إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. محمد حسن عبد الغفار
  5. سلسلة أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة
  6. شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الميزان - القبر - الحوض - الشفاعة

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الميزان - القبر - الحوض - الشفاعةللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من معتقد أهل السنة والجماعة الإيمان بحقيقة الميزان ونصبه يوم القيامة، وإثبات أن أعمال العباد توزن، ومن العباد من يرجح وزنه كالجبال، ومنهم من لا يزن جناح بعوضة على الحقيقة، كما يعتقدون بقبول الشفاعة العامة من الملائكة والنبيين والمؤمنين، واختصاص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالشفاعة العظمى لفصل القضاء وفتح أبواب الجنان لأهل الإيمان.

    1.   

    مجمل القول في الفرق بين صفات الله الذاتية والفعلية

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد:

    فما زلنا مع هذا التنسيق الجميل من الإمام الجليل اللالكائي في كتابه العظيم: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، ومن هذا التنسيق اقتداء بكتاب الله عز وجل، فطريقة تنسيقه للكتاب أنه ابتدأ بالمجمل ثم أتى بالتفصيل للتشويق، وهذا نجده في كثير من الأحكام في كتاب الله وعلا حيث يأتي بالإجمال ليشوق ثم بعد ذلك يفصل.

    وقبل أن نشرع في درس اليوم نذكر إجمالاً الفرق بين الصفات الذاتية، والصفات الفعلية.

    فنقول: الصفات الذاتية أزلية أبدية لا تنفك عن الله جل وعلا، بمعنى أنها غير متجددة.

    وأما الصفات الفعلية فهي صفات متجددة، أصلها ثابت لكنها متجددة.

    وضابط الصفات الفعلية أنه يصح لك قبل الصفة أن تقول: (إن شاء) بمعنى إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وإن شاء استوى، وإن شاء لم يستو.. إن شاء جاء وإن شاء لم يجئ.. إن شاء ضحك وإن شاء لم يضحك.. إن شاء رحم وإن شاء لم يرحم، فكل هذه الصفات من الرحمة والمجيء والاستواء هي صفات فعلية؛ لأنه يصح أن نقول: إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، قال الله تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء:2]، فكل الصفات الفعلية أزلية الأصل متجددة الآحاد، فهي قديمة النوع حادثة الأفراد، يعني: أصلها ذاتي لكن أفرادها متجددة؛ لأن الله جل وعلا متكلم من الأزل لكن ما تكلم إلا وقتما شاء أن يتكلم، وهذا معنى أنها قديمة النوع حادثة الأفراد.

    وقال الله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10] هذه صفة ذاتية خبرية، وضابط الصفة الخبرية: هي ما لا يمكن للعقل أن يحيط بها ويكون مسماها عندنا أجزاء وأبعاض.

    قال الله تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14] الصفة هنا: العين، ونوعها: ذاتية خبرية.

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يضحك ربكم من عباده يقنطون والفرج يأتيهم)،الصفة هنا: الضحك، ونوعها: فعلية، فهو إن شاء ضحك وإن شاء لم يضحك.

    1.   

    تعريف السنة عند أهل العقيدة والمحدثين والفقهاء

    ذكر المصنف اعتقاد علي بن المديني قال رحمه الله: فقلت: أعزك الله السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقلها أو يؤمن بها لم يكن من أهلها، ثم قال: الإيمان بالقدر خيره وشره.

    السنة في اللغة: الطريقة.

    وفي الشرع لها تعاريف عند أهل الحديث، وعند أهل الأصول، وعند أهل الفقه، وعند أهل الاعتقاد.

    فالسنة عند أهل الحديث هي: كل ما نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خَلْقية ، أو صفة خُلُقية، ومثال القول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) ومثال الفعل: ما ثبت في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كبر رفع يديه حذو منكبيه) وأيضاً بعض الرواة وصف النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان إذا سجد يجنح في سجوده) يعني: يوسع بين يديه في السجود، أما ما يقع من ضم بعض الناس اليوم فهو خلاف السنة، والصحيح الراجح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوسع حتى جاء في بعض الروايات أنه لو مرت عنزة صغيرة لمرت، وهذه هي السنة في السجود.

    ومثال التقرير: أن النبي صلى الله عليه وسلم يرى حكماً أو يسمع حكماً فيقرره، كما ثبت أن جابراً قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل) فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقر الصحابة على العزل.

    أما الصفة الخَلْقية أو الخُلُقية فيندرج تحتها كل ما وصف به النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة.

    أما أهل الأصول فهم ينظرون إلى كيفية استنباط الحكم من الدليل فلذلك كان تعريف السنة عندهم: ما نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقريره، فقط. دون الصفة الخَلْقية والخُلُقية.

    أما أهل الفقه: فالسنة عندهم ما يكون مقابل الواجب، يعني: هي النافلة، والنافلة: هي خطاب الشارع للمكلفين لا على وجه اللزوم، وإنما على وجه الاستحباب.

    وحكمها أنه يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، فسنة الظهر -مثلاً- يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها.

    والسنة عند أهل العقيدة: ما كان مقابل البدعة. فالسنة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم.

    قال: السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقلها أو يؤمن بها لم يكن من أهلها ثم قال: الإيمان بالقدر خيره وشره، والتصديق بالأحاديث فيه والإيمان بها، لا يقال: لم ولا كيف؟ إنما هو التصديق بها والإيمان بها.

    كما قال الإمام الشافعي : آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد رسول الله، وهذا محض التسليم.

    ففي هذه المسائل لا يقال: لم ولا وكيف؟ صفات الله جل وعلا لا يقال: كيف؟ لأن الكيف عندنا فنفوض أمره إلى الله جل وعلا، والمعنى لا يفوض؛ لأن المعنى معلوم، والذين يفوضون المعنى هم المفوضة، فهم يقولون في السميع: لا نعلم عنه غير الألف واللام والسين والميم والياء والعين فقط.

    وهذا خلاف اعتقاد أهل السنة، فأهل السنة يعلمون المعنى، ولذلك من الكلام المشهور عن مالك أنه سئل عن الاستواء فقال: الاستواء معلوم -أي: في اللغة-، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، لذا المعنى لا يفوض وإنما الكيفية هي التي تفوض، أما في الأحكام فلا نقول: لم؟ في الأحكام التي غابت عنا.

    1.   

    الإيمان بالميزان يوم القيامة

    قال: والإيمان بالميزان يوم القيامة، يوزن العبد ولا يزن جناح بعوضة، وتوزن أعمال العباد كما جاءت به الآثار، قال: الإيمان به والتصديق، والإعراض عمن رد ذلك وترك مجادلته.

    الإيمان بالميزان على حقيقته قال الله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء:47] .

    فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [القارعة:6]، وقال: وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ [القارعة:8]، واختلف العلماء ما الذي يوزن يوم القيامة عمل العبد أم العبد أم الصحائف والسجلات؟

    والصحيح الراجح: أن الأعمال والعباد والصحائف كلها توزن يوم القيامة، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بالنسبة للأعمال: (كلمتان خفيفتان على اللسان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) ومن استشكل عليه أن يجسم الأمر المعنوي ويوضع في الميزان، فنقول له: ألم يأتكم نبأ الموت كيف أن الله جل وعلا يكيفه كبشاً على عرصات القيامة ثم ينادي المنادي: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، وينادي أهل النار فيشرئبون وينظرون فيذبح الموت أمامهم فيقال: (يا أهل الجنة خلود بلا موت -اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين- ويقال: يا أهل النار خلود بلا موت) نعوذ بالله من ذلك.

    أيضاً هذه الكلمات وهذه الأعمال تسجل يوم القيامة وتوزن في الميزان، وكذلك العباد يوزنون يوم القيامة، ودليل ذلك من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الفاجر الكافر الفاسق: (يأتي يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة) نعوذ بالله من ذلك.

    وأيضاً: ورد في السنة أن الصحابة نظروا إلى دقة ساقي ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه فضحكوا من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يعني: (أتضحكون من دقة ساقيه؟ لهما في الميزان أثقل من جبل أحد)، فهذه دلالة على أن العبد سيوزن يوم القيامة، وأيضاً السجلات والصحائف ستوزن لما رواه أحمد في مسنده في حديث البطاقة، وفيه أن السجلات والمعاصي توزن، فإذا رأى المرء في نفسه أنه قد هلك يؤتى بالبطاقة فيها لا إله إلا الله فتطيش هذه البطاقة بكل السجلات.

    1.   

    الإيمان بتكليم الله للعباد يوم القيامة

    قال: وإن الله عز وجل يكلم العباد يوم القيامة ويحاسبهم ليس بينهم وبينه ترجمان الإيمان بذلك والتصديق.

    فالله عز وجل. يتكلم، وكلام الله بصوت وحرف يسمع، ودليل ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله جل وعلا ينادي يوم القيامة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب فيقول: أنا الملك الديان) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    إثبات حوض النبي صلى الله عليه وسلم وشرب المؤمنين منه يوم القيامة

    قال: والإيمان بالحوض، وإن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حوضاً يوم القيامة ترد عليه أمته.

    الحوض: لغة: من حاض يحوض وهو تجميع الماء في مكان.

    وشرعاً: هو الماء الذي ينزل من نهر الكوثر في الجنة الذي أعطاه الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم، فينزل هذا الماء إلى الحوض، قال الله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1]، وهذا الحوض ميزة خاصة برسول الله، فالأنبياء لكل منهم حوض كما ورد في الأحاديث، لكن الحوض الذي ينزل ماؤه من الكوثر هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحوض وصفه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (طوله شهر، وعرضه شهر، وزواياه متساوية، وكيزانه كالنجوم، يشرب العبد منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً) وهذا يكون في عرصات القيامة.

    نسأل الله أن يسقينا من هذا الحوض من يد النبي صلى الله عليه وسلم، ونكون ممن قال الله فيهم: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21] .

    فمن أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة أنهم يعتقدون بهذا الحوض، وهذا الحوض يختلج أناس منه أمام النبي صلى الله عليه وسلم فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أي رب أمتي أمتي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) نعوذ بالله من البدع.

    1.   

    الإيمان بعذاب القبر وفتنته

    قال: والإيمان بعذاب القبر، وإن هذه الأمة تفتن في قبورها.

    من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة الإيمان بعذاب القبر، وإثبات عذاب القبر ثابت من الكتاب ومن السنة وإجماع الأمة.

    أما من الكتاب فقال الله تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة:21] اتفق المفسرون على أن العذاب الأدنى هو عذاب القبر، وقال الله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46].

    أما من السنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تفتنون في قبوركم) وكذلك الحديث المشهور الذي فيه أن الإنسان يسأل عن ربه ويسأل عن دينه ويسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    الإيمان بالشفاعة

    قال: والإيمان بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم.

    الشفاعة في اللغة: ضم الوتر للوتر فيكون شفعاً، أو ضم الواحد إلى الواحد فيكون شفعاً.

    أما الشفاعة في الشرع فهي: التوسط للغير بجلب منفعة، أو دفع مضرة، وهذه الشفاعة جاء القرآن فأثبتها ونفاها، فالشفاعة التي نفاها الله جل وعلا هي عن أهل الكفر، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ [البقرة:254] فهذه شفاعة منفية.

    وقال عن الكافرين: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء:100-101] فهذه الشفاعة المنفية عن الكفار.

    أما الشفاعة المثبتة فقد قيدها الله جل وعلا بقيدين وشرطين مهمين:

    الشرط الأول: الرضا عن المشفوع والإذن للشافع، قال الله تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28] .

    وقال جل وعلا: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255].

    والشفاعة على ستة أنواع: ثلاثة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، والباقية يشترك فيها الملائكة والأنبياء والمؤمنون.

    أما الثلاثة الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم فهي:

    الأولى: الشفاعة العظمى في عرصات القيامة: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2]، يأتي كل البشر -مما يجدونه من الكرب والرعب والشدة والرهبة- فيذهبون إلى كل نبي، فآدم يبعثهم إلى نوح، وكل نبي يرسلهم إلى من بعده، حتى تصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها أنا لها، فيذهب فيسجد عند العرش فيلهمه الله بمحامد تعلمها عند سجوده عند العرش، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، فيشفع في أن يحكم الله بين العباد).

    والشفاعة الثانية الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم هي شفاعته في دخول أهل الجنة الجنة، إذ لا يمكن لأحد أن يدخل الجنة إلا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، والملك الذي يقف ببابها يقول: (ما أمرت أن أفتح إلا لك).

    والشفاعة الثالثة الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم شفاعته في أهل الكفر، مع أنها شفاعة منفية، لكن هذه خصيصة للنبي صلى الله عليه وسلم، فيشفع في عمه أن يكون في ضحضاح من النار يغلي منه دماغه، ويظن أنه أشد الناس عذاباً يوم القيامة وهو أخفهم عذاباً.

    والشفاعة الرابعة: الشفاعة في أهل الكبائر ألا يدخلوا النار، وهذه الشفاعة وما بعدها يشترك فيها الأنبياء والملائكة والمؤمنون.

    والشفاعة الخامسة: الشفاعة فيمن دخلوا النار وأصبحوا حمماً أن يخرجوا منها.

    والشفاعة السادسة: رفع درجات المؤمنين من درجة إلى درجة. جعلنا الله منهم.

    1.   

    الإيمان بخروج الدجال وقتل عيسى بن مريم له في آخر الزمان

    قال: والإيمان بأن المسيح الدجال مكتوب بين عينيه كافر.

    أيضاً من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة الإيمان بـالمسيح الدجال وأنه موجود محبوس، خلافاً لبعض المعاصرين، ومنهم الفقيه الذي قل في الناس من وصل لفقهه، وهو الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، فهو يرد حديث مسلم الذي فيه أن المسيح الدجال موجود الآن، فيقول: نعتقد أن المسيح الدجال سيخرج وهو أشد فتنة وأشر فتنة، لكن لا يؤمن أنه موجود الآن، لكن نقول فيه كما قيل من قبل: شيخ الإسلام حبيب إلينا والحق أحب إلينا منه.

    فالحديث ثابت في صحيح مسلم من حديث تميم الداري الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم (حدثني تميم الداري بحديث أعجبني) وفيه بيان أنه موجود الآن ومحبوس بسلاسل وسيخرج، والمسيح الدجال أشد وأشر فتنة وأشر غائب ينتظر، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أمره وهو على المنبر، واحمر وجهه وانتفخت أوداجه حتى إن الصحابة من خوفهم ظنوا أنه خلف الشجرة، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رعبهم قال: (إن خرج وأنا فيكم فأنا حجيجه، فإن لم أكن فيكم فالله خليفتي على كل مسلم)، ثم وصفه وصفاً دقيقاً فقال صلى الله عليه وسلم: (هو أعور وربكم ليس بأعور، كأن عينه عنبة طافية) وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجوب الأرض شمالاً وجنوباً، وشرقاً وغرباً. فيقول للسماء: أمطري فتمطر، ويذهب إلى الخربة فيقول: أخرجي كنوزك فتخرج، ويأتيه الرجل فيقول له: أؤمن بك إذا أخرجت أبي وأمي، فينادي أباه وأمه من القبر فيخرجان، وهما لا يخرجان حقيقة وإنما يتمثل بعض الجن في صورتهما لفتنة الناس، ولن يستشرفه أحد إلا فتنه، إلا رجل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه خير الشباب في ذلك الوقت بعلمه وبصيرته يقول: أنت الدجال الذي وصفك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذرنا منه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً ما كان يقرأ ولا يكتب ولكن وصفه وصفاً دقيقاً فقال: (مكتوب بين عينيه (ك ف ر) يقرؤها الأمي والقارئ) .

    فحين يقول هذا الرجل الصالح هذا الكلام يقوم الدجال فيشقه ويمشي بين نصفيه، فيقول: أرأيتم لو أحييته تؤمنون بي؟ فيقولون: نعم. فينادي عليه فيقوم؛ فتنة لهؤلاء، والله يعلم من يصلح للفتنة فيوقعه فيها، والله عليم حكيم، ثم يقوم الرجل بعلمه ودقة نظره فيقول: أنت الدجال، والله ما ازددت فيك إلا بصيرة فلا يسلط عليه بعد ذلك؛ لأن الله جل وعلا حباه القدرة على أن يفعل ذلك الفعل مرة واحدة ولا يكرره فإذا ضربه بالسيف وضعت حلقة على رقبته فلا يقوى عليه.

    وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم منه، ونسأل الله جل وعلا ألا نعيش حتى ندركه؛ لأنه شر غائب ينتظر.

    ويبين النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أن عيسى ينزل فيقتله.

    والعجيب أن أهل الكتاب من يهود ونصارى، وأهل الإسلام كل منهم ينتظر المسيح، أما أهل الإسلام فينتظرون مسيح الهدى عيسى عليه الصلاة والسلام، الذي ينزل فيكسر الصليب ولا يقبل من النصارى الجزية بل الإسلام أو القتل، ويقتل الخنزير.

    وأما اليهود فينتظرون المسيح الذي بشر به موسى، فهم اتهموا مريم وأرادوا قتل عيسى، فهم ينتظرون المسيح الذي بشر به موسى عليه الصلاة والسلام، أما النصارى فهم ينتظرون عيسى الذي هو ربهم، والعياذ بالله.

    المهم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن عيسى عليه الصلاة والسلام سينزل على جناحي ملكين، وإذا بالناس قد اصطفوا للصلاة خلف المهدي، فإذا رأى المهدي عيسى عليه السلام تراجع إلى الخلف حتى يصلي عيسى بالناس -فهو نبي من أولي العزم من الرسل- فيقول: عيسى، إمامكم منكم، وهذا من تكريم الله لهذه الأمة، اللهم لك الحمد والشكر. اللهم اجعلنا من خيار هذه الأمة يا رب العالمين.

    فيطارد عيسى عليه الصلاة والسلام الدجال حتى يدركه عند باب لد فيقتله، وتبقى معه الفئة المؤمنة كما سنفصل بعد ذلك في أشراط الساعة.

    1.   

    عقيدة أهل السنة في السمع والطاعة لولي الأمر براً كان أو فاجراً

    قال: وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان بن عفان ، نقدم هؤلاء الثلاثة كما قدمهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يختلفوا في ذلك.

    ذكر أصحاب الشورى ثم أهل بدر، وكل ذلك شرحناه من قبل.

    ثم قال: ثم السمع والطاعة للأئمة وأمراء المؤمنين البر والفاجر، ومن ولي الخلافة بإجماع الناس ورضاهم.

    فإن المسلمين يلي أمرهم حاكمان: الحاكم الأول: من قد يلي أمر المسلمين بالمشورة أو بالاختيار.

    وهذا هو الذي قيل فيه: (خيار أئمتكم الذي تحبونهم ويحبونكم وتدعون لهم ويدعون لكم) ويحكمون بشرع الله والقسط.

    والحاكم الثاني: من غلب على أمر المسلمين بالسيف، وكل واحد منهما له السمع والطاعة بالقيد الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف) فالحاكم له السمع الطاعة، ولو كان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولو تأمر عليكم عبد حبشي أسود) أخرجه أحمد بن حنبل .

    ثم بين أنه لا يحل الخروج على إمام المسلمين براً كان أو فاجراً. ومسألة الخروج على الحاكم مسألة عظيمة ضل فيها كثير وزلت أقدام.

    والكلام فيها إجمالاً يتركز في نقاط:

    أولاً: هل يصح الخروج على الحاكم؟ الحاكم إما أن يكون حاكماً عادلاً مؤمناً تقياً ورعاً يحكم بين الناس بما أراه الله جل وعلا -أي: بشرع الله جل وعلا- فهو يقسط بينهم ويعدل بينهم، فهذا من خرج عليه يقتل؛ لأنه قد شق عصا الطاعة، فمن خرج على إمام عادل حكمه أنه يقتل لأنه شق عصا الطاعة.

    وإما أن يكون الحاكم ظالماً فاسقاً فهذا الحاكم أيضاً له السمع والطاعة، ومن خرج عليه فقد أتى ببدعة؛ لأن هذا ليس من اعتقاد أهل السنة والجماعة بل وزره أشد ما يكون؛ لأنه سيعيث في الأرض فساداً، لأن التأليب على الحاكم وعلى ولاة الأمور يجعل الفساد يستشري بين الناس، فالحاكم الظالم الفاسق لا يخرج عليه، لكن هذا الحاكم له أحوال ثلاثة:

    الحال الأول: أن يكون هذا الحاكم الظالم الفاسق ليس له شوكة وليس له منعة، وعندنا أهل الحل والعقد عندهم شوكة ومنعه فهؤلاء وجب عليهم أن يعزلوه وينصبوا مكانه الإمام العادل.

    الحال الثاني: أن يكون هذا الظالم الفاسق الإمام له شوكة ومنعة، لكن أهل الحل والعقد والمسلمون لهم شوكة ومنعة أقوى، ففئتهم أقوى من فئته.

    الحالة الثالثة: أن يكون الإمام الظالم معه شوكة ومنعة أقوى من شوكة المسلمين.

    فالصحيح أن الحاكم الظالم الفاسق أهل الحل والعقد هم الذين لهم حق التصرف معه فإن كان بإمكانهم عزله، والإتيان بالعادل مكانه فعلوا، وإلا لا يخرج عليه بحال من الأحوال، حتى وإن كان مع آحاد المسلمين شوكة ومنعة أكثر منه فلا يصح الخروج عليه، وهذا منهج أهل السنة والجماعة.

    أما الحاكم الثالث فهو الكافر، والكافر لا يولى على المسلمين، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه، قال الله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141] .

    لكن لو كان الحاكم مسلماً ثم فسق وظلم، بل وكفر وخرج من الملة فهذا له أحوال:

    الحال الأول: أن يكون ليس له شوكة ومنعة، فهذا أهل الحل والعقد يعزلونه ثم يستتيبونه فإن تاب وإلا قتل ردة.

    الحال الثاني: أن يكون له شوكة ومنعة، لكن المؤمنين والمسلمين عندهم شوكة ومنعة أقوى منه، فهذا وجب عليهم أن يخرجوا عليه ويقاتلوه حتى ينحوه ثم يستتيبونه فإن تاب وإلا قتل ردة.

    الحال الثالث: أن يكون له شوكة ومنعة وفي المسلمين ضعف فهذا لا يجوز الخروج عليه مع أنه كافر، والكافر لا يعلو على المسلم، لكن تغليباً لدفع المفسدة عن جلب المصلحة، وهذا الكلام دقيق جداً، فهذا الحاكم ارتد وردته ظاهرة عندنا من الله فيها برهان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنابذوهم إلا أن تروا كفراً بواحاً) فأنت رأيت الكفر البواح ورأيت الردة، كقول القائل من بعض الحكام: إن قطع يد السارق تخلف ورجعية. فهذا كفر وارتد أمامك، لكن مع ذلك لا تخرج عليه تغليباً لدرء المفسدة العظمى، وهي استئصال شأفة المسلمين.

    وجاء عن الشافعي أنه قال: لو كان في المسلمين ضعف لهم أن يدفعوا الجزية للنصارى وللكفار دفعاً للمفسدة العظمى التي تأتي على المسلمين باستئصال شأفتهم، فالصحيح الراجح: أنه إن لم يكن في المسلمين قوة، وارتد الحاكم بكفر بواح لنا فيه من الله برهان فلا يجوز الخروج عليه تغليباً لدرء المفسدة.

    1.   

    وجوب إقامة الحدود

    ثم ذكر إقامة الحدود وأنه فرض فرضه الله جل وعلا على عباده لا بد من إقامتها، والكلام في هذه المسألة من أجل بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة سيكون في مسألتين:

    المسألة الأولى: هل إقامة الحد يكون لآحاد الأمة؟ فنقول: إقامة الحدود لولي الأمر، وهناك أدلة عامة على إقامة الحدود منها: قول الله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا [النور:2].

    وقوله جل وعلا: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38].

    فهذه أدلة عامة، ولكن جاءت أدلة خصصت هذه الأدلة العامة كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعافوا الحدود فيما بينكم، فمن أظهر لنا صفحته أقمنا عليه الحد) .

    وأوضح من ذلك قصة صفوان بن أمية لما سرق رجل شملته، فأخذه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع يده فقال: يا رسول الله، إني قد سامحت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به؟!). فهذه دلالة على أن إقامة الحدود ليست لأي أحد؛ لأنه كان يمكن للصحابي أن يقيم الحد على السارق؛ لكنه ذهب به إلى إمام المسلمين وولي الأمر وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وبعدما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يده قال: سامحته يا رسول الله، فقال: (هلا كان ذلك قبل)، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ألم بذنب فليستتر بستر الله جل وعلا، فمن أظهر لنا صفحته أقمنا عليه الحد) . فهذه دلالة على أن ولي الأمر هو الذي يقيم الحد، ويمكن له أن يوكل غيره كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) يعني: إن اعترفت بالزنا فارجمها.

    المسألة الثانية: إذا أسقط الولي الحدود فلم يقم أي حد، فهل لآحاد الأمة أن يقيموا هذه الحدود؟

    هذه المسألة فيها تفصيل: فأقول: الأصل أنه لو أسقط الولي الحدود فإن لآحاد الأمة أن يقيموها؛ لأن الله جل وعلا ما فرض هذه الحدود إلا لتطبق على أرض البسيطة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه) إلى آخر الأدلة، لكن هذا الأمر يقيد بقيود أشد ما تكون غلظة، فإن آحاد الأمة إذا أقاموا هذه الحدود فربما حصل بذلك تأليب للناس على ولي الأمر، فيترتب على ذلك مفسدة أعظم كأن يقوم الوالي بأخذ من أقام الحد وأخذ غيره معه بغية إثبات قوة يده وسلطانه، فالمسألة مقيدة بالمصلحة والمفسدة، فإن كان الرجل يعلم أنه لو وصل الوالي أنه أقام الحد فإن الوالي لن يعاقبه أو يعاقب بعده من معه، ولن ينزل على الأمة بأسرها هدماً وقتلاً وسجناً، فهذا مأمور بأن يقيم الحد.

    فضابط المصلحة والمفسدة هو الذي يضبط لنا إمكانية إقامة آحاد الأمة للحدود. لكن في واقعنا المعاصر هل يمكن للإنسان أن يقيس مصلحة ومفسدة، الصحيح: أن المفسدة أعظم ما تكون، فالراجح أنه ليس لآحاد الأمة في هذا الواقع المعاصر أن يقيم الحدود، فنحن قررنا مسألة نظرية علمية، لكن الآن ليس لآحاد الأمة أن يقيم الحدود التي عطلها الوالي.

    لكن لو جيء برجل زنى وأقيم أمام الوالي، وجاء رجل وأخذ السوط وجلده، فلما ضربه السوط الأول سكت الوالي، ثم الثاني وإلى الثمانين وفي كل هذا يسكت الوالي، فهذا يدل على رضاه وإقراره.

    1.   

    بيان النفاق المخرج من الملة

    نختم هنا بقول الإمام: والنفاق هو الكفر: أن يكفر بالله، ويعبد غيره.

    النفاق نفاقان: نفاق أكبر ونفاق أصغر، والنفاق معناه في اللغة: الطريق في الأرض، والنفاق الأكبر هو النفاق الاعتقادي؛ أن يظهر الإسلام ويضمر الكفر، والعياذ بالله، قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:8-9].

    أما النفاق الأصغر فهو النفاق العملي؛ وجاءت صفاته في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (... إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر) وفي الرواية الأخرى: (وإذا خاصم فجر) .

    وهنا مسألة في النفاق العملي: هل النفاق العملي يخرج من الملة أم لا يخرج، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً

    فأقول إجابة على هذا الإشكال: المسألة فيها تفصيل فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كان منافقاً خالصاً) أشكل على العلماء؛ لأن الله جل وعلا قال: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ [التوبة:54] فالتصريح هنا أنهم كفار، أما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصرح، لكن قال: كان منافقاً خالصاً فهل يلحق بالكفار أم يكون من أهل الكبائر؟

    للعلماء تأويلات كثيرة جداً:

    الأول: كان منافقاً خالصاً، يعني: كافراً، لكن باستحلال هذه الأمور، أي: باستحلال الكذب، والغدر وغيرها من هذه الصفات، فنقول لهم: هو يكفر إن كانت فيه هذه الصفات، أو لم تكن فيه هذه الصفات؛ لأن الاستحلال كفر، كما أن من جحد وجوب الصلاة فهو كافر وإن صلى.

    التأويل الثاني: كان منافقاً خالصاً، يعني: شبيهاً بالمنافقين وليس بمنافق، يعني: شابه صفاتهم كما قالوا: إن هذا يفعل فعلة الكفار، فصفته كصفة الكفار.

    التأويل الثالث: قالوا: إنه بريد الكفر، وهذا هو أعدل الأقوال، فالإنسان لو تشبع وتضلع بهذه الصفات واستمر عليها فهي بوابة إلى النفاق الأكبر؛ فهو حين يكذب يكون قد نزعت منه صفة الإيمان، لكن يبقى في دائرة الإسلام، فإذا اعتاد الكذب يخرج من دائرة الإسلام، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أيكون المؤمن جباناً؟ قال: نعم. فقيل: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: نعم. فقيل: أيكون كذاباً؟ قال: لا) فالكذب والغدر والخيانة ليست من صفات المؤمنين، فمن اعتاد عليها، وثبت عليها، فهذا منذر بخروجه من الملة والعياذ بالله.

    1.   

    إطلاق الكفر العملي على المعاصي

    ثم قال: نرويها كما جاءت ولا نفسرها مثل: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) .

    ومثل: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) .

    ومثل: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) .

    ومثل: (من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما) .

    ومثل: (كفر بالله تبرؤ من نسب وإن دق).

    قال الإمام أحمد : هذه الأحاديث مما قد صح وحفظ فإنا نسلم به، وإن لم يعلم تفسيره، ولا يتكلم فيه، ولا يجادل فيه.

    فهل نمرر هذه الأحاديث أم ننظر فيها وندقق النظر؟ وكيف يكون التدقيق؟

    أولاً هذه الأحاديث من المتشابه فتحتاج إلى أن ترد إلى المحكم.

    فلو جاءك من يقول: قاتل المؤمن كافر، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) .

    وقال الله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [النساء:93] ، والخلود لا يكون إلا لكافر.

    فنقول رداً عليه: الأصل في لفظ الكفر أنه كفر أكبر إلا أن تأتي قرينة تصرفه من الظاهر إلى المؤول، والقرينة هنا قوله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9]، فمع أنهم اقتتلوا إلا أنه سماهم المؤمنين، فلم ينزع منهم صفة الإيمان، وقال تعالى: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10]، والأخوة هنا هي أخوة الإيمان والدين.

    وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن الحسن : (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المؤمنين) وحدث أن الحسن صالح معاوية فكانا مع من معهما الطائفتين المؤمنتين.

    وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : (تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق).

    والطائفتان هما طائفة علي ، وطائفة معاوية ، فسماهم مسلمين.

    إذاً: فقتال المؤمن ليس بكفر، ولكنه كبيرة.

    1.   

    بيان الضابط في إطلاق مسمى الصحابي على من عاصر النبي صلى الله عليه وسلم

    بقيت هنا نقطة مهمة ننبه عليها، وهي مسألة الصحبة وتعريفها، فنقول: الصحبة تطلق على كل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم ومات على الإسلام.

    وفي تعريف آخر: كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به، ومات على الإسلام.

    والتعريف الأول أصح؛ لأننا لو قلنا بالتعريف الثاني لخرج من الصحابة عبد الله بن أم مكتوم فهو لم ير النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان أعمى، ومن اعتقاد أهل السنة والجماعة أن كل صحابي بأمه ممن جاء بعهدهم، وهذا هو الصحيح الراجح، ولذلك لما سئل بعضهم عن معاوية وعمر بن عبد العزيز قال: ليوم من أيام معاوية صحب فيه النبي صلى الله عليه وسلم ورآه فيه خير من عمل عمر بن عبد العزيز.

    نسأل الله جل وعلا أن يجمعنا بهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755815167