إسلام ويب

تفسير سورة الزخرف [21-32]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً..)

    قال الله تبارك وتعالى: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [الزخرف:21]. تقدم أن ناقشنا بالتفصيل معنى قوله تعالى تبارك وتعالى: (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم)، وبينا أن مسلك المفلسين: إما الاحتجاج بالتقليد، وإما الاحتجاج بالقدر في مصادمة الشرع، ويحسبون أن في الاستناد إلى مشيئة الله العامة -المشيئة الكونية القدرية- حجة لهم، في حين أن الحجة هي لله عليهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى شاء ذلك كوناً وقدراً، لكنه شاءه أيضاً شرعاً، حيث شاء منهم الهداية والطاعة، فلا ينبغي أن يحتج الإنسان بالقدر إلا في المواضع التي ذكرنا تفصيلها فيما تقدم. وقوله تعالى: ((أم آتيناهم كتاباً من قبله)) (أم) هي المنقطعة المقدرة بـ(بل والهمزة)، يعني: أنهم ((ما لهم بذلك من علم)) وفي هذا وصفهم بالجهل فيما يتخرصون به، حيث قالوا: ((لو شاء الرحمن ما عبدناهم)). وقوله: ((أم آتيناهم كتاباً من قبله)) أي: هل عندهم كتاب من الله سبحانه وتعالى أوحي إليهم من قبل هذا القرآن، ((فهم به مستمسكون)) أي: بهذا المنهج، وهو الاحتجاج بالقدر فيما هم عليه من الشرك، وهذا كقوله تعالى في الآيات الأخرى: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا [الأنعام:148] يعني: كتاباً موحىً فيه ذلك. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون)): (أم) هنا تتضمن معنى استفهام إنكار، يعني: أن هذا الذي عليه الكفار من عبادتهم الأوثان وجعلهم الملائكة بنات الله لا دليل لهم عليه، ولذا أنكر أن يكون آتاهم كتاباً يحل فيه ذلك، وأنكر أن يكونوا قد أوتوا هذا الكتاب، وأنكر أن يكونوا مستمسكين في ذلك بكتاب من الله، إنكاراً دالاً على النفي للتمسك بالكتاب المذكور مع التوبيخ والتقريع. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن كفرهم المذكور لم يكن عن هدى من الله، ولا كتاب أنزله الله بذلك، بينه قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ [فاطر:40]، وهذا دليل عقلي. ثم طالبهم بالدليل النقلي فقال: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ [فاطر:40]. وقال تعالى في سورة الأحقاف: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأحقاف:4]. وقال تعالى في سورة الروم : أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [الروم:35]. وقال في سورة الصافات: أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الصافات:156-157]، وقال في سورة النمل: أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [النمل:64]. وقال عز وجل في سورة الحج: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ [الحج:8]. وقال تعالى في سورة الأنعام : قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [الأنعام:148].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (بل قالوا إن وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون)

    قال تبارك وتعالى: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:22]. أي: لا حجة لهم إلا تقليدهم آبائهم الجهلة مثلهم، ولذا قالوا: ((إنا وجدنا آباءنا على أمة)) يعني: على ملة أو على دين. ((وإنا على آثارهم مهتدون)) أي: أنهم يعتزون بتراث الآباء والأجداد وعقائدهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير..)

    قال تعالى: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]. يعني: أن هؤلاء ليسوا أول كفار اتكئوا واستندوا إلى تقليد الآباء والأجداد ومشايعتهم على الكفر، بل هذه سنة الأقوام والأمم من قبلك، أي: كما فعل هؤلاء المشركون من دفاع الحجة بالتقليد فعل من قبلهم من أهل الكفر بالله. قال القاضي البيضاوي : والقاضي عند الإطلاق في كتب التفسير يقصد به البيضاوي . قال: وفيه تسلية له صلى الله عليه وسلم، ودلالة على أن التقييد في نحو ذلك ضلال قديم، وأن مقلديهم أيضاً لم يكن لهم سند منظور فيه. وتخصيص المترفين في قوله: ((إلا قال مترفوها)) إشعار بأن النعم وحب البطالة صرفهم عن النظر إلى التقليد، فالترف له آفات كثيرة جداً، منها أن الترف يصرف الإنسان ويثبط همته بحيث لا يترقى عن مستوى التقليد، والأخذ بقول الغير بدون دليل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتهم عليه آباءكم...)

    قال تعالى: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف:24]. وفي قراءة أخرى: (قُل أولوا جئتكم بأهذى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون) أي: جاحدون منكرون، وإن كان أهدى، إقناطاً للمنذرين من أن ينظروا أو يتفكروا فيه، يعني: حتى لو كان ما تأتينا به أهدى مما وجدنا عليه آباءنا ((فإنا بما أرسلتم به كافرون))؛ لأن كلامهم هذا جاء جواباً لقول الرسول: ((أولو جئتكم)) يعني: أتكفرون وتكذبون حتى ولو جئتكم ((بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم))؟ قالوا: نعم، ((إنا بما أرسلتم به كافرون)) ولو كان أهدى؛ لأنهم يقصدون بذلك تيئيس وإقناط الرسل والمنذرين من أن ينظروا أو يتفكروا فيما جاءهم به الرسول.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين)

    ثم قال تعالى: فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الزخرف:25]. كان العذاب فيما مضى يأتي الأمة المكذبة فيستأصلها، وقد رفع هذا العذاب المستأصل عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أعني: بذلك أمة الإجابة، وإلا فإن أمة محمد هي كل من على ظهر الأرض منذ أن بعث إلى أن تقوم الساعة، إذ ليس للبشرية نبي سوى محمد عليه الصلاة والسلام، فأمة الدعوة هم المخاطبون برسالته وبالقرآن، والمكلفون بالإيمان به، وهم كل البشر على وجه الأرض إلى أن تقوم الساعة، فلا تعاقب هذه الأمة بالاستئصال التام، لكن يمكن أن تكون هناك زلازل في بعض الأماكن، إلا أنها لا تكون عقوبة كاملة لأهل الأرض، وهذا مما رحم الله به البشرية ببعثته الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم، فلذلك في التفسير هنا في قوله: ((فانتقمنا منهم)) يعني: بعذاب الاستئصال. وقوله: ((فانظر كيف كان عاقبة المكذبين)) أي: انظر كيف كان آخر أمرهم مما أصبح مثلاً وعبرة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون . إلا الذي فطرني...)

    قال تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:26-27]. (وإذ قال إبراهيم) قال القاضي : أي: اذكر وقت قوله هذا؛ ليروا كيف تبرأ عن التقليد وتمسك بالدليل، يعني: هم يقولون: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف:22] ولو كان هؤلاء الكفار من العرب أو مشركي قريش عقلاء، وكان لابد من تقليد، فليقلدوا أباهم إبراهيم؛ فإن أشرف آبائهم هو إبراهيم عليه السلام. (إنني براء مما تعبدون) أي: بريء من عبادتكم، أو من معبودكم. و(براء) هي القراءة العامة، وهو مصدر كالطلاق والعتاق، أريد به معنى الوصف مبالغة؛ لأن المصدر إذا استعمل في الصفة يكون فيه مبالغة، فإذا قلت: رجل عدل، أي: أنه هو نفس العدل، وقد تقدم بيان هذا مراراً، فلذلك أطلق على الواحد وغيره. وقُرئ بضم الباء: (إنني بُراء) فيكون اسماً مفرداً صفة مبالغة، كطُوال وكُرام بضم الطاء والكاف. وقوله: ((إلا الذي فطرني فإنه سيهدين)) هذا استثناء منقطع، أو متصل على أن (ما) في قوله: (إنني براء مما) يعم أولي العلم وغيرهم، وأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام، أو (إلا) بمعنى غير فتكون صفة لـ(ما) أي: إنني بريء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني أي: خلقني. ((فإنه سيهدين)) أي: للدين الحق واتباع سبيل الرشد، والسين إما للتأكيد، بدليل أن نفس الآية جاءت في نفس القصة جاءت في سورة الشعراء بدون سين: (يهدين) فهي للتأكيد، والمضارع في الموضعين للاستمرار، أي: استمرار هذه الهداية. أو أن السين للتسويف والاستقبال، والمراد هداية زائدة على ما كان له أولاً، فيتغاير ما في الآيتين من المحكي بناءً على تكرر قصته عليه السلام.

    براءة إبراهيم هي كلمة التوحيد

    يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله في قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:26-27]: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال لأبيه وقومه: إنه براء، أي: بريء من جميع معبوداتهم التي يعبدونها من دون الله، أي أنه بريء من عبادة كل معبود إلا المعبود الذي خلقه وأوجده وهو وحده معبوده، وضحه قوله تعالى: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء:75-78]، وكقوله تعالى: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:78-79] فبين أيضاً هنا براءته من المشركين، وزاد في سورة الممتحنة بيان براءته من العابدين وعداوته وبغضه لهم في الله عز وجل: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الممتحنة:4]. قوله عز وجل هنا: (( فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ))، ذكر نحوه في الشعراء: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء:78]، وقوله أيضاً: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، وقال: فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [الأنعام:77]. وقوله: (( إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ )) * (( إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي )) أي: خلقني، وهذا يدل على أنه لا يستحق العبادة إلا من خلق؛ ولا خالق إلا الله سبحانه وتعالى، وفي الآية الأخرى: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء:78]، مثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة:21]، فإذا كان هو الذي خلقكم فينبغي أن تعبدوه وحده، وقال عز وجل: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ [الشعراء:184]، وقال: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الرعد:16]، وقال تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل:17]، وقال أيضاً: أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف:191]، وقال أيضاً: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]. وقال تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256] وكل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، مأخوذ من فعلوت من الطغيان، والطغيان هو مجاوزة الحد، كما قال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [الحاقة:11]، فالطاغوت ما جاوز الحد؛ لأن الإنسان إذا رفع المخلوق إلى حد أن يعبده فيكون قد طغى واتخذه طاغوتاً، ورأس الطاغوت: الشيطان؛ لأنه الآمر بكل شرك وكفر وعصيان، ولذلك قال تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256] يعني: بـ(لا إله إلا الله) وهذا هو تحقيق لا إله إلا الله، أي: أن تكفر بكل ما عبد من دون الله، وتؤمن أنه لا يستحق أن يوجه له شيء من العبادة التي لا تنبغي إلا الله، وتثبت أحقية هذه العبادة لله سبحانه وتعالى، ولذلك فمعنى لا إله إلا الله: لا إله حق إلا الله، وليس المعنى: لا إله موجود إلا الله؛ لأن الناس يزعمون أو يصفون بالألوهية مخلوقات من دون الله سبحانه وتعالى ويتخذونها آلهة، قال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23]، فكلمة (إله) تطلق على إله الحق وإله الباطل، أما الله فلا يطلق إلا على الإله الحق، ولذلك الإعراب: لا: نافية للجنس، ولا يصح أن يكون التقدير: لا إله موجود، وأنا الحقيقة يلح علي دائماً المثال الذي كان المدرس يقوله لنا ونحن في ابتدائي: لا زعيم إلا جمال ، يعني: لا زعيم موجود. أما لا إله إلا الله فالتقدير: لا إله حق، وليس: لا إله موجود؛ لأنه توجد آلهة تعبد من دون الله، وهي آلهة باطلة، فالشيطان يُعبد، كما قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [يس:60]، وكذلك قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23]، والمال إله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم).. وهكذا. فإذاً: كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، فلا يصح الإيمان بالله إلا مع الكفر بالطاغوت الذي يتجاوز به العبد حده حينما يرفعه إلى مقام الألوهية ويعبده من دون الله، فكل هذا معناه واحد فقوله: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله) يعني: وحده، (فقد استمسك بالعروة الوثقى) التي هي: لا إله إلا الله، وكذلك قول إبراهيم عليه السلام هنا: (إنني براء مما تعبدون) * (إلا الذي فطرني) يساوي: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله)، وتساوي: لا إله إلا الله، ولذلك قال هنا: (وجعلها كلمة) أي: كلمة التوحيد، (باقية في عقبه لعلهم يرجعون).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وجعلها كلمة باقية في عقبه ...)

    قال تعالى: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:28]. يقول القاسمي : (وجعلها) أي: شهادة التوحيد، (كلمة باقية في عقبه) أي: موصىً بها موروثة متداولة محفوظة، فإبراهيم عليه السلام قبل أن يموت كان يوصي بنيه بأن يتمسكوا بلا إله إلا الله، وأن يتبرءوا من المشركين، وبنوه كذلك فيما بعد كانوا يوصون أبناءهم، وهكذا كل جيل كان يوصي الآتي من عقب إبراهيم بأن لا إله إلا الله، ولذلك عندما نراجع وصايا العلماء نجد فيها: أن هذه وصية فلان الفلاني؛ أوصي بأني أشهد أن لا إله إلا الله، يعني: كأنها وصية لمن يأتي بعده من ذريته بأن يثبتوا على التوحيد، قال تعالى: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ [البقرة:133] يعني: وحده بلا شريك، وقال تبارك وتعالى: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132]. وقوله: (لعلهم يرجعون) أي: لكي يرجعوا إلى عبادته وإلى توحيده في سائر شئونهم، أو لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم، وهذا التفسير مجمل، نشير إليه أولاً، ثم نأتي بالتفاصيل من كلام الشنقيطي رحمه الله. وقوله: (وجعلها) يعني: كلمة التوحيد المفهومة من قول إبراهيم الآنف الذكر: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:26-27]. وقوله: (كلمة باقية في عقبه) والقاسمي هنا يفهم من تفسيره أنه ليس كل عقب إبراهيم وذريته استقاموا على التوحيد، بل منهم من انحرف عن التوحيد إلى الشرك، لكن بقي الموحدون منهم يوصون عبر الأجيال بكلمة التوحيد، ويتداولونها ويحفظونها، كما قال تعالى: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [البقرة:132]، وكذلك أيضاً وصى بنيه: يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132]. وهذه الآية فصلها العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى تفصيلاً وافياً فقال: قوله تعالى: (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون) * (بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين) * (ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون) يقول: الضمير المنصوب في (جعلها) راجعه إلى كلمة الإيمان المشتملة على معنى (لا إله إلا الله) وهذه الكلمة مذكورة في الآية السابقة بالمعنى، لكنها تساوي في اللفظ معنى: لا إله إلا الله؛ لأن (لا إله إلا الله) نفي وإثبات، فمعنى النفي منها: هو البراءة من جميع المعبودات غير الله في جميع أنواع العبادات، وهذا المعنى جاء موضحاً في قوله: (إنني براء مما تعبدون)، ومعنى الإثبات منها هو إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله، كما في قوله: (إلا الذي فطرني فإنه سيهدين).

    ذكر خلاف المفسرين في فاعل جعل من قوله: (وجعلها كلمة ...)

    الفاعل في قوله: (وجعلها) ضمير مستتر، يرجع إلى إبراهيم، وفي قول آخر: يرجع إلى الله سبحانه وتعالى. فبعض المفسرين قالوا: هو راجع إلى إبراهيم، وهذا هو ظاهر السياق؛ لأن السياق في شأن إبراهيم عليه السلام. وقال بعضهم: هو راجع إلى الله سبحانه وتعالى، يعني: أن الله هو الذي جعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون.

    معنى جعل كلمة التوحيد باقية في ذرية إبراهيم عليه السلام

    فعلى القول الأول أن إبراهيم جعل كلمة التوحيد كلمة باقية في عقبه، فالمعنى: صير إبراهيم تلك الكلمة باقية في عقبه، يعني: في ولده وولد ولده، وإنما جعلها إبراهيم باقية فيهم، لأن إبراهيم عليه السلام تسبب في بقائها فيهم بأمرين: أحدهما: وصيته لأولاده بذلك، وصاروا يتوارثون الوصية بذلك عنه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فيوصي به السلف منهم الخلف، فهو الذي سن فيهم هذه السنة، يوصيهم بالتوحيد في حياته، ثم اقتدى به أولاده من بعده، فكل واحد منهم يوصي من يأتي بعده بالتمسك بـ(لا إله إلا الله) كما أشار إلى ذلك الله عز وجل بقوله : وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130] * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:131-132]. الأمر الثاني: سؤاله ربه تعالى لذريته الإيمان والصلاح، فإنه كان يسأل الله لهم الإيمان والصلاح، كما قال عز وجل: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] يعني: واجعل يا رب من ذريتي أئمة. وقال تبارك وتعالى حاكياً عن إبراهيم عليه السلام: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم:40]، وقال أيضاً: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]، وقال عنه هو وإسماعيل عليهما السلام: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:128-129]، فأجاب الله دعاءه في بعث الرسول المذكور في قوله: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم) وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا دعوة أبي إبراهيم) يعني: استجاب الله هذه الدعوة لإبراهيم عليه السلام، ولذلك تسبب إبراهيم بهذه الدعوة في بعثة محمد عليه السلام؛ لأن من هذه الأسباب الدعاء، وهو قال: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم)، وقد جعل الله الأنبياء بعد إبراهيم من ذريته، ولذلك إذا أطلق على إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء فإنما المقصود أبو الأنبياء من بعده، أما الذين قبله فلا يدخلون في ذرية إبراهيم؛ لأنه لم يكن قد خلق، أما إبراهيم عليه السلام فكافأه الله عز وجل بأن جعل كل الأنبياء الذين أتوا من بعده في ذريته، فأول ذلك إسحاق، ثم رزق إسحاق يعقوب، وهو إسرائيل، ثم من نسل يعقوب جاءت أنبياء بني إسرائيل، ولم تخرج عنهم النبوة إلا ببعثة النبي عليه السلام من نسل إسماعيل أخي إسحاق، قال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [العنكبوت:27]، وقال عنه وعن نوح في سورة الحديد: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [الحديد:26]. أما على القول الثاني في قوله: (وجعلها كلمة) وهو أن الذي جعلها هو الله سبحانه وتعالى، فلا إشكال، ويكون التفسير: وجعلها كلمة باقية في المؤمنين من عقبه. وقوله: (لعلهم) يعني: لعل المشركين من عقبه أو من ذريته (يرجعون) أي: عن الشرك إلى التوحيد.

    هل استجاب الله دعوة إبراهيم عليه السلام؟

    وقد بين تبارك وتعالى هنا أن الله لم يجب دعوة إبراهيم في جميع ذريته؛ لأن إبراهيم عليه السلام كان دعا لذريته بأن يكونوا على التوحيد فقال: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم:40]، وقال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128] يعني: أن ذريته خرج منهم مؤمنون وخرج منهم كافرون، سواء في بني إسرائيل أو في العرب؛ لأنهم من نسل إسماعيل عليه السلام. فإذاً: بين الله سبحانه وتعالى هنا أنه لم يستجب دعوة إبراهيم في جميع ذريته، وإنما استجابها في البعض وهم المؤمنون من ذريته؛ لأن كفار مكة الذين كذبوا بنبينا صلى الله عليه وسلم من عقبه بإجماع العلماء، وقد كذبوه صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنه ساحر، وكثير منهم مات على ذلك، وذلك في قوله عز وجل: (بل متعت هؤلاء وآباءهم)، يعني: متعت كفار مكة وآباءهم، (حتى جاءهم الحق ورسول مبين) هو محمد صلى الله عليه وسلم، (ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون) فكفار مكة من نسل إبراهيم من ذرية إسماعيل، ومع ذلك يثبت الله هنا أنهم كفروا ووصفوا النبي عليه السلام بالسحر، فدلت هذه الآية على أن تلك الدعوة لم تستجب في حق كل ذرية إبراهيم، وإنما في المؤمنين منهم. وما دلت عليه آية الزخرف هذه من أن بعض عقب إبراهيم لم يجعل الله الكلمة المذكورة باقية فيهم دلت عليه آيات أخر من كتاب الله، كقوله تعالى في البقرة : قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124] يعني: واجعل من ذريتي أئمة، قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] أي: الظالمين من ذرية إبراهيم، ففهم من ذلك أن من ذريته ظالمين، وقوله تعالى في الصافات: وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [الصافات:113]، فالمحسن منهم هو الذي كلمة التوحيد باقية فيه، والظالم لنفسه المبين من ليس كذلك. وقال تعالى في النساء: فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا [النساء:54-55]. وبين عز وجل في سورة الحديد أن غير المهتدين من ذريته كثيرون في قوله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:26]. وقوله هنا في هذه الآية الكريمة: (لعلهم يرجعون) أي: جعل الكلمة باقية فيهم لعل الزائغين الضالين منهم يرجعون إلى الحق بإرشاد المؤمنين المهتدين منهم؛ لأن الحق ما دام قائماً في جملتهم فرجوع الزائغين عنه إليه مرجو مأمول، لأن (لعل) تفيد الترجي، والترجي هنا بالنسبة لبني آدم؛ لأن الترجي هو أن يرجو الإنسان حصول شيء وهو لا يجزم بحصوله؛ لأنهم لا يعرفون من يصير إلى الهدى ومن يصير إلى الضلال، فالترجي هنا هو بالنسبة إلى بني آدم وليس بالنسبة لله سبحانه وتعالى.

    ترادف العقب والذرية والبنين

    والعلامة الشنقيطي وقف هنا وقفة يسيرة قال فيها: ظاهر هذه الآيات الكريمة التي ذكرنا يدل على انسحاب معنى العقب والذرية والبنين، يعني: أن كلمات: العقب، والذرية، والبنين معناها واحد؛ لأنه قال في بعض هذه الآيات عن إبراهيم: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]، وقال في بعض الآيات: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم:40]، وفي بعضها: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم:37]، وقال عز وجل: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ [العنكبوت:27]، وقال: (( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ))، فالظاهر المتبادر من الآيات أن المراد بالبنين والذرية والعقب شيء واحد؛ وبذلك تعلم أن ظاهر القرآن يدل على أن من وقف وقفاً أو تصدق صدقة على بنيه، فقال: هذا وقف على بني أو علي ذريتي أو على عقبي، فحكم ذلك واحد. وقد دلت بعض الآيات القرآنية على أن أولاد البنات يدخلون في اسم ذرية الرجل، وإذا دل القرآن على دخول ولد البنت في اسم الذرية والبنين دل ذلك على دخول أولاد البنين في العقب أيضاً. فمن الآيات الدالة على دخول ولد البنت في اسم الذرية قوله تبارك وتعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ.. [الأنعام:84] إلى قوله عز وجل: ..وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ [الأنعام:85] الشاهد: (وعيسى)؛ لأن عيسى عليه السلام ابن بنت، لا أب له، فهو ابن بنت من جهة مريم عليها السلام. ومن الآيات الدالة على دخول ولد البنت في اسم البنين قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ.. [النساء:23] إلى قوله تعالى: ..وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ [النساء:23]؛ لأن لفظ البنات في الألفاظ الثلاثة شامل لبنات البنات وبنات بناتهن، وهذا لا نزاع فيه بين المسلمين، وهو نص قرآني صريح في استواء بنات بنيهن وبنات بناتهن، فتحصل أن دخول أولاد البنات في الوقف على الذرية والبنين والعقب هو ظاهر القرآن، ولا ينبغي العدول عنه. أما لفظ الولد فلا يدخل فيه أولاد البنات، والدليل قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11]، فهذا لا يدخل فيه أولاد البنات، فهو نص صريح على عدم دخول أولاد البنات في اسم الولد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (بل متعت هؤلاء وآبائهم... خير مما يجمعون)

    قال تبارك وتعالى: (( بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ * وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:29-32]. قوله: (بل متعت هؤلاء) يعني: أهل مكة، (وآباءهم) أي: من قبلهم في الحياة فلم أعاجلهم على كفرهم (حتى جاءهم الحق) أي: دعوة التوحيد أو القرآن (ورسول مبين) أي: ظاهر الرسالة بالآيات والحجج التي يحتج بها عليهم في دعوى رسالته. قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (كافرون) أي: جاحدون، فازدادوا في ضلالهم لضمهم إلى شركهم معاندة الحق؛ لأن الكفر قابل للزيادة، والدليل: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37]، والكفر نفسه درجات، فكلما ازداد الكافر في الصد عن سبيل الله عز وجل والتكذيب بآياته ازداد كفراً. وقالوا أيضاً في مواجهة هذا الحق الذي أرسل إليهم: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ . أي: لولا نزل هذا القرآن على رجل من إحدى القريتين المعهودتين في أذهانكم: من مكة أو الطائف، فالتعريف هنا للعهد. وقوله: (عظيم) يقصدون بالعظمة الجاه والمال، فإن الرسالة منصب عظيم لا يليق إلا بعظيم عندهم. قال القاضي : ولم يعلموا أنها رتبة روحانية تستدعي عظم النفس بالتحلي بالفضائل والكمالات القدسية لا التزخرف بالزخارف الدنيوية. وقد أجابهم الله تبارك وتعالى بقوله: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ وهذا إنكار فيه تجهيل ورد لتحكمهم فيما لا يتولاه إلا هو تبارك وتعالى، وبيان أن هذا ليس إليهم، فالله سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء ويختار، والله عز وجل يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، فالنبوة هبة من الله سبحانه وتعالى، ولذلك صح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ما معناه: (إن الله نظر في قلوب العباد، فاختار من قلوب العباد قلب محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أصفى قلب وأطهر قلب وأكمل قلب، فاصطفاه لرسالته ولنبوته ولكتابه، ثم نظر في قلوب العباد فاختار له أصحاباً رضي الله تعالى عنهم..) إلى آخر الأثر الموقوف الصحيح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. والمراد بالرحمة: النبوة، ولو وقفت على كلمة (رحمت) وقفت بالتاء مراعاة لرسم المصحف؛ لأنه إذا كانت التاء مكتوبة تاءً مفتوحة فإذا وقفت عليها تقف عليه بالتاء. وقوله: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) أي: فجعلنا بعضهم غنياً وبعضهم فقيراً، ورفعنا بعضهم بالغنى فوق بعض درجات. وقوله: (ليتخذ بعضهم) يعني: ليتخذ الغني (بعضاً) يعني: الفقير (سخرياً) أي: مسخراً في العمل، وما به قوام المعايش والوصول إلى المنافع؛ لا لكمال في الموسع عليه ولا لنقص في المقتر عليه. وهذه الآية الكريمة كلها في الرد على الاقتراح، وبيان جهلهم بحكمة الله سبحانه وتعالى في المفاضلة في مراتب الناس؛ حيث جعلوا مقاييس المفاضلة هي المال والجاه، فرد الله عليهم أن ذلك ليس إليهم، ثم بين عز وجل ذلك فقال: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعض سخرياً)، أي: ليس المقصود الاستهزاء، وإنما يعني التسخير بالعمل، لأنه لو كان كل الناس وزراء فمن الذين سيخدمون الناس ويقومون بالوظائف الأخرى؟! لكن الله سبحانه وتعالى فاضل بين خلقه وخالف بين وظائفهم؛ كي ينتفع بعضهم من بعض، ويحصلوا بذلك مصالحهم، لكن ليس هذا التسخير بإعطاء البعض وتخصيصه بالغناء، والتقتير على البعض وكونه فقيراً، دليلاً على أن الغني أكمل من الفقير، أو أن الفقير أحقر من الغني، هذا الاعتبار إنما هو في موازين هؤلاء الماديين. وقوله تعالى: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) أي: جعلنا بعضهم غنياً وبعضهم فقيراً. وقوله: (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات) أي: رفعنا الغني فوق الفقير درجات في الدنيا. وقوله: (ليتخذ بعضهم) أي: الغني (بعضاً) أي: الفقير (سخرياً) يعني: مسخراً في العمل؛ لأن كل شيء لابد أن يكون فيه رئيس ومرءوس، حتى يحصل ما به قوام المعايش والوصول إلى المنافع، وليس هذا الاختيار لكمال في الموسع عليه: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، لكن هذا التفاضل لأن حاجة البشر ماسة إلى التضام والتآلف الذي به ينتظم شملهم، أما النفحات الربانية والعلوم اللدنية فليست مما يستدعي سعة ويساراً؛ لأنها اختصاص إلهي وفيض رحماني. والسخري بالضم منسوب إلى السخرة بوزن غرفة، وهي الاستخدام والقهر على العمل. وقوله: (ورحمة ربك خير مما يجمعون) يعني: أن النبوة خير مما يجمعون من الحصاد الفاني، فرحمة ربك في أول الآية وفي آخرها مقصود بها النبوة، فإذا كانت رحمة ربك خيراً مما يجمعون من الأموال والغنى والسعة واليسار فإن العظيم حقاً هو الذي أعطيها، وهو النبي صلى الله عليه وسلم. يقول الشنقيطي في قوله تعالى: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ وقال كفار مكة: (لولا) هلا، (نزل هذا القرآن على رجل من القريتين) أي: على رجل من إحدى القريتين؛ وهما مكة والطائف (عظيم) يعنون كثرة ماله، وعظم جاهه، وعلو منزلته في قومه، وعظيم مكة الذي يريدون هو الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب ، وفي مرة بن كعب يجتمع نسبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل : هو عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف ، وعظيم الطائف هو عروة بن مسعود ، وقيل: حبيب بن عمرو بن عمير ، وقيل: هو كنانة بن عبد يا ليل وقيل غير ذلك. وإيضاح الآية: أن الكفار أنكروا أولاً أن يبعث الله رسولاً من البشر، ففي البداية أنكروا واقترحوا أن الله يرسل عليهم ملائكة، ثم لما سمعوا الأدلة على أن الله سبحانه وتعالى لم يبعث إلى البشر رسولاً إلا من البشر، تنازلوا عن اقتراحهم إرسال رسل من الملائكة إلى اقتراح آخر، وهو اقتراح تنزيل هذا القرآن على أحد الرجلين المذكورين فقالوا: (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم)، وهذا الاقتراح يدل على شدة جهلهم وسخافة عقولهم؛ حيث يجعلون كثرة المال والجاه في الدنيا موجباً لاستحقاق النبوة وتنزيل الوحي، ولذا زعموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس أهلاً لإنزال هذا القرآن عليه لقلة ماله، وأن أحد الرجلين المذكورين أحق أن ينزل عليه القرآن منه صلى الله عليه وسلم، وقد بين تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة شدة جهلهم وسخافة عقولهم بقوله: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [الزخرف:32]، والظاهر المتبادر أن المراد برحمة ربك النبوة وإنزال الوحي، وإطلاق الرحمة على ذلك متعدد في القرآن، كقوله تعالى في سورة الدخان: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الدخان:5-6]، وقال في آخر سورة القصص: وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص:86]، وقال في آخر سورة الأنبياء: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، وقال تعالى في سورة الكهف: فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا [الكهف:65]، على القول بأن الخضر عليه السلام نبي. قال تعالى: (( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ )) يعني: أنه تعالى لم يفوض إليهم أمر معايشهم وحظوظهم في الدنيا، بل تولى قسمة ذلك بينهم، فجعل هذا غنياً وهذا فقيراً، وهذا رفيعاً وهذا وضيعاً، وهذا خادماً وهذا مخدوماً.. ونحو ذلك، فإذا لم يفوض إليهم حظوظهم في الدنيا ولم يحكمهم فيها، بل كان تعالى هو المتصرف فيها بما شاء كيف شاء، فكيف يفوض إليهم أمر إنزال الوحي حتى يتحكموا في من ينزل إليه الوحي؟! فهذا مما لا يعقل، ولا يظنه إلا غبي جاهل كالكفار المذكورين. وقوله تعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا التحقيق -إن شاء الله- أنه من التسخير، ومعنى تسخير بعضهم لبعض: خدمة بعضهم البعض، وعمل بعضهم لبعض؛ لأن نظام العالم في الدنيا يتوقف قيامه على ذلك، فمن حكمته جل وعلا أن يجعل هذا فقيراً مع كونه قوياً قادراً على العمل، ويجعل هذا ضعيفاً لا يقدر على العمل بنفسه، ولكنه تعالى يهيئ له دراهم، يؤجر بها ذلك الفقير القوي، فينتفع القوي بدراهم الضعيف، والضعيف بعمل القوي، فتنتظم المعيشة لكل منهما، وهكذا.

    الرد على زعم واقتراحات الكفار في هذه السورة

    والمسائل التي ذكرها الله جل وعلا في هذه السورة الكريمة جاءت موضحة في آيات أخر من كتاب الله. أما زعمهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم أنقص شرفاً وقدراً من أن ينزل عليه الوحي، فقد ذكره الله عنهم في سورة (ص) في قوله حاكياً عنهم: أأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا [ص:8]، وهذا معناه إنكارهم أن يخصه الله بإنزال الوحي من بينهم؛ لزعمهم أن فيهم من هو أحق بالوحي منه؛ لكثرة ماله وجاهه وشرفه فيهم، وقد قال قوم صالح مثل ذلك لصالح، كما قال تعالى: أأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ [القمر:25]، فقلوب الكفار متشابهة فكانت أعمالهم متشابهة، كما قال تعالى: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة:118] وقال تعالى: أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات:53] يعني: لشدة التشابه بين العبارات التي كانوا يقابلون بها أنبياءهم من التكذيب والاحتقار والازدراء صارت متشابهة حتى في الألفاظ؛ ولذلك قال تعالى: (( أَتَوَاصَوْا بِهِ )) يعني: كلما جاء قوماً رسول ردوا عليه نفس الرد، كأن كل أمة كافرة كانت توصي التي بعدها، ولا يؤخذ من السياق أن هذا حصل بالفعل، لكن لشدة التشابه صار كأنهم يتواصون به. وأما اقتراحهم إنزال الوحي على غيره منهم، وأنهم لا يرضون خصوصيته بذلك دونهم فقد ذكره تعالى في سورة الأنعام في قوله تعالى: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الأنعام:124] يعني: مثل ما نزل عليهم الوحي ينزل علينا نحن أيضاً، ولذلك جاء الجواب: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، وقال تعالى: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً [المدثر:52] أي: أن تنزل عليه صحف بالوحي من السماء. أما إنكاره تعالى عليهم اقتراح إنزال الوحي على غير محمد صلى الله عليه وسلم الذي دلت عليه همزة الإنكار المتضمنة مع الإنكار تجهيلهم وتسفيه عقولهم في قوله: (أهم يقسمون رحمة ربك) فقد أشار تعالى إليه مع الوعيد الشديد في الأنعام؛ لأنه تعالى لما قال: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الأنعام:124]، أتبع ذلك بقوله رداً عليهم وإنكاراً لمقالتهم: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، ثم أوعدهم على ذلك بقوله: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ [الأنعام:124]. وأما كونه تعالى هو الذي تولى قسمة معيشتهم بينهم فقد جاء في قوله تعالى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ [النحل:71]، وقال تعالى: انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الإسراء:21]، وقال تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد:26]، وقال تعالى: وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى:27]، وقال تعالى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [النساء:135]. وقد أوضح تعالى حكمة هذا التفاضل والتفاوت في الأرزاق والحظوظ والقوة والضعف فقال هنا: (ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً)، وقال تعالى: (ورحمة ربك خير مما يجمعون) يعني: أن النبوة والاهتداء بهدي الأنبياء وما يناله المهتدون يوم القيامة خير مما يجمعه الناس في الدنيا من حطامها، قال تعالى في سورة يونس: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، فإذا تأملنا وجدنا أن هنا أمراً بالفرح، وفي الآية الأخرى في سورة القصص نهي عن الفرح في قول قوم قارون له: لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص:76]، والمقصود بالفرح المنهي عنه ما يكون عن البطر والطغيان والاستكبار في الأرض، أما الفرح هنا فهو الفرح بالإيمان وبالهدى وبالقرآن وبالإسلام، كما يدل عليه قوله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ [يونس:58] أي: بالإيمان والقرآن والإسلام، ولذلك كان الإمام وكيع بن الجراح سميناً، وكان إذا أراد أن يبكت من يكلمه في هذا السمن أو يقول له: أراك سميناً؟! يقول له: هذا من فرحي بالإسلام. فإذاً: قوله: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) أي: نفرح بالقرآن، ونفرح بالإسلام وبالسنة؛ لأن هذا هو الذي ينبغي أن يفرح الإنسان به، ويأمرنا الله سبحانه وتعالى بأن نجتهد به؛ لأنه (خير مما يجمعون)، وقال تعالى في سورة آل عمران: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [آل عمران:157].

    بيان فساد قول الاشتراكيين في التسوية بين الناس

    ختم الشنقيطي رحمه الله تعالى هذه الآية الكريمة بشيء هو حقيقة واقعة في فترة من الفترات في ظل الحكم الاشتراكي في عهد عدو الله عبد الناصر ؛ حيث كانت هناك محاولة لتمرير مفاهيم الاشتراكية وفرضها على الناس، وجرت علينا الشؤم والبلاء في النظام، فإنها غصبت أموال الناس قهراً وظلماً، وحصل غير ذلك من المظالم التي ذاق الناس ويلاتها، فالشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى كان يعيش في تلك الفترة في الجزيرة العربية؛ فلذلك يشير إلى هذا الأمر الذي كان شائعاً في ذلك الوقت، يقول: دلت هذه الآية الكريمة المذكورة هنا، وهي قوله كقوله تعالى: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا)، وقوله: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ [النحل:71].. ونحو ذلك من الآيات دلت على أن تفاوت الناس في الأرزاق والحظوظ سنة من سنن الله السماوية الكونية القدرية لا يستطيع أحد من أهل الأرض البتة تبديلها ولا تحويلها بوجه من الوجوه: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر:43]، وبذلك تحقق. والعجيب أن العلامة الشنقيطي يتكلم بهذا الكلام في وقت كنا هنا في مصر ونحن تلامذة في المدارس نحفظ الميثاق أكثر مما نحفظ آيات القرآن الكريم، وكان لابد في أي موضوع تعبير أو موضوع إنشاء من أنك ترصعه بنص من الميثاق، وكأنه آية قرآنية! حتى قالت أمينة السعيد في يوم من الأيام: كيف نخضع لفقهاء أربعة ولدوا في عصر الظلام ولدينا الميثاق؟ وبعض هؤلاء يقول: إن الإسلام لا يتصادم مع الاشتراكية! حتى ألف أحد الدعاة الكبار المشهورين كتاباً اسمه: الاشتراكية في الإسلام، وأجهد نفسه هو وغيره في محاولتهم أن يأتوا من الشرق ومن الغرب بدليل أو شبهة حتى يثبتوا أن الإسلام دين الاشتراكية، وكأن الإسلام تابع لمذاهبهم ولضلالهم! والعجيب أن العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى يتصدى لهذا المفهوم في وقت كانت فيه هذه المفاهيم حقائق مقررة، وكان لا يستطيع أحد أن يوقفها أبداً، ومع ذلك هو يجهر ويتنبأ بفشل هؤلاء، ونحن الآن نعيش بعد سنوات طويلة من حقب الاشتراكية السوداء المهينة، ونراجع تلك الأيام، وكيف عذبت الشعوب وقهرتها، وأذلتها وأفقرتها، حتى نفس روسيا التي كانت منظراً فقط للأسلحة النووية، تتسول اليوم من الشرق ومن الغرب، وأمريكا تذلها وتجبرها على الركوع تحت أقدامها، وغير ذلك من التهديدات التي نسمعها بين الحين والآخر. الشاهد من هذا الكلام: أن العلامة الشنقيطي يتكلم في جو ما كان أحد يتكلم بهذا الكلام فيه، بل كان الغالب والسائد في المؤلفات والخطب، والدروس والكتب والمطبوعات والإعلام، هو ترسيخ أن الإسلام هو دين الاشتراكية، وأن الإسلام يدعو للاشتراكية، وكانوا يرددون بيت لـحافظ إبراهيم يقول فيه: الاشتراكيون أنت إمامهم لولا دعاوى القوم والغلواء يعني: يزعمون أن محمداً عليه الصلاة والسلام هو إمام الاشتراكيين! مع أن الاشتراكية هذه أتت في وقت قريب، والله المستعان! وبعدما ذكر بقوله تعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ، وقوله تعالى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ [النحل:71]، يقول: وبذلك تتحقق أن ما يتذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله ولجميع النبوات والرسائل السماوية إلى ابتزاز ثروات الناس، ونزع ملكهم الخاص عن أملاكهم بدعوى المساواة بين الناس في معايشهم، أمر باطل لا يمكن بحال من الأحوال، مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون، وإنما يقصدون استئثارهم بأملاك جميع الناس. فهم يظهرون للناس أن الاشتراكية تحقق وتوزع الحق بين الناس بالتساوي، وهم ينتقدون غيرها من المبادئ والأنظمة، سواء كان هذا نظاماً رأسمالياً أو غيره فيقولون: النظام الرأسمالي فيه استغلال لكن الاشتراكية توزع الفرص على الناس بالتساوي، وفي الحقيقة هم يريدون أن يستأثروا بالثروات؛ ولذلك فإن زعماء الشيوعية كانوا طوال عمرهم يعيشون حالة من الترف أشد من حالة الأباطرة والقياصرة أيام المملكة القيصرية؛ فيقتنون أعجب أنواع السيارات في العالم كله. يقول: مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون، وإنما يقصدون استئثارهم بأملاك جميع الناس؛ ليتمتعوا بها، ويتصرفوا بها كيف شاءوا تحت ستار كثير من أنواع الكذب، والغرور، والخداع، كما يتحققه كل عاقل مطلع على سيرتهم وأحوالهم مع المجتمع في بلادهم، فالطغمة القليلة الحاكمة ومن ينظم إليها هم المتمتعون بجميع خيرات البلاد، وغيرهم من عامة الشعب محرومون من كل خير، مظلومون في كل شيء، حتى ما كسبوه بأيديهم، يعلفون ببطاقة كما تعلف البغال والحمير. وكان النظام الشيوعي يوزع كل شيء بالبطائق؛ لأن مبدأ الشيوعية أن يعطي كل واحد حسب حاجته لا حسب قدرته وبذله، يعني: كل واحد يبذل للدولة حسب قدرته، ويبذل أقصى طاقته في الإنتاج، ثم يوزع على الناس حسب حاجتهم، وليس الذي يسعى أكثر ينال أكثر، بل ينال كل واحد حسب حاجته. قال: وقد علم الله جل وعلا في سابق علمه أنه يأتي ناس يغتصبون أموال الناس، بدعوى أن هذا فقير، وهذا غني، وقد نهى جل وعلا عن اتباع الهوى بتلك الدعوى، وأوعد من لم ينته عن ذلك، فقال عز وجل: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756535431