فليحمد الله, ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه) رواه مسلم.
اللهم ارزقنا حق معرفتك, وأذقنا حلاوة الإيمان بك وبملائكتك وكتبك ورسلك, وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.
وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
فيا عباد الله: تعرفوا إلى الله عز وجل, وأخلصوا له الأعمال, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك, من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) رواه مسلم , فأخلصوا لله الأعمال, واطلبوا ثوابها من الله جلَّ وعلا فإنه الكريم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً قال: (يمين الله ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار, أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه, والقسط بيده الأخرى يرفع ويخفض) رواه البخاري ومسلم , وقال أبو موسى رضي الله عنه: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: (إن الله تعالى لا ينام, ولا ينبغي له أن ينام, يخفض القسط ويرفعه, يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار, وعمل النهار قبل عمل الليل, حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) رواه مسلم.
عباد الله: تعرفوا إلى الله في الرخاء يعرفكم في الشدة.
عباد الله: إن أصدق الحديث كتاب الله, وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة.
عباد الله: صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً
[الأحزاب:56], ويقول صلى الله عليه وسلم: (من صلّى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً) اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد, وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين, وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, اللهم يا قريب مجيب لمن دعاك اللهم أعز الإسلام والمسلمين, اللهم أذل الشرك والمشركين, اللهم دمّر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين, اللهم اشدد وطأتك على أعداء الإسلام والمسلمين, اللهم انصر المجاهدين في سبيلك من المسلمين, اللهم سدد خطاهم, اللهم اجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين, اللهم وحد صفوفهم, اللهم سدد رميهم, اللهم الطف بنا وبهم يا رب العالمين, اللهم أنت أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين وأجود الأجودين لا إله إلا أنت ولا رب لنا سواك.
اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين بالحكم لكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم, اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا, اللهم وفقنا وإياهم لما تحبه وترضاه, وجنبنا وإياهم ما تبغضه وتأباه.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر