أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد:
فهذا هو الجزء الثالث من كتاب الإبانة، وكان الأول بعنوان: الإيمان، والثاني بعنوان: الرد على القدرية، والثالث بعنوان: الرد على الجهمية، ويحسن بنا قبل الدخول في هذا القسم أن نميز الجهمية عن أهل السنة والجماعة؛ لأن الجهمية على أغلب أقوال أهل العلم إنما هم فرقة من الفرق الضالة الهالكة التي قال فيها النبي عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة)، فالجهمية على رأس هذه الفرق الهالكة الضالة؛ لأنها خالفت أهل السنة والجماعة في أصول معتقدهم، وكل شر لابد له من منشئ، ولابد له من مؤثر، ولابد له من رجل قال بقول عليك يخالف اعتقاد أهل السنة والجماعة، فكما أن المعتزلة لهم إمام في الاعتزال، والخوارج لهم إمامهم في مذهبهم، والشيعة لهم إمامهم، وغير ذلك من سائر الفرق، فكذلك الجهمية لهم إمام ينتسبون إليه وهو صاحب أصل هذا الضلال، وما من ساقطة في الأرض إلا ولها لاقطة كما قلنا من قبل مراراً، فما من أحد يقول قولاً إلا وله في الخلق أتباع مهما كان قوله.
والذي قرأ منكم أخبار يوم السبت في جريدة (أخبار اليوم) يعلم أن هناك رجلاً قد ادعى الألوهية وله أتباع كثر، وقد تسلح وتحدى العالم أجمع أن يقاتل ويفعل الأفاعيل؛ لأجل فرض إلهيته في الأرض، وهناك شخص قال: أنا نبي!
فهذا الجهم إنما خرج على حين غفلة، فقد انتهز اضطراباً واختلافاً فخرج بأقواله، وغالباً إن لم يكن هذا أصل في أهل البدع أنهم لا ينشرون كلامهم علناً، وإنما يسلكون مسلك الدعوة الفردية، فيجلس معك على انفراد، ومع الآخر على انفراد، حتى إذا استقر له الأمر واستتب بدأ يعلن هذا هنا وهناك، ويبحث دائماً عن الشبهات ثم يلقيها على الناس الذين ليس عندهم جواب، ولذا فما من شبهة تلقى على قلبك ليس لها جواب إلا ولابد أن يتعلق شيء منها بقلبك، فيحسن بنا قبل الدخول في الرد على الجهمية أن نتعرف على الجهم الذي تنسب إليه هذه الفرقة، وعلى سيرته وتاريخه الطويل، وكيف خرج بهذه البدعة؟ وما هي أصول أفكاره التي خالف بها أهل السنة والجماعة؟ ثم ما هي فرقة الجهمية؟ وما هو كلامها؟ وما هي مخالفتها لأهل السنة والجماعة؟
اتفق كل من ترجم للجهم أن اسمه: الجهم بن صفوان ، وكنيته: أبو محرز ، ويقال له: الراسبي ، فقد كان مولاً لبني راسب من الأزد.
قال الذهبي : الجهم بن صفوان الضال المبتدع رأس الجهمية، هلك في زمان صغار التابعين، وما علمته روى شيئاً، لكنه زرع شراً عظيماً. أي: زرع في الأمة شراً عظيماً.
وقال عبد العزيز بن أبي سلمة : إن كلام جهم صفة بلا معنى، وبناء بلا أساس، ولم يعد قط من أهل العلم.
ومما يدل على جهله بأحكام الشريعة ما روي أن جهماً سئل عن رجل طلق قبل أن يبني بها، فقال: عليها العدة، فخالف كتاب الله تعالى بجهله، قال الله سبحانه: فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب:49].
أي: أن الإله الذي يعبده إنما دخل في ذرات الهواء، وبالتالي فإله الجهم ليس هو إلهنا الذي استوى على العرش، وهذا نفس معتقد النصارى، فقد قام طالب وقال القسيس في كنيسة: أين الإله؟ فأتى ببعض السكر وأذابه في كوب من الماء، فقال القسيس للطالب: أين السكر؟ قال: في الماء، قال: وكذلك الرب في كل شيء!
فعقيدة الجهم بن صفوان هي نفس عقيدة النصارى، بل ليس كل النصارى يعتقدون ذلك، وإنما وافق جل النصارى في إثبات أن الله تعالى في كل مكان، وهذا نفس قول الأشاعرة الذين قالوا: إن الله في كل مكان، وأما أهل السنة والجماعة فيثبتون العلو والفوقية والاستواء لله عز وجل على عرشه، وهذا هو الحق الذي نطق به الكتاب وجاءت به السنة، وعمل به اعتقاداً وعملاً أئمة الدنيا من سلف الأمة، وما خالف في هذه القضية إلا خلف ليس له في ذلك سلف إلا سلف ضلالة وبدعة، والله تعالى على العرش استوى، بائن من خلقه، وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم جارية صغيرة ترعى غنماً لا حظ لها من العلم فقال: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة).
