إسلام ويب

أتباع قارونللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تحدث الشيخ عن جهل الإنسان وغفلته، وذكر أن غفلته قد تؤدي به إلى أن يعتقد أن المال الذي لديه إنما هو بذكائه وفطنته أو بسبب منزلته عند الله، وذكر قصة قارون ليدلل بذلك على مصير أهل هذه الغفلة .

    وبالمقابل ذكر قصة عمر بن الخطاب وزهده وتفقده للمسلمين وذكر قصة استشهاده ثم ألمح إلى أهمية الاتصاف بصفات لا بد منها للمسلمين في هذا العصر؛ كالغضب إذا انتهكت حرمات الله، وحفظ الله في الشدة والرخاء والتوبة، وختم بمواعظ عن الزهد في الحياة الدنيا.

    1.   

    الإنسان وجهله

    إن الحمد الله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثل ما نقول، لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بمحمد صلى الله عليه وسلم، عزَّ جاهك، وجلَّ ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت، في السماء ملكك، وفي الأرض سلطانك، وفي البحر عظمتك، وفي كل شيء حكمتك وآيتك، أنت رب الطيبين، لا إله إلا أنت، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.

    اللهم صلِّ وسلم على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، اللهم صلِّ وسلم على صاحب اللواء المعقود، والحوض المورود، والصراط الممدود، اللهم صلِّ وسلم على من هديت به البشرية، وأنرت به أفكار الإنسانية، وزعزعت به الوثنية، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]

    لماذا خلقنا؟

    وإلى أين نصير؟

    ومن يحاسبنا؟

    وما هو مصيرنا؟

    هذه أسئلة لا بد أن يجيب عنها من يريد الله والدار الآخرة، لماذا خلقت أيها الإنسان؟

    لماذا وجدت؟

    لماذا جعل الله لك عينين ولساناً وشفتين؟

    لماذا بصَّرك وأراك؟

    لماذا علَّمك وأنطقك؟

    لماذا أكَّلك وشرَّبك؟

    لماذا سترك وقوَّمك؟

    لماذا أسمعك وبصَّرك؟

    هذه الأسئلة لا بد أن يجيب عليها المسلم إن كان يريد الله والدار الآخرة.

    يقول الله للإنسان: يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار:6] مالك تمردت علينا أيها الإنسان وقد خلقناك ولم تكن شيئاً؟!

    مالك أيها الإنسان نسيتنا وقد علمناك، وجهلتنا وقد أدبناك، وتمردت علينا وقد أرويناك وسقيناك وأشبعناك؟!

    والله يقول: هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان:1-3].

    يا أيها الإنسان خُلقتَ من نطفة، وأتيت من بطن أمك إلى الدنيا وأنت تبكي، وكأن بطن أمك أوسع لك من الأرض، فلماذا خرجت تبكي من بطن أمك؟!

    ولدتك أمك يابن آدم باكياً     والناس حولك يضحكون سرورا

    فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا      في يوم موتك ضاحكاً مسرورا

    لا إله إلا الله، ما أغفل الإنسان! لا إله إلا الله ما أجهل الإنسان! لا إله إلا الله ما أظلم الإنسان! لا إله إلا الله ما أجفى الإنسان! يوم يأتي من بطن أمه لا ملابس ولا منصب ولا وظيفة ولا بيت ولا سيارة ولا جاه، فيسقط قطعة لحم على الأرض وهو يبكي، فإذا ما بصّره الله وعلمه الله وأنبته وأصبح له وظيفة، وأصبح ذا منصب وسيارة وجاه، نسي الله، وتمرد على حدود الله، وانتهك حدود الله ومحارم الله، فأين العقول؟!

    وأين الأسماع؟!

    وأين الأبصار؟!

    يقول الله من فوق سبع سماوات: (الكبرياء إزاري، والعظمة ردائي؛ فمن نازعني في واحد منهما عذبته).

    أكبرُ كبيرٍ الله، أعظمُ عظيمٍ الله، أغنى الأغنياء الله، وأما أنت أيها الإنسان ففقير ابن فقير، مسكين ابن مسكين، إذا لم يسترك الله افتضحت.

    فيا عباد الله! يا من أتى إلى بيوت الله! يا من عوَّد نفسه الصلوات الخمس! يا من شرَّف رأسه بالسجود لله! والله إنه لا شرف لكم، ولا لنا إلا بأن نصلي الصلوات الخمس لله، والله لا رفعة لنا ولا شرف إلا في أن نضع هذه الرءوس سجَّداً على التراب لله.

    ومما زادني شرفاً وفخراً     وكدت بأخمصي أطأ الثريا

    دخولي تحت قولك يا عبادي     وأن صيرت أحمد لي نبيا

    1.   

    التباهي بالمال وقصة قارون

    ما هو شرف المال؟

    قارون أغنى من ملك المال في الدنيا، لعنه الله لعنة تحيط به وبأهله، لماذا؟

    لأنه ما عرف الله.

    أتاه الله مالاً، وقال: يا قارون! خف الله في المال، اتق الله في هذا المال، المال وديعة عندك يا قارون، أنت ومالك مسلوب، فماذا أخذنا نحن من ميراث قارون؟!

    إن كان عند أحدنا بيت أو سيارة أو بعض الأبناء أو وظيفة، فهي لا تساوي ذرة من ذرات كنوز قارون! فإن قارون لما آتاه الله الكنوز كانت مفاتيح كنوزه تنوء بها العصبة من الرجال، عشرة رجال لا يحملون المفاتيح؛ فما بالك بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة؟! ماذا فعل؟

    خرج في أبهة.. خرج في جبروت.. خرج في كبر، والإنسان إذا نسي الله، وترك الذكر والصلاة جفا قلبه، وأصبح قطعة حجر، أصبح قلبه مثل قلب الثور، لا يعي ولا يعرف ولا يفقه، يأكل ويشرب لكن له قلب لا يفقه به، وله سمع لا يسمع به، وله بصر لا يبصر به.

    لا ارتباط بين المال وبين القرب من الله

    المال يمتحنك الله به، فلا تظن أن الأغنياء والتجار لمنزلتهم عند الله آتاهم المال، لا. كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً [الإسراء:21].

    حياة الحمار يشبع منها، والثور يأكل ويشبع، وكذلك الإبل والبقر والغنم، حياة تافهة! لكن يقول الله عز وجل: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16].. وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].

    الخواجة يسكن في الدور العاشر، والمسلم لا يجد قطعة من الخيمة في الصحراء وكسرة الخبز؛ لماذا؟

    لأنها دنيا، ولأن الله أعد الجنة لأوليائه تبارك وتعالى.

    نسيان الإنسان لنعمة الله

    خرج قارون معه حلة من ديباج يتبختر فيها، فقال له قومه: اتق الله وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ [القصص:77] وعظوه.

    فهو فعل كما يفعل بعض الناس الآن، إذا أغناه الله بعد الفقر، وأصح جسمه بعد السقم، وأتاه ذرية بعد أن لم يكن عنده ولد، نسي الله، فتجبر على عباد الله، وصعر خده لأولياء الله، فـقارون فعل ذلك، ومما قالوا له: اتق الله قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص:78] الله يدري أني أستحق المال، وأنا أخذته بعرق جبيني وبجهدي وبذكائي وبدهائي، وهو كذاب دجال فما منحه المال إلا الله، ولا يرزق إلا الله.

    والله الذي لا إله إلا هو إذا لم يرزقك الله فلن يرزقك أهل الدنيا ولو اجتمعوا عن بكرة أبيهم؛ لأن مفاتيح المال والخزائن من عند الله عز وجل، والقطر والزرق والإحياء والإماتة كلها بيده: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً [الفرقان:1-3].

    سبحان الله! كيف ينسى الإنسان؟!

    أما يتذكر يوم كان ضعيفاً في بطن أمه؟!

    كان قطعة لحم لا يسمع ولا يبصر ولا ينطق ولا يتكلم، فلما امتلك العضلات، وأصبح قوي البنية، يلبس ما شاء من الملابس، أصبح لا يرى الناس شيئاً!

    خف الله، لمن البقاء إلا لله! لمن الغنى إلا لله! لمن القوة إلا لله! ذكره قومه بذلك فنسي الله، قال له قومه: لا تبغ الفساد في الأرض، قال: إنما أوتيته على علم عندي!

    قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ [القصص:79] بعض الناس يظن إذا مهد الله له الدنيا ورزقه أبناءً وأولاداً وقصوراً وعماراتٍ وسيارات أن الله يحبه، وما يدري هذا الإنسان أنه قد يكون أعدى عدو لله في الأرض، وأن يكون حسابه أن يكب على وجهه في النار، ولا يدري أنه قد يكون أكبر فاجر على المعمورة، لكن الناس يختلفون في عقولهم، وفي بصائرهم قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص: 79].

    يقولون: إن قارون بطل من الأبطال، وله منزلة عالية عند الله.

    بين قيمة الدنيا وقيمة ذكر الله

    وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَن [القصص:80] يقولون: خافوا الله، ثواب الله في الجنة أحسن من هذه الدنيا، والله الذي لا إله إلا هو إن "سبحان الله" فقط خير مما طلعت عليه الشمس وغربت، وكلكم يسمع عن سليمان بن داود، وقصصه في القرآن، ملك الجن والإنس والطيور والزواحف وكل ما هب ودب، حتى الريح هذه التي تمر علينا صباح مساء ملكها، كانت لا تتحرك إلا بأمره، إذا أراد أن يرتحل من بلد فإنه يأمر الريح غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سبأ:12] يقول: يا ريح احمليني إلى الهند، فتأتي الريح فتكون كالبساط، ثم يركب هو ووزراؤه وحاشيته، فتنقله في لحظات، حتى ينـزل في الأرض.

    كيف تنـزل به؟

    يقول الله: رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ [ص:36] أي ما تنـزل بقوة إنما رخاءً -تدريجياً- حتى يهبط في الأرض، فارتفعت به الريح في مرة من المرات ومعه من جنوده وقوته قوة لا يعلمها إلا الله، ولما أصبح في السماء، مر تجاه الشمس فحجب ضوء الشمس عن فلاح يشتغل في الأرض؛ فنظر الفلاح فرأي سليمان عليه السلام والريح تمر به.

    قال الفلاح: سبحان الله! لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً، فسمعها سليمان عليه السلام، قال للريح: اهبطي بي هنا، فهبطت بجانب الفلاح، قال: ماذا قلت يا فلان، قال: ما قلت إلا خيراً، قال: ماذا قلت؟

    خاف من سليمان قال: والله ما قلت إلا سبحان الله لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً، قال: والذي نفسي بيده، لقولك سبحان الله في ميزانك خير مما أوتي آل داود.

    الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول: {لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ أحب إلي مما طلعت عليه الشمس}.

    رأيناهم والله أغنياءً يملكونها بالملايين، لا يتعاملون إلا بالشيكات والمصارف العالمية، ثم توفوا، وإن بعضهم توفي في مدينة نائية عن تجارته، حتى طلب له كفن من التجار بالشحاذة، شحذوا له كفناً، ودس في التراب.

    أين الذهب؟ أين الفضة؟ أين الجاه؟

    لا جاه إلا لمن أسعده الله.

    يا متعب الجسم كم تسعى لراحته      أتعبت جسمك فيما فيه خسرانُ

    أقبل على الروح واستكمل فضائلها      فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ

    يا عامراً لخراب الدهـر مجتهداً     بالله هل لخراب الدهر عمرانُ

    تدخل مجلس أحدنا فتجده مزوقاً كأنه إيوان كسرى وقيصر؛ فيه الكنبات والروائح والملبوسات والمفروشات والمطعومات والمركوبات والعطور، شيء عجيب يُذْهِلُ، لكن ماذا أعددنا للقبر؟

    ماذا أعددنا لتلك الحفرة؟

    ماذا فعلنا بذاك القبر الضيق؟

    يدس فيه الإنسان لا ولد، ولا أهل، ولا زوجة، ولا أنيس، ولا حبيب إلا من أسعده الله.

    والموتُ فاذكره وما وراءه      فمنه ما لأحد براءه

    وإنه للفيصل الذي به      ينكشف الحال فلا يشتبه

    والقبر روضة من الجنان      أو حفرة من حفر النيران

    إن يك خيراً فالذي من بعده     أفضل عند ربنا لعبده

    وإن يكن شراً فما بعد أشدّ     ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّ

    لكننا لا نفقه ولا نعي ولا نفهم، الله يقول لنا: عوا، افهموا، اسمعوا، تدبروا، اعقلوا؛ لكن أين القلوب؟!

    ران عليها الخطأ، أظلمت وقست من السيئات.

    كيف يعي قلب من يستمع الغناء صباح مساء؟!

    على الأغنيات الماجنات من المغنين والمغنيات، الأحياء منهم والأموات، يصبح على الأغنية، ويمسي على الأغنية، يركب السيارة وهو يسمع أغنية، ويدخل المجلس مع أغنية، أبعثنا للناس بهذا؟!

    أكانت حياة الصحابة كحياتنا؟!

    هل أمرنا الله أن نعيش على هوامش الأحداث؟

    أكل وشرب ونوم وغناء ورقص ولعب ولهو!! أين حياتنا؟!

    أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122].

    مصير قارون

    كان مصير قارون أن قال الله 6003332> فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ [القصص:81] هذا الردى وهذه اللعنة والخبث وسوء الخاتمة.

    فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ [القصص:81]

    من الذي ينصر إلا الله!

    والله إن لم ينصر العبد لم ينصره أحد!!

    العزيز من أعزه الله بالطاعة، والذليل من أذله الله بالمعصية، يقول الله عز وجل: فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ [القصص:81] أي: هل كان معه أسرة؟

    هل كان معه قبيلة قامت تقاتل عنه بالسيوف؟

    قوة الله لا تغلب، والله عز وجل يقول: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر:51] من الذي ينصره الله؟

    الرسول والمؤمنون، أما غير المؤمنين فلا ينصرهم الله: يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:52].

    فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ [القصص:81] مسكين قارون، ضعيف مغفل، فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الكَافرُون [القصص:81-82]

    تدرون ماذا فعل؟

    أتى في مصطبة من ذهب، وهي دكان مرتفع كله مصبوب من ذهب، فجلس عليه بحلة في الصباح، مرَّ موسى عليه السلام وهو الذي دخل على فرعون، داعية لا إله إلا الله، حامل لا إله إلا الله، الذي قاد الجيوش الجرارة لخدمة لا إله إلا الله، مر على قارون، قال: يا قارون! اتق الله، وقل: لا إله إلا الله، فتكلم بكلام بذيء في عرض موسى عليه السلام، ولذلك يقول الله تعالى: فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً [الأحزاب:69].

    ولذلك تجد أن الدعاة وطلبة العلم والعلماء والصالحون وأهل الخير والعباد والزهاد ينالون نصيباً من هذا الاستهزاء والاستهتار والتعليق المرير، لكن قدوتهم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، يقول لقمان لابنه: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ [لقمان:17] ثم يقول بعدها: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17] فإنك إذا أمرت ونهيت سوف تنالك الألسنة، وسوف تعترضك القلوب التي ما عرفت لا إله إلا الله، موسى عليه السلام لقي الله فكلمه كفاحاً بلا ترجمان، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ما كلم أحداً من الناس إلا موسى عليه السلام: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] فلما كلمه قال: يا موسى أتريد شيئاً؟ قال: نعم يا رب.

    قال: ما تريد؟

    قال: يا رب! كف ألسنة الناس لا يتكلمون في عرضي، يقول: يارب! امنعني من ألسنة الناس في المجالس حتى لا ينالوا من عرضي ولا يتكلموا فيَّ.

    قال الله: يا موسى ما اتخذت ذلك لنفسي، إني أرزقهم وأعافيهم، وإنهم يسبونني ويشتمونني!

    الله عز وجل الذي خلق الإنسان وبصَّر الإنسان، وعلم الإنسان، ورزق الإنسان؛ ومع ذلك يسبه الناس!

    وفي الصحيح من حديث أبي هريرة يقول الله عز وجل: {يشتمني ابن آدم وليس له ذلك، ويسبني ابن آدم وليس له ذلك، أما شتمه إياي فيقول: إن لي صاحبةً وولداً، وأنا ليس لي صاحبة ولا ولد، سبحاني! وأما سبه إياي فإنه يسب الدهر، وأنا الدهر؛ أقلب الليل والنهار كيف أشاء!}.

    سبحان الله!

    إذا مات ابن للإنسان تسخط على الله، وقال: يارب! تأخذه من بين يدي؟! يا رب! لم تمهله حتى يدرس وينفعني؟! وإذا رسب قال: يا رب! تنجح أولاد فلان، وترسب أولادي، ما هذا يا رب؟!

    سبحان الله! أنت أحكم من الله؟!

    أنت أعدل من الله؟!

    الله أعلم؛ فكلمته وأمره وقضاؤه في (كن) فهو الحكيم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

    فلما مرّ موسى قال: اتق الله يا قارون، فتكلم عليه، فقال موسى: اللهم خذه أخذ عزيز مقتدر، فنزل بيته في الأرض، وأصبح يريد أن يقوم، وهو مشرف والبيت وراء ظهره، وهو على دكان من ذهب، فنزل الدكان ونزل البيت جميعاً، وكانت كنوزه تنزل معه، وكانت قلعته وهي من ذهب وفضة تنزل معه في الأرض، أراد أن يفر فما استطاع؛ لأنه محبوس في الأرض، فينزل رويداً رويداً وهو ينادي: يا موسى! يا موسى أطلقني! فنزل وموسى ينظر إليه هو وبنو إسرائيل، فيقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَىتَعَالَى في آخر القصة: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].

    الحياة يا عباد الله معناها أن تعيش لله، وتموت لله، وتبعث لله، أما حياة ليس فيها صلاة، وليس فيها عبادة، وليس فيها اتصال بالله، فليست حياة، والعجيب أن بعض الناس راضٍ عن نفسه، يرى أنه إذا كانت له دار فسيحة وأبناء، ويأكل ويشرب، وعنده سيارات، وقد ارتاح إلى هذه الحالة، أن الله راضٍ عنه.

    فهل سأل نفسه عن معاملته مع الله؟

    هل سأل نفسه هل يحافظ على الصلوات الخمس في المسجد؟

    هل علم كيف قلبه مع المسلمين، بره لوالديه، صلته لرحمه، خوفه من الله يوم يحلف، ويوم يبيع ويشتري، ويوم يعاهد، ويوم يزور ويتعامل؟

    1.   

    صدق عمر بن الخطاب مع الله

    إن الله سبحان وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم لهداية الإنسان، فأتى عليه الصلاة والسلام والناس في جاهلية جهلاء -وبعض مناطقنا لا زالت تعيش بعض الصور من تلك الجاهلية التي عاشها الناس قبله صلى الله عليه وسلم- فلما أتى صلى الله عليه وسلم، قال: (يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) وعاد الناس واستجاب من أراد الله أن يستجيب يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24].

    وكان ممن استجاب الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، خليفة الإسلام، كان قبل الإسلام بلا إرادة ولا تفكير ولا طموح، كان يعيش مثلما يعيش كثير من الناس، يأكل ويشرب وينام، لا يغضب إذا انتهكت حدود الله، لا يحزن إذا فاتته صلاة، لا يحزن ولا يغتم إذا رأى شباب الإسلام منهمكاً في المعاصي، إنما همه بطنه وفرجه، فإذا بقي عليه رزقه، بقيت عليه وظيفته، فكل شيء على ما يرام.

    فأتى عمر ووضع كفه في يد المصطفى صلى الله وسلم وأسلم، وذلك بعد أن سمع سورة طه، ومن يوم أسلم بدأ قلبه حياً مع الله؛ لأن الله يحيي القلوب بعد إماتتها، واستمر في الإسلام.

    وبعد عشرين سنة أو أكثر تولى خلافة المسلمين وأصبح ذهب الدنيا تحت يديه، وفضة الدنيا تحت يديه، أصبح هو المسئول الأول، فماذا فعل؟

    كان من أبسط الناس، وأزهدهم في الدنيا وأفقرهم، ما كان يشبع من الشعير، يصعد يوم الجمعة على المنبر وعليه رداء فيه أربع عشرة رقعة، وبإمكانه لو أراد أن يلبس الذهب والديباج.

    عمر في عام الرمادة

    عام الرمادة عام الجوع والقحط، كان في العام الثامن عشر من الهجرة حيث مر قحط على المسلمين حتى رأوا الدخان يفوح من الأرض، وحتى أكلوا الميتة، ولم يبق هناك نبتة خضراء، أكلوا أوراق الشجر حتى تشرمت أشداقهم، ولم يعد هناك ورقة شجر، فصعد على المنبر وهو يبكي يوم الجمعة، ويقول: يا رب! لا تعذب أمة محمد بسبب ذنوبي؟!

    ذنوب عمر الزاهد المجاهد، قائم الليل، تالي كتاب الله، يجعل الذنب ذنبه، ونحن الآن إذا قلنا: نحن مذنبون، قالوا: لا الحمد الله نحن من أحسن الناس، ما أذنبنا، والله إنا لنصلي، وإنا مستقيمون على طاعته ولا نريد شيئاً، ويا ليت الناس مثلنا!

    عمر يقول على المنبر وهو يبكي: [[اللهم لا تعذب أمة محمد بسبب ذنوبي، يارب! أتهلك أمة محمد في عهدي]] ثم يَبكي ويُبكي الناس.

    ويقوم يخطب فيقرقر بطنه من الجوع، ما أصبح في بطنه شيء، فيقول: [[قرقر أو لا تقرقر؛ والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين]].

    عمر وتفقده للمسلمين

    ينـزل عمر رضي الله عنه وأرضاه في ليلة يطوف بعصاه بعد صلاة العشاء يتفقد الناس.. يتفقد المريض, والمسكين، والأرملة، والجائع.

    كيف ينام وهناك أنفس لا تنام؟!

    كيف يرتاح وهناك أنفس لا ترتاح؟!

    فسمع بكاءًَ في بيت فاقترب منه، ووضع رأسه على صائر الباب، فسمع امرأة تبكي في الطلق أي: في النفاس، فأخذ يبكي، ذكر ذلك ابن كثير في البداية والنهاية، فقال مولاه أسلم: ما لك يا أمير المؤمنين! تبكي، قال: إنك ما تعلم يا أسلم بالألم الذي تجده هذه المرأة، انطلق بنا يا أسلم إني أخاف الله أن يسألني عن هذه المرأة إن قصرت في حقها، فانطلق إلى بيت المال وحمل جراباً من شحم وزيت ودقيق -وهو خليفة- ودخل البيت واستأذن من المرأة، وصنع لها طعاماً بيده الكريمة.

    هذه تربية لا إله إلا الله، وتربية محمد صلى الله عليه وسلم الذي غرس في قلوبهم لا إله إلا الله؛ ولذلك كانت قصورهم الجنة كالربابة البيضاء أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90] فدخل عليها وصنع لها الطعام وقدم لها تأكل قالت: والله الذي لا إله إلا هو إنك خير من عمر بن الخطاب، وهو عمر بن الخطاب، ثم أخذ يبكي ويقول له مولاه: مالك؟

    قال: إني أخاف من الله أن يعذبني بسبب هذه الأمة، كم من فقير، كم من مسكين! كم من أرملة! كم من طفل!

    دعاء عمر في آخر حجة حجها

    استشهاد عمر

    وفي أول ليلة نامها عمر رأى رؤيا في المنام، رأى أن ديكاً ينقره ثلاث نقرات، فسأل بعض الصحابة: ما تأويل الرؤيا، قالت له أسماء بنت عميس -إحدى الصحابيات المؤمنات- وكانت تفسر الأحلام وتعبر الرؤيا: يا أمير المؤمنين أستودعك الله في نفسك الذي لا تضيع ودائعه، سوف يطعنك رجل بخنجر ثلاث طعنات ويقتلك. قال: الله المستعان! إنا لله وإنا إليه راجعون!

    وصلى صلاة الفجر في اليوم الثاني، وكان إذا صلى الفجر غالباً ما يقرأ سورة يوسف بعد الفاتحة، فقام يقرأ سورة يوسف، فلما بلغ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ [يوسف:84] فنهد باكياً وبكى الناس معه، ولما ركع تقدم له أبو لؤلؤة المجوسي.

    مولى المغيرة لا جادتك غادية     من رحمة الله ما جادت غواديها

    تقدم بخنجر ذي حدين قد سمه شهراً، حتى أصبح الخنجر أزرق من كثرة السم، ثم ضرب عمر أمير المؤمنين، حصن الإسلام، العادل الكبير، الزاهد العابد النحرير، الذي ما عرف إلا قيام الليل والوقوف مع المسكين والفقير والأرملة، ضربه ثلاث طعنات ليهدم ركن الإسلام، فصرع عمر ووقع على وجهه في الأرض، وهو يقول: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، ثم التفت وقدم أحد المسلمين، فلما صلوا أغمي عليه -غشي- من كثرة الدم، قال: من قتلني؟

    قالوا: أبو لؤلؤة، قال: الحمد الله الذي جعل شهادتي على يد رجل ما سجد لله سجدة.

    ثم رفعوه على أكتافهم، يقول أنس: [[ظننا أن القيامة قامت يوم مات عمر]] ويقول علي: [[والله الذي لا إله إلا هو لقد كفنت سعادة الإسلام في أكفان عمر]].

    ووضعوه في البيت، فلما أرادوا أن يضعوا رأسه وهو مطعون يعالج السكرات، وضعوا له مخدة -وسادة- تحت رأسه، قال: [[انزعوها من تحت رأسي، وضعوا رأسي على التراب، علَّ الله أن يرحمني! فأخذ يمرغ وجهه على التراب وهو يبكي ويقول: يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه]] فدخل عليه علي رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين طوبى لك! وهنيئاً لك! والله لطالما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {جئت أنا وأبو بكر وعمر , ودخلت أنا وأبو بكر وعمر , وخرجت أنا وأبو بكر وعمر} فأسأل الله أن يحشرك مع صاحبيك، فقال عمر: [[ياليتني نجوت كفافاً لا لي ولا علي]]! يقول: يا ليتني أخرج من الحساب يوم القيامة لا حسنات ولا سيئات، سبحان الله! وهم المجاهدون الصادقون الزهاد العباد، فماذا فعلنا نحن؟!

    بماذا نلقى الله يوم القيامة؟!

    ونقول: والله لقد أسأنا مع الله كل الإساءة، نستغفر الله ونتوب إليه!

    1.   

    أحوال المسلمين في هذا العصر

    هل داومنا على الصلوات الخمس كل فرض في المسجد؟

    هل دعونا جيراننا إلى المساجد صباح مساء؟

    هل والينا في الله، أحببنا في الله وأبغضنا في الله؟

    هل أخذنا على يد الفاجر السفيه الذي يريد أن يردينا في النار؟

    وقلنا: لا. خف الله لا نريد الباطل.

    نرى الباطل ونؤيد على الباطل إلا من رحم الله، وأنا أتكلم لأنني أعرف، ونحن أهل قرى وقبائل، نعرف المآسي التي يعيشها الكثير من القبائل.

    نعم! يرون الباطل ولا يقومون في وجه الباطل، ويرون حدود الله تنتهك ومحارم الله ترتكب ولا يغضبون.

    أنا أتكلم عن قبيلتي أنا، فكيف ندعو الله في القطر؟!

    وكيف نقول نحن نحب الله؟!

    وما هي أعمالنا؟!

    السفيه يؤيد، والفاجر يسدد، ولكن لا يجد صاحب كلمة الحق من يعضده ويقوم معه، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78-79] إي والله لبئس ما كانوا يفعلون.

    يرون الفاجر ويسكتون، والمعصية ولا يتكلمون، ولا تتمعر وجوههم, وأحدهم لو انتهك شيء من ماله أو ولده أو تكلم على عرضه وسُب، قامت الدنيا وقعدت، وأخذ السلاح وقاتل، أما حدود الله فتنتهك ولا أحد يغضب، المساجد تهجر، الأغاني الماجنة تنتشر، الحجاب يترك، السفور يوضع ويوقع، والمرأة لا تتقي الله عز وجل في البيوت، إلا من رحم الله.

    سبحان الله! الربا يتعامل به، الرشوة، ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الغيبة في المجالس، الاستهزاء والاستهتار بالصالحين، ونقول: الله يرحمنا نحن على خيرٍ إذا خفنا الله، نحن على خيرٍ إذا اتقينا الله عز وجل.

    الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أرسل جبريل عليه السلام وقال: إن أهل تلك القرية قد عصوني، وتمردوا على حدودي، وأكلوا نعمي، وتجرءوا على حرماتي فخذهم، وجبريل إذا أرسله الله له ستمائة جناح، الجناح الواحد يكفي لأن ينقل قرى الجنوب كلها مرة، قرى قوم لوط أربع وهي القرى المؤتفكات، كانوا ستمائة ألف كما يقول المؤرخون، أرسل الله جبريل فقال: خذهم.

    لماذا؟

    قوم لوط عمت فيهم الفاحشة، كانوا يفعلون كل منكر في ناديهم، وما كان أحدهم يقول اتقوا الله يا عباد الله، خافوا الله، عندهم الفجور واللواط والزنا والفحش والتحريش والمحاسدة والأيمان الغموس والتبجح وظلم الناس والفجور والكبر، فما أحد يقول: اتقوا الله.

    فغضب الله، والله إذا غضب أخذ، يمهل ولكن إذا أخذ لا يفلت أبداً، يقول الله: (إذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية، وإذا غضبت لعنت، وإن لعنتي لتبلغ السابع من الولد).

    نعوذ بالله من لعنة الله، ونعوذ بالله من غضب الله، ونعوذ بالله من قلوب لا تتقي الله.

    فأرسل جبريل، وقال: خذهم، وعند جبريل -كما في الصحيح- ستمائة جناح، فما استعمل إلا جناحاً واحداً واقتلع القرى من جذورها وجبالها قبل أن يأتي القرى بمسافة.

    وذلك مثل أن يأخذ من هنا قرى أبعد من خمسين كيلو، فرفع القرى بجبالها وأوديتها وأشجارها وأنهارها، حتى رفعهم إلى قرب السماء الدنيا، وسمعت ملائكة السماء -كما في الحديث- نباح كلابهم، وصياح دجاجهم، ثم لطمهم بالأرض، وما كفى هذا، بل أرسل الله عليهم حجارة من طين، كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ [الذاريات:34] كل مجرم يكتب اسمه على حجرة، فتأتي وتقع في رأسه وتخرج من دبره، فالله عز وجل غضب على قرية من القرى ما تآمرت بالمعروف ولا تناصحت، فقال: يا جبريل خذهم! فنزل جبريل عليه السلام، فمر فوجد رجلاً مصلياً صائماً في مسجد، فعاد إلى الله قال: يا رب، هناك عبد يصلي ويذكرك ويسبحك ويدعوك، قال: يا جبريل فبه فأبدأ.

    قال: يا رب! ولم؟

    قال: إنه يرى المنكر، وما يتمعر وجهه غضباً لي.

    الله عز وجل يغضب من العبد الذي لا يغضب لمحارمه، ونحن نغضب لمحارمنا ولا نغضب لمحارم الله؟! ونغضب لأنفسنا ولا نغضب لله؟!

    أي قلوب فحمل؟!

    فلما فعل بنو إسرائيل ذلك عمهم الله بالعذاب، وقست قلوبهم: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:13].

    1.   

    التحذير من الغرور والغفلة في الرخاء

    قصة فرعون

    فرعون الطاغية الخبيث -عليه لعنة الله- وقف يقول لأهل مصر: قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ [الزخرف:51].

    فجعل الله الأنهار تجري من فوق رأسه، دمره الله في اليم: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ [يونس:90].

    ما شاء الله تعلن الإسلام الآن؟! آمنت اليوم؟!

    ملأت الدنيا أعمالاً سيئةً، ولطخت الدماء بيديك، وضحكت على التاريخ، ودُسْت القيم، والآن لما أصبحتَ في هذا المكان الضيق قلتَ: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ [يونس:90].

    مثلما يفعل كثير من الناس اليوم، أما وقت الرخاء فيتبجح على الله، ويتعدى على حدود الله، وينتهك حرمات الله، كثيراً ما ترى بعض الشباب لا يلقي بالاً للمساجد ولا للقرآن ولا للدعوة والذكر ومخافة الله، كلما عَنَّ له شيء، ركب رأسه، فإذا كسر ظهره وأصبح على السرير الأبيض في المستشفى عاد إلى الله، أين أنت وقت الرخاء؟!

    أعند الشدة تعود إلى الله؟!

    فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65].

    يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا      وارحم أيا رب ذنباً قد جنيناهُ

    كم نطلب الله في ضر يحل بنا      فإن تولت بلايانا نسيناهُ

    ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا     فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناهُ

    ونركب الجو في أمن وفي دعة       فما سقطنا لأن الحافظ اللهُ

    فلما بلغ فرعون هذا الموضع: قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90] وهو دجال كذاب، لو كان صادقاً لآمن وقت الرخاء، قال الله سبحانه: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يونس:91-92] ولذلك طفر به البحر فأخرج جثته، فما زالت جثته إلى اليوم لم تأكله الأرض، ليكون عبرة لكل من ينظر، لكن الذي يحفظ الله في الرخاء يحفظه الله في الشدة.

    إذا ضاقت عليك الضوائق وأتت عليك المصائب، وكنت في الرخاء تذكر الله وتقوم بحدود الله، ينجيك الله، ويجعل لك مخرجاً.

    فاشدد يديك بحبل الله معتصماً      فإنه الركن إن خانتك أركان

    قصة يونس عليه السلام

    يونس عليه السلام أحد الأنبياء، كان يحفظ الله في الرخاء، كان صائم النهار قائم الليل، مصلياً ذاكراً، خرج غاضباً على قومه، وما استأذن الله، والواجب أن يستأذن ربه، لكن قومه عاندوه، يقول لهم: هذا الطريق المستقيم فقالوا: لا. خطأ، وفي الأخير غضب وما صبر.

    فلما ركب السفينة في البحر، أخذت الريح تلعب بالسفينة، فقال ربان السفينة: معنا رجل مذنب، ولا يمكن أن تهدأ الريح حتى تنزلوا هذا الرجل من السفينة! وقد كان قواد السفن يعرفون أنه لا يأتي الخلل إلا من ذنوب وخطايا، قالوا: نقترع.

    واستهموا فوقعت القرعة على يونس عليه السلام، فأقرعوا ثانية فوقعت عليه، فأقرعوا ثالثةً فوقعت عليه، فأخذوه بثيابه ويديه ورجليه، وأوقعوه في البحر وسط الليل.

    سبحان الله! لا قريبَ ولا أهلَ، لا زوجةَ ولا ولد، وليته بقي على خشبة، لكن ابتلعه الحوت -سمكة- فما وقع في البحر إلا وهو فاغر فاه، فأصبح في ظلمات ثلاث: ظلمة اليم، وظلمة الليل، وظلمة الحوت.

    فمن يتذكر؟!

    هل يتصل بأهله؟!

    هل يكلم أخاه أو قومه؟!

    لا. قال: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] رد إلهامه إلى الله.

    وناد إذا سجدت له اعترافاً      بما ناداه ذو النون بن مَتَّى

    وأكثر ذكره في الأرض دأباً      لتذكر في السماء إذا ذكرتا

    فلما قال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، قذفته السمكة في الصحراء، وأنجاه الله الذي يقول للشيء: كن فيكون.

    لماذا؟ لأنه حفظ الله في الرخاء.

    احفظ الله يحفظك

    يذكر ابن القيم في كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي قصة رجل من الصالحين كان يصوم النهار ويقوم الليل، والصلاح ليس كلمةً تقال، ولا خطبة جمعة يخطبها الإنسان، فإذا خرج فهو هو من أظلم الناس وأفجرهم، قاطع رحم، عاق والديه، يحلف الأيمان الغموس، فهذا ليس بصلاح، الصلاح عمل، إنما الصلاح تقوى، ومخافة من الحي القيوم.

    فهذا الرجل الصالح كان يشتغل في التجارة، وكان كثير الذكر، والتلاوة، والصيام، والعبادة، خرج ببغلات -وعنده بغال يستعملها في التجارة- فمر به مجرم فقال: يا فلان! أوصلني إلى ذلك المكان.

    قال: اركب معي.

    فركب معه، فلما أصبحوا في غابة لا يراهم إلا الله، أتى هذا الرجل المجرم، فأخرج خنجراً معه، وقال لهذا الرجل الصالح: ادفع ما عندك من مال فوالله لأقتلنك، قال الرجل الصالح: أسألك بالله الذي قامت به السماوات والأرض أن تأخذ ما عندي من مال وما عندي من تجارة وتتركني، فلدي سبعةُ أبناءٍ وأمهم، لا يعولهم بعد الله إلا أنا.

    قال: والله الذي لا إله إلا هو لأقتلنك.

    قال: فأسألك بمن قامت به السماوات والأرض أن تتركني لأصلي ركعتين، فقام فتوضأ وقام يصلي، قال: فلما كبرت، نسيت كل آية من القرآن من الخوف، والله ما ذكرت إلا قوله تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62] من يجيب المضطر إلا الله! من يكشف السوء إلا الله! من يشفي المريض إلا الله! من يجبر الكسير إلا الله! أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62] قال: فقلت في نفسي: يا من يجيب المضطر إذا دعاه أجبني! يا من يجيب المضطر إذا دعاه أجبني! يا من يجيب المضطر إذا دعاه أجبني!

    قال: فوالله ما انتهيت من الدعاء، إلا وفارس قد أقبل على فرس من أسفل الوادي ومعه حربة أرسلها، فوقعت في لبة هذا الرجل، فإذا هو مقتول على قفاه، قلت: أسألك بالله أنت رسول من؟

    قال: أنا رسول من يجيب المضطر إذا دعاه، لما دعوت الدعوة الأولى كنت في السماء السابعة، ولما دعوت بالدعوة الثانية كنت في الرابعة، ولما دعوت الثالثة أتيت إلى الأرض لأقتل هذا المجرم.

    وهذا عند أهل السنة والجماعة والعلماء من كرامات الأولياء.

    إن من يحفظ الله في الرخاء، يحفظه في الشدة، يقول عليه الصلاة والسلام لـابن عباس: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف}.

    هذه يا عباد الله قضايا لا بد أن تفهم لكل مسلم، أن من لم يحفظ الله لا يحفظه الله.

    1.   

    وجوب التوبة

    ومن القضايا التي أريد أن أذكر نفسي وإياكم بها قضية التوبة، أن نتوب إلى الله ونستغفره ليلاً ونهاراً، فقد أخطأنا كثيراً، وأسأنا كثيراً، وتعدينا كثيراً، وليس لنا إلا التوبة، والله يقول: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] ويقول الله سبحانه: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:135-136].

    قصة المسرف على نفسه

    توبة القاتل

    في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: أن رجلاً قتل تسعة وتسعين نفساً -وهذا معروف ومشهور- فأتى إلى الرجل الراهب قال: هل لي من توبة؟

    قال: لا! ليس لك توبة.

    سبحان الله! من يغلق باب التوبة عليه؟!

    باب فتحه الله عز وجل يغلقه هذا العبد!

    إن الملوك إذا شابت عبيدهم      في رقهم أعتقوهم عتق أبرار

    وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً      قد شبت في الرق فاعتقني من النار

    قال: ليس لك توبة، فقتله فوفى به المائة.

    وذهب إلى عالم، قال: هل لي توبة؟

    قال: نعم، ومن يغلق عليك باب التوبة؟!

    وباب التوبة فتحه الله حتى تطلع الشمس من مغربها، فتاب إلى الله.

    قال: إني أرشدك أن تخرج من قريتك التي أنت فيها لأنها قرية سوء.

    وبعض القرى سيئة.. ظالم أهلها.. بعض القرى لا يعينونك على طاعة الله.

    فخرج من القرية، ولما أصبح في منتصف الطريق أتته سكرات الموت فمات، فنزلت ملائكة العذاب وملائكة الرحمة فاختصموا فيه، ملائكة الرحمة يقولون: خرج تائباً منيباً إلى الله، فجزاؤه أن يدخل الجنة، وملائكة العذاب يقولون: ما عمل لله عملاً صالحاً، وجزاؤه النار، فأوحى الله إليهم أن قيسوا ما بين المسافتين، فإن كان أقرب إلى القرية التي خرج إليها فهو منها، إن كان أقرب إلى القرية التي هو خرج منها، فهو من أهل النار.

    فأتوا يقيسون المسافة، فأوحى الله إلى تلك القرية أن تقاربي، وإلى تلك القرية أن تباعدي، فكان من أهل تلك القرية السعيدة، فكان من أهل الجنة.

    فيا الله رحمتك! ويا الله عونك للملهوف الضعيف المذنب يوم لا يجد راحماً إلا الله!

    عطاءُ الله ممنوح، وبابه مفتوح ونواله يغدو ويروح.

    التوبة من الزنا

    أتت امرأة إليه صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- فأخبرته أنها زنت، وأنها أسرفت على نفسها، فأشاح صلى الله عليه وسلم بوجهه -لا يريد أن تعترف- يقول: {ادرءوا الحدود بالشبهات} يريد أن ييسر على الناس، فأتته من الجهة الأخرى فاعترفت فأشاح، حتى اعترفت أربع مرات، وهي تطلب أن يطهرها عليه الصلاة والسلام، وهي ثيب, وحد الثيب أن ترجم بالحجارة حتى تموت، لكن قدمت نفسها رخيصةً في سبيل الله.

    فقال لها صلى الله عليه وسلم: عودي حتى تضعي، فعادت حتى وضعت ولدها، وأتت به في لفائف، فرآها صلى الله عليه وسلم، فقال: عودي حتى ترضعيه، فأرضعته سنتين، ثم أتت به وهي صابرة محتسبة تريد الله والدار الآخرة.

    قال صلى الله عليه وسلم: من يكفل هذا الغلام وهو رفيقي في الجنة، قال أحد الأنصار: أنا يا رسول الله، فأخذوها وذهبوا بها يرجمونها بالحجارة، وهي صابرة محتسبة، فلما قتلوها قال أحد الصحابة: ليتها استترت، قال عليه الصلاة السلام وقد سمعه: والذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها سبعون رجلاً من أهل المدينة، لوسعتهم} وفي لفظ: {والذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها أهل المدينة لوسعتهم، والذي نفسي بيده إني لأراها تنغمس في أنهار الجنة}.

    هذا هو ربنا التائب الرحيم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

    تنبهوا يا رقود      إلى متى ذا الجمودُ

    فهذه الدار تبلى      وما عليها يبيدُ

    الخير فيها قليل      والشر فيها عتيدُ

    والبر ينقص فيها     والسيئات تزيدُ

    فاستكثر الزاد فيها      إن الطريق بعيدُ

    أمامك حفرة مظلمة، والله لا يجليها اللهُ إلا للمتقين، أمامك قبر صرع فيه الملوك والرؤساء والأمراء والوزراء والتجار، أمامك قبر أخذ القرون حتى أرداهم.

    أبني أبينا نحن أهل منازل      أبداً غراب البين فيها ينعق

    نبكي على الدنيا وما من معشر     جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا

    صم إذا نودوا كأن لم يعلموا     أن الكلام لهم حلال مطلقُ

    عمر بن عبد العزيز ينادي أهل القبور

    مر عمر بن عبد العزيز الخليفة الزاهد رضي الله عنه وأرضاه، وهو مجدد القرن الأول؛ مر يوم العيد، وكان خليفة المسلمين من طشقند في الشمال إلى جنوب أفريقيا، ومن مشارف سيبيريا إلى الأندلس، إلى مشارف نهر السند، كان يملكها رضي الله عنه وأرضاه، فنزل يوم العيد فرأى المقابر، فبكى حتى جلس، وقال: يا أيتها المقابر، كم فيك من حبيب! كم فيك من قريب! ما كأنهم أكلوا مع من أكل! ما كأنهم شربوا مع من شرب! ما كأنهم ضحكوا مع من ضحك!

    ثم قال: يا موت ماذا فعلت بالأحبة؟

    ثم بكى، وأجاب نفسه بنفسه وقال: أتدرون ماذا يقول الموت؟

    قال: يقول: أكلت الحدقتين، وذهبت بالعينين، وفصلت الكفين عن الساعدين، والساعدين عن العضدين، والعضدين عن الكتفين، والقدمين عن الساقين، والساقين عن الركبتين.

    الزهد في الدنيا

    إن كنت تريد الخلود -أيها المسلم- تريد السعادة والرضا، فاعمل للجنة.

    اعمل لدار غداً رضوان خازنها      والجار أحمد والرحمن بانيها

    قصورها ذهب والمسك تربتها      والزعفران حشيش نابت فيها

    أما هذه الدار فمنذ أن خلقها الله ما نظر إليها، دار لا تريحك، منغصة؛ إذا ارتحت فيها مات ولدك، وإذا نسيت مصيبته رسب الآخر، وإذا نسيت ألمه مرضت زوجتك، وإذا تشافت مرض جسمك، مكدرة منغصة، قد كتب الله عليها التكدير.

    [[فضح الموت الدنيا، فلم يدع فيها لذي لب فرحاً]].

    فيا أهل العقول أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأوصيكم أن تقوموا في سبيل الله عز وجل دعاة خير، وأن تتآمروا بالمعروف وتتناهوا عن المنكر، ليرضى الله عنكم ظاهراً وباطناً، وليسعدكم في الدنيا والآخرة، وليكون الله معكم أينما كنتم, وأينما صرتم، أيدوا كلمة الحق، وقوموا مع المحق، ولا ترضوا بالباطل، وكونوا في وجهه؛ حينها يرضى الله عنا وعنكم.

    نسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لنا ولكم التوفيق والهداية والسداد والرشد.

    اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.

    وإن كان من شكر فإني أشكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ثم أشكركم على حسن حضوركم وإنصاتكم، وأشكر المركز الصيفي بمدرسة اليرموك على دعوته الموقرة، وعلى نشاطه الخير، وعلى بذله في الخير، وأشكر الأساتذة القائمين فيه، وصلى على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وما بقي من وقت، فإن كان أسئلةً أو حواراً، فنحبذ هذا؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    1.   

    الأسئلة

    حقوق الجار

    السؤال: يحصل بين بعض المسلمين خلاف ودعاوى ومطالب يترتب عليها الجفاء بين الجيران والقطيعة والبغض والظلم وغير ذلك، فما رأيكم وما توجيهاتكم لمن يريد التوبة والإنابة؟ وما الطريق لذلك؟

    الجواب: المشاكل التي يشكو الناس منها، والذنوب والمعاصي والخطايا التي في المجتمع لا يحصيها إلا الله.

    تكاثرت الظباء على خراشٍ      فما يدري خراشٌ ما يصيد

    كل مسألة ذكرت -أيها الأخ الفاضل- تحتاج إلى محاضرة بل ومحاضرات ومجلدات وندوات، لأننا أصبحنا مثخنين بالجراح من الذنوب والخطايا، قطيعة الرحم، عقوق الوالدين، أذية الجار، السوء إلى المسلمين، انتشار الأغاني الماجنات، المخدرات، التبرج إلا عند من رحم الله، ضياع الأوقات، تفلت الشباب، ضياع السنة، عدم تدبر القرآن، عدم تذكر الله، الأيمان الغموس، الظلم، الحسد، الحقد، كلها ذنوب وخطايا، نشكو حالنا إلى الله، أي أصبح حالنا مثل حال المريض الذي في كل مكان من جسمه جرح.

    مَنْ يَهُنْ يسهلِ الهوانُ عليه      ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ

    وأما ما ذكرت فمن أعظم ما يتساهل فيه خاصةً في القرى حقوق الجار، والمدن أحسن حالا في الجيران؛ لأنك غريب مع غرباء، فتريد أن تصلح الحال، كأنك تتذكر الوفاة، أما القرى فإنه منذ أن خلقنا الله ونحن نعرف جيراننا يميناً وشمالاً وأماماً وخلفاً، فأصبح بينهم من القطيعة ما لا يعلمه إلا الله، تجد الجار يؤذي جاره، ولا يأمنه، ومن نكد الحياة أن يجمع الله بينك وبين جار سوء.

    في الحديث: {أن رجلاً أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال: يا رسول الله أشكو إليك أذية جاري، قال: ماذا فعل؟

    قال: إن غبتُ لم آمنه، وإن حضرتُ آذاني، هتك عرضي، وأخذ مالي وظلمني. فقال عليه الصلاة والسلام: اصبر لجارك، علَّ الله أن يهديه! فذهب وصبر قليلاً، لكن ما هداه الله، وعاد يشكو إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: خذ زوجتك وأطفالك ومتعاك وانزل في سكة من سكك المدينة -في الطريق- فأخذ زوجته وأثاثه على ظهره ونزل وجلس في السكة، فأصبح الناس يسرحون عليه ويروحون، يغدون فيقولون: مالك يا فلان؟!

    فيقول: آذاني جاري حتى أخرجني، فيقول الناس: لعنه الله! فيصبح الصابح، فيقول: مالك يا فلان؟ فيقول: آذاني جاري، فيقولون: لعنه الله! ويمسي الممسي، فيقول: مالك؟ فيقول: آذاني جاري، فيقولون: لعنه الله! فسمع ذلك جاره، وقال: أتوب إلى الله، والله لا أعود إلى ذلك}.

    ولذلك فقد يبلغ الحد ببعض الناس إلى أنه لا يذكر الله عز وجل تماماً، ويسفك حق الجار.

    والجاهليون كان من ضمن ما يتمادحون به حفظ حقوق الجار، يقول عنترة:

    وأغض طرفي إن بدت لي جارتي      حتى يواري جارتي مأواها

    يقول: من كرم نفسي ومن شهامتي ومن مروءتي، إذا بدت جارتي غضضت طرفي حتى تدخل البيت، وليس عنده كتاب ولا سنة، ولا يؤمن بالله ولا اليوم الآخر.

    وأغض طرفي إن بدت لي جارتي      حتى يواري جارتي مأواها

    ولذلك وجد في أهل الإسلام من يحفظون الجار، وأذكر على سبيل المثال أبا حنيفة، كان عالم المسلمين، وكان من أعبد عباد الله، ومن أزهد عباد الله، أتدرون ماذا كان يفعل به جاره؟

    الجدار بالجدار يأتي أبو حنيفة وهو بعد صلاة العشاء يريد أن يسبح الله، ويصلي ويبكي ويدعو ويقرأ القرآن، فهذا الجار أعزب، وما عنده إلا نجر يضرب به ويقول:

    أضاعوني وأي فتى أضاعوا      ليوم كريهة وسداد ثغر

    وأبو حنيفة لا يستطيع أن ينام، ولا يعرف كيف يقرأ أو يصلي، لكنه يصبر ويحتسب، وبعد ليلة من الليالي الطويلة لم يسمع أبو حنيفة الصوت، انتظر فما سمع الرقص ولا سمع ضرب النجر ولا سمع الدربكة، فذهب وطرق على الباب فما أجابه أحد، فسأل الجيران: أين فلان؟

    قالوا: أخذه العسس -شرطة السلطان- قال: سبحان الله! جاري يأخذونه ولا يخبروني، ثم ركب بغلته في الليل ولبس ثيابه، واستأذن على السلطان وسط الليل، فقال الجنود للسلطان: أبو حنيفة يريدك -لأنه عالم الدنيا - فقام السلطان من نومه، والتقاه عند الباب يعانقه، وقال: يا أبا حنيفة لم لم ترسل إلينا؟ نحن نأتيك ولا تأتينا!

    قال: كيف أخذتم جاري ولم تخبروني؟

    قالوا: إنه فعل وفعل، قال: ردوا عليّ جاري، قالوا: لو طلبت الدنيا لأعطيناك الدنيا، فركب جاره معه على البغلة، وأخذ جاره يبكي، قال أبو حنيفة: مالك؟

    قال: آذيتك كل هذه الأيام والأعوام والسنوات، وما تركتك تنام ولا تصلي ولا تقرأ، ولما فقدتني الليلة أتيت تتشفع في، أُشْهِدُ الله ثم أشهدك أني تائب إلى الله.

    ولذلك كانوا يدعون الناس بأخلاقهم وبتعاملهم.

    وهذا يهودي سكن بجانب عبد الله بن المبارك -أحد العلماء الصالحين- فكان عبد الله بن المبارك إذا اشترى لحماً من السوق بدأ بأولاد الجار اليهودي، نحن لا نقول: نبدأ بأولاد اليهود لكن بأولاد المسلمين، ونحن لا نقول: أعطوا الناس لحماً أو اكسوا أبناء الناس، لكن نكف أذانا فقط، نعم.

    مكانك تحمدي أو تستريحي

    عبد الله بن المبارك كان إذا اشترى لحماً أعطى أبناء الجيران، وإذا اكتسى كسا أبناء جيرانه، وإذا أخذ فاكهة بدأ بهم، فأتى أناس من التجار يشترون دار اليهودي، فقال: داري ثمنها ألفا درهم، أما الألف الأولى فقيمة الدار، وأما الثانية فقيمة جوار عبد الله بن المبارك، فسمع عبد الله بن المبارك، وقال: والله لا تبيعها، هذا ألف درهم وابق عندي جاراً لي، ثم قال عبد الله بن المبارك اللهم اهده إلى الإسلام، فما أصبح اليوم الثاني إلا وقد أسلم لله رب العالمين.

    فمسألة الجار لا بد أن ننتبه لها، يقول عليه الصلاة والسلام {ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه}.

    شهادة الزور واليمين الغموس

    السؤال: ما حكم من يسعى إلى امتلاك أرض ظلماً، ويشهد بعض معارفه شهادة على هذه الأرض؟

    الجواب: الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {من ظلم من الأرض قيد شبر طوقه الله من سبع أرضين يوم القيامة}.

    وإنما سميت اليمين الغموس بذلك لأنها تغمس صاحبها في نار جنهم {ومن اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان} ولا يكلمه الله ولا يزكيه ولا ينظر إليه وله عذاب أليم، واقتطاع الأراضي وجد كثيراً، فكثير من الناس يقتطع الأرض بالحلف وهو لا يدري أصل هذه الأرض، ولا بمستنداتها، ولا بصكوكها، إنما يحلف زوراً وبهتاناً وحميةً وهذا حسابه عند الله عز وجل يوم يجمع الله الأولين والآخرين، والأرض أرض الله، والمال مال الله، والعباد عباد الله، والله هو الحاكم يوم القيامة بين الخصمين، ولا يتدخل في الحكومة أحد من الناس إلا هو سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فمن فعل ذلك فقد شهد شهادة زور، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً [الفرقان:72].

    ويقول عليه الصلاة والسلام: {ألا أدلكم على أكبر الكبائر؟! قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت} وهذا من أظلم الظلم وأعدى العدوان، هذا الذي يمحق البركة، ويطبع على القلوب، ويذهب الله به بركة الوديان، يأخذها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وينزعها من وديانهم ومن أماكنهم، وقد نبه العلماء والقضاة على هذا كثيراً، وكثير منكم يعرف هذا، والحمد الله.

    نصيحة لشاب تائب

    السؤال: أنا شاب في مقتبل العمر، وأفقت بعد أن أخطأت في حق الله وفي حق نفسي، وأريد أن أرجع إلى الله وأنا مستقل، ولكن أريد من يدعوني لكي أتخلص من أفكار سيئة، أرجو إرشادي إلى ذلك؟

    الجواب: ملخص السؤال: أن هناك شاباً يريد التوبة إلى الله، حياك الله أيها الشاب!

    وأوصيك بوصايا: الوصية الأولى: قد بسط الله لك يده، وفتح لك باب التوبة، وأنت من أحب الناس إلى الله عز وجل، فلا يتعاظمك الذنب، فإن الله يقول كما في الحديث القدسي الحسن: {يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم! لو جئتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لقيتك بقرابها مغفرة} والله عز وجل يقول في الحديث القدسي: {يا عبادي! إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم} فهنيئاً لك لما عدت إلى الله! وهنيئاً لك لما أفقت! هنيئاً لك لما راجعت حسابك مع الله قبل أن يأخذك الله أخذ عزيز مقتدر! فأوصيك بالمحافظة على الصلوات الخمس، وأن تكثر من الدعاء إلى علام الغيوب في أدبار الصلوات، وإذا سجدت أن تدعو بما دعاه ذو النون بن متى، وأن تطرق باب الله ليفتح الله لك مع المفتوحين لهم.

    والوصية الثانية: أوصيك بكتاب الله أن تتدبره، وأن يكون سميرك وأنيسك وصاحبك وحبيبك وخدنك، فتقرأ منه ما فتح الله عليك.

    والوصية الثالثة: أن ترافق رفقة صالحة طيبة يريدون الله والدار الآخرة، وأن تبتعد عن رفقة السوء.

    والوصية الرابعة: أن تترك كل المعاصي التي كانت تقربك من غضب الله، ومن مقت الله ومن أخذ الله، كاستماع الأغنية الماجنة، اجعل مكانها الشريط الإسلامي، شريط القرآن وشريط المحاضرات والندوات والدروس والعبر والعظات، وكذلك أن تتقي الله في عينك، فلا تنظر إلا في الحلال، واعلم أن الله سيحاسبك على جوارحك واحدةً واحدةً.

    والوصية الخامسة: أن تحفظ وقتك مع الله، وأن تستثمر الوقت في المطالعة، وفي القراءة، وفي زيارة الصالحين؛ ليرضى الله عنك في الدنيا والآخرة، وهذا هو المكسب العظيم:

    خذوا كل دنياكم واتركوا      فؤادي حراً طليقاً غربيا

    فإني أعظمُكم ثروة      وإن خلتموني وحيداً سليبا

    شرب الدخان والشيشة

    السؤال: ما حكم إمام مسلم يشرب الشيشة وهل تجوز صلاته؟

    الجواب: إن كان إماماً راتباً عينه السلطان يشرب الشيشة، وكان معيناً من الأوقاف، يصلى وراءه وذنبه عليه، وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وحسابه على الله عز وجل، وإن كان هذا الإمام متبرعاً أراد أن يصلي بدون أن يكون راتباً وليس مسئولاً، فلا يقدم على الناس لأنه فاسق، ومن يشرب هذه المحرمات فهو فاسق عند أهل السنة والجماعة، ومن يتعدى حدود الله عز وجل فهو فاسق، فإن كان متبرعاً فلا يقدم، وإن كان من الأوقاف فيقدم ويصلى وراءه، وحسابه على الله.

    حب الدنيا

    السؤال: ما رأي فضيلتكم في إضاعة الوقت في أمور الدنيا والحرص على متاعها الزائل.

    الجواب: يقول أهل العلم: إن ابن آدم يولد من بطن أمه وهو ممسك يديه قالوا: وذلك علامة على حرصه وجشعه وحسده وحب التملك عنده.

    وحب التملك فطري في الإنسان، حتى الطفل أول ما يتحرك يبدأ بأخذ الأشياء، يأخذ القلم، يأخذ الساعة، يبكي على اللعب، يبكي على المأكولات والمطعومات والمشروبات وذلك كله من حب التملك، وكلما شاب الإنسان وكبر سنه، كبر حب التملك عنده، حتى تجد الإنسانَ في عمر الستين، كأنه سوف يعيش مائتين أو ثلاثمائة سنة، ما يتكلم إلا في العمارات والقصور، وأبناؤه هذا توظف، وهذا أرسل له راتبه، وهذا سوف يسكن معه، كأنه يعيش ولا يفكر بالقبر، إلا من رحم ربك.

    ومن أكبر الخطايا خطيئة حب الدنيا، ويقولون: إن قابيل قتل هابيل بسبب حب الدنيا؛ والجشع على الدنيا؛ ولهذا اعلم أن من يحب الدنيا كثيراً وتستولي عليه فقد عبدها من دون الله، وقد اتخذها إلهاً يعبد من دون الله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16]

    تجرد من الدنيا فإنك إنما      أتيت إلى الدنيا وأنت مجرد

    ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].

    والذي يزهدك في الدنيا ثلاثة أمور:

    أولاً: أن تعرف أنك لا تتملك إلا ما رزقك الله، وأنه لا يقع في يدك إلا ما كتب الله.

    ثانياً: أن تعد لتلك الحفرة -القبر- فإنك سوف تقدم عليها لا محالة، وأن تذكر أن مصرعك قريب.

    ثالثاً: أنك كلما تكثرت منها تكثرت من الحساب والنكال والسؤال عند الله يوم القيامة.

    عقوق الوالدين

    السؤال: أنا شاب أصلي وأصوم والحمد الله، ولكن أنا عاصٍ لوالدي، فأرجو أن ترشدني إلى طاعة والدي؟

    الجواب: عقوق الوالدين أكثر ما انتشر بين الشباب، نسأل الله العافية والسلامة، والله عز وجل قرن حق الوالدين في كتابه بحقه، فقال: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً [الإسراء:23].

    ويبلغ بالبر عند بعض الأبناء أن يفتح الله عليه، حتى يكون أسوة وقدوة للشباب: يذكر عليه الصلاة السلام -كما في الصحيحين - {بينما ثلاثة نفر من بني إسرائيل خرجوا في الصحراء، فاشتد عليهم الكرب، ونزلت عليهم السماء بالمطر، فدخلوا في غار، فانطبقت عليهم الصخرة في فم الغار -صخرة لا يدفعها ولا يرفعها إلا الله، فلما أصبحوا في هذا الغار لا طعام ولا شراب، ولا أنيس، ولا رفيق ولا صاحب- قال أحدهم: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، قال أولهم: اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، وإنه قد نأى بي طلب الشجر يوماً، فلم أرح عليهما حتى ناما -أي سار يرعى الغنم وتأخر حتى نام أبوه وأمه، وأتى بالغبوق، وهو اللبن في المساء ليعشيهم، فأتى به في الإناء فوجدهما نائمين وعنده أبناؤه -فلذة كبده وشجا روحه- يتضاغون عند أقدامه من الجوع يريدون أن يشربوا- قال: فما سقيت صبيتي وهم يتضاغون عند قدمي، وما أيقظت والدي خشية أن أنغص عليهما نومهما، فمكثت والإناء بيدي حتى برق الفجر، فاستيقظا وشربا غبوقهما، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء مرضاتك، فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت عنهم الصخرة...} إلى آخر القصة وهي موجودة في كتب الحديث.

    وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً مع أصحابه فأتاه رجل فقال: يا رسول الله! أشكو إليك عجيبة من العجائب، قال: ما هي؟

    قال: ابني؛ ربيته، سهرت لينام، وجعت ليشبع، وظمئت ليروى، فلما كبر تغمط حقي وظلمني ولوى يدي، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم، فقال: هل قلت في ذلك شعراً؟ لأن العرب كانت تتنفس بالأشعار من أحزانها، قال: نعم، قال: ماذا قلت؟ قال قلت فيه:

    غدوتك مولوداً وعلتك يافعاً      تعل بما أجري عليك وتنهلُ

    إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت      لسقمك إلا شاكياً أتململُ

    كأني أنا الملدوغ دونك بالذي      لدغت به دوني فعيناي تهملُ

    فدعاه صلى الله عليه وسلم، وأخذ بتلابيب ثوبه، وقال: {أنت ومالك لأبيك} عقوق الوالدين قضية تحتاج إلى كلام طويل ليس هذا وقته.

    المراكز الصيفية

    السؤال: ما رأيك بالمراكز الصيفية التي يقيمها الشباب الصالح؟

    الجواب: المراكز الصيفية غالبها بل جلها من أحسن ما ينفع الشباب المسلم، لكن المراكز تختلف باختلاف القائمين عليها، ويقصد من هذه المراكز جمع الشباب واستغلال أوقاتهم التي تضيع في العطل الصيفية، وردهم إلى كتاب الله عز وجل وتفقيههم في الدين، فهي من أحسن ما يمكن، واجتماع الشباب في مثل هذه المراكز قوة ونصرة وهداية ورحمة من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وبالذكر على المناسبة يشكو بعض الناس أن هناك نقصاً في الوعظ، وإنما النقص فينا نحن، والذنوب ذنوبنا، والقائمون على المراكز الصيفية من أصلح الشباب الذين أعرف، وهم من أجدى الشباب وأفقههم في الدين والدعوة، وما أقام هذه الصحوة الإسلامية -صحوة الشباب- إلا شباب، ولذلك تجد ولله الحمد ألوفاً مؤلفة من الشباب في العالم الإسلامي، لا أقول: في هذه البلاد فحسب بل في العالم الإسلامي، يقود صحوتهم شباب متقون هادئون، عندهم أصول الوعظ، وعندهم فقه في الدين، وعندهم إدارك ومعرفة، وهذا بحمد الله موجود، بل الصحوة في المدن أكثر من القرى، ولذلك تجد بعض المساجد صفوفها مكتظة بالشباب الذين هم على هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ووجوههم تلمع ضياءً ونوراً وخيراً وبركة، فأنا أنصح بهذه المراكز، إذ أنها أحفظ لوقتك، وأن تشارك فيها، وأن تستغل فيها وقتك، وأن تجعل ابنك فيها، أو أخاك أو من يعز عليك؛ لأنه حفظٌ له، وأولى له من المقاهي والمنتزهات ورفقة السوء الذين يعطلون عنه مسيرته إلى الله.

    من تيمم ثم صلى ثم وجد الماء

    السؤال: إذا صلى الإنسان بالتيمم ثم وجد الماء بعد الصلاة هل يعيد؟

    الجواب: هذه المسألة فيها تفصيل، إن كان وجد ماء وهو في الوقت قبل أن يصلي فعليه وجوباً أن يتوضأ بهذا الماء، إذا لم يكن عنده مانع من مرض، كجرح يمنعه أو خوف من مكان الماء، كأن كان بينه وبين الماء شيء من مخافة، كثعبان أو عدو صائل، فعليه إن لم تكن هذه العوارض أن يتوضأ بهذا الماء وجوباً، وإذا تيمم وترك الماء وهو يرى الماء بعينه، فصلاته باطلة بالتيمم، أما إذا تيمم وصلى، ثم ذهب ووجد الماء، وهو في الوقت، فإن شاء أعاد، وإن شاء يكفيه التيمم الأول والصلاة الأولى، هذا هو الصحيح، وإذا تيمم وصلى وخرج الوقت، ثم وجد الماء، فلا يجوز له أن يعيد، وما قال بالإعادة أحد، إذا خرج الوقت وقد تيمم وصلى ثم وجد الماء، فبالإجماع أن صلاته صحيحه.

    الكتب المؤلفة في قصص الأنبياء

    السؤال: أريد مرجعاً صحيحاً لقصص الأنبياء؟

    الجواب: أعظم مرجع صحيح لقصص الأنبياء هو كتاب الله عز وجل قال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف:3] مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى [يوسف:111] فقصص الأنبياء حفل بها القرآن، وامتلأ بها كتاب الله عز وجل، ثم تفسير ابن كثير قص من قصص الأنبياء الشيء العجيب، ثم كتاب البداية والنهاية ففيه مجلد كامل من أوله تكلم عن قصص الأنبياء وترجم لكل نبي، ثم كتاب قصص الأنبياء لـابن كثير، وكتاب قصص النبيين وتاريخ ابن جرير، والتواريخ في الجملة سوف تلقى ما يكفيك بإذن الله ويرضيك.

    حكم الدف والطبل

    السؤال: ما حكم الدف والطبل؟

    الجواب: أما الدف فهو جائز للنساء في الأعراس، بشرط أن يكن في مكان منفصل، لا يختلطن بالرجال، والرسول صلى الله عليه وسلم أباح لهن الدف، قال كما في سنن أبي داود: {أعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالدف} وقال لـعائشة: {هل عندكم شيء من اللهو؟ -أي من الطرب في الزواج للنساء- فإن الأنصار يعجبهم اللهو} فلا بأس بالدف للنساء، بشرط أن يكن في مكان منفصل عن الرجال يرقصن وينشدن، ويتناشدن الأشعار، أما العود والوتر والناي والموسيقى فلا يجوز، لأن هذا زيادة على ما جاء به النص عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما الدف للرجال فما أعلم فيه أنه جائز، وأنا أتوقف في مسألة الدف للرجال، وإنما أفتي بما علمت من الحديث أنه يجوز للنساء وأنه لا بأس به، لكن إذا زاد على الدف فلا يجوز.

    حكم مكبرات الصوت للنساء

    السؤال: هل يجوز استخدام مكبرات الصوت للنساء؟

    الجواب: صوت المرأة عورة، ولا يجوز للمرأة أن ترفع صوتها، ولا يستخدم المكبرات للنساء في الأعراس، بل يتناشدن بالقصائد والأشعار، ويرقصن في مكان بحيث لا يسمع صوتهن الأجانب، أما إذا ارتفع الصوت فإن ذلك منكر ينهى عنه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755925101