إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. حسن أبو الأشبال الزهيري
  5. سلسلة شرح صحيح مسلم
  6. كتاب الصيام
  7. شرح صحيح مسلم - كتاب الصيام - فضل ليلة القدر والحث على طلبها والاعتكاف في رمضان

شرح صحيح مسلم - كتاب الصيام - فضل ليلة القدر والحث على طلبها والاعتكاف في رمضانللشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ليلة القدر فضلها عظيم، فهي خير من ألف شهر، ومن قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن حرم خيرها فقد حرم، فحري بالمؤمن أن يجتهد في طلبها وإدراكها، وذلك بقيامها وشغل ساعاتها بالطاعات من صلاة وتلاوة قرآن وذكر ودعاء واستغفار.. وغير ذلك من الطاعات، وقد حرص عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه حق الحرص، فكانوا يعتكفون العشر الأواخر من رمضان من أجل إدراكها، ولنا في رسول الله أسوة حسنة.

    1.   

    باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها وبيان محلها وأرجى أوقات طلبها

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    سيكون الكلام في هذا الدرس عن ليلة القدر، والكلام في الأسبوع القادم - بإذن الله تعالى - سيكون عن الاعتكاف ومشروعيته ومكان الاعتكاف، وموطن البحث حينئذ سيكون عن موطن الاعتكاف؛ رداً لمن قال: إنه لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة، باعتبار أنها جزئية في غاية الأهمية، وأثارت جدلاً طويلاً في السنوات الأخيرة، فنجلي الأمر حينئذ بإذن الله تعالى.

    شرح حديث (إن رجالاً من أصحاب النبي أروا ليلة القدر في المنام...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها وبيان محلها وأرجى أوقات طلبها.

    حدثنا يحيى بن يحيى - هو التميمي النيسابوري أبو زكريا - قال: قرأت على مالك - وهو مالك بن أنس الإمام المشهور - عن نافع - الفقيه - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (إن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام، في السبع الأواخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر) ] يعني: أنا أرى أن رؤاكم قد تواطأت على أن ليلة القدر إنما تكون في السبع الأواخر من شهر رمضان.

    فقوله: (فمن كان متحريها) أي: فمن كان يطلبها ويتحرى وقتها.

    وقوله: (فليتحرها في السبع الأواخر) والنبي عليه الصلاة والسلام كان من عادته أنه إذا صلى الغداة يلتفت إلى أصحابه ويقول: من رأى منكم رؤيا البارحة، فيحدثه كل إنسان بما رأى، إن كان خيراً قصه عليه وأوله له النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا سكتوا قال النبي عليه الصلاة والسلام: وإني رأيت فيما يرى النائم في هذه الليلة كيت وكيت وكيت، فكان يقص عليهم ويقصون عليه، ويؤول لهم رؤياهم صلوات ربي وسلامه عليه، حتى قص عليهم قصصاً عجيبة فيما يتعلق بالجنة والنار، والجزاء والثواب والعقاب.. وغير ذلك مما هو معلوم لديكم.

    وبين النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه: أن من رأى في منامه شيئاً يكرهه فلا يقصه على أحد، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وليتفل عن يساره ثلاثاً، وليتحول عن مكانه، وربما قال: فليتوضأ، وليصل ركعتين، فهذا فيه العصمة من الكوابيس ومن الأحلام السيئة التي تقض مضجع صاحبها.

    من آداب الرؤيا

    فمن الآداب الشرعية فيها:

    الأول: ألا يقصها على أحد.

    الثاني: إذا استيقظ أن يتفل عن يساره ثلاثاً ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، والتفل هو بين البصق والنفخ، أي: يكون فيه شيء يسير من الريق.

    الثالث: أن يتحول عن مكانه، يعني: يترك المكان الذي كان ينام فيه، وينام على جنبه الأيمن أيضاً؛ لأن هذا من آداب النوم، لكن إذا كان ينام في أول السرير فلينم في وسطه أو في آخره، والعكس بالعكس إذا كان هناك سريران، فيغير موضع الفراش وليتحول عن مكانه.

    الرابع: أن يتوضأ ويصلي ركعتين، وإذا قام الرجل من نومه فصلى ركعتين وشهد لله تبارك وتعالى بالتوحيد الخالص، فإنه لا يدعو بدعوة في هذا الوقت إلا استجيبت له، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من تعار من الليل -أي: من استيقظ من ليله- فقام فتوضأ وصلى ركعتين لم يحدث فيهما نفسه بشيء، ثم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له -إلى آخر الدعاء ثم قال-: لم يدع بشيء إلا استجيب له)، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فإذا فعلت ذلك، فإنها إن شاء الله لا تضرك) يعني: إذا التزمت هذه الآداب الشرعية فإن هذه الرؤيا إن شاء الله لا تضرك، فكم من أناس يرون في منامهم شيئاً يكرهونه فيقض مضجعهم، بل ويتأرقون أشد الأرق، يظنون أن هذا واقع بهم ولا محالة، فينتظرون هذا البلاء وهذا الشر وإن طالت مدة انتظارهم، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا فعلت هذا) أي: إذا حافظت على هذه الآداب، (فإنها إن شاء الله لا تضرك)، يبشرك عليه الصلاة والسلام.

    إذاً: كان من عادته صلى الله عليه وسلم أنه يقول لأصحابه بعد صلاة الصبح: (من رأى منكم البارحة شيئاً) فتصوروا أن الصحابة في ذلك الوقت حين توجه هذا السؤال إليهم قالوا: (يا رسول الله! إنا رأينا ليلة القدر، ومحلها في السبع الأواخر من شهر رمضان، فقال عليه الصلاة والسلام: إني أرى رؤياكم قد تواطأت) يعني: هذه المنامات وهذه الرؤى قد اتفقت على أنها في السبع الأواخر من رمضان.

    قال: (فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر) يعني: من رمضان.

    شرح حديث: (أرى رؤياكم في العشر الأواخر، فاطلبوها في الوتر منها)

    قال: [ وحدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحروا ليلة القدر في السبع الأواخر).

    وحدثني عمرو الناقد وزهير بن حرب قال زهير : حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم -وهو ابن عبد الله بن عمر - عن أبيه - وهو عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما قال: (رأى رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم في العشر الأواخر، فاطلبوها في الوتر منها) ].

    أما فقوله: (أرى رؤياكم في العشر الأواخر) يعني: لما رأى هذا الرجل ليلة القدر في ليلة السابع والعشرين أراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يؤكد على مجموع الرؤى لا على رؤية هذا الرجل؛ لأن جل الصحابة الذين أخبروا برؤاهم أخبروا أنها في السبع الأواخر، بخلاف رجل واحد فإنه قال: إني رأيتها في ليلة السابع والعشرين، وإلا فمعظم رؤى الصحابة إنما كانت في العشر الأواخر.

    وقوله: (فاطلبوها في الوتر منها) أي: في الليالي الوترية، ليلة الحادي والعشرين، والثالث، والخامس، والسابع، والتاسع والعشرين. فهذه الليالي هي مناط ومحل ليلة القدر.

    أما كون النبي عليه الصلاة والسلام يعلم ليلة القدر، أو يعلم اسم الله الأعظم، أو يعلم ساعة الإجابة في يوم الجمعة.. أو غير ذلك، وأخفى ذلك على هذه الأمة، فإنما هذا الإخفاء كان لمصلحة عظيمة جداً، وهي أن يتحرى الناس العبادة، ويجتهدوا فيها في معظم هذه الأوقات؛ لأنك لو علمت يقيناً أن الساعة التي يجاب فيها الدعاء في يوم الجمعة هي ساعة كذا بالتحديد، لانقطعت في هذه الساعة للعبادة والدعاء والذكر والتسبيح، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام عمّى ذلك على الأمة فقال: (إن في الجمعة لساعة ما يدعو فيها أحد إلا استجيب له).

    ولذلك اختلف العلماء في تحديد هذه الساعة، فمنهم من قال: هي في الصباح، ومن قال: هي في المساء، ومن قال: هي قبيل المغرب، ومن قال: في ساعة الجمعة، ومن قال: بين يدي الإمام وهو يخطب، وكل هذا إنما هو لمصلحة الأمة، وهي أن تجتهد في الدعاء والذكر والتسبيح والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام في هذا اليوم من أوله إلى آخره.

    كذلك أخفى النبي عليه الصلاة والسلام علينا اسم الله الأعظم؛ حتى نجتهد في دعاء الله عز وجل بجميع أسمائه الحسنى وصفاته العلى، كما أمرنا تعالى بقوله: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] أي: ادعوه بجميع الأسماء، فلو أننا علمنا اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب لما دعوناه إلا بهذا الاسم فقط، فإخفاء هذا الاسم فيه مصلحة عظيمة جداً.

    كذلك لو أننا علمنا يقيناً ليلة القدر في رمضان لما صلينا ولا تعبدنا ولا ذكرنا ولا سبحنا الله تعالى بشيء إلا في هذه الليلة؛ لأنها ليلة هي خير من ألف شهر، فربما محت ذنوب سنين طويلة، فأنا وأنت قد نكتفي بالعبادة في هذه الليلة، فكان من المصلحة أن يخفى علينا محل هذه الليلة من بين الليالي؛ حتى يكون محل الاجتهاد واسعاً مدة عشر ليال على الصحيح.

    شرح حديث ابن عمر (فالتمسوها في العشر الغوابر)

    قال: [ وحدثني حرملة بن يحيى أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر أن أباه رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لليلة القدر: إن ناساً منكم قد أروا أنها في السبع الأول، وأري ناس منكم أنها في السبع الغوابر، فالتمسوها في العشر الغوابر) ] (الغوابر) هي البواقي والأواخر، فالغابر هو الشيء المتأخر، أو الشيء الباقي، وكلمة (الغوابر) في اللغة من كلمات الأضداد، يقال: فلان غبر أي: فلان مضى وانتهى، وفلان غبر أي: مات، وفلان غبر أي: تأخر، وفلان غبر أي: تقدم.

    فكلمة (غبر) في اللغة من كلمات الأضداد، تطلق على الشيء وضده، تطلق على الأول وعلى الآخر، وعلى المتقدم وعلى المتأخر، فلما ذكرت هنا في مقابلة الأول فلا بد أنها تدل على الأواخر.

    فقوله: (إن ناساً منكم قد أروا أنها في السبع الأول) اختلف العلماء في السبع الأول، هل هي السبع الأول من العشر الأواخر، أو السبع الأول من أول شهر رمضان؟

    فهناك ناس رأوا في منامهم، والرؤى والأحلام لا ينبني عليها اعتقاد ولا أحكام، وإنما هي مبشرات.

    وقوله: (وأري ناس منكم) أي: ورأى أناس آخرون منكم.

    وقوله: (أنها في السبع الغوابر) أي: في السبع البواقي من الشهر.

    وقوله: (فالتمسوها في العشر الغوابر) أي: فالتمسوها في العشر الأواخر والغوابر من شهر رمضان.

    شرح حديث: (التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي)

    قال: [وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر ] محمد بن المثنى العنزي البصري الملقب بـالزمن، ومحمد بن جعفر الملقب بـغندر .

    قال: [ حدثنا شعبة ] وشعبة هو شيخ محمد بن جعفر، بل إن شعبة تزوج بأم محمد بن جعفر، فيكون محمد بن جعفر تربى في حجره ورضع من علمه.

    قال: [ عن عقبة - وهو ابن حريث - قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فالتمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي)]، كأن النبي عليه الصلاة والسلام قال ذلك في ليلة الثالث والعشرين، ولم يبق من الشهر إلا سبع ليال، وكأنه قال: فإن عجز أحدكم أو ضعف عن الاجتهاد في العبادة في اليومين أو في الليلتين الماضيتين، فلا أقل من أن يجتهد في السبع البواقي.

    شرح حديث: (تحينوا ليلة القدر في العشر الأواخر، أو قال: في التسع الأواخر)

    قال: [وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن جبلة قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان ملتمسها فليلتمسها في العشر الأواخر).

    وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا علي بن مسهر عن الشيباني -وهو أبو إسحاق الشيباني- عن جبلة ومحارب كلاهما عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحينوا ليلة القدر في العشر الأواخر، أو قال: في التسع الأواخر)].

    فقوله: (تحينوا). أي: اطلبوها وتحروها في وقتها، ووقتها في العشر الأواخر، أو في التسع الأواخر، وذكر العشر خرج مخرج الغالب وليس المقصود حقيقة العشر؛ لأن الليالي الفردية لا تنتهي إلا بليلة التاسع والعشرين، حتى وإن كان رمضان ثلاثين يوماً، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل عند الله عز وجل من العشر الأوائل من ذي الحجة) مع أن المقصود التسعة؛ لأن اليوم العاشر عيد، ولكنه كلام خرج مخرج الغالب، يعني: التسعة تقرب إلى العشرة، وكذلك التسع في رمضان تقرب إلى العشر، فليس المقصود حقيقة العشر وإنما المقصود التسع.

    شرح حديث: (أُريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها فالتمسوها، في العشر الغوابر)

    قال: [ حدثنا أبو الطاهر وحرملة بن يحيى التجيبي - وكلاهما مصري - قالا: أخبرنا ابن وهب - وهو مصري - عن يونس - وهو ابن يزيد الأيلي - عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أُريت ليلة القدر) ] هنا الرؤية تمت للنبي عليه الصلاة والسلام نفسه، والصحابة رأوها واختلفوا فيها، فمنهم من رآها ليلة السابع والعشرين، ومنهم من رآها في السبع الأوائل، ومنهم من رآها في السبع الأواخر، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين هذا كله وقال: (التمسوها في العشر، أو في التسع.) ثم تأتي رؤية النبي عليه الصلاة والسلام.

    قال: [ (أُريت ليلة القدر، ثم أيقظني بعض أهلي فَنُسِّيتُها، فالتمسوها في العشر الغوابر) ] أي: البواقي من الشهر. أحياناً أنت ترى رؤيا جميلة وتفرح معها، وتشعر بأن روحك تحلق في السماء السابعة، ثم تفاجأ بمن يوقظك فتقوم، فربما من فرط همك وغمك تشعر أن هذا الخير قد انقضى عنك، وتنسى ما كنت فيه من خير، فالنبي عليه الصلاة والسلام قد رأى ليلة القدر في منامه ليس حقيقة، فكأنه أراد أن يجمع عليه أمره حتى يحدث بها، فإذا ببعض نسائه قد أيقظته عليه الصلاة والسلام، فقام ناسياً لتحديد وتعيين تلك الليلة.

    قال: [ وقال حرملة : (فَنَسِيتُها) ] يعني: في رواية: (فَنُسِّيتُها) ورواية: (فَنَسِيتُها) وهذا يدل على جواز أن يقول القائل: أُنسيت كذا أو نَسيت كذا، كلاهما جائز، لأن بعض أهل العلم قالوا: لا ينبغي أن يقول المرء: أنا نسيت كذا؛ هذا خطأ لا يوافق اللغة ولا الشرع، وإنما الموافق للغة والشرع أن تقول: أُنسيتها أو نُسِّيتُها، وقد جاء في حديث عند البخاري : (أن النبي عليه الصلاة والسلام سمع رجلاً يقرأ آية من كتاب الله أو يقرأ قرآناً، فقال: رحمه الله قد أذكرني آية كنت قد أنسيتها) يعني: غابت عنه عليه الصلاة والسلام، لكن الراجح من أقوال أهل العلم: أن لفظ أُنسيتها أولى من نَسِيتها، لكن هذا لا يعني أنها رواية شاذة أو منكرة أو لا تصح لغة ولا اصطلاحاً، وإنما نُسِّيت ونَسِيت بمعنى واحد، والقائلون بالأولى أخذوا هذا من قول الله عز وجل: وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ [الكهف:63] يعني: لو أنك رددته إلى أصله لكان نَسِي غير نُسِّي، فقالوا: النسيان من الشيطان، وهذا تأويل فيه تكلف، خاصة وقد ثبت هذا المصطلح.

    شرح حديث أبي سعيد الخدري في اعتكاف النبي العشر الأواسط من رمضان برواية قتيبة بن سعيد

    قال: [ حدثنا قتيبة بن سعيد - وهو الثقفي - حدثنا بكر بن مضر عن ابن الهاد -وهو يزيد بن عبد الله بن الهاد ، هكذا المحدثون يقولون: ابن الهاد ، واللغويون يثبتون الياء: ابن الهادي ، وهم أولى بهذا من المحدثين -عن محمد بن إبراهيم - وهو التيمي - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه - وهو من صغار الصحابة اسمه سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنه - قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور -يعني: يعتكف- في العشر التي في وسط الشهر، فإذا كان من حين تمضي عشرون ليلة، ويستقبل إحدى وعشرين يرجع إلى مسكنه) ] يعني: أنه كان يعتكف عشرة أيام فقط، وهي التي في وسط الشهر، وهذا يدل على أن الاعتكاف إنما شرع مؤخراً ولم يشرع أولاً؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام اعتكف العشر الأوائل وخرج من معتكفه، واعتكف العشر الوسطى وخرج من معتكفه، ثم اعتكف العشر الغوابر، واستقر على ذلك حتى وفاته عليه الصلاة والسلام.

    قال: [ (ورجع من كان يجاور معه) ] يعني: ورجع من اعتكافه من كان قد اعتكف معه في العشر الوسطى، وخرج منه بخروج النبي عليه الصلاة والسلام.

    قال: [ (ثم إنه أقام في شهر، جاور فيه تلك الليلة التي كان يرجع فيها، فخطب الناس، فأمرهم بما شاء الله، ثم قال: إني كنت أجاور هذه العشر -يعني: كنت أعتكف هذه العشر الوسطى- ثم بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر) ] يعني: رأيت أن أعتكف هذه العشر الأواخر.

    قال: [ (فمن كان اعتكف معي فليبت في معتكفه) ] يعني: من اعتكف معي العشر الوسطى وأراد أن يواصل معي الاعتكاف فلا يخرج من معتكفه، لكن ليبت في معتكفه وليثبت وليمكث فيه.

    قال: [ (وقد رأيت هذه الليلة فأنسيتها -أي: ليلة القدر- فالتمسوها في العشر الأواخر في كل وتر -أي: في كل ليلة وترية- وقد رأيتني أسجد في ماء وطين) ] يعني: أنا رأيت ليلة القدر، ورأيت من علاماتها وأماراتها في هذه الليلة أني أسجد لصلاة الفجر في ماء وطين، وهذه العلامة الماء والطين ليست في كل عام إلى يوم القيامة، بل رمضان يأتي أحياناً برمته من أوله إلى آخره في عز الحر حيث لا مطر ولا طين، وربما يأتي رمضان في عز المطر فيأتي من أوله إلى آخره والمطر ينزل في كل وقت من الليل والنهار.

    إذاً: فليست هذه العلامة صالحة لكل زمان ومكان، وإنما هذه العلامة صالحة لهذه الليلة من هذا العام من هذا الشهر، في حين رؤية النبي عليه الصلاة والسلام ليلة القدر حينئذ.

    قال: [قال أبو سعيد : مطرنا ليلة إحدى وعشرين]، يبين أبو سعيد الخدري راوي الحديث أن هذه الليلة التي رأى فيها النبي عليه الصلاة والسلام ليلة القدر هي ليلة إحدى وعشرين.

    قال: [ (فوكف المسجد في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) ] (وكف) بمعنى: قطر ماءً حتى ابتلت الأرض، وكان مسجده عليه الصلاة والسلام مسقوفاً بجريد النخل، كان مسجداً متواضعاً؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن زخرفة المساجد، وبين أن زخرفتها من علامات الساعة، قال: (لا تحمروا ولا تصفروا في المساجد) فنهى عن زخرفتها وزركشتها والمباهاة بها، وبين أن ذلك من أشراط الساعة وعلاماتها، وقد وقع الناس فيما حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام.

    وكل مسجد بني على البساطة واهتم أهله بالدعوة إلى الله عز وجل كانت ثماره طيبة، وشجرته طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، أما الذين انشغلوا بزخرفة المساجد وبنائها على أحدث طراز من الخارج والداخل، فقلَّ أن تكون في هذه المساجد دعوة إلى الله عز وجل. والواقع يشهد بهذا، فكم من مساجد كلفت ملايين مملينة، وكم من مساجد أشقت شعوبها، يعني: حرموا الشعوب وأنفقوا هذه الأموال الوقفية على بناء المساجد وزخرفتها، وربما كلفت ميزانية مسجد واحد فقط ما يكفي لتزويج آلاف الشباب أو حجهم أو عمرتهم، أو قضاء مصالح عامة في الأمة.

    فمسجد النبي عليه الصلاة والسلام كان مسقوفاً بجريد النخل، فلا يكاد المطر يسقط على سقف المسجد إلا وينزل مباشرة إلى الأرض، فيختلط بالرمل والتراب فيحدث من ذلك ما يسمى بالطين.

    قال: [ (فنظرت إليه وقد انصرف من صلاة الصبح -أي: فنظرت إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقد انصرف من صلاة الصبح- ووجهه مبتل طيناً وماءً)] إذاً: تحققت رؤيا النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال: (إني رأيت ليلة القدر، ورأيت أني أسجد في ماء وطين) أي: بعد أن انتهت ليلة القدر وأقامها وأحياها بالذكر والصلاة وغير ذلك، وهذه الليلة ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قامها وأحياها حتى الصباح، ويسمى قيام الليل بذلك؛ لأن المرء يقوم جل الليل ومعظمه، وقلّ أن يصدق ذلك من جهة الاصطلاح على من صلى ركعات يسيرات في أول الليل، كما هو مشاهد في مساجد الأوقاف ومساجد الريف.. وغيرها، تجد الناس يحرصون كل الحرص على أن يصلوا بسورة واحدة تعدادها ثمان آيات، في كثير من الريف يصلي الناس الثمان ركعات بسورة الضحى فقط، يقول: وَالضُّحَى [الضحى:1] الله أكبر. في الركعة الثانية: وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:2] الله أكبر، وهذه تصير ركعتين، ثم بقية الركعات مع بقية الآيات.

    وقد كان يفعل هذا خالي رحمه الله -الذي أتاني نبأ وفاته وأنا قادم الآن إلى المسجد- مع أنه رجل من أهل الصلاح والتقى، ويحفظ القرآن كما يحفظ اسمه، وكان يحدثني وأنا صغير ويقول: أنا أعجب لرجل يخطئ في القرآن، فلما كبرت وعلمت أن النبي عليه الصلاة والسلام أشكل عليه بعض الآيات حدثته بها فقلت: النبي عليه الصلاة والسلام صلى بالناس فأشكلت عليه آيات وتوقف عن القراءة، ثم بعد الصلاة قال: (أفيكم أبي بن كعب ؟ قالوا: نعم. قال: ما منعك أن تفتح علي يا أبي ، ما منعك أن تفتح علي يا أبا المنذر) فقال خالي: أهذا حدث من النبي عليه الصلاة والسلام؟ قلت: نعم، هو بشر يخطئ ويصيب فيما لا تعلق له بأمر الشرع، ثم هو ينسى ويذكر؛ لأن هذا من لوازم بشريته، قال: إذاً آمنت بالله، وكان خالي أعجوبة في حفظه، كان يحفظ القرآن برقم الآية ورقم السورة، إذا ذكرت له آية قال: هذه الآية برقم كذا في سورة كذا، وهذه السورة ترتيبها في المصحف رقم كذا، كان عنده حفظ عجيب.

    يقول البخاري : كان الحميدي يحتج بهذا الحديث على أن السنة للمصلي ألا يمسح جبهته في الصلاة.

    حكم ملامسة الجبهة للأرض عند السجود

    وهذا كلام محمول على أن هذا الطين أو هذا التراب كان شيئاً يسيراً لا يمنع من تمكن الجبهة من الأرض والتماسها بالأرض؛ لأن هذا فرض في السجود؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، وذكر منها: الجبهة) والإجماع على أن الأنف تابع لها، فالذي يصلي على جبهته وقد غرز طاقيته أو قلنسوته أو عمامته في جبهته حتى بلغت حاجبه هذا على خطر عظيم جداً، فإن كان يفعل ذلك متعمداً بطلت صلاته، وإن كان يفعله جاهلاً فلا شيء عليه حتى يتعلم ويعلم، فيرجع إلى ما أمر به النبي عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة، واليدين، والركبتين، والقدمين) هذه سبعة.

    وربما قال قائل: ولم الجبهة بالذات مع أن الواحد يمكن أن يصلي ويسجد على الركبتين وهي مغطاة، وكذلك يصلي في الجورب ويصلي في الخف ويصلي في النعل، نقول: إجماع أهل العلم أن الأصل في الجبهة الكشف لا التغطية، ولذلك أوجبوا أن تمس الجبهة الأرض، أو يمس منها شيء يتحقق به لغة مس الجبهة للأرض.

    فالإنسان الذي ينزل طاقيته إلى حد حواجبه إذا دخل في الصلاة فليرفع هذا الساتر حتى تمس جبهته الأرض والتراب، والشيعة عليهم من الله ما يستحقون يفعلون غير هذا؛ لأن الشيعة لهم دين يتدينون به غير دين الإسلام، وغير دين أهل السنة والجماعة في كل شيء، إلا شيئاً يسيراً، الشيعة يسجدون على حجارة، وعندهم مصانع لهذه الحجارة، كان في الأول يسجدون على بلطة، فلما انتهى البلط تقريباً؛ لأنهم يأخذن البلط من ماء وطين معين من كربلاء، فلما انتهى البلط الذي في كربلاء أنشئوا مصانع لصنع حجارة معينة، على اعتبار أن هذه الحجارة مربعة وفيها مكان مريح للجبهة، وتجد الإقبال الكبير من الشيعة على شراء هذه الحجارة، مما جعلهم يطالبون المصنع بأن يكثر من إنتاج هذه الحجارة، حتى يحصل كل الشيعة على هذه الحجارة، فهم يعتقدون أن الصلاة غير صحيحة إلا على هذه الحجارة، ودخلت مسجداً ذات مرة سنة (1974م) فوقع في يدي كتاب من كتب الشيعة، وكان ثمرة سيئة من ثمرات عدم تلقي العلم على أيدي المشايخ، وقع في يدي كتاب اسمه: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) وحينها لم يكن عندي علم لا عن الشيعة ولا عن السنة، وفيه: أن الصلاة لا بد أن تكون على الأرض وعلى الحجارة، فاتخذت حجارة للصلاة عليها، وأنا في سنة (1974م) كنت في أول ثانوي، فدخلت المسجد في مدينة المنصورة فأخرجت الحجر من جيبي ووضعته لأسجد عليه، فكان هناك واحد بجانبي فلما رأى الحجر قال: أنت شيعي، قلت له: نعم والحمد لله، فقال لي: لماذا تصلي هنا؟ قلت: أصلي يا أخي في بيت ربنا، ودخل الإمام في الصلاة وكاد أن يركع وما زلنا نتجادل مع بعض فتركني ودخل في الصلاة وأنا دخلت، وكان كلما جئت لأسجد على الحجارة أخرها الأخ بيده، وبعد الصلاة قلت له: أنت جاهل، قال لي: لا، أنت الجاهل، والظاهر أنك شيعي ولا تعرف، فقلت له: خذ هذا الكتاب واقرأ فيه حتى تعلم ما فيه، فقال لي: تعال فأتى الإمام وقال له: هذا الأخ معه حجارة يسجد عليها، فكلمني الإمام بطريقة فيها عجرفة وعنجهية، فتمسكت بما أنا عليه، ورميتهم كلهم بالجهل والإلحاد وترك السنة ومعاداة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل هذا الكلام كان موجوداً في الكتاب، وأخذت الكتاب ومشيت، ثم صليت في مسجد في قرية مجاورة لنا، فجئت لأخرج الحجارة من الجيب فلم أجدها، فتحسرت وندمت، فلما جئت لأسجد رفعت طرف السجادة حتى أسجد على البلاط، فقال لي الرجل الذي كان بجانبي: لماذا تعمل هكذا؟ قلت له: السنة السجود على الأرض مباشرة، قال لي: هذا عمل الشيعة، وهم ليسوا من أهل السنة، قلت: وما يدريك أنت؟ قال: كنت في العراق والشيعة يفعلون هذا، أما أهل السنة فلا يفعلون ذلك، فوقعت كلماته في قلبي أبرد من الماء البارد في اليوم الحار، فقلت له: سأراجع نفسي، فقال: راجع نفسك، فذهبت من المنصورة إلى القاهرة ودخلت على شيخنا وإمامنا الكبير الشيخ كشك رحمه الله بعد صلاة الجمعة، فلما وصلت إليه قلت له: يا شيخ! الموضوع كيت وكيت وكيت وكيت، قال لي: هذا ضلال مبين، هذا مذهب الشيعة عليهم لعنة الله، وظل يسبهم، فبقيت سنة كاملة أتردد بين المنصورة والقاهرة؛ من أجل أن أصلي وراء الشيخ كشك يوم الجمعة، فقد كان صاحب فضل علي بعد ذلك الرجل الفلاح الذي لا يعرف شيئاً، ولا حتى يحسن أن يكتب اسمه، حتى تعرفوا أن الواحد قد يتلقى علمه ممن هو دونه.

    شرح حديث أبي سعيد الخدري في اعتكاف النبي العشر الأواسط من رمضان برواية ابن أبي عمر

    قال: [حدثنا ابن أبي عمر قال: حدثنا عبد العزيز الدراوردي عن يزيد -هو ابن الهاد - عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في رمضان العشر التي في وسط الشهر) وساق الحديث بمثله غير أنه قال: (فليثبت في معتكفه) ] قال في الرواية الأولى: (فليبت في معتكفه) وفي هذه الرواية قال: من يريد أن يقعد معنا فليثبت في معتكفه في العشر الأواخر.

    قال: [ غير أنه قال: (فليثبت في معتكفه. وقال: وجبينه ممتلئاً طيناً وماءً) ] الجبين: هو طرف الجبهة، وللإنسان جبينان، الجبين الأيمن والجبين الأيسر، والذي في المقدمة هو الجبهة، ولا تعارض بين قوله في الرواية الأولى: (ووجهه مبتل طيناً وماءً) يعني: فيه شيء يسير لا يؤثر على التصاق الجبهة بالأرض، أما قوله: (وجبينه ممتلئاً طيناً وماءً) والجبينان هما جانبا الجبهة، ولا بأس أن يمتلئ الجبين طيناً وماءً، لكنه لا يمنع من التصاق الجبهة بالأرض؛ لأن هناك فرقاً بين الجبين وبين الجبهة، فإذا امتلأ الجبين طيناً فلا مانع أن تكون الجبهة بلا طين.

    شرح حديث أبي سعيد الخدري في وقوع ليلة القدر ليلة إحدى وعشرين في زمن النبي

    قال: [ حدثني محمد بن عبد الأعلى قال: حدثني المعتمر - وهو ابن سليمان التيمي - حدثنا عمارة بن غزية الأنصاري قال: سمعت محمد بن إبراهيم يحدث عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية -يعني: قبة صغيرة من صوف أو من خيش- على سدتها حصير -يعني: الباب من حصير وهو الخوص- قال: فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبة)] يعني: أخذ هذه السدة وجعلها في ناحية من هذه القبة أو المكان الذي خصه للمعتكف.

    وفي هذا جواز أن يتخذ المعتكف لنفسه قبة ومكاناً خاصاً يعتكف فيه، لا يدخل عليه فيه أحد.

    قال: [ (ثم أطلع رأسه فكلم الناس) ]، بعدما نحى الباب الذي من الحصير أخرج رأسه من الباب فكلم الناس.

    قال: [ (فدنوا منه -أي: اقتربوا منه- فقال: إني اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة) ]

    أي: أنه ظن أن هذه الليلة في العشر الأول قبل أن يخبر أنها في العشر الأواخر.

    قال: [ (ثم اعتكفت العشر الأوسط) ] أي: أيضاً التماساً لهذه الليلة.

    قال: [ (ثم أُتيت فقيل لي) ] أي: أتاني ملك أو رأى ذلك رؤيا.

    قال: [ (فقيل لي: إنها في العشر الأواخر) ]، والغالب أن الذي أتاه إنما هو جبريل عليه السلام؛ لأنه كان يأتيه بالوحي.

    قال: [ (فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف، فاعتكف الناس معه) ].

    وهذا يدل على أن الاعتكاف للاستحباب.

    قال: [ (قال: وإني أريتها ليلة وتر) ].

    أي: رأيتها في المنام أو فيما يرى النائم وأنها في ليلة وترية.

    قال: [ (وأني أسجد صبيحتها في طين وماء) ] يعني: في أثناء الصلاة.

    وكون ليلة القدر في ليلة وترية هذا عام إلى قيام الساعة، لكن في هذه الليلة بالذات ومن هذا العام الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول ستمطر السماء، وسيبتل المسجد، وسنصلي الصبح في الطين والماء.

    قال: [ (فأصبح من ليلة إحدى وعشرين) ].

    قوله: (فأصبح) أي: فصلى صبيحة ليلة واحد وعشرين في طين وماء.

    قال: [ (وقد قام إلى الصبح -أي: إلى صلاة الصبح- فمطرت السماء، فوكف المسجد)] أي: فنزل المطر من سقف المسجد إلى الأرض.

    قال: [ (فأبصرت الطين والماء -هذا كلام أبي سعيد- فخرج حين فرغ من صلاة الصبح وجبينه وروثة أنفه فيهما الطين والماء -يعني: طرف أنفه التي هي الأرنبة- وإذا هي ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر) ].

    قال: [ حدثنا محمد بن المثنى حدثنا أبو عامر - وهو العقدي - حدثنا هشام عن يحيى - وهو ابن أبي كثير - عن أبي سلمة قال: (تذاكرنا ليلة القدر) ] يعني: تسامرنا وجعل كل منا يحدث أخاه عن ليلة القدر وعن فضلها وعن محلها وعن وقتها وشرفها وغير ذلك.

    قال: [ (فأتيت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه وكان لي صديقاً) ] أبو سعيد الخدري سعد بن مالك بن سنان الخدري المدني كان صديقاً لـأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف .

    قال: [ (فقلت: ألا تخرج بنا إلى النخل؟ -أي: إلى البساتين والمزارع- فخرج وعليه خميصة، فقلت له: سمعت يا أبا سعيد ! رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ليلة القدر؟ فقال: نعم، اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الوسطى من رمضان، فخرجنا صبيحة عشرين، فخطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أريت ليلة القدر وإني نَسيتها أو أُنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر من كل وتر، وإني أريت أني أسجد في ماء وطين، فمن كان اعتكف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فليرجع، قال: فرجعنا وما نرى في السماء قزعة -يعني: قطعة من سحاب- وجاءت سحابة فمطرنا حتى سال سقف المسجد، وكان من جريد النخل، وأقيمت الصلاة -أي: صلاة الفجر- فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين، قال: حتى رأيت أثر الطين في جبهته)

    وحدثنا عبد بن حميد أخبرنا عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليمني أخبرنا معمر بن راشد البصري اليمني. (ح) وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي - الإمام المصنف - أخبرنا أبو المغيرة حدثنا الأوزاعي ] عالم الشام، ليس هناك في زمانه في الشام أفضل منه، وكان مجاهداً، وقد واجه الحجاج بن يوسف الثقفي فوعظه وأغلظ له في الوعظ حتى بكى الحجاج .

    قال: [ كلاهما عن يحيى بن أبي كثير بهذا الإسناد نحوه، وفي حديثهما: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف وعلى جبهته وأرنبته أثر الطين) ] أرنبته التي هي مقدم الأنف.

    شرح حديث أبي سعيد في التماس ليلة القدر في الليلة الخامسة أو السابعة أو التاسعة والعشرين

    قال: [ حدثنا محمد بن المثنى وأبو بكر بن خلاد قال: حدثنا عبد الأعلى حدثنا سعيد -هو ابن أبي عروبة - عن أبي نضرة -هو المنذر بن مالك بن قُطَعَة - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان يلتمس ليلة القدر قبل أن تُبان له) ] يعني: قبل أن يخبر ويأتيه الوحي بأنها في العشر الأواخر.

    قال: [ (فلما انقضين -أي: فلما مرت هذه العشر الأوسط- أمر بالبناء فقوض) ] يعني: لما انتهت هذه العشر الأوسط أمر بهذه الخيمة فنزعت وأزيلت.

    قال: [ (ثم أبينت له أنها في العشر الأواخر فأمر بالبناء فأعيد) ] أي: لما أخبر بليلة القدر أمر بالخيمة فأعيد تركيبها وبناؤها مرة أخرى.

    قال: [ (ثم خرج على الناس فقال: يا أيها الناس! إنها كانت أبينت لي ليلة القدر، وإني خرجت لأخبركم بها، فجاء رجلان يحتقان معهما الشيطان فَنُسِّيتُها) ] يعني: أنا رأيت في ليلة الحادي والعشرين أن ليلة القدر ليست في العشر الأوسط من الشهر وإنما هي في الأواخر منه، وربما رآها تحديداً في ليلة بعينها، وقام من نومه وأتى أصحابه ليخبرهم بميعاد هذه الليلة من ذلك العام، وليست هذه الليلة متعينة في كل عام.

    قوله: (فجاء رجلان يحتقان معهما الشيطان) فتحاقا أو تخاصما أو تلاحيا كلها بمعنى واحد، والمعنى: أن كل واحد منهما يدعي أن له حقاً عند صاحبه، ويطالب صاحبه بالحق الذي عنده، وكان معهما الشيطان، فلما رأى ذلك النبي عليه الصلاة والسلام نسي ما كان سيحدث به أصحابه، وهذا يدل على أن الخصومة والملاحاة سبب للعذاب والشقاء، وسبب لرفع الخيرات وجلب المضرات.

    وقال النبي عليه الصلاة والسلام في رواية أخرى: (وإني خرجت لأخبركم بليلة القدر، غير أني رأيت رجلين منكما قد تخاصما فرفعت) فهل معنى (رفعت) نسيتها أو أُنسيتها، أم أنها رفعت هذه الليلة وتحولت إلى ليلة أخرى؟ على خلاف بين أهل العلم، وهذا يدل على أن الخصومة والملاحاة والخلافات سبب لمحق البركات وجلب المضرات.

    قال: [(فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان، التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة)] يعني: التمسوها في التاسعة والعشرين والسابعة والعشرين والخامسة والعشرين، مع أنه كان حقه أن يقول: التمسوها في الخامسة والسابعة والتاسعة؛ للترتيب، ولكنه أتى من الآخر قال: (التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة)، ولذلك لم يتفطن أحد من أهل العلم إلى هذه الأعداد إلا ابن تيمية عليه رحمة الله، فقال كلاماً جميلاً سأذكره.

    ومبدأ الحساب للمجتهد المطلق أمر لازم، وإلا كيف سيتعامل مع الأعداد والأرقام الموجودة في الكتاب والسنة؟ لا بد أن يكون فقيهاً بمادة الحساب والرياضة، ولذلك الإمام السيوطي عليه رحمة الله ادعى أنه مجتهد مطلق، وأراد أن يصنع لنفسه مذهباً يخالف فيه مذهب إمامه؛ لأنه كان شافعي المذهب، فخالفه في ثمان عشرة مسألة فقط، فرأى أن العملية ما تستأهل مذهباً منفرداً؛ لأنه كان يفكر بنفس الطريقة التي كان يفكر بها الشافعي والشافعية، فكيف يخالفهم والمنهج الفكري واحد، والأصول واحدة؟

    الشاهد: أن الإمام السيوطي ظن أو ترجح لدى نفسه أنه يحق له أن يكون مجتهداً مطلقاً، لأنه بلغ في العلم شأناً عظيماً جداً، وكان كعبه عالياً في العلم، خاصة فيما يتعلق بالعلوم الحديثية، وكان ذا شأن عظيم، لكن الإمام السخاوي كان يعيش معه في عصر واحد، فلم يكن السيوطي يصنف كتاباً إلا ويرد عليه السخاوي والعكس بالعكس، والسيوطي له أكثر من ألف ومائتي مصنف، وقيل: ألفا مصنف، ما ترك باباً من أبواب العلم إلا وصنف فيه مؤلفاً: أدب، لغة، حديث، فقه، تفسير، ما ترك شيئاً إلا وصنف فيه كتباً وصار إماماً فيه، فقال له السخاوي : أنت قلت: إنك مجتهد مطلق كيف ذلك وأنت تجهل الحساب، هذه المادة الوحيدة التي لم يكن يفقه السيوطي فيها شيئاً، والحساب من ألزم العلوم لعلم المواريث.. وغيره من المسائل الشرعية التي تحتاج إلى الحساب والرياضة، فـالسيوطي ليس عنده استعداد أن يستوعب مسألة واحدة في الحساب، فـالسخاوي قال له: أنت لست مجتهداً مطلقاً، فيرد السيوطي على السخاوي ، وذلك عندما ألّف السخاوي كتاباً اسمه: (ألف سيخ في عين من حرم الفتيخ) والفتيخ هو حديد، وكان السيوطي يحرم الفتيخ، فرد عليه بكتاب اسمه: (الفتيخ في عين من أحل الفتيخ) وكل واحد يأتي بأدلته، ودار بينهما من المهاترات والمناظرات الشيء الكثير جداً، وقد ذكر السخاوي طرفاً عظيماً جداً في مقدمة كتاب (الضوء اللامع في أخبار القرن التاسع) مما كان بينه وبين الإمام السيوطي .

    وعلى أية حال كلام الأقران يطوى ولا يروى، والذي وقع بين السخاوي والسيوطي لا عبرة به، ولا يؤثر على جلالة وإمامة الإمامين، وإنما ذكرناه من باب الطرفة.

    قال: [ (التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة، قال: قلت: يا أبا سعيد ! إنكم أعلم بالعدد منا) ] هذا يدل على أن الحساب أمر لازم؛ لأن الصحابة كانوا يعلمونه.

    قال: [ (إنكم أعلم بالعدد منا. قال: أجل) ]، يعني: نحن في الحساب أحسن منكم أيها التابعون.

    قال: [ (نحن أحق بذلك منكم، قال: قلت: ما التاسعة والسابعة والخامسة؟ قال: إذا مضت واحدة وعشرون فالتي تليها ثنتين وعشرين وهي التاسعة)]، يعني: باعتبار ما بقي، وهذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ، فشيخ الإسلام ابن تيمية فهم كلام أبي سعيد الخدري ، فلك أن تحسبها من أول الشهر، ولك أن تحسبها من آخر الشهر، لكن هذا لا يعرف إلا بظهور هلال شوال؛ لأن الرؤية أحياناً تختلف، فمثلاً: اختلفنا مع السعودية في بدء الشهر، فعند السعودية هذه الليلة هي ليلة سبع وعشرين من الشهر، وعندنا ليلة ست وعشرين، فمن المخطئ السعودية أم نحن؟

    فلو كانت ليلة القدر الليلة فيلزمك أن تقول: إن ليلة القدر كانت عندنا في ليلة زوجية، والمتفق عليه أنها لا تأتي في ليلة زوجية، لا بد أن تأتي في ليلة وترية، إذاً: كيف ظهرت عندنا في ليلة ست وعشرين وعند السعودية في ليلة سبع وعشرين مع أن الليلة واحدة، أقول لك: يمكن أن تكون ليلة سبع وعشرين باعتبار ما مضى من الشهر، ويمكن أن تكون بالنسبة لنا الليلة الثالثة باعتبار ما بقي. يعني: عندما نقول: هذه ليلة سبع وعشرين باعتبار ما مضى من الشهر، وهي ليلة وترية، لكن نحن بتعداد رمضان عندنا الذي بدأناه بعدهم بيوم عندنا بالنسبة لنا ليلة ست وعشرين ليست ليلة سبع وعشرين، هذه زوجية باعتبار ما مضى من الشهر، لكن لو حسبناها باعتبار ما بقي من الشهر لصارت وترية، وهذا هو الذي قاله شيخ الإسلام ابن تيمية .

    والأصل أننا ما دمنا قد اتفقنا معهم في الليل والنهار فنتبعهم ويتبعونا، أما أن نتابع السعودية بإطلاق فهذا غير صحيح؛ لأنه قد يحصل خطأ وصواب، فمتى تحققت الرؤية وجب الاتباع منا ومنهم، وأيضاً قلَّ أن تجد مسألة في دين الله عز وجل إلا وقد اختلف في تأويلها وفي فهمها أهل العلم، فما من مسألة من مسائل الشرع إلا وتجد فيها قال الشافعي كيت، وقال أبو حنيفة كيت، وقال أحمد كيت، آراء مختلفة جداً، وهم اختلفوا باجتهادهم، واجتهادهم هذا سائغ، ومقبول، إذا بني على الدليل، أما إذا تكلم أحد -مهما بلغ قدره وجلالته- في دين الله بغير دليل فإن خلافه غير معتبر، وهو حينئذ مخطئ، أما إذا كان هناك دليل يعتمد عليه واجتهد في هذا الدليل فخالف جماهير المجتهدين، فنقول: هذه المسألة فيها خلاف، فمثلاً أبو بكر الصديق قال فيها قولاً والجمهور من الصحابة قالوا فيها قولاً، فالراجح هو قول جمهور الصحابة وليس قول أبي بكر؛ لأن الخطأ أقرب إلى الواحد منه إلى الجماعة، لكن لا نقول: رأيه مرجوح.

    شرح حديث عبد الله بن أنيس في وقوع ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين في زمن النبي

    قال: [ عن عبد الله بن أنيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أريت ليلة القدر ثم أنسيتها، وأراني صبحها أسجد في ماء وطين، قال: فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين) ] قبل ذلك قال: ليلة واحد وعشرين، وهذا يدل على أن الليلة متنقلة.

    قال: [ (فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه.

    قال: وكان عبد الله بن أنيس يقول: ثلاث وعشرين) ] أي: في عام آخر؛ لأنها لا ترى في السنة مرتين وإنما مرة واحدة، لكن اختلاف الروايات يدل على اختلاف السنوات.

    قال: [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا ابن نمير ووكيع عن هشام عن أبيه عن عائشة ] هشام هو هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها.

    [ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التمسوا -وفي رواية- تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان) ].

    شرح حديث أبي بن كعب في كون ليلة القدر ليلة سبع وعشرين

    قال: [ وحدثنا محمد بن حاتم وابن أبي عمر كلاهما عن ابن عيينة قال ابن حاتم : حدثنا سفيان بن عيينة عن عبدة وعاصم بن أبي النجود سمعا زر بن حبيش يقول: (سألت أبي بن كعب رضي الله عنه فقلت: إن أخاك ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر) ] يعني: الذي سيصلي العام كله سيدرك ليلة القدر، وهذا مذهب خاص لـابن مسعود فقد كان يرى أن ليلة القدر في رمضان وفي غير رمضان، وأن من قام الحول كله لا بد له من إصابة ليلة القدر.

    قال: [ (فقال: رحمه الله، أراد ألا يتكل الناس) ] انظر إلى الأدب من أبي بن كعب مع ابن مسعود ، حيث قال: رحم الله أخي ابن مسعود ، ثم بين بأدب شديد جداً خطأ ابن مسعود بعد أن دعا له بالرحمة ووجد له مخرجاً وعذراً بقوله: (أراد ألا يتكل الناس) يعني: هو أراد أن تجتهدوا في العبادة في جميع السنة، لم يجعلها في العشر الأواخر، ولا في رمضان، بل في السنة كلها.

    قال: [ (أما إنه قد علم أنها في رمضان) ] يعني: أبي بن كعب أثبت أن ابن مسعود يعلم أنها في رمضان، ولكنه قال لكم خلاف ما يعلم؛ حتى لا تتكلوا، وهذا من فقه الدعوة.

    قال: [ (وأنها في العشر الأواخر، وأنها ليلة سبع وعشرين) ] يعني: مذهب أبي بن كعب أنها على التعيين من كل عام ليلة سبع وعشرين، وكان يقسم على ذلك ولا يستثني، يقول: أقسم بالله العظيم أو أحلف بالله غير حانث ولا مستثن أنها ليلة السابع والعشرين فيما مضى؛ لأنها لو كانت فيما بقي لكانت في أول الشهر يوم اثنين أو ثلاثة.

    وهذا يدل على أن العالم لا يلزمه أن يفتي بكل ما يعلم؛ لأنه لا بد وأن ينظر في مصلحة المستفتي، أحياناً يأتيك الرجل فيقول لك: أنا قلت لامرأتي: عليها الطلاق، قد تقول: وقع الطلاق، والطلاق لم يقع، وهذا اللفظ عند بعض أهل العلم يقع به الطلاق، وعند الجمهور طلاق ضمني، يعني: إذا نوى به الطلاق وقع، وإذا لم ينو لم يقع، يقول لك: أنا لم أنو، هذه زوجة وعشرة سنين وعيال وأكل وشرب وملابس فكيف أنوي؟ لم أنو والله، فإن كان من أهل العلم أو طالب علم مؤدب محترم وصاحب دين وعلم ووقع في مثل هذا تقول له: لا شيء عليك ولا حرج، عليك كفارة يمين؛ لأن هذا صاحب دين وتحرٍ، ويعلم أن نساء المؤمنين ليس بالأمر الهين، وخراب البيوت ليس بالأمر الهين، بخلاف من قد جثم الشيطان على صدره بالليل والنهار، فمثل هذا يخوف، وسار جماهير أهل العلم قديماً وحديثاً أنه ليس بلازم أن يفتي الرجل المستفتي بما هو حق في الشرع، بل يمكن أن يتجاوزه لمصلحة المستفتي، استناداً إلى المصلحة الخاصة للمستفتي، وأنه لا يضره بالفتوى؛ لأنه ليس كل العلم ينفع الناس، فمن العلم ما يفتنهم ويضرهم ويضلهم، ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟.

    ويقول ابن مسعود : ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة.

    مع أنه دين وعلم وأدلة، لكن لا تبلغ لهذه الأدلة عقول الخلق، فينبغي أن يخاطبوا على قدر عقولهم؛ حتى لا يكذبوا الله تعالى ورسوله.

    إذاً: فالأصل أن يتفرس المفتي في وجه المستفتي، وألا يعطيه من العلم إلا ما ينفعه، أقل منه لا، زيادة عنه لا، أقل منه يجعله يفرط، وأكثر منه يضله ويشقيه.

    قال: [ (ثم حلف - أي أبي - لا يستثني - أي لا يقول: إن شاء الله - أنها ليلة سبع وعشرين، فقلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر ؟ -وهذه كنية أبي - قال: بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها)]، لم يذكر العلامة وهي الشمس؛ لبيانها وعدم الحاجة إلى ذكرها، فالشمس تطلع في ذلك اليوم لا شعاع لها، نحن في هذا الوقت عندما ننظر إلى الشمس وهي في جهة المشرق عند طلوعها نرى أشعة مثل الحبال والخطوط تخرج من الشمس إلينا، ففي ليلة القدر تمتاز عن بقية الليالي فيما يتعلق بعلامتها وأمارتها في صبيحة تلك الليلة، وهي أن الشمس تخرج في صبيحة ليلة القدر بيضاء نقية لا شعاع لها صافية، من ينظر إليها يسعد جداً بنظره إليها، بخلاف غيرها من الأيام، فإنك لا تطيق النظر إليها كثيراً؛ لأنه يؤذيك شعاعها، لكن في هذا اليوم بالذات تخرج بلا شعاع.

    إذاً: هذه إحدى الأمارات والعلامات على أن الليلة الماضية والمنصرمة كانت ليلة القدر.

    قال: [ وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال: سمعت عبدة بن أبي لبابة يحدث عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (قال أبي في ليلة القدر: والله إني لأعلمها، قال شعبة: وأكبر علمي هي التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها، هي ليلة سبع وعشرين) ] أي: كان أبي بن كعب يقسم أن ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756389319