وأعجب من ذلك منذ عدة سنوات أني دخلت الجمعية الشرعية الرئيسية؛ لأنهم كانوا يوزعون كتباً مجاناً، فذهبت لآخذ بعضها لتوزيعها على الطلاب، فلما رأى هيئتي ليست كهيئة الجمعية الشرعية قال: أنا أسألك سؤالاً واحداً: أين الله؟ قلت: على العرش، فتبرم وقال: هو في كل مكان، وفي أثناء نزاعنا دخل حمال كان ينزل بالكتب إلى تحت، فقلت له: ما اسمك؟ قال: محمد، قلت: يا محمد! أين الله؟ قال: في السماء، فقلت: حمال يفهم ما لا يفهمه زعماء في الجمعية الشرعية! فهذه عقيدتهم، فهم يقولون: الله تعالى في كل مكان، وليس الأمر كذلك، ولا دليل معهم قط، بل ناقشني زعيم وكبير من كبرائهم يرحمه الله ويعفو عنه، فقال: أنت الذي تقول: إن الله على العرش استوى؟! فهو جالس على الكرسي! ما رأيكم أن تلبسوا ربنا عمامة؟! فقلت: لا والله، الله تعالى هو الذي أثبت في كتابه أنه على العرش استوى، وجميع الأنبياء والمرسلين وأهل العلم الصادقين المخلصين العاملين بشرائع الله، وبدين الله الواحد يعتقدون ذلك، فلا عقيدتكم في القرآن، ولا في السنة، ولا في عقيدة الأنبياء، ولا في عقيدة سلف الأمة، وكفى بها مخالفة، فهذه عقيدة الجهم بن صفوان!
وقال أبو معاذ البلخي : لم يكن للجهم علم ولا مجالسة لأهل العلم، فقيل له: صف لنا ربك؟ فدخل البيت لا يخرج كذا، ثم خرج بعد أيام فقال: هو هذا الهواء مع كل شيء، وفي كل شيء، ولا يخلو منه شيء!
إذاً فالذي يقول: إن الله تعالى بذاته في كل مكان؛ يلزمه أن يقول: بأنه في أماكن القاذورات، وأماكن النجاسات والحمامات، وغير ذلك من البرك والمستنقعات المنتنة، وهذا قول يحمل بين طياته الكفر البواح، تعالى الله عما يقوله الملحدون علواً كبيراً.
وقد كان الجهم من أهل الجدل والخصومات كما سيتبين لنا بإذن الله تعالى.
والإمام القاسمي كان له بعض الدفاع عن الجهم بن صفوان ، فكان مما قال: إنما قتل الجهم لأمر سياسي لا لأمر ديني؛ لأنه كان مع الحارث بن سريج ضد دولة بني أمية، فخرج مع الخارجين على الإمام الحق في ذلك الزمان، فلما أسر قتله سلم بن أحوز المازني ، فكان قتله لأمر سياسي لا لأمر ديني، وليس الأمر كذلك، ولا يمنع أن يكون قد جمع بين الأمرين، لكن أصل فكرة القتل انبنت على مخالفته الدينية، وكذلك لا يمنع أن يكون قتله لأمر سياسي، وإن كان قد أمر الخليفة هشام بن عبد الملك بقتله قبل ذلك لأمر ديني، وهو ما اشتهر عنه من شكه وتركه الصلاة أربعين يوماً، أي: أنه شك في وجود الإله لما سئل: صف لنا إلهك؟ فشك في إلهه فتوقف عن عبادته أربعين يوماً، ثم نفيه لصفات الرب عز وجل واشتهار ذلك عنه، فكان ذلك سبباً قوياً في أن يأمر الخليفة هشام بن عبد الملك عامله على خراسان نصر بن سيار أن يقتله، ولكنه لم يظفر به، وإنما ظفر به سلم بن أحوز فقتله.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن صالح بن أحمد بن حنبل أنه قال: قرأت في دواوين هشام بن عبد الملك إلى نصر بن سيار عامل خراسان: أما بعد، فقد نجم -أي: ظهر- قبلك رجل يقال له جهم من الدهرية، فإن ظفرت به فاقتله.
إذاً كان قتله بسبب أنه يقول بقول الدهرية، وهذا أمر ديني لا أمر سياسي.
ومما يؤكد أن قلته بسبب ما صدر عنه من إنكار صفات الله تعالى: ما ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري، قال: أخرج ابن أبي حاتم من طريق محمد بن صالح مولى بني هاشم قال: قال سلم حين أخذه: يا جهم ؟ إني لست أقتلك لأنك قاتلتني -فهذا تصريح بأن القتل لم يكن لأمر سياسي- فأنت عندي أحقر من ذلك، ولكني سمعتك تتكلم بكلام أعطيت الله عهداً ألا أملكك إلا قتلتك، فقتله.
وقد جاء البيان عن سبب قتله له، فقد أخرج عن ابن أبي حاتم من طريق خلاد الطفاوي ، قال: بلغ سلم بن أحوز -وكان على شرطة خراسان- أن جهم بن صفوان ينكر أن الله كلم موسى تكليماً، فقال له: أنت الذي تزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً؟ فسكت الجهم ، فقام إليه سلم فقتله، إذاً أصل قتله كان لأمر ديني، ولو كان لأمر سياسي فلا بأس بذلك، لكن لابد من تقرير الحقائق.
وقال بكير بن معروف : رأيت سلم بن أحوز حين ضرب عنق جهم ، فاسود وجه جهم.
نعم لابد أن يسود: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]، قال ابن عباس : تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدع والضلالة.
ولهذا من إهانة الله عز وجل لأهل البدع في حياتهم وبعد مماتهم أنهم ليس لهم ترجمة، ولو أردنا أن نقرأ ترجمة أحمد بن حنبل لوجدنا أنها في سير أعلام النبلاء جل المجلد الحادي عشر، حوالي أربعمائة أو خمسمائة صفحة، بل وفي ترجمته صنفت مجلدات وكتب أخرى؛ لأن الله أبى إلا أن يعلي ذكر أحمد في الدنيا والآخرة، وأما هؤلاء فقد أبى الله تعالى إلا أن يجعلهم في أسفل سافلين، فليس لهم ترجمة إلا ترجمة السوء والضلال، ترجمة اللعنة والغضب والسخط من الله عز وجل ومن عباده.
قال الذهبي في الجعد : عداده في التابعين، مبتدع ضال. وفي هذا دليل على أنه ليس كل التابعين أهل صلاح، بل منهم المبتدع، ومنهم الثقة، ومنهم الإمام في الهدى، ومنهم الإمام في الضلالة، وكل ما هنالك أنه رأى بعض الصحابة، والمعلوم أن التابعي: هو من لقي الصحابة أو بعضهم.
وذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق: أن الجعد كان يتردد إلى وهب بن منبه ، ووهب بن منبه إمام من الأئمة، فهو رجل هدى وتقوى وعلم، لكن كان يعاب عليه أنه كان ينظر في كتب السابقين، أي: في كتب اليهود والنصارى والصحف وغيرها، فوجد الجعد ضالته عند وهب ، فكان يتردد إليه ويحمل عنه، وكان كلما راح الجعد إلى وهب اغتسل وهب وقال وهب : إن هذا الغسل أجمع للعقل، أي: كأن لقاء جعد كان يذهب بعقل وهب بن منبه ، وكان يسأل وهباً عن صفات الله تعالى، فقال له وهب يوماً: ويلك يا جعد ! أقصر المسألة عن ذلك، أي: لا تسأل عن هذا، واسأل عن الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وأركان الدين، لكن هو أراد أن ينطلق ببدعته من هذا الباب، فقال وهب للجعد : إني لأظنك من الهالكين، لو لم يخبرنا الله في كتابه أن له يداً ما قلنا ذلك، وأن له عيناً ما قلنا ذلك، وأن له نفساً ما قلنا ذلك، وأن له سمعاً ما قلنا ذلك، وذكر الصفات من العلم والكلام وغير ذلك. وكان هذا آخر كلام في الصفات؛ من أجل أن تنتهي الجولة مع الجعد بن درهم.
قال: والله لا نقول إلا بما قاله الله في كتابه، وما قاله الرسول في سنته، فلا تسألني عن شيء بعد ذلك.
ولما أقام الجعد بدمشق أظهر القول بخلق القرآن، أي: قال: هذا القرآن مخلوق وحادث، وأن الله لم يكن متكلماً فتلكم، ولم يكن عالماً فخلق لنفسه العلم، فعلم بعد أن كان غير عالم، وغير ذلك من بقية صفات المولى عز وجل التي يمكن أن يتصف بها المخلوق، من العلم والكلام والقدرة وغير ذلك، فطلبه بنو أمية لما أظهر القول بخلق القرآن، فهرب وسكن في الكوفة -مأوى الضلال- وفيها لقيه الجهم بن صفوان وأخذ عنه مذهبه في التعطيل -أي: تعطيل الصفات عن الله عز وجل، وتعطيل الذات أن تتصف بالصفات- وقال بقوله في القرآن.
إذاً الجهم عن الجعد عن أبان عن طالوت عن لبيد بن الأعصم ، خمسة في سلسلة واحدة، لكنها ليست كسلسلة مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه سلسلة الذهب، سلسلة اللؤلؤ والمرجان، أما تلك فسلسلة الضلال والبدع، وتصور أن يأتيك إسناد كهذا: حدثني الجهم ، قال: حدثني الجعد ، قال: حدثني أبان بن سمعان ، قال: حدثني طالوت ، قال: خالي لبيد بن الأعصم اليهودي!!
ويغلب على ظني أنه ما أحدثت محدثة، ولا ابتدعت بدعة في الإسلام إلا وكان أصلها إما من اليهود، وإما من النصارى، وإما من المجوس، أي: لابد أن يكون لها جذور يهودية، أو نصرانية، أو مجوسية، وأتحدى أي رجل يأتيني ببدعة في الإسلام ليس له أصل من هذه الأصول الثلاثة.
كان الجعد من أهل حران، وكان فيها خلق كثير من الصابئة والفلاسفة، وكانوا يسمون: صابئة الإسلام وصابئة الشرك، والعلماء صنفوا الصابئة على نوعين: صابئة كانت تابعة لإبراهيم عليه السلام، وصابئة كانت مشركة تعبد الأصنام في زمن إبراهيم عليه السلام، وكان في حران خلق كثير من الصابئة والفلاسفة بقايا أهل دين النمرود والكنعانيين، وكانت الصابئة -إلا قليل منهم- إذ ذاك على الشرك، وعلماؤهم هم الفلاسفة، وإن كان الصابئ قد لا يكون مشركاً بل مؤمناً بالله واليوم الآخر، لكن كثيراً منهم كانوا كفاراً أو مشركين، وكانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل، ومذهب النفاة من هؤلاء في الرب أنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية أو مركبة منهما، أي: مركبة من السلبية والإيجابية.
ولما أظهر الجعد مقالة التعطيل حبسه أمير العراق خالد بن عبد الله القسري ، ثم خرج به في يوم عيد الأضحى وخطب خالد في الناس، فقال في خطبته: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بـالجعد بن درهم ، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر، وكان ذلك بفتوى أهل زمانه من التابعين، وقصة قتله مشهورة ذكرها أهل التراجم ودونها السلف في كتبهم، ولم ينكر على خالد القسري أحد من أهل العلم، بل أثنوا عليه خيراً، لكن في هذا الوقت دع واحداً يقوم على ضال من هؤلاء، أو مبتدع من هؤلاء ربما تكون بدعته أخطر من بدعة الجعد بن درهم؛ فيقتله على الملأ، والنساء تنظر في التلفاز، لقالوا: حرام، لماذا هذه القسوة؟! هل الدين هكذا؟! وهل الإسلام هكذا؟! هل النبي قال هكذا؟! بينما العلماء أثنوا على ما قام به خالد القسري.
قال الدارمي : ذبحه خالد بواسط -أي: بمدينة واسط في العراق- يوم عيد الأضحى، على رءوس من حضر من المسلمين، لم يعبه به عائب، ولم يطعن عليه طاعن، بل استحسنوا ذلك من فعله وصوبوه.
قال: ابن القيم عليه رحمة الله في كتاب النونية في العقيدة:
ولأجل ذا ضحى بجعد خالد القسري يوم ذبائح القربان
إذ قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الداني
شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان
أي: يثني على خالد القسري أنه ذبح الجعد بن درهم ؛ لأنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، وقد شكره كل صاحب سنة.
أي: قول الجعد بن درهم أشر من قول اليهود والنصارى، فرجل قوله شر من قول اليهود والنصارى الذين حكم الله تعالى بكفرهم في كتابه، إذاً يكون كفره أعظم من كفر اليهود والنصارى، فلماذا إذاً نصفه بأنه كان داعية للكتاب والسنة؟ لأن الإمام القاسمي للأسف الشديد قال: كان الجعد داعية إلى الكتاب والسنة! وهذه زلة عظيمة جداً من القاسمي.
قال الإمام القاسمي: وكان الجعد داعية إلى الكتاب والسنة، مجتهداً في الصفات خاصة، هكذا قال القاسمي ، لكن ليس للجاهل أن يجتهد، وإنما الاجتهاد وقف على أهل العلم، وليس كل أهل العلم لهم هذا الحق وهذا الحظ، بل الاجتهاد له أهله، بأركان وشروط.
قال القاسمي: له أجر المجتهدين المخطئين! والخطأ في العقيدة أمر مردود، ولهذا نهى السلف عن مذهب الجهمية، وحذروا من سلوك سبيلهم، وشددوا في ذلك.
قال الإمام البخاري : ما أبالي أصليت خلف الجهمي والرافضي الشيعي، أو صليت خلف اليهودي والنصراني! فلا يسلم عليهم، ولا يعادون إذا مرضوا، ولا يناكحون، ولا يشهدون، ولا تؤكل ذبائحهم.
أي: أنهم كفار؛ لأن هذه أحكام الكفار.
وقال البخاري أيضاً -وانتبه فقد كان البخاري متلطفاً جداً في العبارة- فقال: إذا قلت عن أحد: ضعيف، فلا تحل الرواية عنه. أي: أن الذي يقول عنه غيره: كذاب وضاع يقول عنه الإمام البخاري : ضعيف، وتصور أن الإمام البخاري يقول هذا كله-: نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس، فما رأيت أضل في كفرهم منهم -أي: من الجهمية- وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم.
أي: أنه يقول: إن كلام الجهمية أشر من كلام اليهود والنصارى والمجوس، وليس ذلك بعجب، وإنما العجب ممن عرف كلامهم ولا يكفرهم، إلا أن يكون إنساناً لا يعرف ماذا يعني الكفر؟ وماذا يعني الإيمان؟ ولا شك فالجاهل ليس مطلوباً منه أن يظهر أحكام الكفر، أو التفسيق أو التبديع، بل هذا تعد منه، وإنما له أن يقلد أهل العلم والمجتهدين.
وقال ابن المبارك : إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية.
وللدارمي كلام عظيم جداً، بل له كتاب اسمه: الرد على الجهمية، قال: وصدق ابن المبارك، فإن من كلامهم في تعطيل صفات الله تعالى ما هو أوحش من كلام اليهود والنصارى. أي: إذا قرأه إنسان يشعر بوحشة في صدره ربما لا يشعرها إذا نظر في التوراة أو الإنجيل.
وذكر سعيد بن عامر الضبعي الجهمية فقال: هم أشر قولاً من اليهود والنصارى، قد اجتمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله عز وجل على العرش. أي: أن عقيدة اليهود والنصارى والمسلمين أصلاً أن الله تعالى مستو على العرش، لكن الجهمية هم أول من أحدث أن الله تعالى ليس على العرش، وقالوا: ليس على شيء.
وقد كفر السلف جهماً ومن قال بقوله في الله، وفي صفاته، وفي القرآن، وكتبهم مملوءة بذلك.
فقالوا: لا يمكن أن يستقيم هذا؛ لأننا إذا قلنا بذلك فقد شبهنا الخالق بالمخلوق، فنفى الجهم عن الله عز وجل اسم الحي، والعالم، والسميع، والبصير، وغير ذلك من الأسماء، قال: لأن المخلوقين يتسمون بهذه الأسماء، واشتراك الخالق مع المخلوق في هذه الأسماء يوجب التشبيه، أي: أن يكون المخلوق كالخالق، والعكس بالعكس، لكنه يسميه: المحيي، المميت، الموجب، الفاعل، الخالق؛ لأن هذه الصفات لا تطلق على العباد ولا على المخلوقين، ويسميه القادر، لكن العبد يوصف بأنه قادر، وعند الجهم بن صفوان والجعد بن درهم ليس قادراً؛ لأنه مجبور في جميع أفعاله، لذلك يقولون: الفاعل الحقيقي لأفعال العباد هو الله، والعبد ما هو إلا صورة تجرى عليه تلك الأفعال والأقوال، فهم الذين يقولون بفكرة الجبر، أي: أن الإنسان مجبور في أقواله وأفعاله، فينفون عن العبد الإرادة والمشيئة بالكلية، فلا إرادة ولا مشيئة ولا قدرة له على الأفعال والأقوال أبداً، وإنما الفاعل الحقيقي لذلك كله هو الله عز وجل، والعبد ما هو إلا صورة، ولذلك يقولون: بفناء الجنة والنار، فالدوام عندهم مستحيل.
ولـأبي الحسن الأشعري كلام في ذلك، وهو قد تاب من بدعته، حيث إنه تربى في حجر أبي علي الجبائي شيخ الاعتزال في ذلك الزمان، وكان زوجاً لأم أبي الحسن الأشعري ، فتربى أبو الحسن في حجر أبي علي الجبائي صغيراً، فرضع من أدب الاعتزال حتى صار منظراً في الاعتزال، وحتى قيل: أفلس المعتزلة لما اعتزلهم أبو الحسن ، وصار له مذهب سيئ كذلك في مذهبه الجديد وهو المذهب الأشعري، فلم يكن للمعتزلة في ذلك الزمان منظر قوي وفصيح وبليغ يقيم الحجة على الخصم كما كان في أيام أبي الحسن.
وأبو الحسن رحمه الله انخلع كذلك من مذهبه الثاني وتاب منه على المنبر أمام الملأ، وقال: أخرج من كلامي كما أخرج هذا السيف من غمده، وسل سيفه من غمده على المنبر، وتوبته مذكورة عند كل من ترجم له إلا أهل البدع؛ فإنهم يخفون هذه التوبة، بل قد صنف أبو الحسن كتباً في عقيدة أحمد بن حنبل ، وعقيدة أهل السنة على مذهب أهل السنة، مع أنه قد أخطأ في مسألة أو مسألتين بعد توبته، وذلك أن للبدعة رواسب، وآتوني بصاحب بدعة في هذا الزمان تاب من بدعته إلا وله رواسب، كأن يدعو إلى مذهب التكفير والهجرة مثلاً وقد تاب منذ عشرين عاماً فلا بد أن لديه رواسب.
وصاحب البدعة نشيط، وصاحب السنة خامل للأسف الشديد، فـأبو الحسن الأشعري صنف كتاب الإبانة في أصول الديانة بعد توبته، وتأتي تكلم الأشاعرة فيقولون لك: نسبة الإبانة لـأبي الحسن نسبة مشكوك فيه، وكذلك كتابه: مقالات الإسلاميين، وهو كتاب رائع جداً وممتاز، لكن لا يجوز لأحد من طلبة العلم الصغار أن ينظر فيه؛ لأنه أصعب من كتب أهل الكتاب، والذي يقرأ فيه وليست عنده أرضية متينة قوية في باب الاعتقاد فلابد أنه سيزل؛ لأنه سيفهم الأمور خطأ، وأما كتاب الإبانة فسهل جداً ويسير، ويصح أن يكون مقدمة في علم الاعتقاد للطلاب، لكن أيضاً لا أحب ذلك؛ لأجل أن هذه العقيدة لم تكن واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار كعقيدة الإمام أحمد بن حنبل ، وعلى أية حال هو معذور في مسألة أو مسألتين أخطأ فيهما، وقد قال: فإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، وإن كان صواباً فمن الله عز وجل، وهو توفيق الله وهدايته، يهدي من يشاء، فيكفي أنه قال: وإن كان خطأ مني فإني أبرأ إلى الله منه، وأصير فيه إلى عقيدة الإمام أحمد بن حنبل، والأئمة كلهم يقولون: لا يحل لأحد أن يقبل قولنا ما لم يعلم من أين أخذنا؟ فالتقليد والتعصب للمذهب بدعة وضلالة مع ظهور الدليل في مخالفة قول الإمام، وكل يتبرأ من قوله إذا كان قوله مخالفاً للكتاب والسنة، وليس لأحد حجة ولا عذر أن يقول: أنا حنفي أو شافعي أو مالكي أو غير ذلك؛ لأن هؤلاء تبرءوا من أخطائهم، ولابد أنهم يخطئون؛ لأنهم بشر، وكل الناس يؤخذ من قوله ويرد إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
والكلام عن الأشاعرة سيأتي معنا بإذن الله، وأنا لا أريد أن أسبق الأحداث، لكن على أية حال متأخرو الأشاعرة مثل الشيعة، فتقول للشيعة: الأئمة الاثنا عشرية تبرءوا منكم، والبراءة ثابتة في النص الصحيح، فيقول لك: تبرأ هؤلاء تقيه! فتقول لهم: لكن علي بن أبي طالب أثنى على عمر وأثنى على أبي بكر وأثنى على عثمان وقال: ما أنا إلا رجل من المسلمين، قالوا: قال ذلك تقيه! فنقول: لكن أنتم شرطكم في الإيمان: أن يكون شجاعاً مقداماً، والتقية تتنافى مع الشجاعة، يقول لك: نعم علي بن أبي طالب كان أشجع الخلق، لكنه قال ذلك تأدباً وتواضعاً! فنقول: لكن أنتم تكفرون أبا بكر وعمر ، فكيف يحترم علي رجلاً كافراً ويتأدب معه؟! ألا يستحق القتل؟ لأنهم قالوا في كتبهم: لو كان أبو بكر -قال هذا الكلب الهالك الخميني -و عمر في زماننا، ثم يقول: ومعاذ الله أن يذكرا على لساني! -أي: أنه أطهر من أنه يذكر أبا بكر وعمر- ما وسعني إلا قتلهما.
قال أبو الحسن : قال جهم : إن علم الله محدث هو أحدثه، أي: لم يكن ثم كان، فمن الذي علمه؟ قالوا: هو الذي خلق علم نفسه، ثم اختلفت الأخبار عن الجهم : متى خلق الله العلم؟ هل خلقه في الأزل، أم خلقه بعد العمل، أم في أثناء العمل، أم قبيل العمل؟ قال بكل قول من هذه الثلاثة إلا أن يكون علم الله أزلياً، قال: ليس علمه أزلياً، بل علمه حادث، لأن الحدوث يتنافى مع الأزلية، فإما أن يكون خلق علمه قبل العمل، أو في أثناء العمل، أو بعد العمل.
وهذا كلام الجعد بن درهم لما قال قولته في البصرة، وذهب حميد بن عبد الرحمن إلى مكة ولقي عبد الله بن عمر هناك، وربما بعض الحاضرين يقول: هذا الكلام لا قيمة له، لكن ما من بدعة في الإسلام إلا ولها أصل، ولها أتباع في كل زمان ومكان.
قال الإسفرائيني -وهو إمام من أئمة السنة-: كان الجهم يقول: كلام الله حادث، ولكن لا يجوز أن يسمى متكلماً بكلامه. أي: لا نقول: إن الله تعالى يتكلم، مع أن القرآن الكريم من أوله إلى آخره فيه: وقال الله، فالله يقول، ويقول الله، وكذلك السنة، ويدلان أيضاً على أن الله تعالى متكلم منذ الأزل، وأن الله كلامه دائم لم ينقطع، ولا ينفذ، بل لو أن جميع البحار كانت حبراً، وجميع أشجاره كانت أقلاماً؛ ما نفدت كلمات الله، فهو متكلم منذ الأزل وإلى الأبد، فهو أول بلا ابتداء، وآخر بلا انتهاء بذاته وصفاته سبحانه وتعالى. قال: ولأجل هذا قال بخلق القرآن.
ولا شك أن جهماً كان رأس المعطلة، أي: الذين عطلوا الذات عن الصفات.
وقال الإمام أبو حنيفة : أتانا من المشرق رأيان خبيثان: جهم معطل، ومقاتل مشبه. ومقاتل هو مقاتل بن سليمان الأزدي الخراساني ، وكلاهما كان على النقيض من الآخر، فـجهم يقول: إثبات الأسماء والصفات نوع من التشبيه، ولأجل ذلك نقول: إن هذه الذات الإلهية بغير صفات، بينما مقاتل بن سليمان الأزدي أراد أن يهرب من بدعة التعطيل فوقع في بدعة التمثيل والتشبيه، فقال: بل الله متصف بكل ما وصف به نفسه، ولكن كصفات المخلوقين، فله عين كأعين المخلوقين، وسمع كأسماع المخلوقين، وبصر كأبصارهم، وعلم كعلمهم وغير ذلك، فجعل الله تعالى في نهاية الأمر رجلاً، تعالى الله عن قوليهما علواً كبيراً.
وقال الإسفرائيني : أفرط جهم في نفي التشبيه حتى قال: إنه تعالى ليس بشيء، وأفرط مقاتل في الإثبات حتى جعله مثل خلقه. فأصل دين الجهمية نفي الصفات.
إذاً تعريف الإيمان عند الجهمية لابد وأن يدخل فيه إبليس، أليس إبليس يعرف الله تعال؟ بلى، وهل إبليس أنكر ربوبية الله عز وجل؟ أبداً ما أنكرها، بل أقرها في القرآن مراراً وتكراراً، فإبليس مؤمن، ولذلك ما استحت الجهمية أن يحكموا لإبليس ولفرعون بالإيمان، ثم صنفوا رسائل وذكروا كلاماً فيما يتعلق بالرد على الناصبة -أي: أهل السنة- مع أنهم هم الذين يناصبونهم العداء في إثبات إيمان فرعون وإثبات إيمان إبليس، فالإيمان عندهم هو المعرفة بالله فقط، والكفر هو الجهل بالله.
قال جهم : من أتى بالمعرفة -المعرفة تختلف عن العلم- ثم جحد بلسانه لم يكفر بجحده؛ لأن العلم والمعرفة لا يزولان بالجحد. مثل أن يأتي شخص فيقول لك: تعرف النظرية الفلانية؟ تقول له: نعم أعرفها، لكن لو أنك جحدت النظرية بعد إقرارك بمعرفتها فلا يستلزم أنك فعلاً قد جهلت هذه النظرية، ولذلك يقولون: الذي يقر بالربوبية والإلهية ثم جحد بعد ذلك؛ فهذا الجحود لا يؤثر على المعرفة.
وقال: الإيمان لا يتبعض، أي: لا ينقسم إلى عقد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأركان، ولا يتفاضل أهله فيه، أي: لا يزيد مؤمن على مؤمن، بل كل المؤمنين في ذلك سواء، سواء في ذلك الملائكة أو البشر أو الجن أو سائر المكلفين، فكلهم في مسألة الإيمان على مرتبة واحدة، فإيمان الأنبياء وإيمان الأمة على نمط واحد؛ إذ المعارف لا تتفاضل، وهذا غير صحيح؛ فعموم المعارف عند أهل السنة وليست المعرفة بالله فقط تتفاضل، فليست معرفة زيد بالله عز وجل كمعرفة عمر.
فانظروا حتى لا تتصوروا أن الكلام عن الجهمية كلام ليس له قيمة وليس له داعي في هذا الزمن؛ إذ إن التوحيد منتشر، والإسلام منتشر، ومصرنا أحسن بلد في العالم، ونحن الحمد الله جيدين! لا، نحن لسنا جيدين، فقد صنفت كتباً في إنكار الميزان والصراط وعذاب القبر وإنكار الشفاعة، فهذه أصول من أصول الجهمية، فهناك أستاذ في جامعة الأزهر أنكر الصراط والميزان والحساب؛ لأن هذه كلها معنويات، ثم يتهكم بعد ذلك ويقول: عليهم أن يثبتوا هل للميزان كفة أم كفتان؟ وإذا كان له كفتان فهل يكون مثل ميزان الدنيا؟! إذاً ونحن قائمون من قبورنا وقادمون على الله نأخذ معنا البطاطس والطماطم من أجل أن نوزنها! فهو يتهكم ويسخر، مع أنه أستاذ في جامعة الأزهر!
كما أنكر الجهم الشفاعة، وأنكر أن قوماً يخرجون من النار، وأنكر أن الجنة والنار مخلوقتان، وزعم أنهما تفنيان بعد خلقهما.
فعند ذلك تحير الجهم ، وتحيره دليل على جهله واغتراره بالله عز وجل، فلم يدر من يعبد أربعين يوماً، ثم إنه استدرك حجة مثل حجة الزنادقة والنصارى، وذلك أنه جلس أربعين يوماً يفكر ماذا يقول لهؤلاء القوم؟ ومثل ذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح الله من ذات الله، فإذا أراد أن يحدث أمراً دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه، فيأمر بما يشاء وينهى عما يشاء، وهو روح غائبة عن الأبصار، فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة، فقال للسمني: ألست تزعم أن فيك روحاً؟ قال السمني: نعم، قال: فهل رأيت روحك؟ قال: لا، قال: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا، قال: فهل وجدت له حساً؟ قال: لا، قال: فكذلك الله لا يرى له وجه، ولا يسمع له صوت، ولا يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان.
الأولى: آية نفي الإدراك، قال الله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103]، وقلنا من قبل في هذه الآية: إن الإدراك يعني الإحاطة والشمول.
الثانية: آية نفي المثل؛ لينفي بها الصفات، ويجعل من أثبتها مشبهاً. قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وقد أخذنا في الكلام عن القدرية: أنه ما من صاحب بدعة إلا ويحتج بأول الآية ويترك آخرها، أو يحتج بآخرها ويترك أولها، فمثلاً: هذه الآية كلها توحيد لله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أي: لا تشبهه الأشياء ولا تماثله، وليس له في الأشياء والمخلوقات مثيل ولا شبيه ولا ند ولا كفؤ، ثم أثبت أنه السميع البصير، فسمعه يختلف عن أسماع الأشياء، وبصره يختلف عن أبصار الأشياء، إذاً هو سميع بسمع يليق بجلاله، وبصير ببصر يليق بجلاله؛ لأنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، فأهل السنة يحتجون بأول الآية وآخرها، وأهل البدعة يحتجون ببعض الآية ويتركون البعض الآخر.
الثالثة: قوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام:3]، فقالوا: ما دام في الأرض فهو في الأرض بذاته، وما دام في السماء فهو في السماء كذلك، وهو ما بين السماء والأرض، حتى في الأراضين السبع، لكن كل هذا يقولون: بذاته، وهذا الذي جعل أهل السنة والجماعة يقولون: إن الله بذاته مستو على العرش، فلم يكونوا يقولون: بذاته في أول الأمر، لكن لما تطرق المبتدعة إلى القول في الذات اضطر أهل السنة والجماعة أن يقولون: بالذات كذلك، فأهل السنة والجماعة يقولون دائماً: الله على العرش استوى، ولا يقولون بذاته ولا بغير ذاته، وإنما يسكتون عن هذا؛ لأن الله تعالى قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، لكن لما قالت المبتدعة: هو في كل مكان بذاته؛ قال أهل السنة: لا، بل هو بذاته على العرش، وبعلمه وسمعه وإحاطته ورعايته في جميع الخلق، ومع جميع الخلق، فمعيته معية علم وسمع وبصر وإحاطة ورعاية وقيومية وغير ذلك من سائر صفاته وأسمائه سبحانه وتعالى، فلم يكونوا يقولون: بالذات أولاً؛ لأن الأدلة ليس فيها ذكر للذات، وما كانوا يتمنون أن يلجئوا لمثل هذا، وإنما ألجأهم واضطرهم إلى ذلك الرد على أهل البدع.
الجواب: الاستواء له في اللغة عدة معانٍ، وكل معنى من هذه المعاني إنما يفهم من السياق، فإذا كان متعلقاً بالله عز وجل فمعناه: العلو والارتفاع، الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، أي: علا وارتفع، وقد حاضرنا مراراً وتكراراً في هذه الجزئية بالذات، وسيأتي معنا إن شاء الله في الرد على الجهمية عند الكلام على فوقية الله تعالى وعلوه على عرشه.
الجواب: لا يا أخي! وإذا قبلت ذلك في الدكتور مصطفى حلمي؛ فأنا متأسف جداً أن أقبل هذا في الدكتور حسن الشافعي، فإن كتبه موجودة بين أيدينا، فتارة يصير إلى مذهب الخوارج، وتارة إلى الشيعة، وتارة إلى المعتزلة، ومعظم أقواله هي أقوال الأشاعرة، بل يرى كل شيء إلا أن يرى سلفياً أمامه، وإذا كان هذا موطن خلاف بيني وبينك فتفضل، وأنا عندي كتب الأستاذ حسن الشافعي وقد درسني، وأنا أعلم أنه ليس موجوداً في هذه البلاد، لكنه قد درسني في الدراسات العليا في دار العلوم وقال كلاماً في غاية الغرابة في وجود أخي الدكتور جمال السنوتي ، والدكتور أكرم أستاذ موجود حي يرزق، والأستاذ الشيخ: محمد عارف السجوري في أنصار السنة وهو معنا، وبقية الدفعة لا أذكرها الآن.
قال الدكتور حسن الشافعي : أما قول مالك : الاستواء معلوم فأنا أوافقه على ذلك، والكيف مجهول أنا أوافقه على ذلك، فقلت له: يا دكتور حسن ! ما معنى الكيف مجهول؟ فأقسم بالله الذي في السماء أنه قال: الكيف مجهول على الله! فقلت: كيف يجهل الله تعالى ذاته؟ قال: إما أن تسكت وإما أن تخرج من المحاضرة، فقلت: بل أخرج، فخرجت فتلقاني من هو شر منه أحمد شلبي ، فقال: اهدأ يا رجل! وأخذني إلى المكتبة، وقال لي: أنت لم تر آخر الأبحاث؟ فقلت له: لا، فقال لي: آخر الأبحاث في عيسى بن مريم، قلت له: وماذا فيها؟ قال: ألم تسمع أن الأبحاث الحديثة أثبتت أن عيسى قد قتل، قلت له: هذه أبحاثك، وأنت لا يأتي منك إلا كل شر، فوقف وانتفض، قلت له: إذا تكلمت كلمة سأرد عليك، فجلس يصيح، وأنا إذا أردت أن أنسحب من قولي فأنسحب منه فعلاً؛ لأنني متأكد أن معظم أساتذة ودكاترة العقيدة في دار العلوم الآن سلفية وأفاضل جداً، ويكفي وجود الدكتور مصطفى حلمي بالقسم، وهذا دين لا يحابى فيه أحد، ورغم بعض الزلات للدكتور مصطفى حلمي التي وافق فيها الأشاعرة، لكن الرجل محب للسلف وعقيدة السلف، فإذا أخطأ في شيء فأظن أنه أخطأ فيه بغير علم، والله تعالى يعفو عنا وعنه.
الجواب: لا؛ لأنه ليس بأعور، وإنما هو أعور القلب.
الجواب: نعم تجوز.
والسؤال هذا ما كان ينبغي طرحه، يقول: من علماء الجمعية الشرعية من صنف كتاباً في العقيدة وسماه: هذه عقيدتنا، وإذا بها عقيدة الأشاعرة، وأنا يا إخواني لم آت بهذا من عندي، وكتاب (الدين الخالد) للشيخ: محمود خطاب السبكي ، انظر إلى المجلد الأول في العقيدة ففيه عقيدة الأشاعرة، وإن كنا نعتقد أن معظم القائمين على الجمعية الشرعية أيضاً إخوة سلفيون، لكن أصل منهج الجمعية أشعري، والعجيب أنهم لا يريدون أبداً أن يتخلوا عن هذا.
الجواب: نعم، هي جائزة شرعاً محرمة قانوناً.
الجواب: جماعات الشيعة أو الخوارج أو المعتزلة أو القاديانية أو الجهمية الأمر فيها يحتاج إلى تفصيل، فغلاة هذه الفرق أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان، وأما عامة هذه الفرق فلا يكفرون إلا من نقض أصلاً عظيماً من أصول الإيمان.
الجواب: الأمر يحتاج إلى تفصيل، ولا يلزم كون هذه الفرق ليست من أهل السنة والجماعة أنهم كفار، بل هم من أهل القبلة، ولذلك نسبهم النبي إلى أمته، فقال: (وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار)، ولا يلزم من دخولهم النار الخلود فيها، ونحن قبل أن نبدأ في شرح كتاب ابن بطة تكلمنا عن حديث افتراق الأمة بكلام طويل في محاضرات عدة، وفصلنا بعض التفصيل، وربما يكون لنا ختام في نهاية الكتاب بذكر الكلام العام في هذه الفرق، وفي الدعاة إليها، وفي أتباعهم.
الجواب: الذي أعتقده جواز استخدامها، وأنها ليست بدعة، وإن كنت لا أحب ذلك؛ لأنها صارت علامة على أهل البدع، فالذي يراك بمسبحة وأنت ماش في الشارع تسبح بها يعتقد أنك صوفي، فهي صارت علامة على أهل البدع، وكم من أمور مباحة يتركها الرجل مخالفة الوقوع في التهمة.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر