أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
توقفنا في الدرس الماضي عند بداية ظهور البدع، وإذا كان للبدع بداية ظهرت فيها فإن الأصل كان على السلامة والأمانة والصدق، وهذا يعني أن الحقبة الزمنية الأولى من عمر الرسالة لم يكن فيها هذه البدع، خاصة زمن حياة النبي عليه الصلاة والسلام، وإن كان بعض أصحابه قد مال إلى مخالفة النبي عليه الصلاة والسلام، لكن لا أقول: هم الأصحاب، وإنما هم أصحاب الأهواء والضلال والنفاق، ولذلك: (لما دخل رجل على النبي عليه الصلاة والسلام وهو يقسم الغنائم فقال: اعدل يا محمد! فإن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله. فقال عليه الصلاة والسلام: ويحك، من يعدل إذا لم أعدل؟ فلما ولى الرجل مدبراً قال النبي عليه الصلاة والسلام: سيخرج من ضئضئي هذا من تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية). يعني: أن هذا الرجل كان هو رأس الخروج على النبي عليه الصلاة والسلام فلما قال هذه المقولة، وحكم عليه النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الحكم، كان هذا الرجل هو أصل الخروج على النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك الخوارج ينتسبون إليه، وكلهم يقولون بمقالته.
وأناس آخرون هم من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ومن المحبين المخلصين له، لكن دخل عليهم الشيطان من باب المتشابهات في القرآن الكريم، وقد سمعهم النبي عليه الصلاة والسلام يحتجون على بعضهم البعض بهذه الآيات المتشابهات، فخرج عليهم النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (أبهذا أمرتم؟ ألهذا وكلتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض، وغضب غضباً شديداً، كأنما فقئ في وجهه حب الرمان). فانطلق الصحابة راشدين ولم يعودوا لمثلها قط، وكانت هذه الحادثة في الاحتجاج بالقدر، لكن ما إن تظهر نار الفتنة في زمانه عليه الصلاة والسلام إلا وسرعان ما تنطفئ وتخبو تماماً، وعليه فلم تكن للبدع ظهور في زمانه عليه الصلاة والسلام.
وفي عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه ظهرت بدعة من يفرق بين الصلاة والزكاة، وهذه أعظم بدعة، وأعظم فتنة تعرض لها الإسلام بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام، وقد تصدى لها رجل واحد من الأمة وخالفته الأمة بأسرها، وقد نور الله تعالى بصيرته ليدل الأمة على الحق والصواب، هذا الرجل هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، كيف لا وقد قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (لو وزن إيمان الأمة بإيمان
وفي عهد عمر بن الخطاب لم يكن هناك فتن قط؛ لأن عمر شديد الشكيمة، والكل يهابه، بينما أبو بكر كان يتصف بالحلم، لكنه كان عند المخالفة أقوى من عمر كما كان ذلك في حروب الردة، وعمر كان بطبيعته وسجيته شديداً، والعرب يعرفونه قبل الإسلام وبعده، فكانوا يهابونه جداً، وما يجرؤ واحد منهم أن يتكلم بما عنده من نفاق أو زندقة أو إلحاد إلا في جحره، وإلا بين امرأته وأولاده وخاصته، ومع هذا هو يخاف أن يتسرب الخبر إلى عمر .
ولما تكلم صبيغ بن عسل بما عنده من متشابه القرآن علم بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فدعا هذا الرجل إلى بيته، وكان قد أحضر له العصا والجريد والنعال ليضربه، فقال: يا صبيغ ! بلغنا أنك تتكلم في متشابه القرآن، وهذا أمر لم يكن عليه أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، أفهذا خير سبقت إليه -أي: سبقت النبي وأصحابه إليه- أم هو أمر جديد من عندك؟ فإن كان جديداً ليس عليه سلف الأمة فلابد وأن تنتهي، وإن كان هذا أمراً قد فتح به عليك، وأغلق دون غيرك، فهذا شر الابتداع في دين الله، فتناول الجريد وظل يضربه على رأسه حتى سال الدم على وجهه، فقال صبيغ : يا أمير المؤمنين! قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي. أي: إن الذي كنت أفكر فيه قد انتهى كله، ولم يعد منه شيء. ولذا جاء في الأثر -وإن كان لا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام- أنه قال: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن). كلام جميل، وإن كان الإسناد فيه انقطاع بين يحيى بن سعيد الأنصاري وعثمان بن عفان كما روى ذلك عمر بن شيبة في كتاب (أخبار المدينة). وفي الحقيقة أن هذه الأمة تحتاج إلى رجل في قوة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حتى ترجع إلى أمرها الأول راشدة هادية مهدية.
ولذلك لما دخل يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن قالا: لعلنا نوفق إلى واحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فنسأله عما ظهر عندنا بالبصرة. قال -أي: يحيى بن يعمر -: فوفق لنا عبد الله بن عمر، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن يساره. قال: فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي -أي: سيدعني أتكلم معه- فقلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا أناس بالبصرة يتقفرون العلم -وفي رواية: يتفقرون، أي: يتتبعون دقائق وعويص المسائل- ويقرءون القرآن، يقولون: لا قدر وأن الأمر أنف. فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: فإذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم مني براء. أي: لا هم مني ولا أنا منهم.
والإمام النووي وغيره ينقلون هذا اللفظ من قول عبد الله بن عمر. يعني تكفيرهم وإخراجهم من ملة الإسلام؛ لأنهم أنكروا معلوماً من دين الله بالضرورة، فأنكروا صفات الله عز وجل وأسمائه، ولذا فالذي ينفي عن الله صفات أثبتها لنفسه أو أثبتها له رسوله، أو ينفي عن الله اسماً أثبته لنفسه، أو أثبته له الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام لابد وأنه يستحق هذا الحكم، خاصة وإن كان من أهل العلم؛ لأنه قال: (يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم). يعني: أنه ليس بجاهل، فهو لم يقل هذا عن جهل، وإنما قاله عن خبث طوية وسوء نية مع توفر العلم لديه. فمن ذا الذي يقيم الحجة على معبد الجهني ؟ لا أحد؛ لأنه من أكابر أهل العلم، لكنه تلقى علمه من مشكاة غير مشكاة النبي عليه الصلاة والسلام، تلقى العلم من مشكاة سوسن، مشكاة أهل الكتاب، فكان جديراً وخليقاً بأن يستحق الطرد من رحمة الله، ولذا طرده عبد الله بن عمر فقال: فإذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم مني براء. وهذا يعني الكفر والخروج من ملة الإسلام.
عند هذه الحادثة لا أقول: كانت بداية ظهور البدع على جهة العموم، وإنما أقول: هي أول نقطة في ظهور بدعة القدر.
ولذا فبدعة الشيعة وبدعة الخوارج كانت في الترتيب الزمني أسبق من بدعة القدر، والشاهد من هذا: أنه كلما كانت شوكة الإسلام قوية، وكان ذو منعة، كلما انطمست وخمدت الفتن، خاصة إذا كان السلطان صاحب دين، وصاحب شوكة وقوة ومنعة يستطيع بها أن يضرب المبتدع على أم رأسه، عند ذلك يكون الإسلام حينئذ في عافية وستر، وأمان وسلامة.
أما إذا كان السلطان في واد والإسلام في واد آخر، ولا علاقة بينهما، وإنما هو يدور مع نفسه حيث دار -أي: حيث دار هو- خلافاً لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن القرآن والسلطان سيفترقان، فدوروا مع القرآن حيث دار).
فإذا كان السلطان يدور مع نفسه، والقرآن في واد آخر، فلابد وأن يأتي الضعف؛ لأن الناس لا يصلحهم إلا أمير يتأمر عليهم، ووال يترأس عليهم ويوجههم ويرشدهم حتى وإن كان فاجراً، ولم يكن هناك أفجر من الحجاج بن يوسف الثقفي ، حتى قال عنه عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وغيرهم: لو أتت كل أمة بخبيثها وأتينا بـالحجاج لغلبناهم. وهذا يدل على أنه كان أخبث الخلق ممن انتسب إلى أهل القبلة، ومع هذا فإن الأمر الآن لا يصلح إلا بمثل الحجاج يا ليت! يوماً من أيام الحجاج رغم تجاوزاته، إلا أنه كان من أهل القرآن، ومن أهل البلاغة والفصاحة والبيان، وكان محباً للقرآن والسنة، لكنه كان في العقاب يتجاوز إلى أقصى حد، وقد أنكرت عليه أمه ذات يوم صنيعه، فأخذها إلى السوق وحمل معه سيفه ودخل، فكان يدخل على البقال، وعلى صاحب القماش، وعلى الجزار، وعلى فلان وعلان، فيقلب البضاعة إذا رآها معيبة من الداخل جميلة من الظاهر، وينظر إلى أمه فيقول: أهذا دين محمد؟! فتقول: لا، فيخرج سيفه ويضرب رقبته، فيقول لها: هذا الذي دعاني إلى تأديب الناس، وإن كان ذلك بالقتل.
ولا شك بأن الذي يغش المسلمين لا يستحق القتل، بل يستحق التأديب والتعزير والتوبيخ، لكنه تجاوز في العقاب ولم يكن فقيهاً، وإنما كان محباً للفقه وأهل العلم خاصة حملة القرآن الكريم، ومع هذا لم ينج منه لا حملة القرآن ولا حملة السنة، وهذا ليس دفاعاً عن الحجاج ، فإنني أبغضه ولا أحبه، وأبعده ولا أقربه، لكن كما ورد في ترجمته حتى من الشانئين المبغضين له أنه ما كان يفعل ذلك إلا حرصاً على دين الله عز وجل.
ولذا فهذه الأمة لا يصلحها إلا مثل عمر ليردها مرة أخرى، وليثبت لها العز في هذا الزمان بعد أن باتت في الذل وفي وحل الهوان تحت أقدام اليهود والنصارى.
قال: [ ثم انطمرت هذه المقالة، وانجحر من أظهرها في جحره -يعني: انطمست هذه المقالة، ولم يكن لها أتباع ولا دعاة- وصار من اعتقدها جليس منزله، وخبأ نفسه في السرداب كالميت في قبره خوفاً من القتل والصلب والنكال والسلب من طلب الأئمة لهم لإقامة حدود الله عز وجل فيهم، وقد أقاموا في كثير منهم، ونذكر في مواضعه أساميهم، وحث العلماء على طلبهم، وأمروا المسلمين بمجانبتهم، ونهوهم عن مكالمتهم، والاستماع إليهم، والاختلاط بهم لسلامة أديانهم]. ولذلك أهل العلم في كل زمان هم أحرص الناس وأشفق الناس على الأمة، فهم من باب النصيحة يوجهون الكلام إلى عامة المسلمين ويقولون لهم: لا تجالسوا أهل البدع، ولا تحدثوهم، ولا تأخذوا عنهم، فإن ذلك هو الذي يسبب السلامة لدينكم. أما إذا جلستم معهم، وخالطتموهم وتحدثتم إليهم، وأخذتم عنهم، وتحملتم العلم عنهم، فإنه لا يؤمن عليكم أن تقعوا في فتنتهم، ولكثر أتباع أهل البدع.
يعني: عندما يظهر شخص مثل معبد الجهني في البصرة، ويكون له أتباع عظام جداً، لم لم يتبعه أهل العلم في ذلك الزمان؟ بل أنكروا عليه بدعته، وحذروا العامة منه. لكن لما تنكب العامة نصيحة أهل العلم لهم بألا يقتربوا من هؤلاء وقعوا في شراكهم وحبالهم؛ لأنه ليس عندهم من العلم والعقيدة السليمة ما يؤهلهم لبيان هذه المفتريات والرد عليها، ولكنهم لما اقتربوا منهم وقعوا في بدعتهم؛ لأن كلام أهل البدع في الغالب حلو جميل خاصة إذا لم يفضح أمرهم على الملأ.
وفي هذا الزمان كثير جداً من أهل البدع، فعندما نأتي وننهى الناس عن الاقتراب منهم والجلوس إليهم والأخذ عنهم يقول لك: لا. فهذا كلامه منطقي ومعقول جداً، ولو لم يعجبك ممكن أنسق لك معه لقاء تناقشه. أنت يا صعلوك! الذي ستنسق لقاء؟! ما علاقتك بهذا اللقاء؟ ثم بعد ذلك هو الذي يدير اللقاء!
واحد جاهل لا يستطيع أن يقرأ فاتحة الكتاب في صلاته هو الذي يدبر ويسير الأمور بين أهل العلم. يعني: هو المتحكم في أهل العلم، وعندما تأتي تكلمه تقول: أنا خائف عليك. يقول لك: لا. لا تخف عليَّ، أنا منتبه. منتبه من ماذا؟! أنت جاهل، أنت لا تعرف شيئاً. يقول لك: النقاب حرام، فتقول له: من الذي قال ذلك؟ يقول لك: إسماعيل منصور . مع أن هذا قول مخترع جديد لم يقل به أحد من أهل العلم قاطبة، لا قديماً ولا حديثاً، حتى المخالفين للنقاب يقولون: النقاب فضيلة، النقاب مستحب. والذين لا يقولون بوجوبه يقولون باستحبابه وبفضله. أما القول بحرمته فلم يقل به أحد، حتى الأبالسة لم يقولوا بهذا، لكن قد يقول لك: هذا عنده حجة قوية! أأنت أيها الجاهل! الذي ستحكم عن الحجة بأنها قوية أو ليست بقوية؟! فيقول لك: لو لم يعجبك ممكن أنسق لك لقاء تتناقش معه، وبعد ذلك هو الذي يرتب ويدير المجلس!
ومن هنا يدخل الشيطان على عامة الناس، والمطلوب هنا ألا نقترب من أهل البدع قط. وهذا منهج السلف إن قبلته كنت على الهدي والصراط المستقيم، وإن رددته كنت على طريق أهل البدع.
لكن.. لماذا العلماء يناقشون أهل الابتداع؟ لأنهم لا خوف عليهم، وهذا دورهم الذي كلفهم الله تعالى به، ولذلك نحن نرى أن أهل العلم في كل زمان ومكان يحذرون من الاقتراب من أهل البدع وهم يقتربون؛ لأن دورهم مزدوج، يأمرك أنت ألا تذهب إليه ويذهب هو إليهم ليدحض حجتهم، ويبين فسادها ويكشف عوارها لعامة الناس حتى يحذروهم.
والخلاصة: أن أهل العلم إنما حثوا على عدم الاختلاط بالمبتدعة، وأمروا المسلمين بمجانبتهم، ونهوهم عن مكالمتهم والاستماع إليهم حتى يستقيم لهم أمر دينهم.
قال: [وشهروهم عندهم بما انتحلوا من آرائهم الحديثة]. لأن المبتدع إذا لم يجد له أعواناً فكيف سينشر بدعته؟ وكيف سيشتهر؟ ثم ائتوني ببدعة فيها علماء مشهود لهم بالاستقامة والصلاح. لا يمكن أن تجد هذا أبداً. والمبتدعة إنما هم رعاع الناس وسفلة القوم. فمثلاً بدعة التصوف هل فيهم أهل علم مشهود لهم بالصلاح والاستقامة على الكتاب والسنة؟ أبداً. بل إن أهل العلم هم الطبقة الكبيرة، وعندما تأتي وتنظر في رعاع الجماعة وعامة الجماعة تجد أن سفلة القوم لا عقول لهم من الأصل.
قال رحمه الله: [وشهروهم عندهم بما انتحلوا من آرائهم الحديثة، ومذاهبهم الخبيثة، خوفاً من مكرهم أن يضلوا مسلماً عن دينه بشبهة وامتحان، أو بريق قول من لسان، وكانت حياتهم كوفاتهم]. أي: هم أحياء، لكن كأنهم ميتين؛ لأنهم لا قيمة لهم، ولا خير فيهم، ولا نفع من ورائهم.
قال: [وأحياؤهم عند الناس كالأموات، المسلمون منهم في راحة، وأديانهم في سلامة، وقلوبهم ساكنة، وجوارحهم هادية، وهذا حين كان الإسلام في نضارة، وأمور المسلمين في زيادة].
كان هذا في العصر الأول، وذلك عندما كان كل صاحب بدعة يظهر فيضرب على رأسه. إما أن يرجع إلى الأصل، وإما أن يفضح أمره، فيكون بعد ذلك حبيس بيته. أما الآن فلا يظهر ولا يسطع نجمه إلا صاحب البدعة، وأما أهل التوحيد وأصحاب الاستقامة في دينهم وأخلاقهم ومسلكهم فهم الذين يضربون بالنعال ويداسون بالأقدام هنا وهناك.
قال: [ وادعوا أنهم أكبر منهم في المحصول، وفي حقائق المعقول، وأهدى إلى التحقيق -أي: أنهم أكثر وصولاً وتحصيلاً لدقائق المسائل من أسلافهم- وأحسن نظراً منهم في التدقيق، وأن المتقدمين تفادوا من النظر لعجزهم]. أي: أن المتقدمين لم يكن لهم بصيرة نافذة؛ لأنهم كانوا أعجز من أن يفكروا في كل أمر، وينظروا في كل مسألة.
قال: [ورغبوا عن مكالمتهم لقلة فهمهم]. أي: أنهم يسبون أسلافهم، وهذا للعلم أنه معلم من معالم أهل البدع، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : أهل السنة أرحم بأهل البدع من بعضهم لبعض، وأعدل لأهل البدع من بعضهم لبعض؛ لأن أهل البدع يقومون بعضهم بعضاً بالتكفير والتفسيق والتبديع والسباب والشتائم. وهو الآن يقول: [وأن المتقدمين تفادوا من النظر لعجزهم]. أي: لم يكونوا يستطيعون النظر في دقائق المسائل مثلهم.
كما رغبوا عن مكالمتهم، أي: أن أسلافهم لم يستطيعوا مواجهة أهل السنة لقلة فهمهم، فيقال لمن يتبعهم: أنت متأكد أن سلفك في هذه القضية لم يكن عنده فهم ولا عقل ولا بصيرة ولا شيء؟ سيرد عليك قائلاً: نعم. إذاً: هو لا يصلح، وأنت قد حصلت ما لم يحصل.
قال: [ وأن نصرة مذهبهم في الجدال معهم حتى أبدلوا من الطيب خبيثاً، ومن القديم حديثاً، وعدلوا عما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثه الله عليه، وأوجب عليه دعوة الخلق إليه، وامتن على عباده إتمام نعمته عليهم بالهداية إلى سبيله، فقال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [البقرة:231]، فوعظ الله عز وجل عباده بكتابه، وحثهم على اتباع سنة رسوله] الكريم صلى الله عليه وسلم. عجز المبتدعة أن يتخذوا من هذه الآية وأمثالها منهجاً ونبراساً يقتدون به.
قال: [وقال في آية أخرى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125]، لا بالجدال والخصومة، فرغبوا عنهما -أي: فرغب أهل البدع عن هذين- وعولوا على غيرهما، وسلكوا بأنفسهم مسلك المضلين، وخاضوا مع الخائضين، ودخلوا في ميدان المتحيرين، وابتدعوا من الأدلة ما هو خلاف الكتاب والسنة]. أي: جعلوا لهم أصولاً تخالف الكتاب والسنة، فبعد أن كان الأمر أننا نعرض كل شيء على الكتاب والسنة، صار الآن عند أهل البدع أن الكتاب والسنة مطلوب أن يعرضا على أصولهم التي اخترعوها وابتدعوها.
قال: [رغبة للغلبة، وقهر المخالفين للمقالة. ثم اتخذوها -أي: هذه الأصول التي ابتدعوها- ديناً واعتقاداً بعدما كانت دلايل الخصومات والمعارضات]. أي: أنه منهج اتخذوه من أجل أن يغلبوا به الخصم، وهذا المنهج سرعان ما صار أصلاً ودليلاً، ثم اعتقاداً، ثم ديناً.
قال: [ وضللوا من لا يعتقد ذلك من المسلمين ] أي: أنهم حكموا على غيرهم ممن يخالفهم في هذه الأصول من أهل السنة بأنهم من أهل الضلال.
قال: [ وتسموا بالسنة والجماعة ]. أي: أن أصولهم لا علاقة لها بالكتاب والسنة، ومع ذلك يضللون المخالف لهم ويسمون أنفسهم بأهل السنة والجماعة.
قال: [ وضللوا من لا يعتقد ذلك من المسلمين، وتسموا بالسنة والجماعة، ومن خالفهم وسموه بالجهل والغباوة -أي: وصفوه بأنه من أجهل الناس وأغبى الناس- فأجابهم إلى ذلك من لم يكن له قدم في معرفة السنة -أي: من الجهلة- ولم يسع في طلبها -أي: لم يسع في طلب السنة- لما يلحقه فيها من المشقة، وطلب لنفسه الدعة والراحة ] ولذلك معظم أتباع أهل البدع جهال؛ لأنهم لم يطلبوا العلم، ولم يعهد عليهم قط طلب للعلم.
قال: [ واقتصر على اسمه دون رسمه لاستعجال الرياسة ] أي: أنه يتزيا بزي أهل العلم، لكنه في حقيقة الأمر لم يطلب العلم استعجالاً للرياسة.
قال: [ ومحبة اشتهار الذكر عند العامة، والتقلب بإمامة أهل السنة، وجعل دأبه الاستخفاف بنقلة الأخبار ]. كما حدث لـأبي علي الأبار عندما ذهب إلى الأهواز، قال: فدخلت مسجداً، فإذا رجل قد تزيا بزي أهل العلم، فأطلق لحيته وحف شاربه، واشترى كتباً، وعين نفسه مفتياً، وعندما جلس للتدريس سئل عن أصحاب الحديث، فقال: ليسوا بشيء، ولا يسوون شيئاً. فهذه شيمة من شيم أهل البدع، أنهم يقعون في أهل العلم، ولذا قال أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: إذا رأيت الرجل يقع في أهل الحديث فاعلم أنه زنديق.
فقال له أبو علي الأبار : يا هذا! إنما مثلك مثل رجل أتى ليسأل عن صلاته وصيامه، فقيل له: الظهر أربعاً والعصر أربعاً والمغرب ثلاثاً والفجر اثنتان، فالزم ذا خير لك. قال: أنا كبير من كبراء أهل العلم. قال: ماذا تحفظ عن رسول الله إذا وقفت في محرابك وكبرت؟ فسكت الرجل. قال: ماذا تحفظ عن رسول الله إذا ركعت؟ فسكت الرجل. قال: ماذا تحفظ عن رسول الله إذا سجدت؟ فسكت الرجل. قال: ماذا تحفظ عن رسول الله إذا جلست بين السجدتين؟ فسكت الرجل.
ثم قال أبو علي الأبار : ألم أقل لك: إنما مثلك مثل رجل دخل المسجد فسأل عن صلاته وصيامه، فقيل له كذا وكذا، فالزم ذا خير لك، ولا تتعرض لأصحاب الحديث.
إذاً: أول علامة وأول شيمة من شيم أهل البدع: أنهم لابد أن يرتفعوا على أكتاف أهل العلم، فيسأل عن الشيخ الفلاني فيقول: هذا جاهل، وهذا مجرم لا يعرف شيئاً، وهذا صاحب لسان فقط، والمهم أن يذم كل أهل العلم من أهل السنة والجماعة حتى لا يبقى إلا هو، وقد جلست مع رجل من هؤلاء فقلت له: ما تقول في فلان؟ فقال: هذا جاهل. وفلان؟ هذا غبي. وفلان؟ هذا كيت، ولم يسلم منه أحد، فقلت: وماذا تقول في نفسك؟ فسكت. فقلت له: قل لا حرج. قال: والله رجل من أهل العلم أراد وجه الله بما يقول.
فقلت له: أنت الآن أثبت لنفسك الإخلاص والعلم، والذي تعلمناه أن المخلص يتهم نفسه ولا يقول أبداً: أنا مخلص. فقال: كلام من هذا؟ قلت: كلام المذهب الحنبلي والنووي. قال: هؤلاء لا يعرفون شيئاً! ثم تركته حتى لا نصل إلى الخلفاء الراشدين والنبي عليه الصلاة والسلام!
كما كان معنا كثير من الطلاب المفتونون به، فلما وقع في ابن رجب والنووي انصرفوا عنه عن بكرة أبيهم، وقالوا: الآن أدركنا أنه مبتدع، وأنه ليس من أهل العلم.
قال رحمه الله تعالى: [ وجعل دأبه الاستخفاف بنقلة الأخبار، وتزهيد الناس أن يتدينوا بالآثار لجهله بطرقها، وصعوبة المرام بمعرفة معانيها ]. لأنه لا يعرف شيئاً؛ ولأنه ليس من أهل العلم، لذا كلما تأتي وتقول له: إن الله قال كذا، ورسوله قال كذا. يقول: أمرة أخرى تقول: قال الله وقال رسوله؟! يا أخي! أنا قلت لك أن تعمل كذا وكذا، ولا علاقة لك بالآثار. لأنه لو كان متبعاً للآثار لم يكن من أهل البدع، وإلا لماذا نسمي أهل البدع وأهل الآثار؟ لأنها ضدان لا يجتمعان، ولذلك بين صاحب البدعة والأثر ثأر لا ينتهي أبداً، لأنه لا يستطيع تحصيله، ولأن هذا الأثر له طرق وأسانيد، فهو لا يعلم ما معنى طرق؟ ولا يعلم ما معنى أسانيد؟
ثم بعد ذلك افرض أن هذا الطريق وقع عليه، وعرف الدليل، أو أصبح هذا الدليل بين يديه، فإنه لا يفهمه ولا يفهم معناه؛ بسبب النور الذي سلب منه، والله تبارك وتعالى قد عاقبه بأن سلب منه حسن الفهم، وحسن الاقتداء، فهو يزهد الناس أن يتدينوا بالآثار؛ لجهله هو بطرق هذه الآثار والحصول عليها، وصعوبة معرفة معاني هذه الآثار عليه.
قال: [ وقصور فهمه عن مواقع الشريعة منها، ورسوم التدين بها، حتى عفت رسوم الشرائع الشريفة ومعاني الإسلام القديمة، وفتحت دواوين الأمثال والشبه ]. فتجد أهل البدع عندهم الحكاية، أو القصة ظريفة، فيذكرها أحدهم والناس جالسون حوله ويقولون: الله الله يا سيدنا الشيخ.
والأصل أن يذكر آية من كتاب الله، أو حديثاً من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، ويشرحه ويبين ما فيه من أحكام ومعان وفوائد واستنباطات، يستفيد المسلم من بركة ذلك.
كما أن الأصل في المسجد أنني أسمع كلام الله وكلام الرسول، وأنزل ذلك على الواقع الذي يعيشه المسلمون، حتى يتغير هذا الواقع وينضبط، لا أن ينضبط على أمثال شعبية أو عربية أو على الشبه والانحرافات والضلال.
قال: [ وفتحت دواوين الأمثال والشبه، وطويت دلائل الكتاب والسنة، وانقرض من كان يتدين بحججها ] هذا الكلام نحن نخالفه فيه؛ لأن القائم لله بحجة لا يخلو منه زمان ومكان قط؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).
إذاً: فأهل الحق القائمون لله بتبليغ حججه من كتابه وسنة رسوله لم يخل منهم زمان ولا مكان، لكن بإمكانك أن تقول: تقل هذه الطائفة في زمان أو تكثر في زمان، لكنها موجودة، وهذه بشارة النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [ وصار كل من أراد صاحب مقالة وجد على ذلك الأصحاب والأتباع -أي: من أهل البدع- وتوهم أنه ذاق حلاوة السنة والجماعة بنفاق بدعته، وكلا أن يكون كما ظنه أو خطر بباله إذ أهل السنة لا يرغبون عن طرائقهم من الاتباع ولو نشروا بالمناشير، ولا يستوحشون لمخالفة أحد بزخرف قول من غرور، أو بضرب أمثال زور ].
قال: [ ولم يكن لهم قهر ولا ذل أعظم مما تركهم السلف على تلك ]. أي: أن أكثر شيء تغيظ به المبتدع أنك تهمله وتتركه، لكن هذا مشروط بأن تكون بدعته في طي الكتمان، أما لو ظهر ببدعته وصار له أتباع وشوكة، وصولة وجولة فلا، بل لابد من فضحه حتى يرجع إلى الحق، أو حتى يتضح أمره عند عامة الناس.
أما لو كانت بدعته غير معروفة ولا منشورة فاتركه ولا ترد عليه؛ لأنك بذلك تكون قد قتلته قتلاً، يقول المتنبي :
أرى كل يوم تحت ضبني شويعر قصير يطاولني ضعيف يقاويني
لساني بنطقي صامت منه عاذل وقلبي بصمتي ضاحك منه هازل
فأتعب من ناداك من لا تجيبه وأغيظ من عاداك من لا تشاكل
أي: عندما يناديك شخص وأنت لا ترد عليه فإنك تغيظه غيظاً لا غيظ بعده.
ومثل ذلك: شخص يريد التحرش بك، فيظل يشد في ثيابك وذراعك، وربما يناديك بأقبح شيء، ومع هذا فأنت تهمله، فيكون بذلك قد قتلته وأغظته غيظاً مابعده غيظ، أما إذا كان الأمر يستوجب الضرب على الرأس، فهذا أمر لابد منه.
قال: [ ولم يكن لهم قهر ولا ذل أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة يموتون من الغيظ كمداً، ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلاً ]. لأنه أحياناً تجد شخصاً من أهل البدع يأتي إليك ويراك بأنك رجل سني بلحية تلبس طاقية أو عمامة بيضاء صغيرة، فيقول لك أمام الناس: ألست من أهل السنة والجماعة؟ فتقول له: نعم. فيقول لك: وأنا مبتدع، فتعال وناقشني. فيحضر حاشيته بالكامل، والذي يهمه أن هؤلاء الناس يعتقدون فيه هو، فيقول لك: تعال، أنا أقول كيت وكيت، فهل ممكن أن ترد هذا الكلام؟ أنت لست طالب علم، ولم تكن تحضر المجالس، ولا تحفظ شيئاً من العلم، وإنما كنت تكتفي بسماع الخير فقط، فكيف سترد عليه؟ هل تقول له: والله أنا لا أعرف كيف أرد عليك؟! أو تقوله له: اذهب إلى الشيخ فلان، أو يا فلان اذهب إلى الشيخ فلان وائت به، فيأتي الشيخ فلان، ثم يقول المبتدع: أنا أقول كيت وكيت، وهي في الحقيقة شبهة جديدة غير الأولى التي طرحها؛ لأن هذا الشيء هو ديدنه، فلن يطرح على الشيخ المبجل ما يطرحه على الجاهل قبله.
وما إن يأتي فإن الشيخ يجهز رده على الشبهة التي ألقاها فلما يحضر الشيخ يقول المبتدع: اترك هذه المسألة، فقد علمت خطئي فيها. وأنا أقول كيت وكيت، فيلقي شبهة جديدة لا يعرف الشيخ الرد عليها، ويظل يصرخ ويشتم فيه؛ لأن هذه هي حجة الضعيف. وهذا ينزل من قدر الشيخ عند المستمع ويرفع من قدر المبتدع. أما هو فيدعي الوقار وسمت أهل العلم، وفي هذه الحالة سيرتفع هذا المبتدع في أعين ونظر أتباعه ويسقط الشيخ، وكل ذلك لقلة العلم.
قال: [حتى جاء المغرورون ففتحوا لهم إليها طريقاً، وصاروا لهم إلى هلاك الإسلام دليلاً، حتى كثرت بينهم المشاجرة، وظهرت دعوتهم بالمناظرة -أي: ظهرت دعوة أهل البدع بالمناظرة- وطرقت أسماع من لم يكن عرفها من الخاصة والعامة، حتى تقابلت الشبه بالحجج- فباتت الشبهة حجة والحجة شبهة- وبلغوا من التدقيق في اللجج فصاروا أقراناً وأخداناً، وعلى المداهنة خلاناً وإخواناً بعد أن كانوا في الله أعداء وأضداداً، وفي الهجرة في الله أعواناً، يكفرونهم في وجوههم عياناً، ويلعنونهم جهاراً، وشتان ما بين المنزلتين، وهيهات ما بين المقامين. نسأل الله أن يحفظنا من الفتنة في أدياننا وأن يمسكنا بالإسلام والسنة، ويعصمنا بهما بفضله ورحمته].
قال: [ وتنكبوا سبيل المكذبين -أي: خالفوا سبيل أهل البدع- بصفات الله وتوحيد رب العالمين، فاتخذوا كتاب الله إماماً، وآياته فرقاناً، ونصبوا الحق بين أعينهم عياناً، وسنن رسول الله عليه الصلاة والسلام جنة وسلاحاً، واتخذوها طريقاً ومنهاجاً، وجعلوها برهاناً فلقوا الحكمة، ووقوا من شر الهوى والبدعة، لامتثالهم أمر الله في اتباع الرسول، وتركهم الجدال بالباطل ليدحضوا به الحق ].
فانظر إلى قوله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ! ولذلك تجد أهل السنة طائفة واحدة، وأهل البدع طوائف متعددة؛ لأنهم اتخذوا دينهم فرقاناً، واتخذوا شرعهم أشتاتاً وأشلاءً، ولذلك تجد في حديث افتراق الأمة أن هذه الأمة ستتمزق، وستبتعد كل الابتعاد عن كتاب الله وعن سنة رسوله، إلا طائفة واحدة تتمسك بما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام، فقال: (وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي). أي: أن أهل السنة والجماعة هم الذين يتمسكون بالأمر العتيق. ولذلك يقول عبد الله بن مسعود: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم. وكأن المبتدع يقول لله عز وجل: أنت لم تكمل شرعك، وأنت لم تتم النعمة علينا، ورسولك لم يبلغ هذا الدين إلينا، فهو يتهم الله تبارك وتعالى في أنه قصر في هذا الدين، وفي إتمامه وكماله، ويتهم الرسول كذلك فيما بلغ عن رب العزة تبارك وتعالى.
مع أن الله تبارك وتعالى قد أتم لنا هذا الدين، وأكمله ورضيه لنا، فقال آمراً إياناً: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ . ولا شك أن حبل الله هو كتابه، وسنة رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام.
قوله: وَلا تَفَرَّقُوا . هذا نهي عن التفرق والتشرذم والابتعاد عن الاعتصام بالكتاب والسنة.
قال: [ وقال تبارك وتعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر:55]. وقال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام:153] ]. فجعل طريقه واحداً، فقال: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي ولم يقل: صرطي وطرقي، وإنما هو طريق واحد، وصراط واحد، وسبيل واحد.
قال: [وقال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]. وقال تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:17-18]، وقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي [آل عمران:31] -أي: أن اتباع النبي عليه الصلاة والسلام يؤدي إلى- يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]. وقال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108] أي: على علم. أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].
ثم أوجب الله طاعته وطاعة رسوله فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ [الأنفال:20]. وقال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]. وقال: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54]، وقال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:71]. وقال: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور:52]. وقال: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، قيل في تفسيرها: إلى الكتاب والسنة -فردوه إلى كتاب الله وإلى رسول الله في حياته، وبعد مماته إلى سنته- ثم حذر من خلافه والاعتراض عليه. فقال سبحانه: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [النساء:65] -أي: نفى عنهم الإيمان- حَتَّى يُحَكِّمُوكَ [النساء:65] -يا محمد- فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] -أي: يرضوا بهذا الحكم كامل الرضا- وقال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا [الأحزاب:36]. وقال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
وفي حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة دمعت منها الأعين، ووجلت منها القلوب. فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فبم تعهد إلينا؟ فقال: قد تركتكم على البيضاء -أي: على هذه الشريعة الصافية النقية- ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة ضلالة).
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (خط لنا رسول الله عليه الصلاة والسلام خطاً، ثم خط خطوطاً يميناً وشمالاً، ثم قال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ [الأنعام:153]) -أي: فتبتعد بكم عن سبيله- وعن ابن مسعود أنه قال: اتبعوا ولا تبتعدوا فقد كفيتم ] أي: ما جاءكم في كتاب الله وفي سنة رسول الله فهو الكفاية وفيه الغناية، فلا تبتدعو بل اتبعوا.
وكل طائفة من الأمم مرجعها إليهم في صحة حديثه وسقيمه، ومعولها عليهم فيما يختلف فيه من أموره ].
قال: [ ثم كل من اعتقد مذهباً فإلى صاحب مقالته التي أحدثها ينتسب، وإلى رأيه يستند، إلا أصحاب الحديث ] أي: أن كل صاحب بدعة ينتسب إلى بدعته، وكل صاحب بدعة ينتسب إلى مؤسس هذه البدعة، إلا أصحاب الحديث فإنهم ينتسبون إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [ فإن صاحب مقالتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم إليه ينتسبون، وإلى علمه يستندون، وبه يستدلون، وإليه يفزعون، وبرأيه يقتدون، وبذلك يفتخرون، وعلى أعداء سنته بقربهم منه يصولون، فمن يوازيهم في شرف الذكر؟! ويباهيهم في ساحة الفخر وعلو الاسم؟! ].
قال: [واغتاظ بهم الجاحدون، فإنهم وهم حماة السواد الأعظم والجمهور الأضخم، فيهم العلم والحكم، والعقل والحلم، والخلافة والسيادة، والملك والسياسة، وهم أصحاب الجمعات والمشاهد، والجماعات والمساجد، والمناسك والأعياد، والحج والجهاد، وباذلي المعروف للصادر والوارد، وهم حماة الثغور والقناطر، الذين جاهدوا في الله حق جهاده، واتبعوا رسوله على منهاجه، الذين أذكارهم في الزهد مشهورة، وأنفاسهم على الأوقات محفوظة، وآثارهم على الزمان متبوعة، ومواعظهم للخلق زاجرة، وإلى طرق الآخرة داعية، فحياتهم للخلق منبهة، ومسيرهم إلى مصيرهم لمن بعدهم عبرة، وقبورهم مزارة، ورسومهم على الدهر غير دارسة -أي: ظاهرة غير منطمسة- وعلى تطاول الأيام غير منسية، يعرف الله إلى القلوب محبتهم -أي: يسوق الله تبارك وتعالى حبهم ويغرسه في قلوب الخلق- ويبعثهم على حفظ مودتهم، يزارون في قبورهم كأنهم أحياء في بيوتهم لينشر الله لهم بعد موتهم الأعلام حتى لا تندرس أذكارهم على الأعوام، ولا تبلى أساميهم على مر الأيام، فرحمة الله عليهم ورضوانه، وجمعنا وإياهم في دار السلام].
عقيدة أهل الحديث لا تزال محفوظة، والله تبارك وتعالى يبعث على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها على عقيدة أهل الحديث، وهي عقيدة النبي عليه السلام وأصحابه الكرام.
والمؤلف جزاه الله خيراً قد بذل جهده في تأليف هذا الكتاب، وهو ما سعى فيه إلا لإظهار عقيدة أهل السنة والجماعة على منهج أصحاب الحديث.
قال: [ثم إنه لم يزل في كل عصر من الأعصار إمام من سلف، أو عالم من خلف قائم لله بحقه وناصح لدينه فيها...].
نكتفي بهذا، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
الجواب: في الحقيقة الحديث ليس مخصص، وما علمت أحداً من أهل العلم يقول بتخصيصه في مكة بالذات للحاج والمعتمر، إلا شيخنا الشيخ الألباني حفظه الله، وأما أهل العلم فهم على أن ماء زمزم ينفع بإذن الله تعالى في موطنه وفي غير موطنه. بمعنى: أنه إذا انتقل من مكانه -أي: من مكة- لانتفع به وأدى الغرض المقصود منه، ولا أدل على ذلك من أمر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه أن ينقلوا له الماء من مكة إلى المدينة، ولو كان نقله ليس فيه فائدة لما أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بنقله، لكن شيخنا يخالف في ذلك جماهير أهل العلم.
الجواب: الأولى ترك ذلك.
الجواب: لا شك أن هذا باب عظيم جداً من أبواب الفتن، خاصة مع هذا الشاب، ولابد أن يكون هناك حاجز بين الرجال والنساء حتى تؤمن الفتنة.
الجواب: لا تقنعه؛ لأن الذي لا يرى الضوء في عز النهار لا يحتاج إلى برهان ودليل.
الجواب: يا أخي! عندما نقول: إن البدع التي هي المحدثات المنكرة، إنما نقصد البدع في الدين، أما هذه البدع التي استحدثها الناس في حياتهم ومعاشهم فليست بدعاً مذمومة، مثل: صناعة السيارات والطائرات وغير ذلك من مظاهر المدنية والحضارة، فهذه ليست مذمومة، بل هي ضريبة العقل التي افترضها الله عز وجل على عباده، وهي من البدع المستحسنة والمستحبة؛ لأنها ليست في الدين، وإنما هي في دنيا الناس وحياة الناس، ولا بأس بذلك.
الجواب: هذا الحديث ضعيف، بل منكر، وقد رواه الحاكم وغيره. ونكارة هذا الحديث: أن الله تعالى ما كان ليحل شيئاً ثم يبغضه، فالحلال ما أحله الله وأحبه، والحرام ما حرمه وأبغضه، فإذا أحب الله الطلاق فهو حلال وليس بغيضاً عند الله عز وجل، كما أن الإسناد في رواية هذا الحديث فيه ضعف كثير.
الجواب: أي: أوحي إلي بالكتاب، وبمثل الكتاب، وهو السنة.
الجواب: اختلف أهل العلم في صحته، والراجح أنه حديث حسن.
الجواب: أنا لم أعرفه، ولم أسمعه قبل هذا.
الجواب: لا يوجد اختلاف أصلاً حتى نحتاج إلى الجمع، فالحديث الأول يتكلم عن عموم العمل الصالح، ومحل هذا العمل أيام العشر، والحديث الثاني يتكلم عن نوع معين من العمل الصالح وهو الصيام.
الجواب: لا يجوز؛ لأن السنن الراتبة مرتبطة مع الفرض ابتداءً وانتهاءً، فإذا لم يكن الفجر قد دخل عند الأذان فلا يجوز تعجيل السنة في هذا الوقت؛ لأنها في غير وقتها.
الجواب: هذا الحديث عند أبي داود وابن ماجة بسند صحيح، وهو حث على إتيان صلاة الجماعة، وقد حمله أهل العلم على استحباب وتأكيد الإتيان لصلاة الجماعة.
الجواب: إذا كان لغير علة وسبب فلا يجوز، كأن يكون لأجل الفقر، أو لأجل الدلع، أو واحدة تريد الحفاظ على جمالها، فهذا لا يجوز قط، أما إذا كان لعلة أو سبب فجائز، كأن تكون الأم مريضة، أو اتفقت مع زوجها على إتمام إرضاع المولود، فلها عند ذلك أن تنظم لوقت يسمح بإتمام هذه الرضاعة، ثم تخلع هذه الوسيلة للاستعداد لإنجاب آخر.
ولا شك أن خير وسيلة في ذلك هو اللولب؛ لأن اللولب أقل الوسائل خطراً، بخلاف الحبوب التي تورث السرطان وغيره من الأمراض.
الجواب: هو على أي حال حديث ضعيف، فهو عند أبي داود بسند ضعيف.
الجواب: لا بأس بذلك، وهو من الأمور المباحة.
الجواب: لا يجوز، والنبي عليه الصلاة والسلام لما نهى المرأة المعتدة من وفاة زوجها عن الخروج إنما نهى أصحابه، مع أن طلب العلم واجب، والخروج من البيت وحضور مجلس النبي عليه الصلاة والسلام من أوجب الواجبات، ومع هذا فإن هذا الخطاب موجه لنساء الصحابة في الدرجة الأولى، ولم يستثن من ذلك طالبة العلم.
الجواب: لا يجب الصوم؛ لأن ظاهر السؤال أنها حلفت على يقين، أن هذا الشيء ليس موجوداً هنا، ثم فوجئت بعكس ذلك، فهي حلفت على يقين صادقة ولم تحلف كاذبة.
الجواب: إذا كان رسماً على ظاهر اليدين أو الرجلين فإنه ليس وشماً، وإنما الوشم هو تخريم الجلد وتغذيته بالحناء أو الكحل، بحيث يصير أمراً لازماً في اليد طول حياة الموشوم، فإذا كان الحناء في الظاهر فإنه لا يحرم، وإذا كان على الوجه الآخر فإنه حرام.
الجواب: لا يجوز؛ لأنه معذور في إتيان الصلاة، وأنت لا تجبر على ذلك، ولست معذوراً في دخولك معه في هذه الأوقات المنهي عنها.
الجواب: إن بركة العلم تكون بالعمل به، وأن تأتي ومعك الكراس وتسجل رءوس الموضوعات، وإذا كان هناك أدلة تحت كل رأس موضوع فلا بأس أن تكتبها حتى تحصل على المسألة بدليلها، ثم تراجع مكتوبك هذا كل فترة معينة من الزمن حتى لا تنسى العلم.
الجواب: ضعيف.
الجواب: لم يصح في يس حديث واحد.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر