إسلام ويب

طريق التوبةللشيخ : أحمد فريد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن العبد في هذه الحياة بحاجة إلى التوبة في كل وقت، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوب في اليوم مائة مرة، والتوبة قد أمر الله بها جميع الناس، وحثهم عليها وهو سبحانه يفرح بتوبة عبده ورجوعه إليه، والمسلم يستعد للقاء الله سبحانه بالتوبة النصوح التي يكون فيها صادقاً مع الله حتى يقبل عند ربه سبحانه.

    1.   

    الحث على المبادرة بالتوبة

    الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية، المتعزز بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالم بآجالها، العالم بتقلبها وأحوالها، المان عليهم بتوافر آلائه، والمتفضل عليهم بسوابغ نعمائه، الذي خلق الخلق حين أراد بلا معين ولا مشير، وأنشأ البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير، فمضت فيهم بقدرته مشيئته، ونفذت فيهم بحكمته إرادته، وألهمهم حسن الأخلاق، وركب فيهم تشعب الأخلاق، فهم على طبقات أقدارهم يمشون، وفيما قضي وقدر عليهم يهيمون، وكل حزب بما لديهم فرحون.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومن لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، وقد ترك أمته على الواضحة الغراء والمحجة البيضاء، وسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:42]، فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه كما وحد الله عز وجل وعرفنا به ودعا إليه.

    ثم أما بعد:

    عباد الله! قال بعضهم: المعاصي سلسلة في عنق العاصي لا يفكه منها إلا الاستغفار والتوبة.

    وقال بعضهم: أرقهم قلوباً أقلهم ذنوباً.

    وقال بعضهم: ترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة.

    عباد الله! مصيبتنا في التفريط واحدة:

    إنا ليجمعنا البكاء وكلنا يبكي على شجن من الأشجان

    نحن في شهر ليس شهر الصيام والقيام والقرآن فحسب، ولكنه شهر التوبة وشهر الرجوع إلى الله عز وجل؛ لأنه شهر تفتح فيه أبواب السماء، وتفتح فيه أبواب الرحمة، وتفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النيران، وتسلسل فيه الشياطين، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل! ويا باغي الشر أقصر.

    ثم إن النفس تنكسر بالصيام، ويطوع الصيام النفس الأمارة بالسوء للنفس المطمئنة، فمن لم يستطع قهر نفسه في رمضان، ومن لم يستطع أن يلزم نفسه تقوى الله عز وجل وطاعة الله عز وجل في رمضان فمتى يستطيع أن يقهر نفسه؟! ومتى يستطيع أن ينتصر على نفسه؟! ومتى يستطيع أن يطوع نفسه لله عز وجل؟!

    والتوبة باب مفتوح بين العبد وبين ربه، فتح الله عز وجل هذا الباب العظيم، ودعا كل الناس للولوج من هذا الباب، فدعا الله للولوج من هذا الباب كل طوائف البشر، دعا الله عز وجل المنافقين، ودعا الله عز وجل المشركين، ودعا الله عز وجل اليهود والنصارى، ودعا الله عز وجل المسرفين على أنفسهم من أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كما دعا الله عز وجل المؤمنين الصالحين، دعا الله عز وجل كل العباد للدخول من باب التوبة، فدعا إلى ذلك المنافقين فقال عز وجل: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:145-146].

    ودعا المشركين فقال: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، وقال: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11].

    كما دعا الله عز وجل اليهود والنصارى فقال: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73].. الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181].

    والذين قالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة:64]، فقال عز وجل بعد أن ذكر حالهم: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:74].

    كما دعا الله عز وجل إلى التوبة المسرفين على أنفسهم من أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقال: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].

    كما دعا الله عز وجل المؤمنين الصادقين، فنزل قول الله عز وجل: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، فهذه آية مدنية -أي: نزلت بعد الهجرة- أمر الله عز وجل فيها الصحابة الكرام بالتوبة بعد الإيمان والهجرة والجهاد والصبر، وعلق فلاحهم بالتوبة، فقال: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، فلا يرجو الفلاح إلا التائبون.

    وقال عز وجل: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11]، فقسم الله عز وجل الناس إلى تائب وظالم.

    قال بعض السلف: توبوا إلى الله عز وجل صباحاً ومساءً؛ فإن الله عز وجل يقول: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11].

    وأخبر الله عز وجل عن توبته على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم، فقال عز وجل: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:117].

    فطريق التوبة هو طريق الجنة، والله عز وجل يتوب على العبد أولاً فيتوب العبد، ثم يتوب الله عز وجل عليه توبة ثانية، فتوبة العبد محفوفة بتوبة من الله عز وجل، توبة إذن وتوفيق، يأذن الله عز وجل للعبد في التوبة ويعينه على التوبة، ويوفقه للتوبة فيتوب العبد فيقبل الرب عز وجل توبته، ويمحو حوبته، قال عز وجل: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا [التوبة:118]، فنسأل الله عز وجل أن يوفقنا للتوبة، وأن يفتح لنا باب التوبة.

    1.   

    شروط التوبة

    والتوبة لها شروط ستة:

    الشرط الأول: أن تكون خالصة لله عز وجل؛ فإن التوبة عبادة، بل هي من أحب العبادات إلى الله عز وجل، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222].

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه راحلته، فأيس منها، فأتى شجرة فجلس في ظلها، وقال: أجلس هنا حتى أموت..).

    والدابة والراحلة عليها طعامه وشرابه عليها أسباب الحياة: (وهو في أرض صحراء مهلكة، فبينما هو كذلك إذا هو بها أمامه فأمسك بخطامها وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح).

    فالتوبة عبادة تفتقر إلى ما تفتقر إليه سائر العبادات من الإخلاص لله عز وجل.

    الشرط الثاني: أن يقلع العبد عن الذنوب، فتستحيل التوبة مع المداومة على مقارفة الذنوب.

    الشرط الثالث: أن يندم على فعلها، والندم توبة، والذنب إما أن يحرق بنار الندم في الدنيا، أو يحرق بنار الآخرة.

    الشرط الرابع: أن يعزم على ألا يعود. وقال بعض العلماء: إن عاد إلى الذنب مرة ثانية تبين بأن توبته ليست صادقة.

    والصحيح أن العزم على عدم العودة هو شرط التوبة وليس الشرط عدم العودة؛ لأنه كم من محب للصحة يأكل ما يضره.

    وقيل للحسن : الرجل يعمل الذنب فيستغفر ثم يعود؟ فقال الحسن : ود الشيطان لو ظفر منكم بهذه، فلا تملوا من الاستغفار.

    أي: أن العبد لو عزم على عدم العودة إلى الذنب ثم عاد إليه مرة ثانية، ثم علم أن الله لن يقبل توبته؛ لأنه عاد إلى الذنب لكان هذا يأساً من رحمة الله عز وجل، ولم يكن للعبد عند ذلك إلا سبيل الشيطان وسبيل المعاصي، فينبغي أن يعزم العبد عزماً أكيداً على عدم العودة.

    الشرط الخامس: رد المظالم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات)، لا يكون التعامل بالعملة الصعبة، لا بالريال السعودي، ولا بالدولار، ولكن بالحسنات والسيئات في وقت لا يستطيع العبد أن يزيد في حسناته حسنة، ولا أن ينقص من سيئاته سيئة، فينبغي أن يرد العبد المظالم إلى أهلها، (من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم من قبل ألا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات).

    الشرط السادس: أن تقع التوبة في الوقت الذي تقبل فيه التوبة، قبل إغلاق باب التوبة، ويغلق باب التوبة على الخلق كلهم إذا طلعت الشمس من مغربها، فإذا جاء: بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا[الأنعام:158].

    وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها).

    وهي علامة كبرى من علامات الساعة، فإذا طلعت الشمس من مغربها أراد الناس كلهم التوبة، إذا رأوا الشمس تشرق من جهة المغرب فهذه علامة على اختلال النظام الكوني، وعلى قرب قيام الساعة، ولكن يغلق عند ذلك باب التوبة، ثم تخرج دابة من الأرض تكلم الناس، وتسم المؤمن على جبهته بأنه مؤمن، وتسم الكافر بأنه كافر، فمن لم يدخل في الإيمان قبل طلوع الشمس من مغربها وقبل خروج دابة الأرض لا ينفعه الإيمان؛ لأن باب التوبة قد أغلق، باب التوبة الذي يظل مفتوحاً للخلق كلهم طوال الحياة الدنيا يغلق، وعند ذلك، لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا[الأنعام:158].

    كذلك يغلق باب التوبة أمام كل عبد إذا بلغت روحه الحلقوم، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، ما لم يصل إلى الغرغرة وإلى الحشرجة، فيظل العبد في غيه وفي إعراضه وفي معاصيه، ويسوف بالتوبة ويؤجل التوبة، وأكثر الناس يطلبون التوبة في الوقت الذي يغلق فيه باب التوبة: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ[النساء:18]، فسوى الله عز وجل بين من لم يتب عند موته وبين من يموت على غير توبة، فقال: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ[النساء:18].

    وهذا فرعون أراد التوبة عندما عاين الغرق فقال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ[يونس:90]، فرد الله عز وجل عليه فقال: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يونس:91-92]، فأكثر الخلق عباد الله يؤجل التوبة، ويسوف بالتوبة، ولا يطلب التوبة إلا في الوقت الذي يغلق فيه باب التوبة.

    قال الحسن في قول الله عز وجل: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ[سبأ:54] قال: حيل بينهم وبين التوبة حين سألوها.

    وقال بعض السلف: ابن آدم! لا يجتمع عليك خصلتان سكرة الموت وحسرة الفوت. أي: لا تجتمع عليك مصيبتان: سكرات الموت الشديدة التي تكاد تذهب العقول من شدتها وكربها، وحسرة فوت التوبة، فالبدار البدار إلى التوبة قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان عملاً يجاوز الأمر فيه مجهود الأطباء واختبارهم، فلا ينفع بعد ذلك نصح الناصحين ووعظ الواعظين، وتحق الكلمة عليه أنه من أصحاب الجحيم.

    التوبة التوبة! قبل أن يأتيكم من الموت النوبة، فلا تحصلوا إلا على الخسران والخيبة.

    الإنابة الإنابة! قبل غلق باب الإجابة.

    الإفاقة الإفاقة! فقد قرب وقت الفاقة.

    1.   

    علامات فساد التوبة وعلامات صحتها

    هناك علامات للتهمة في التوبة، وعلامات لصحة التوبة، فمن علامات التهمة:

    - استمرار الغفلة وانتكاس القلب إلى الذنب الفينة بعد الفينة، وتذكر حلاوة مواقعته.

    - ومن ذلك: ألا يستحدث العبد أعمالاً صالحة بعد التوبة، فإذا وجد العبد في توبته هذه العلامات؛ فإنه يشك في توبته، وينبغي أن يعلم أن توبته تحتاج إلى توبة.

    - ومن ذلك: طمأنينة النفس، فكأنه قد علم بأن توبته قد قبلت، وأن حوبته قد محيت، ولم يبق إلا أن تقوم القيامة حتى يعطى منشوراً بالأمان، فهذه علامات التهمة.

    وأما علامات صحة التوبة فمنها: أن يستحدث العبد أعمالاً صالحة بعد التوبة، فهي التي تصدق التوبة وتشير إلى أن التوبة كانت توبة صادقة، قال عز وجل وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا [الفرقان:71]، أي: توبة صادقة وتوبة صحيحة.

    ومن ذلك: أن يظل العبد على الخوف حتى تنزل عليه الرسل بقول الله عز وجل: أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30].

    فهناك يزول خوفه، فإنما يقال ذلك لمن طال خوفه في الدنيا، وعظم حزنه على ما فرط منه، أما من لم يخف الله عز وجل، ومن لم يحزن على ما فرط منه فلا يقال له شيء من ذلك.

    من علامات الصحة كذلك: أن يتقطع قلب العبد خوفاً من الله عز وجل، قال الله عز وجل: لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ [التوبة:110].

    قال سفيان بن عيينة تقطعها بالتوبة، ومن لم يتقطع قلبه بالتوبة في الدنيا تقطع قلبه إذا عاين الحقائق، وإذا عاين ثواب المطيعين وعقاب العاصين.

    ومن علامات الصحة كذلك: كسرة تصيب قلب العبد فتتطرحه على باب الله عز وجل ذليلاً، ويكون حاله كحال عبدا أبق وهرب من سيده بعد كثرة جناياته ومخالفاته، فأحيط به وأعيد إلى سيده وهو يعلم أنه لا حياة له، ولا سعادة له إلا في طاعة سيده، وهو لا يستغني عن سيده طرفة عين، فلله ما أحلى قوله عند ذلك:

    أسألك بقوتك وضعفي إلا رحمتني، أسألك بغناك عني وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير وليس لي سيد سواك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخائف الضرير، يا من ذل لك قلبه، وخشعت لك جوارحه:

    يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره

    لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

    1.   

    أقسام الناس في التوبة

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    الناس في التوبة على أقسام: فمن الناس من لا يوفق لتوبة، فيحيا حياته كلها لا يوفق للحظة صدق واحدة مع الله عز وجل ومع نفسه فيتذكر ذنوبه، ويتوب إلى الله عز وجل، ويرجع إلى الله عز وجل ويستقيم على طاعة الله عز وجل.

    فهو لا يعرف لماذا خلق؟! وما هي الوظيفة التي أنيطت به؟ ولا يعرف إلا المعاصي والشهوات، فهو يأكل من أجل أن يعيش، ويعيش من أجل أن يأكل، لا هدف له في حياته، لا يعبد الله عز وجل بأمره ونهيه، ولا يسعى لإعزاز دين الله عز وجل ورفع راية الله عز وجل، فيحيا في الدنيا حياة البهائم، كما قال عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد:12].

    لعله ما دخل في حياته كلها بيت الله عز وجل، بل لعله لا يدخل إلا مرة واحدة، ولا يدخل على قدميه ولكن محمولاً على خشبته، ولا يدخل من أجل أن يصلي، بل من أجل أن يصلى عليه، فهذا الدخول لا ينفعه؛ لأنه ما دخل بإرادته، كما إذا وجهوه بعد موته إلى القبلة لا ينفعه كذلك؛ لأنه كان في حياته إلى غير القبلة، كان لا يتوجه للقبلة في حياته، فكيف ينفعه إذا مات أن يوجه إلى القبلة وهو بغير إرادة؟! وهو ما توجه إلى قبلة الله عز وجل بإرادته، فكيف ينفعه أن يوجه إلى القبلة بعد موته؟!

    فهؤلاء لا يحيون الحياة التي يحبها الله عز وجل، والتي يريدها الله عز وجل لهم، بل يعيشون حياة البهائم، لم يكونوا في الدنيا جمادات لا تحس، فكذلك في الآخرة، قال عز وجل: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ[إبراهيم:17]، يأتيه الهلاك والعطب والبوار والدمار من كل مكان وما هو بميت.

    وأين يذهب وهو في دار القرار؟

    ولمن يترك هذا العذاب الذي قد تسبب فيه؟

    فالذين يصدون عن سبيل الله عز وجل، والذين يحاربون أولياء الله عز وجل، والذين يشيعون الفواحش في بلاد المسلمين، والذين يعرضون عن طاعة رب العالمين يقولون يوم القيامة كما أخبر الله عز وجل عنهم: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا[الأحزاب:66]، يندمون حين لا ينفع الندم، ويطلبون الاستدراك في وقت العدم: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ[فاطر:37].

    فالعبد يندم حين لا تنفع الندامة، ويطلب الرجوع إلى الدنيا وقد فنيت الدنيا، ولم يبق إلا ما بعد يوم القيامة، فينبغي للعاقل أن ينتبه لنفسه، وأن يفكر في أحواله، وأن يقف مع نفسه لحظة صدق.. هل هو مؤمن بالله عز وجل.. مؤمن بالآخرة؟

    لحظة واحدة قد تكون سبباً للسعادة الأبدية في جنة الله عز وجل، لحظة صدق واحدة يجلس فيها العبد مع نفسه ويتفكر في ذنوبه السالفة وجناياته الماضية، فيصلح الماضي كله بتوبة يتوب فيها إلى الله عز وجل، ويصلح الحاضر بعمل صالح ويصلح مستقبلة بالعزيمة على الاستمرار على طاعة الله عز وجل.

    ومن لم يعتبر بغيره صار عبرة لغيره، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من وعظ بنفسه وصار عبرة لغيره.

    هذه حالة الأشقياء، وهي حالة أكثر الخلق، فأكثر الخلق معرضون عن طاعة الله، معرضون عن شريعة الله عز وجل، مستمرون على معصية الله عز وجل، يقولون سوف نتوب، وهذا التسويف يطول بهم، فلا يفيقون عباد الله إلا وهم في عسكر الموتى، نادمين بين الخاسرين، فينبغي على العبد أن يستدرك ما فات، وأن يرجع إلى رب الأرض والسماوات.

    كثيراً ما يموت أهل المعاصي وهم متلبسون بمعاصيهم، فيكون ذلك خزياً لهم في الدنيا مع خزي الآخرة وعذاب الآخرة، وكثيراً ما يحدث ذلك لشارب الخمر.

    أتأمن أيها السكران جهلاً بأن تفجأك في السكر المنيه

    فتضحي عبرة للناس طراً وتلقى الله من شر البريه

    هذه حالة الأشقياء عباد الله! أن يستمر العبد على المعاصي والذنوب حتى يرجع إلى الله عز وجل ولا يكون له حيلة ولا وسيلة، إن الذي يخسر شيئاً من ماله يتحسر عليه، والذي يخسر بعض أولاده يحزن على ذلك ويتحسر، والذي يفقد بعض أعضائه يتحسر على ذلك،فيكف إذا خسر العبد نفسه؟وكيف إذا كان نصيبه النار؟

    خسروا أنفسهم فصاروا في النار خالدين فيها ، لا ينفعهم جاههم، ولا ينفعهم مالهم ولا تنفعهم عشيرتهم، ولا ينفعهم شيء من الدنيا، ولو ملك ملء الأرض ذهباً وأرد أن يفدي نفسه بذلك ما قبل منه، لا يقبل منه ملء الأرض ذهباً ولو أفتدى به، وكان يسهل عليه في الدنيا أن يسلك طريق الله عز وجل، وأن يستقيم على شرع الله عز وجل، وأن يندم من الذنوب السالفة، وأن يستمر على طاعة الله عز وجل، فينال سعادة الدنيا والآخرة.

    الطبقة الثانية: وهو من يعمل بطاعة الله عز وجل زماناً من عمره، وبرهة من دهره، ثم ينقلب لعلم الله عز وجل فيه، فيعمل بمعصية الله عز وجل ويموت على ذلك.

    ما أصعب العمى بعد البصيرة، وأصعب منه الضلالة بعد الهدى، والمعصية بعد التقى، كم من وجوه خاشعة وقع على قصص أعمالها عاملة ناصبة، تصلى ناراً حامية!

    كم من قارب مركبه ساحل النجاة، فلما هم أن يرتقيه لعب به موج فغرق.

    كل العباد تحت هذا الخطر: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء).

    ليس العجب ممن هلك كيف هلك إنما العجب ممن نجا كيف نجا؟!

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فوالذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها).

    وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها: إن الرجل ليعمل زماناً بعمل أهل الجنة وهو من أهل النار.

    فنعوذ بالله عز وجل من هذه الحال، نعوذ بالله عز وجل من السلب بعد العطاء، ومن الحور بعد الكور.

    الصنف الثالث: من يعمل زماناً من عمره بمعصية الله عز وجل ثم يوفق لتوبة نصوح، فيعمل بطاعة الله عز وجل ويموت على ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، وهذا أكثر من الصنف السابق؛ لأن الله عز وجل قد سبقت رحمته غضبه.

    كثير من الناس يتوب قبل موته، ويعمل بطاعة الله عز وجل ويموت على ذلك، وهم على طبقتين:

    من الناس من يتوب قبل موته بمدة مديدة تؤهله للوصول إلى الدرجات، ومنهم من يتوب قبل موته بمدة يسيرة، فحسبه أن يدخل الجنات، وأن ينجو من اللفحات.

    وبقي قسم وهو أشرف الأقسام وأعظمها، وحال هي أشرف الأحوال وأحسنها، وهي حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أن يعمل العبد عمره كله بطاعة الله عز وجل، ثم ينبه إلى قرب أجله، فيجتهد في الطاعة والعبادة والعمل الصالح حتى يموت على عمل يصلح للقاء، فهذه حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لما نزلت: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3]، فنعت هذه السورة العظيمة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، وأخبره الله عز وجل أنه إذا فتح عليه أم القرى، وإذا دخل الناس في دين الله أفواجاً، فهذه علامة بين الحبيب وحبيبه، على أن حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم قد أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح للأمة وكشف الله عز وجل به الغمة، فعليه أن يستعد للقاء الله عز وجل، والاستعداد يكون بمزيد من العمل الصالح: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا[النصر:3].

    فكان النبي صلى الله عليه وسلم أشد ما يكون اجتهاداً في أمر الآخرة، وكان لا يقوم ولا يقعد إلا قال: سبحان الله العظيم وبحمده، يتأول القرآن.

    وكان يعتكف كل سنة عشراً، فاعتكف في السنة الأخيرة من عمره عشرين ليلة.

    وكان يعارضه جبريل القرآن مرة في العام، فعارضه في العام الأخير القرآن مرتين.

    أسر إلى فاطمة سيدة نساء الأمة بحديث فبكت فاطمة رضي الله عنها، ثم أسر لها بحديث آخر فضحكت، فسألها أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عما أسر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لما لحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى قالت بأنه أسر إليها أولاً: (بأن جبريل كان يعارضه القرآن مرة وأنه عارضه في هذه السنة مرتين، قال: وما أظن ذلك إلا لقرب أجلي).

    فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن أجله قد اقترب، فإن هذه إشارة من الله عز وجل فبكت فاطمة رضي الله عنها، ثم أسر إليها بأنها أول أهله لحوقاً به فضحكت رضي الله عنها، ولحقت به بعد ستة أشهر، وكان ذلك علماً من أعلام النبوة.

    خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ذي الحجة من السنة العاشرة من الهجرة، وخرج المسلمون، وكانوا من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله مد البصر, وقال: (خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) ،والترجي في كلام الله عز وجل أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم على القطع على عادة الملوك.

    واستشهد الناس على أنفسهم وقال: (اللهم هل بلغت؟ ويرفع إصبعه الشريفة إلى السماء، وينكسها إلى الناس ويقول اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد).

    ونحن نشهد أنه قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته.

    ولما كان في طريق عودته إلى المدينة خطب الناس وقال: (إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب) .

    وجلس على المنبر قبل الوفاة النبوية بأسبوعين فقال: (إن عبداً خيره الله عز وجل بين زهرة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله) ، فلم يفهم أحد من الصحابة هذه الإشارة إلا صديقه الحميم: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ[التوبة:40]، وكان أعلم الناس بمقاصد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (بل نفديك يا رسول الله بآبائنا وأمهاتنا، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يثني على أبي بكر

    ويقول: إن من أمن الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر

    ، ولو كنت متخذاً من البشر خليلاً لاتخذت أبا بكر

    خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله
    ).

    والخليل لا يكون إلا واحداً، فالله عز وجل اتخذ محمداً خليلاً، كما تخذ إبراهيم خليلاً.

    فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض بقرب أجله، ودع معاذاً إلى اليمن، ومعاذ راكب على الراحلة والرسول الله صلى الله عليه وسلم يسير على قدميه ويقول لـمعاذ : (لعلك تأتي فلا تجدني، ولعلك تأتي إلى قبري أو إلى مسجدي) ، فيبكي معاذ لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا كان سيد المحسنين يؤمر بأن يزيد في إحسانه فكيف يكون حال المسيء؟ يقولون: بأن الرجل إذا شاب فهو كالحامل التي قد أتمت شهور حملها تسعة أشهر، لا تنتظر إلا الولادة، فالشاب يقول: لعلي أكبر في السن أو أشيب، ولعلي أموت، أما من شاب فهو كالحامل التي قد أتمت شهور حملها تسعة أشهر، لا تنتظر إلا الولادة. تقول التوبة للشاب أهلاً ومرحباً، وتقول للشيخ: نقبلك على ما كان منك.

    الشاب قد ترك المعصية مع قوة الداعي إليها، والشيخ قد ضعف هذا الداعي عنده، لا يستويان، ولكن الشيب يشفع له يوم القيامة.

    إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار

    وأنت يا سيدي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقني من النار

    فقد يشفع فيه الشيب عند الله عز وجل. وكذلك إذا جاءه النذير. قيل: النذير هو الشيب. وقيل النذير هو المرض، فقد يمرض العبد -نسأل الله عز وجل العافية- بمرض يعلم أنه مرض الموت، فعند ذلك ينبغي عليه أن يجتهد في طاعة الله عز وجل، كما مرضت إحدى الصالحات بمرض خبيث فعزمت على أن تلقى الله عز وجل وهي تختم القرآن فختمت القرآن قبل موتها.

    هكذا فعل الصالحين، إذا جاءهم النذير، وإذا كان هناك علامة على قرب أجلهم يجتهدون في الطاعة والعبادة والعمل الصالح حتى يموتون على عمل يصلح للقاء.

    أيها العاصي! ما يخفى من صلاحك الطمع، ما نصبنا اليوم شرك المواعظ إلا لتقع، فإذا خرجت من المجلس وأنت عازم على التوبة فقال لك رفقاؤك في المعصية: هلم إلينا. فقل لهم: كلا، ذاك خمر الهوى الذي قد عهدتموه قد استحال خلا.

    يا من سود كتابه بالسيئات أما آن لك بالتوبة أن تمحو؟ يا سكران القلب بالشهوات أما آن لفؤادك أن يصحو؟ اللهم إنا نسألك توبة نصوحاً، اللهم اقبل صيامنا وقيامنا وقراءتنا ودعاءنا وتوبتنا يا رب العالمين! اللهم بارك لنا في ساعات هذا الشهر الكريم، اللهم بارك لنا في ليله ونهاره، في أبكاره وفي أسحاره، في كل ساعة من ساعاته، ووفقنا في كل وقت لطاعة تحبها. اللهم اجعل هذا الشهر الكريم شهر عز ونصر ورفعة للمؤمنين، وقد عودت المؤمنين بالانتصارات في هذا الشهر الكريم يا رب العالمين! اللهم لا تحرمنا خيرك لشر ما عندنا، واغفر لنا ذنوبنا يا رب العالمين! اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا.

    وصلى الله وسلم وبارك على محمداً وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756521674