وبعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
كان منشأ ومبدأ ظهور البدع والفرق أحد العوامل والأسباب والدوافع على ظهور الوضع في الحديث؛ لأجل نصر البدعة والهوى، وهذا شأن أصحاب البدع في كل زمان ومكان، فهم يختلقون ويصطنعون الكلام المزين ظاهراً والمزيف باطناً لأجل نصرة بدعتهم وهواهم.
وأصحاب الحديث والرواية قبل ظهور الفتن والبدع لم يكونوا يسألون عن الأسانيد، بل ولا يروون الحديث بإسناده، فلما ظهرت الفتن وظهر ما ظهر قالوا: سموا لنا رجالكم، وكما يقول ابن سيرين : لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما ظهرت الفتن قلنا لهم: سمّوا رجالكم، فمن كان من أهل السنة أخذنا حديثه، ومن كان من أهل الأهواء والبدع طرحنا حديثه. وكان هذا هو بداية نشأة علم الجرح والتعديل.
فبداية نشأة علم الجرح والتعديل كان بظهور الفتن، وقد حث علماء الصحابة الناس على الاحتياط في حمل الحديث عن الرواة، وألا يأخذوا إلا حديث من يوثق به ديناً وحفظاً، والمقصود بالدين هنا العدالة، والمقصود بالحفظ الإتقان والضبط.
وشاع في عرف الناس هذه القاعدة: إن هذه الأحاديث دين، فانظروا عمّن تأخذون دينكم. وهذا ثبت من قول عبد الله بن المبارك رحمه الله.
وروي مثل هذا القول عن مالك وغيره.
وأما المجروح فيقولون فيه: أكذب الناس، وهذا شر أنواع الجرح، أو أسرق الناس للحديث، أو وضّاع، أو كذّاب، أو منكر الحديث، أو سيئ الحفظ، أو ضعيف، أو متهم، أو يروي المناكير، أو فيه ضعف يحتمل، أو فيه ضعف يسير، أو مستور، أو مجهول. وكل هذه الألفاظ تدخل في باب الجرح.
وفرق بين الجرح والجُرح، فالجُرح بضم الجيم هو: ما سال منه الدم، وهو في الأبدان.
وأما الجرح بفتح الجيم فهو: المصطلح الذي يُطلق على علم الجرح والتعديل. وهناك من يسأل: ما رأيك في علم الجُرح والتعديل، فهذا لا بد من جرحه وضربه!
وظهور الفتن كانت سبباً في نقد الرجال، وهذا النقد للرجال أطلق عليه علم الجرح والتعديل، وهو قطب الرحى بالنسبة للعلوم الحديثية.
فقوله هنا: ( عبد الله رجل صالح) هذا تعديل وتزكية لـعبد الله بن عمر رضي الله عنهما من الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما الجرح فمستنده من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه الخطيب بسنده عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ائذنوا له فبئس أخو العشيرة). ثم لما دخل الرجل -وكان من المنافقين- على النبي صلى الله عليه وسلم هش في وجهه وبش وضحك ومازحه ولاطفه، فقالت عائشة : يا رسول الله! رأيتك تصنع ما لم تكن تصنعه من قبل! قال: إن هؤلاء قوم تبغضهم قلوبنا، أي: لأنهم منافقون. وقوله هنا: (فبئس أخو العشيرة) جرح.
يقول: إنه من النصيحة للسائل، وليس ذلك غيبة، إذ لو كان ذلك غيبة لما أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أراد عليه الصلاة والسلام بما ذكر فيه -والله أعلم- أن يبين للناس الحالة المذمومة منه، وهي النفاق من ذلك الداخل والفحش، فيجتنبوها، لا أنه أراد الطعن والسب.
قال: ومما يؤيد ذلك حديث فاطمة بنت قيس حيث قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: (أما
فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يعلمها ويخبرها بما يعلمه عن أبي جهم فقال: (أما
ففي هذا الخبر دلالة على أن الجرح جائز في الضعفاء من جهة النصيحة؛ لتجتنب الرواية عنهم، وليُعدل عن الاحتجاج بأخبارهم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عن أبي جهم أنه لا يضع عصاه عن عاتقه، وأخبر عن معاوية أنه صعلوك لا مال له، ولكن بشرط ألا يتعدى ذلك المستشير.
وهنا فرق بين مسألتين، مسألة أن تأتي امرأة تسألك أنه تقدم لها فلان وتسألك عن رأيك فيه، فيجب عليك في هذا الوقت أن تنصحها بما تعلم إن كان يصلح لها أو لا يصلح.
ومسألة أن تتبرع وتتصدق بأن تذكر لها ذلك دون أن تسألك، فهذا غير جائز إلا إذا سُئلت، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المستشار مؤتمن)، أي: أنه أمين على المشورة.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل استشير في مسألة فأشار فيها بأمر وهو يعلم أن الرشد في غير ما أشار به فقد خان).
وذكر العيوب الكاملة في بعض نقلة السنن التي يؤدي السكوت عن إظهارها عنهم وكشفها عليهم إلى تحريم الحلال وتحليل الحرام، وإلى الفساد والإفساد في شريعة الإسلام؛ أولى بالجواز وأحق بالإظهار.
أي: إذا كانت الغيبة مسموح بها شرعاً فيما يتعلق بزواج رجل من امرأة أو بدخول رجل أو خروجه، فلا شك أنها واجبة من باب أولى في راو يتعلق بنقل الحلال أو الحرام؛ لأنه ربما يأتي وضّاع فيروي رواية تحل حراماً في الأصل، أو تحرم حلالاً في الأصل، فلو لم تكن النصيحة هنا -بمعنى جرحه وإظهار عيبه- واجبة في هذا الموطن فلا شك أنه سيغير الشريعة تماماً، فيجعل الحلال حراماً والحرام حلالاً، فالنصيحة هنا وإظهار العيب من أوجب الواجبات.
ثم تكلم من التابعين إمام التابعين سعيد بن المسيب ، وعامر الشعبي ، وابن سيرين ، وكان كلامه قليلاً؛ لقلة الضعف وندرته في ذلك العصر، فـابن سيرين كان أقل الناس كلاماً في الرجال، والكلام في هذا العصر كان كله قليلاً؛ لعدم الحاجة إليه؛ لأنهم في هذه الأزمان لم يكونوا بحاجة إلى علم نقد الرجال.
وفي أوائل القرن الثاني الهجري ظهر ما لم يظهر في القرن الأول، وبناء عليه احتيج إلى ما لم يكن موجوداً في القرن الأول.
وهنا يقال: إن أول من دون علم الحديث هو الزهري ، وهذا تغليب، فهو أول من اشتهر بتدوين وكتابة السنة، وإلا فقد كانت السنة مكتوبة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أخذت كتابة الحديث أهمية عظيمة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبعد عصر النبوة.
وفي حديث عبد الله بن عمرو حينما قال له أهل قريش: إنك تكتب عن رسول الله وهو بشر يتكلم في الغضب والرضا -وقصدوا بذلك أنه يتكلم بكلام لا يستحق أن يسجّل في وقت غضبه- فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتب؛ فوالذي نفس محمد بيده لا يخرج منه إلا حقاً، وأشار إلى فيه صلى الله عليه وسلم).
وفي حديث أبي شاة الرجل اليمني الذي حج مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع لما سمع منه تلك الخطبة المشهورة قال كما في حديث جابر في صحيح مسلم الطويل: (مر لي بكتابة هذا الكلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لـ
وجاء في حديث آخر النهي عن كتابة الحديث، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تكتبوا عني ومن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه). وهذا ظاهره المعارضة للحديثين السابقين، ويمكن الجمع بين هذه الأدلة بأن النهي عن كتابة الحديث كان في صدر النبوة؛ لأن الناس كانوا حديثي عهد بالإسلام وبكلام الله عز وجل وكلام النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فكان هناك خشية وخوفاً من اختلاط الكلام النبوي بكلام الله عز وجل، فنهوا في أول الأمر عن التدوين، خاصة وأن العرب كانوا أهل حفظ وضبط وإتقان، فاستغنى الناس في أول الزمان بالحفظ والسماع عن الكتابة والتدوين، ولم يكن هناك حاجة لتدوين الحديث.
وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة بتدوين ونسخ القرآن الكريم، واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم له كُتّاباً سموا بكتاب الوحي، قيل: إنهم كانوا أربعة وعشرين رجلاً، وقيل: أربعين رجلاً.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بنسخ القرآن وكتابته، ولكن الخلاف دار حول مسألة تدوين الحديث، فكان المنع ثم الإباحة بعد ذلك، وكان المنع لعلة، ثم لما انتفت العلة أبيحت الكتابة.
والإمام الشافعي أول من صنّف في علم أصول الفقه في كتاب الرسالة.
ولكن لا يقال: إن الشافعي هو أول من فهم وفقه وعرف هذا العلم، فقد كان هذا العلم معروفاً سليقة عند الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
فهناك فرق بين العلم بالشيء وبين تدوينه، فالعلم بأصول الفقه كان معروفاً عند من تقدم على الشافعي، ولكنه لم يدون كتابة إلا على يد الشافعي ، وكذلك علم أصول الحديث كان معروفاً قبل الزهري من زمن فتنة الخوارج والشيعة، والفرق بين زمان الزهري وزمان علي بن أبي طالب طويل، وبناء عليه لا يمكن أن يقال: إن الزهري أول من عرف علم أصول الحديث، ولكن يقال: إنه أول من اعتنى به وسطره كعلم من العلوم.
وروى الحاكم بسنده إلى الزهري أنه سمع إسحاق بن أبي فروة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الزهري : قاتلك الله يا ابن أبي فروة ! ما أجرأك على الله، ألا تسند حديثك؟ تقول: قال رسول الله، قال رسول الله؟ -وبين إسحاق بن أبي فروة وبين النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يقل عن ثلاث طبقات- تحدثنا بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة؟ أي: ليس لها إسناد.
فالقرن الثاني كان بداية حركة التدوين، ثم نشطت حركة التدوين في القرن الثالث، وخاصة تدوين الحديث، ولو نظرت إلى كتب الحديث والسنن المعتمدة -الصحاح منها والمسانيد والمعاجم- لوجدت أن معظمها صنّف في القرن الثالث، ومنها الكتب الستة، ومسند الإمام أحمد بن حنبل وغيرها من الكتب المعتمدة في الحديث.
ثم استقل كل علم بذاته في القرن الثالث، فاستقل علم الفقه، وعلم العقيدة، وعلم الجرح والتعديل، وظهر علم المصطلح.
ففي القرن الأول إلى منتصف القرن الثاني لم يكن تقسيم العلوم معروفاً، ولكن بظهور القرن الثالث ظهرت الاستقلالية التامة لكل العلوم بعضها عن بعض.
يقول: واستقل كل علم من العلوم استقلالاً متميزاً عن غيره، فصار يقال: علم الحديث الصحيح، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلم الجرح والتعديل، وعلم أصول الفقه، وغير ذلك من العلوم.
فألّف يحيى بن معين كتاب تاريخ الرجال، وأحمد بن حنبل صنّف كتاباً في العلل، والبخاري صنّف في الرجال التاريخ الكبير والأوسط والصغير، ويعقوب بن شيبة السدوسي صنّف المسند المعلل ولم يكمله، بل جمع فيه ما يقارب ثلاثين جزءاً، ولو أكمله لجاء في مائتي مجلد.
وهناك من أكثر في هذا القرن من التأليف في أنواع علوم الحديث كـعلي بن المديني ، فقد ألّف في فنون كثيرة حتى بلغت مؤلفاته مائتا كتاب، كما وجد في هذا القرن من كان يكتب شيئاً في علوم الحديث، ويجعله كمقدمة لكتاب في الحديث، كالإمام مسلم في صحيحه، ومسلم توفي سنة (261هـ)، والبخاري توفي سنة (256هـ)، والإمام أحمد بن حنبل توفي سنة (241هـ)، والشافعي ولد سنة (150هـ)، أي: في نفس العام الذي توفي فيه أبو حنيفة ، وتوفي سنة (204هـ)، ومالك توفي سنة (174هـ).
ومعرفة تاريخ المواليد والوفيات مهم جداً، فإذا قال شخص: حدثني الشافعي عن الخطيب البغدادي كذبناه؛ لأن التاريخ يكذّبه، وقد دخل رجل على الخطيب البغدادي فقال: حدثني فلان ببلاد الشام، وظل يقول هكذا في عشرين حديثاً، فلما انتهى استدعاه الخطيب البغدادي وقال: من أين أنت؟ قال: أنا من العراق، قال له: ومتى لقيته؟ قال له: سنة (204هـ)، قال له: وكيف لقيته وهو قد مات سنة (198هـ)! أي: أن بين رحلتك وبين موته ست سنوات.
فمعرفة التواريخ مسألة مهمة جداً في نقل الأخبار.
والإمام مسلم عندما اشترط الصحة في صحيحه شرطه على أصل الصحيح لا على المقدمة؛ لأن المقدمة فيها الضعيف والصحيح، ولما صنّف الإمام مسلم المقدمة لم يقصد بها عين الكتاب، وإنما حث الناس على التحري في نقل الأخبار، وذكر الجرح والتعديل، ومن كان مجروحاً ومن كان معدّلاً، وغير ذلك من المسائل التي ذكرها واهتم بها.
يقول: وكذلك ما كتبه الإمام أبو داود في رسالة مستقلة إلى أهل مكة، يصف فيها المنهج الذي سار عليه في تصنيف كتابه السنن.
وقد أفرد الإمام مسلم بالتصنيف كتباً مستقلة في أبواب مصطلح الحديث، ككتاب الوحدان، وكتاب الطبقات، وكتاب المخضرمين، وكتاب الكنى والأسماء.
ومنهم من كان يجعل تلك الكتابة كملحق لكتاب من كتب الحديث كالإمام الترمذي ، فقد جعل كلامه في العلل في آخر كتاب الجامع، وكذا ما بثه من الكلام على أحاديث جامعه في طيات الكتاب من تصحيح وتضعيف وتقوية وتعليل.
إن الكلام في مقدمة هذا العلم لا ينتهي، وهذه إنما هي نبذة عن هذا العلم، وعن مراحل تدوينه، واهتمام أهل العلم به بقدر الإمكان.
وهذه المصطلحات بدائيات للعلوم، ومن مصطلحات علم مصطلح الحديث: مسألة السند، ومسألة المتن.
واصطلاحاً هو: سلسلة الرواة الموصلة إلى المتن. وذلك مثل:
قال الربيع : حدثني الشافعي عن مالك قال: أخبرني نافع عن ابن عمر ، فسلسلة الرواة هؤلاء تسمى السند.
وفي الاصطلاح هو: ما انتهى إليه السند من الكلام. فالمتن في الاصطلاح هو الكلام، وهذا الكلام مشروط بأن ينتهي إليه السند.
فلا نقول: المتن هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بالإمكان أن يكون كلام النبي أو من دون النبي، ولذلك قلنا: هو ما انتهى إليه السند من الكلام؛ لأنه يمكن أن ينتهي السند إلى الصحابي أو التابعي، فيكون كلام التابعي أو الصحابي متناً ما دام قد روي بإسناد، فنقول: إن هذا الكلام الذي قاله الزهري أو ابن سيرين أو سعيد أو غيرهم كلام روي مسنداً.
وبعض أهل العلم اشترطوا ألا يُطلق لفظ سند إلا إذا كانت طبقات الإسناد لا تقل عن ثلاث طبقات.
فالإسناد هو: تبيين الحال التي روي عليها الحديث، وهل سمعها الراوي الذي رواها أم رواها إجازة؟ والإجازة مثل أن يبعث بكتاب له إلى آخر ويقول له: خذ هذا الكتاب فقد أجزتك أن ترويه عني.
والسند والإسناد في الواقع العملي سواء، وهذا هو الغالب من أقوال أهل العلم، فتجدهم عند الحكم على الحديث يقولون: هذا الحديث سنده صحيح، وأحياناً يقولون: هذا الحديث إسناده ضعيف.
وأما في الاصطلاح فله ثلاثة معان:
المعنى الأول: هو كل كتاب جُمع فيه مرويات كل صحابي على حدة، فإذا جمعت مرويات أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب واحد سمي مسند أبي هريرة ، كما في مسند أحمد .
والمعنى الثاني: هو الحديث المرفوع المتصل سنداً، أي: المروي بالإسناد.
والمعنى الثالث: هو بمعنى السند، يعني: أن المسند والسند بمعنى واحد.
ولا يشترط في المسنِد أن يكون عالماً بما يرويه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).
ومن نوادر طلبة الحديث التي تروى: أن امرأة دخلت الجامع الكبير في الشام، فسألت التلاميذ عن مسألة في الطلاق، فدلوها على الشيخ فسألته فقال لها: لقد وقع الطلاق بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فلما سمع الطلبة هذا الحديث قالوا: هذا الحديث رواه فلان عن فلان، وفلان عن فلان عن فلان، وأتى كل واحد منهم بإسناده، ولم يفهموا فقه الرواية.
وقد قيل: إن للفقه أكثر من مائتي مذهب، وليس أربعة أو خمسة كما هو مشهور عند الناس، ولكن هذه المذاهب الأربعة لما اشتهرت عن طريق تلاميذ هؤلاء الأئمة المتبوعين وكان هؤلاء التلاميذ من أهل الحديث، دخل فقههم داخل هذه المذاهب، فلم يكن هناك حاجة لتمييز مذهب كل منهم على حدة.
وإذا كانت المذاهب أربعة ويحدث هذا القلق في الأمة كلها ما بين مقلّد جاهل أحمق دون نظر، وما بين مجتهد ومجتهد مطلق وغير ذلك؛ فما بالك لو كانت المذاهب مائتي مذهب، كيف سيصير حال الأمة؟
ولو سأل شخص النجار مثلاً: ما هو الدليل على أن اسم هذه الآلة (شاكوش)؟ لكان السائل أحمق، فالنجارون اصطلحوا على أن هذا اسمه (شاكوش)، كما اصطلحنا اليوم على أن الرغيف إذا وضع فيه شيء يسمى (سندويتش)، والمجمع اللغوي عجز عن أنه يأتي بكلمة واحدة تساوي نظيراتها في اللغات الأخرى لكلمة (سندويتش)، بل قال: هو كل مشقوق وضع في وسطه شيء.
والحافظ قيل: هو من حفظ من السنة ثلاثمائة ألف حديث.
وأمير المؤمنين قيل: هو من حفظ من السنة ثمانمائة ألف حديث.
والحاكم قيل: هو من أحاط بالسنة.
ومن أمراء المؤمنين في علم الحديث البخاري وعلي بن المديني ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل وغيرهم، وآخرهم إمارة في الحديث هو الحافظ ابن حجر .
وأما مصطلح الحاكم فهو مصطلح دخيل، وفي النفس منه شيء، لم يعرفه المتقدمون، والخلاف فيه كثير.
وفي الاصطلاح: ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل أو تقرير، أو صفة خلقية أو خلقية.
وهذا التعريف متفق عليه.
والحديث على هذا التعريف إما أن يكون حديثاً قولياً، أو فعلياً أو تقريرياً، أو وصفياً.
فالحديث القولي هو: ما قال فيه الصحابي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، كقول النعمان بن بشير : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن)، الحديث.
وأما الحديث الفعلي فهو ما كان من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، كحديث علي بن أبي طالب : (لما توضأ من ماء زمزم قام فوقف، وشرب ما فضل منه، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل).
وأما الحديث الفعلي فقد يكون خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وليست أفعال النبي صلى الله عليه وسلم تشريعاً للأمة إلا إذا كانت في مجال التشريع لا الخصوصية، فإن كانت في مجال الخصوصيات -أي: فيما يمس شخص النبي صلى الله عليه وسلم- فلا شك أنها مقصورة عليه، وهذا أيضاً يحتاج إلى دليل.
والشاهد: أن الحديث القولي أقوى من الحديث الفعلي، فعند التعارض يقدّم القولي على الفعلي إذا لم يكن الجمع بينهما ممكناً، فإعمال الدليلين خير من إعمال أحدهما وإهمال الآخر، وإعمال الدليلين أي: أخذهما والجمع والتأليف بينهما، فالعمل بهما خير من اختيار أحدهما ورد الآخر.
ومثال ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من شرب قائماً فليستقئ)، وهذه الرواية فيها نظر، وهي في صحيح مسلم . ولما رأى رجلاً يشرب قائماً قال: (أتحب أن يشرب معك الهر؟ قال: لا يا رسول الله! قال: والذي نفس محمد بيده لقد شرب معك من هو شر منه، الشيطان). وروي الشرب قائماً من فعل علي بن أبي طالب ورفع هذا الفعل إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فنقول: إن القولي مقدم على الفعلي، والأحاديث التي ورد فيها النهي عن الشرب قائماً أحاديث قولية، والأحاديث التي ورد فيها جواز الشرب فعلية، فنقدم الأحاديث القولية التي تنهى عن الشرب قائماً على الفعلية التي تجيز ذلك، والجمهور قالوا بكراهة الشرب قائماً كراهة تنزيه، والظاهرية قالوا بالحرمة، وتبعهم على ذلك شيخنا الشيخ ناصر الدين الألباني .
واستدل الظاهرية الذين قالوا بحرمة الشرب قائماً بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما شرب قائماً في موسم الحج، فلعله لم يستطع أن يشرب قاعداً من الزحام فشرب قائماً، وقالوا: وهذا فعل منه صلى الله عليه وسلم وليس قولاً، فقوله للأمة بالتحريم وفعله لنفسه بالجواز، وهذا مقصور عليه هو دون الأمة.
فأولوا الحديث الفعلي في الشرب بأنه مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا التأويل يرد عليه فعل علي أنه قام فشرب، ولو كان مخصوصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم لكان علي بن أبي طالب أفهم لهذه الرواية منهم.
وكانت القرب عند العرب تعلق على الأشجار والجدران حتى لا تمسها الهوام والدواب وغيرها، وكانوا يشربون منها قياماً للعذر، إذ كان يتعذّر عليهم فك الحبل أو قطعه حتى يجلسون للشرب ثم يربطونه مرة أخرى؛ لأن الحبل لو انقطع مراراً في اليوم الواحد فسينتهي بكامله، وهذا عذر يبيح الشرب قائماً.
والراجح فيها جواز الشرب قائماً مع الكراهة، وهذا رأي الجمهور.
وقد قال الله عز وجل: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ
[القلم:4]. وهذه الآية لا يقال فيها سنة خلقية ولا خُلُقية.
وفي حديث عائشة : (كان خُلُقه القرآن). وهذا الحديث ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يصف خُلُق النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الأحاديث الخلقية كالأحاديث التي رويت في شمائل ووصف بدن النبي صلى الله عليه وسلم وشعره، وطوله، وأنه لم يكن بالطويل ولا بالقصير، ووصف منكبيه وذراعيه ووجهه، وأنه كان إذا ضحك انبسط وجهه، وإذا غضب أحمر وجهه كأنما فقئ في وجهه حب الرمان وغير ذلك.
ولكنها عند الإطلاق تنصرف إلى السنة المحمودة، كإطلاق الماء في الفقه يقصد به الماء المطلق، أي: الذي اجتمعت فيه شروطه وصفاته، فلو قيد خرج عن الماء المطلق، مثل ماء الورد. وكذلك السنة إذا أطلقت قصد بها الطريقة المحمودة، فإذا قيل: هذه سنة سيئة دل ذلك على عدم قصد الأصل، وإنما يقصد التقييد.
أما السنة في الاصطلاح فهي: ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وتقريراته والصفات الخلقية والخُلُقية. فهي مرادفة للحديث.
وبعض العلماء أدخلوا في مسمى السنة حياة النبي صلى الله عليه وسلم وزمنه وأيامه قبل البعثة وبعدها، وأدخلوا فيها المغازي والسير، بل وأدخلوا فيها ما نُسب إلى الصحابة والتابعين من الأقوال والأفعال والسنن، وغير ذلك.
فليس هناك كبير فرق بين الحديث والسنة في مصطلح المحدثين.
والسنة تطلق عند الفقهاء على ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه. فهي بمعنى المندوب.
والمندوب هو: ما طلبه الشارع من المكلف طلباً غير جازم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصل اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر