يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: (أن
قال الراوي عن حذيفة وهو مسروق بن الأجدع : (قلنا: هل علم
هذا الحديث مليء بالفوائد، ولكني أجتزئ منه وأستل منه فائدة واحدة، إن هذا الحديث في مطلعه بيّن أن الفتن نوعان: نوع منه يسير تكفّره الأعمال الصالحة، والعبادات والطاعات؛ لأن حذيفة قال: (سمعته عليه الصلاة والسلام يقول: فتنة الرجل في أهله -أي: في أزواجه- وأولاده وجيرانه وماله تكفّرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ولكن ليس هذا هو المقصود.
فتنة الرجل في أهله بعدم القسم بينهن، وبالميل إلى أحداهن دون الأخرى، بالتقتير وعدم الإنفاق عليهن وضياعهن وغير ذلك.
وفتنته في أولاده بإيثار أحد الأولاد على الآخرين، والوصاية له دون الآخرين، والميل إلى أحد أبنائه دون الآخرين.. وغير ذلك.
وفتنته في ماله: أن ينشغل به دون الدعوة إلى الله عز وجل، إن كان من أهل الدعوة إليه سبحانه، أو أنه ينشغل بماله عن طاعة الله عز وجل وعبادته، وتلهيه أمواله عن أداء ما أوجبه الله عز وجل عليه.
وكذلك فتنته في جاره أن يجور عليه، وأن يحسده، وأن يبغي عليه، وأن يهضمه في حقه، وغير ذلك، كل هذا تكفّره الأعمال الصالحات.
لكن هذه الفتنة ليست هي التي عناها عمر في سؤاله، قال: ليست هذه التي أعني، إنما التي تموج كموج البحر، تتلاطم من كثرتها وشدتها، وشبهها بموج البحر الذي يكسر الحديد والخشب حين يهيج، فلا يصمد أمامه جسم قط؛ ولذلك شبّه عمر بن الخطاب رضي الله عنه الفتن العظيمة بأنها كموج البحر، إذا تعرض لها أحد اجتاحته وأخذته ضمن أمواجها وضمن هياجها وضمن شدتها، قال: هذه التي أعني.
فهذا الحديث قد بيّن أن الفتن نوعان: فتن تكفّرها الطاعات، وفتن تموج كموج البحر قل أن يسلم منها أحد، والعامة والدهماء إنما يقعون في هذه الأمواج.
إني استخرت الله عز وجل في مقابلة هؤلاء الذين لا يستحون أن يتكلموا بما عندهم من كفر وإلحاد، وأن أذكر أسماءهم ولا حرج في ذلك؛ لأن الفاسق قد أذن لنا الشرع بفضحه حتى يحذره الخلق، فإذا كان الأمر كذلك، فقد طالعتنا جريدة الأهرام القومية -ولا بد أن تعلم أنها قومية- مقالاً للمزعوم مصطفى محمود عليه من الله ما يستحق، هذا الجاهل، بل إنه ليس جاهلاً، فإنه يدري ما يقول، وإن شئت فقل: هذا الملحد الذي ألحد في الله وأسمائه وصفاته، وألحد في النبوة والرسالة عدة مرات، فقد طالعتنا مجلة (صباح الخير) -لا صبّحها الله بأي خير- في يوم (26/12/1976م) في عددها رقم (1093): أن مصطفى محمود ذلك العالم الفذ خرج على الأمة منذ (25) عاماً قال: لا شيء في دين محمد اسمه حد السرقة. يهدم بذلك القرآن، ويهدم بذلك سنة النبي عليه الصلاة والسلام العملية والقولية.
ثم يقول: وكذلك حد الجلد ليس في كتاب الله عز وجل آية واحدة تتكلم عن حد الجلد، وإنما ذلك ورد في كتب السير، هكذا يقول بجهله.
قال: وأصحاب السير يعلمون أن معظم كتبهم مدسوسة، وأن الأخبار التي فيها ليست بصحيحة.
هكذا يقول، وهكذا يحكم، وهكذا يقضي من مسجد محمود مسجد أبيه؛ لأنه ليس مسجداً لله عز وجل، هو مسجد أبيه.
ثم يقول: الرجم ليس ثابتاً في الكتاب ولا في السنة، ثم يقول: وهب أنه في سنة النبي عليه الصلاة والسلام فهل المقصود به: أن المرأة إذا زنت تُرجم بالرجم المعروف اصطلاحاً لدى الفقهاء؟
ثم يجيب هو فيقول: لا، فالمرأة إذا زنت مرة ومرتين وثلاثاً لا تُرجم؛ لأن الزنا ليس حرفة لها، ولا بد من حمل الروايات في السنة على جلد أو رجم المرأة الزانية إذا اتخذت الزنا حرفة لها، وأما دون ذلك فلا.
ثم يقول: حتى لو قضى القاضي بوجوب رجمها أو جلدها لا يجب تنفيذ أمر القاضي.
ثم يقول: ورجمها وجلدها الذي أعنيه ليس ضرباً بالعصا ولا بالحجارة، إنما هو حبسها في بيتها حتى يتوفاها الموت أو يجعل الله لها سبيلاً.
هكذا يتفضّل علينا مصطفى محمود يضرب بالقرآن والسنة وإجماع الخلفاء وإجماع الصحابة -بل إجماع أمة- عرض الحائط، ويأتينا بفهم لم يفهمه من قبل إلا شيخه رشاد خليفة الذي ادعى النبوة في أمريكا، فرزقه الله عز وجل عام (1988م) بمن يقتله، ولا ندري إلى الآن من قتله، ولا أحد حقق في حادثة قتله، ثم هو تلقى ذلك مشافهة -كما يقول- من صديقه الحميم وأستاذه العزيز ( أحمد صبحي منصور ) ذلك الأزهري الذي تبرأ منه الأزهر بمجرد أن عاد من أمريكا؛ لأنه كان يعمل هناك سكرتيراً للنبي رشاد خليفة ، فلا بد أن تعرفوا أعداءكم، لا بد.
أتى أحمد صبحي منصور وكانت له حملة وشنة ورنة في الجرائد والصحف، ثم بحمد الله عز وجل كُشف عواره وبان فساده على أيدي المخلصين من الدعاة إلى الله عز وجل، ولا أزعم أنني منهم وإنما أنا أنقل عنهم.
ثم يأتينا مصطفى محمود فيثير ضجة وحملة، فيرد عليه العلماء والمخلصون، ثم يهدأ حتى تمر العاصفة ثم يخرج بعاصفة أخرى، أو بنفس العاصفة مرة أخرى، ولذلك حينما طالعتنا هذه المحافل العلمانية الإلحادية التي قُصد منها تدمير المجتمع المسلم في شتى بقاع الأرض قام المخلصون ببيان هذا الفساد، وأنه ما أريد به وجه الله عز وجل، فربما يكون هو في أصله كلمة حق، لكن أريد بها باطل.
ثم تُعقد هذه المؤتمرات المعروفة بمؤتمرات السكان أو الإسكان، حتى عقدت في مصر أخيراً، وقرروا أن هذه المرأة آدمية، وهذه بلية عظيمة أن تُعقد مؤتمرات حتى تبيّن أن المرأة حيوان أم إنسان، ولكنهم -لا جزاهم الله خيراً- قد خرجوا بنتيجة، وهي أن المرأة إنسان وليست حيواناً.
ثم لزاماً في المحافظة على إنسانية المرأة أن يسنوا لها القوانين؛ لأن المرأة كالرجل تماماً بتمام، ولا بأس عندهم أن تحمل المرأة عاماً وأن يحمل الرجل عاماً، وأن ترضع المرأة عاماً وأن يرضع الرجل أعواماً، وأن يكون للرجل ثدي وفرج وأن يكون للمرأة ثدي وفرج.. فلا بأس بهذا كله، والتكنولوجيا الحديثة تساعدهم على فعل كل هذا، لا بأس به.
ولكن البأس كل البأس أن ينعقد مؤتمر السكان في مصر عدة مرات، منها السري ومنها العلني، حفظاً لماء الوجه القبيح، ثم يقرر مؤتمر السكان: أن الختان حرام، أي: أنه حرام قانوناً؛ لأنهم لا يعرفون لغة الشرع، فهو يحرّم دولياً، وقامت مصر بأسرها على هذا المؤتمر قومة رجل واحد، لم يخالف منهم إلا أذناب المستشرقين من العمائم ومن غيرهم، ولكن الساسة والقادة وجُل العلماء والدعاة إلى الله عز وجل أنكروا هذا المؤتمر برمته، وقالوا: إذا قرر شيئاً يخالف شرع الله فإننا لا نُلزَم بقبوله، هذا على أية حال خير، ولكن الغريب أنه لا يُسمح لهذه المؤتمرات -التي لا أقول: إنها المشبوهة، ولكن التي أسفرت عن وجهها القبيح- في ضرب المجتمعات الإسلامية في صميم قلبها، فأقول: إذا كان كذلك فلِم يؤذن لها بالانعقاد هنا؟ وقد انعقدت.
فأقول: إن بعضهم يخرج علينا فيقول: السنة قد دخلها الدس والتحريف ولذلك لا نحتج بها، ومنهم من يفرق بين المتواتر والآحاد، ومنهم من يقول: إنني قرأت القرآن..، وهذا أحمد صبحي منصور المجرم الذي يعيش هنيئاً مريئاً في أرض مصر الآن، يقول: لقد قرأت القرآن كله فأعجبني! وعلمت أنه ليس كلام محمد! وكأنه كان يعتقد من قبل أنه كلام محمد! فعلمت أنه كله كلام جميل لا يمكن أن يصدر من محمد، وإنما هذا وحي السماء، فأعجبني هذا القرآن إلا في موضعين! نعم لا بد أن تعلم أعداءك.
وذكر هذين الموضعين، ولو كان محقاً في ذكره -عياذاً بالله وأبرأ إلى الله تبارك وتعالى من كل ما يخالف كتاب الله وسنة رسوله، وإجماع علماء الأمة، والقياس الصحيح، أبرأ منه أنا وأنتم إلى الله عز وجل، وحُسن ظني بكم يدفعني إلى ذلك- هذا الذي أعجبه القرآن إلا في موضعين هو شيخ وأستاذ وقدوة وأسوة مصطفى محمود الذي خرج علينا منذ أشهر ينكر الشفاعة، أسأل الله تعالى أن يحرم جميع من أنكر الشفاعة الشفاعة، أسأل الله تبارك وتعالى أن يهلك الملاحدة، اللهم سلط بعضهم على بعض.. اللهم سلط بعضهم على بعض.. اللهم سلط بعضهم على بعض، اللهم لا تبق منهم أحداً.. اللهم لا تبق منهم أحداً، اللهم طهّر الأرض منهم، اللهم نجنا منهم.. اللهم نجنا منهم.. اللهم نجنا منهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
قال تحت عنوان: (كلمة هادئة) وكأنه يقول: لا تتعصبوا؛ فالمسألة كلها حرية رأي، وحرية فكر ولعب ومزاح، فلماذا أنتم تتضايقون؟ ثم افرض أنني قلت كلمة تعني شيئاً، هل تستحق هذه الغارة كلها؟ فأنا أمزح وأنا كنت نائماً وأحلم.
فقال تحت: (كلمة هادئة):
وهو يعلم أن الحديث في الصحيحين، وأن الأمة منذ أن صنّف البخاري ومسلم صحيحيهما تلقت الكتابين بالقبول، وهذا إلى قيام الساعة عند أهل الحق، ولكن عند أهل الباطل يقول: (في صحيح البخاري وصحيح مسلم في باب التوحيد عن أبي سعيد الخدري نقرأ هذا الحديث العجيب عن يوم القيامة..) هكذا يقول.
ثم يقول: (يقول الجبار قبل إقفال باب الحساب: بقيت شفاعتي، ويقبض قبضة من النار فيُخرج أقواماً قد امتحشوا -أي تفحّموا- فيضعهم في نهر في الجنة اسمه الريان).
هكذا قال وهو جاهل وغبي وأحمق، بل هو أجهل من حمار أهله؛ لأن باب الريان لأهل الصيام، ولم يقل: (باب) أيضاً، بل قال: (نهر) اسمه نهر الحياة، وهكذا أعمى الله تعالى بصيرته.
فقال: (فيضعهم في نهر في الجنة اسمه الريان، فتنمو أجسادهم كما تنمو الحبة في حميل السيل، ويوضع في رقابهم الخواتيم، ويقال: هؤلاء عتقاء الرحمن، دخلوا الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه).
وطبعاً لو قلنا له: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لن يدخل الله أحداً منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمة منه وفضل)؛ لقال: لا. هذا أيضاً حديث مدسوس! وهكذا لا نخرج من الدس، والذي يميّز لنا المدسوس من غير المدسوس، الصحيح من السقيم، الباطل من الحق هو فضيلة الشيخ العلامة المحدث الكبير الخبيث مصطفى محمود ، نعم هو الذي يميّز لنا هذا! ويجب علينا وجوباً لازماً أن نتّبعه في ذلك، ولكن لو اتبعناه فإنه حظنا ونحن حظه، إنه رزؤنا -أي: مصيبتنا- ونحن رزؤه، أي: مصيبته، نحن تبع له إن تبعناه في الدنيا يوم القيامة، نحن نُحشر معه إن رضينا بأن نكون في زمرته من الآن، وللأسف الشديد أن الناس ثلاثة: عالم معلم، وطالب علم على سبيل النجاة، ورعاع دهماء أتباع كل ناعق، وعلى رأس الناعقين هو، فمن تبعه لا بد أن يكون معه يوم القيامة.
ثم بعد ذلك يأتي بهذه الآيات التي تثبت أنه لا دخول للجنة إلا بعمل، ويقول: (وعلى الرغم من هذا التكرار القرآني الذي يؤكد المعنى بلا لبس وبلا إيهام ولا استثناء)، نعم هذه الآيات قد لُبّست على علماء الأمة شرقاً وغرباً منذ (14) قرناً وزيادة وظهرت عنده؛ لأنه ليس فيها لبس ولا إيهام على عقل المجرم الفذ!
فقال: (يفاجئنا رواة الأحاديث بهذا الحديث العجيب عن هؤلاء الأقوام الذين يخرجهم ربنا من النار وقد تفحّموا ويدخلهم الجنة بلا عمل عملوه ولا خير قدموه.
قال: فإذا رفضنا هذا الحديث اتهمونا بإنكار السنة).
لا. لا، فأنت مبرأ، وما هي إلا محاولة للاستئناف، إما أن يؤدي بك إلى الجنة وإما أن يؤدي بك إلى النار.
قال: (اتهمونا بإنكار السنة وإنكار الشفاعة، وقال عني الشيخ القرضاوي : إنني رجل مكابر. سامح الله الشيخ القرضاوي ).
أرأيت قلبه الرحيم! فهو لا يقابل الإساءة بالإساءة ولا التهمة بالتهمة، إنما يعفو ويصفح، قلب رحيم تربى على يد رشاد خليفة وأحمد صبحي منصور وأيدي الملاحدة.
ثم يقول: (فأنا على كثرة عيوبي قد عافاني الله من داء الكبر، ولا أزكي نفسي، فهذه منة امتن بها عليّ ربي. قال: وأخون أمانة القرآن في عنقي إن لم أُنكر هذا الحديث الذي تقولون به).
أمانة القرآن؟! ما هي علاقتك بالقرآن؟! وما هي علاقتك بالسنة؟! هل أنت عالم؟! أنت لا تفهم إلا في لغة الحيوان والصيد والحشرات والنبات وغير ذلك، فالعجيب أنكم تصدقون كلامه، ولو أن الواحد منكم مرِض هل يذهب إلى نجار ليعالجه؟! وإذا احتاج الواحد منكم إلى صناعة باب لبيته هل يذهب إلى طبيب ليصنعه؟! لِم تحترمون التخصص في كل شيء وتستبيحون دين الله عز وجل، أهو الشيء المستباح لديكم؟! أكل من يقول في دين الله اتهاماً محل احترام وتقدير عندكم وأنه مجتهد: إما مصيب وإما مخطئ!
ثم يقول: (وأخون أمانة القرآن في عنقي إن لم أُنكر هذا الحديث الذي تقوّلوا به زوراً وبهتاناً على سيدنا رسول الله).
ولكني أخشى أن يكون سيدهم رسول الله هو أحمد صبحي منصور أو رشاد خليفة .
ويقول: (وحاشا لرسول الله الذي جاءنا بالقرآن أن يقول هذا الكلام الذي ينقض به القرآن في معنى أكده القرآن (35) مرة في (35) موقعاً.
إن الجنة جزاء على خير العمل، حتى يكاد يكون هو قانون القرآن الأول ودستوره الثابت وروح العدالة المبثوثة في ثناياه) أي: العمل.
يقول: (ولا غرابة؛ فهو الدس والتحريف حينما عجزوا عن المساس بآيات القرآن).
هل نحن الذين نمس القرآن؟! هل البخاري هو الذي يمس القرآن؟! مسلم هو الذي يمس القرآن؟! أحمد بن حنبل في مسنده هو الذي يمس القرآن؟! أحمد بن حنبل والبخاري ومسلم من بعده عجزوا عن تحريف آيات القرآن فحرفوا السنة النبوية؟!
إنه يريد أن يهدم قدسية العلماء وقدسية الإجماع في قلوب أبناء العصر؛ حتى ينحرفوا عن كتاب الله وعن سنة الرسول عليه الصلاة والسلام وهم مطمئنون كل الاطمئنان أنهم غير آثمين.
ثم يقول: (ولم يجدوا وسيلة إلى تحريفه -أي: القرآن الكريم- فاستداروا إلى الأحاديث يحرفونها ويختلقونها اختلاقاً، وقد اعترف رواة الأحاديث أنفسهم بأن فيها الضعيف والموضوع والمدسوس والمنحرف).
نعم قد اعترفوا، ولكنهم ميزوا بين هذا وذاك، هم الذين اعترفوا بأن السنة قد دخلها تحريف، وهم حينما عرفوا بهذا التحريف قاموا بجهد انبهر به علماء الغرب في وضع قواعد لتمييز الصحيح والسقيم، ولذلك اعتبر الغرب أن قواعد الجرح والتعديل التي تفضّل بها علماء المسلمين وسلف أمة محمد عليه الصلاة والسلام هي أعدل الموازين في أي علم نشأ وفي أي علم قديم حتى علم اللغة، اعتبروا أن قواعد المحدثين هي أمتن وأشمل القواعد التي لا يمكن أن تفوّت فائدة، فلما وضع علماء الحديث هذه القواعد غربلوا السنة غربلة من أولها إلى آخرها، فميّزوا بين صحيحها وسقيمها، ولم ينتظروا حتى يأتي الدور إلى ذلك الملحد مصطفى محمود .
هو بنفسه -أيها الإخوة الكرام؛ حتى لا تستعظموا قولي: إنه ملحد- قال: إنه ملحد، بل صنّف كتاباً عنوانه: (رحلتي من الشك إلى الإيمان)، أما كونه انتقل من الشك إلى الإيمان؛ فهذا إيمان يعلمه فقط مصطفى محمود هل الذي عليه الآن مصطفى محمود هو إيمان أهل السنة والجماعة؟! كلا وألف كلا، إنما هو إيمان على قدر ما يفهم مصطفى محمود أنه إيمان، وليس إيمان أهل السنة والجماعة.
ثم يقول: (إن الحديث موضوع كلامنا هو نفسه متناقض، فإذا كان هؤلاء عتقاء الرحمن بالفعل فلِم يتركهم في النار حتى يتفحّموا؟).
وهل تأتي أنت لتحاكم ربنا وتقول له: لِم وكيف؟ فلماذا لا تقول له: لِم أفقرك ولِم أغنى فلاناً؟ أو العكس؟ لِم جعل هذا يُصاب بحادث سيارة وهذا ينجو؟! لِم يخفض هذا ويرفع ذاك؟ لِم يصح مريضاً ويمرض صحيحاً؟!
أقول ذلك لكي تعرف أنه ليس عنده إيمان؛ لأن من أعظم مراتب الإيمان: الإيمان بالقدر، ولا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر، ومن القدر أن تعلم أن الله تبارك وتعالى يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى: إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت:39] يُمرض صحيحاً، ويصح مريضاً، يغني فقيراً ويفقر غنياً، كل ذلك لحكمة علمها من علمها وجهلها من جهلها.
فالله عز وجل لو أغنى فقيراً لا غنى له طغى بغناه، ولو أفقر غنياً بعد غناه ولم يكن له الفقر لأدى به فقره إلى الردة عن دين الله عز وجل؛ ولذلك الله تبارك وتعالى وضع أرزاق العباد وحظوظهم على نحو من حكمته العظيمة حتى يحافظ على عباده، الغني بغناه والفقير بفقره.
ولو أنه جعل الناس جميعاً وزراء فأين الفقراء؟ ولو جعلهم أغنياء فأين الفقراء؟ ولو جعلهم فقراء فأين الأغنياء؟ هلك الناس من الفقر جميعاً، فلا بد أن تعلم أن هذا النسيج الرباني الكوني إنما هو لحكمة إلهية عظيمة خفيت -ولا أظن أنها خفيت- وإنما تعامى عنها وتجاهلها مصطفى محمود ؛ حتى يأتينا بكلام أدبي معسول جميل؛ ليضع لك السم في العسل، فتشرب هذه الفتنة وهي فتنة تموج كموج البحر.
قال: ولِم يدخلهم النار أصلاً؟!
هل تستوي عند ربك أنت وابن تيمية -مثلاً- ومصطفى محمود ؟ أنت وابن تيمية ؟ أنت تدّعي أنك قلت: صدّقنا وآمنا، وابن تيمية إمام الموحدين في زمانه وبعد زمانه كذلك، هل تستويان عند الله عز وجل؟ أليس هناك فرق بين المسيء والمحسن؟ أليس هناك فرق بين الطائع والعاصي؟ هل كلهم سواء؟ ما دام مسلماً يدخل الجنة ولا يدخل النار أصلاً؟ أتحاكم الله تبارك وتعالى في خلقه وفي إرادته ومشيئته: لم يدخلهم النار أصلاً؟!
قال: (علماً بأنه في الآخرة لا يتفحّم أهل النار، وإنما يتحادثون ويتلاعنون، كلما دخلت أمة لعنت أختها).
صحيح هذا في أول الأمر، لكن بعد ذلك يتفحّمون وتذهب جلودهم وعظامهم، ثم يمكثون في النار ليذوقوا العذاب مرة أخرى، وهكذا أبد الآبدين، وهذا لمن كفر كفراً أصلياً، أو ارتد عن دين الله عز وجل، أو نافق؛ فإن هؤلاء الثلاثة مخلدون في النار، والنار أبدية لا تفنى ولا تبيد، كما أن الجنة أبدية لا تفنى ولا تبيد، وجهنم -وهي أحد منازل ودركات النار السبعة- خُصّت لعصاة الله الموحدين.
اعلم أن النار سبع دركات: ستة منها للكفار الأصليين، والمنافقين، والمرتدين، وواحدة لعصاة الله الموحدين، وهذه الدركة في نار جهنم، وهي أعلى الدركات يدخلها العصاة -نسأل الله لنا ولكم السلامة- على قدر أعمالهم، وهي -أي: هذه الدركة- التي يُضرب عليها جسر جهنم، ويعبر على هذا الجسر المسلمون، فهذا الجسر ليس لكل أحد، وإنما للمؤمنين الطائعين والعصاة، فيقع فيها العصاة كل على قدر عمله، أما الطائعون الموحدون فإنهم يعبرون على الصراط كالبرق، أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم، ومنهم من يعبر عليه ويدخل الجنة بغير حساب ولا سابقة عذاب.
فاعلم أن هذه الدركة -وهي أعلى دركات النار- اسمها جهنم، وهي التي يُضرب عليها الصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف، واعلم أنك لا بد أن تمر على هذا الصراط، فإما ناج وإما مخدوش، وإما مكردس في نار جهنم.
ولذلك يقول ابن أبي جمرة عليه رحمة الله: الناس على الصراط ثلاثة: ناج بلا خدش، وهالك هلاكاً ليس بعده هلاك، وبينهما مخدوش ثم ناج. أسأل الله أن يجعلني وإياكم من الصنف الأول الذي ينجو نجاة بغير هلاك ولا خدش، وإن كان عملنا لا يؤهلنا إلى ذلك، ولكن طمعنا في رحمة الله عز وجل ورجاؤنا في عفوه وصفحه يحملنا على أن ندعوه بأحسن الدعوات التي تعود علينا بالخير، كما أخرج ذلك أبو داود في سننه: أن رجلاً سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، قال: يا بني! ليس هكذا تقول، وإنما قل: اللهم إني أسألك الفردوس الأعلى، فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (سيأتي أناس يعتدون في الطهور والدعاء) أي: لا يحسنون الوضوء ولا يحسنون دعاء الله عز وجل.
نرجع إلى مصطفى محمود: يقول: (إن القيامة التي أقاموها علينا باسم إنكار السنة وإنكار الشفاعة قيامة ظالمة نحن أبرياء منها، فما أنكرنا إلا المنكر في الأحاديث).
نعم تُنكر المنكر الذي اتفق عليه الشيخان البخاري ومسلم! تُنكر المنكر الذي تواتر تواتراً كالقرآن الكريم تماماً بتمام، ثم تدّعي بعد ذلك أنك ما أنكرت إلا المنكر في السنة؟
يقول: (وكل ما قلته في كتاب الشفاعة كان محاولة لفهم الشفاعة لا أكثر).
أقول: تعال وافرز كتاب الشفاعة عند العلماء، واسمع منهم لتتعلّم ولتتربى، فالعلم بالتلقي وبالتعلم لا بقراءة الكتب، ولا بد أن تفهم أن منهاج أهل السنة والجماعة في العلم التلقي، فإذا كنت تريد أن تعرف أمر الشفاعة فتعال ونحن نعلمك، وقبل أن نعلمك الشفاعة نعلمك كيف تتوضأ أولاً؛ لأن الذي لا يحسن العقيدة لا يحسن شيئاً، والذي لا يُحسن أن يتوضأ لا يُحسن أن يعتقد في الله اعتقاداً جازماً حقيقياً.
يقول: (ولم يكن هناك ما يدعو لكل هذه المشانق التي نصبوها والمحارق التي أشعلوها، فما أردنا إلا تنقية السنة من تحريفها، وماذا يعني كلامهم هذا؟! ماذا يعني أن يدخل الجنة أقوام بغير عمل عملوه أو خير قدموه إلا فوضى المحسوبية التي صنعوها في الدنيا، وصورت لهم أهواءهم؛ حتى تكرر في الآخرة لمصلحتهم).
وبعد هذا يتكلم عن معنى الشفاعة ويقول: قال سيدي الشيخ محمد : إن الشفاعة في كذا وكذا وكذا.
إن مصطفى محمود يقول بقول الصوفية لا غير؛ لأن شيخه محمداً هذا أنظف منه بمليون مرة، فهو لم ينكر شيئاً، لكن مصطفى محمود كل يوم ينكر شيئاً، فهو ليس بشيخ له، وفي الأخير يظهر أن مصطفى محمود رجل ديمقراطي حر جداً، ويقول: (وهذا مفهومي إن شئت أخذته، وإن شئت أخذت البديل الذي ترتاح له نفسك وقلبك).
وكأن القضية مزاجية.
يقول: (دون خصومة ولا لجج) أي: لا تتهمني ولا أتهمك، فلا تتضايق مني ولا أتضايق منك، فهذه المسألة حرية فكر.
يقول: (دون خصومة ولا لجج، فدنيا الله كلها حب ولا خصومة فيها ولا خلاف، وإنما الحق والحق وحده).
هو حقاً في الصحيحين من رواية أبي سعيد الخدري ، وجاء بغير هذه الزيادة التي أنكرها مصطفى محمود من رواية أبي هريرة وغيره، والحديث مستفيض حتى بلغ درجة التواتر أو كاد يكون كذلك، وهذا الحديث قد اشتمل على الفوائد بالشيء الكثير، أذكرها لكم سريعاً.
قال الإمام النووي : (باب: معرفة طريق رؤية الله عز وجل وإثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار).
لا بد أن تقف عند قول الإمام النووي وفهمه لهذا الحديث، قال: (باب إخراج الموحدين من النار)، عنى النووي بذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام فيه: (إن الله تعالى يخرج أقواماً من النار قد امتحشوا وصاروا حمماً -أي: فحماً- فيلقي بهم في نهر الحياة) وفي رواية: (في نهر الحياء أو الحيا، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل من غير عمل عملوه ولا خير قدموه).
فالإمام النووي قصد بالموحدين هؤلاء الأقوام الذين امتحشوا في نار جهنم وأخرجهم الله عز وجل برحمته لأنهم موحدون؛ ولأنهم قالوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، قصّروا في العمل وتركوا الطاعة، ولكنهم لم يرتكبوا المنهيات من الزنا وشرب الخمر والسرقة والإلحاد في أسماء الله وصفاته، ورفض شرعه وغير ذلك مما يفعله ملاحدة الزمان، فكل الذي عملوه أنهم آمنوا بالله وآمنوا برسول الله، وصدّقوا بالقرآن، وصدّقوا بالسنة ولم ينكروا منها شيئاً، ولكنهم لم يعملوا بشيء من القرآن ولا بشيء من السنة، وأنت ترى الآن في الشوارع والطرقات شباباً يتسكّعون، هم من أهل ملتنا ومن جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، ولو رأوا واحداً من اليهود أو النصارى قالوا: هذا ابن كلب، هذا كافر، هذا رجس، هذا آكل للحم الخنزير. يقول ذلك وهو تارك للصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحج كذلك تخلف عنه مع قدرته واستطاعته.
أقول: الصلاة فيها خلاف بين أهل العلم، فمنهم من قال: إن تارك الصلاة كافر خارج بالكلية من دين الله عز وجل، وحجتهم وجيهة، وجمهور العلماء فرقوا بين تارك الصلاة كسلاً وتاركها متعمداً، أما الذي قال بأن تارك الصلاة عمداً كافر فيستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم (بين العبد وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة)، وتارك الصلاة كسلاً لا يخرج من الملة، ولكن يصدق عليه اسم الكفر؛ لما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله البجلي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (بين العبد وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر وأشرك) وفي رواية: (فقد كفر أو أشرك).
ويقول أبو وائل شقيق بن سلمة : (أدركنا أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وهم لا يعدون شيئاً تركه كفر إلا الصلاة).
فلما كانت هذه النصوص وغيرها في شأن تارك الصلاة من عدمه؛ قال العلماء: إن حديث أبي سعيد الخدري ينطبق على من فرّط في الطاعة دون التوحيد والصلاة، والجمهور يقول: هذا من فرّط في طاعة الله جملة إلا التوحيد.
النووي عليه رحمة الله حينما بوب لهذا الحديث بباب إخراج الموحدين من النار: إنما عنى أن الموحد من قال: لا إله إلا الله، وفي ذلك خلاف أيضاً: هل الموحدون هؤلاء هم من أمة النبي عليه الصلاة والسلام فقط أم من جميع الأمم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم؟ أي: هل هؤلاء من أمة اليهود قبل مبعث عيسى، أو من أمة عيسى قبل أن يبعث الله محمداً، أو هم من أمة محمد عليه الصلاة والسلام فقط؟ وقع الخلاف.
والراجح: أنهم من أمة محمد عليه الصلاة والسلام.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن ناساً قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هل تُضارّون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا -بمعنى: هل يصيبكم ضرر أو ضيم أو غيم يحول بينكم وبين رؤية القمر ليلة البدر؟- قال: هل تُضارّون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: فإنكم ترونه كذلك) أي: فإنكم ترون الله عز وجل عياناً يوم القيامة وفي الجنة كما ترون القمر والشمس، وشبّه الرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي.
قال: (يجمع الله الناس يوم القيامة) وهو الحشر ليوم القيامة، وهو يوم واحد (فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتبعه. فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت) وهذا مصداق قول الله عز وجل: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:98].
يقول: (وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها) بعد أن يذهب كل معبود بعبدته إلى النار، ويدخلون في هذه الدركات الست، وتبقى جهنم، ويبقى محمد عليه الصلاة والسلام وأمته، أما المنافقون الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر يأذن الله لهم أن يستتروا بالمؤمنين في الموقف؛ حتى يفضحهم ويبيّن للأمة أن هؤلاء هم المنافقون، وهم المخادعون: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142].
فيبقى في هذه الأمة المنافقون وهم ليسوا منها، كما أن الله تعالى أذن لإبليس أن يكون في الملائكة حين وجّه إليهم الأمر بالسجود لآدم، فسجدوا إلا إبليس لم يسجد ولم يمتثل، وإنما أبى وعصى وفسق.
فإجماع أهل السنة والجماعة على أن إبليس ليس من الملائكة، وإنما كان بين الملائكة حين صدور الأمر للملائكة بالسجود فنُسب إليهم تغليباً، أنتم الآن تغلبون ألفاً أو زيادة، فلو أن فيكم امرأة جلست معكم هنا لوجِّه الأمر إليكم كرجال، ويشمل هذا الأمر المرأة وإن لم تكن منكم في الحقيقة ولا من جنسكم الذكري، وإنما يشملها الأمر، وكذلك إبليس كان مع الملائكة حين صدور الأمر، فصدر الأمر للملائكة بالسجود بما فيهم إبليس، رغم أنه ليس منهم: إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف:50]، فهو كان من الجن وليس من الملائكة، وكذلك هؤلاء المنافقون الذين كانوا يصلون معكم ويصومون ويجاهدون وبريق السيوف فوق رقابهم، ويحتمل أن كل هذا في مقابل دغل قلبه ومرض قلبه، وألا يقال عنه: إنه كافر، فهو يرضى أن يكون مسلماً في الظاهر وإن كان في القيامة من أهل النار المخلدين فيها، ولذلك يؤمر بهم فيكونون في أسفل دركة: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها) وفي رواية: (إذا كان يوم القيامة أذّن مؤذن -أي: نادى مناد-: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله سبحانه من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر) حتى تعلم أن الفجور يجتمع مع الإيمان.
وإلا فانظر لنفسك: هل أنت كافر؟ هل أنت زنديق وملحد؟ هل أنت منافق؟ مع أنك تعصي، بل لا يمر يوم إلا ولك مع الله معصية، ولك مع الله هتك ستر، ومع هذا فإنك في أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وتحقق لك الشفاعة يوم القيامة، حتى وإن كنت خالياً من المعاصي فإن الشفاعة تنفعك.
قال: (حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر وغبر أهل الكتاب) أي: بقايا من اليهود والنصارى (فيُدعى اليهود فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد
قال: (قلنا: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه) قال في رواية: (أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها، قال: فما تنتظرون؟ فتتبع كل أمة ما كانت تعبد، قالوا: يا ربنا! فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم) أي: أنهم يقولون لله عز وجل: نحن في الدنيا فقدنا الأهل والأحباب والعشائر وغير ذلك طاعة لك، وكنا أحوج الناس إليهم فنتقوى بهم، ونستنصر بهم، ولكنا فارقنا الأحباب والأهل والعشائر فيك يا رب،
قال: (فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك)؛ لأن هذه الصورة صورة مخلوق، والله تبارك وتعالى ليس مخلوقاً، (فيقولون: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئاً، حتى بعضهم ليكاد أن ينقلب) فتنة عظيمة جداً، وهي آخر فتنة يتعرض لها المؤمن على الإطلاق فتنة التعرف على ربه عز وجل في الموقف، قال: (حتى إن بعضهم ليكاد ينقلب -أي: تزل قدمه- فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟) الله تبارك وتعالى يخاطبهم: أنتم تقولون: نعوذ بالله منك، نحن في مكاننا حتى يأتينا ربنا بصورته التي نعرفه عليها، فهل بينكم وبينه علامة؟ (قالوا: نعم. الساق) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42] العلامة التي بيننا وبين ربنا الذي كنا نعبده هي الساق، إذ يكشف الله يوم القيامة عن ساقه وهذا آخر ابتلاء، وساقه ثابت له، وهي من صفات الذات التي تليق بجلاله وكماله لا تشبه سوق المخلوقين.
يوم يكشف الله تبارك وتعالى عن ساقه، فيخر كل مؤمن موحد -وإن كان مقصراً، وإن كان عاصياً، وإن كان فاجراً- ساجداً لله عز وجل، وأما المنافق الذي بقي في عموم الأمة فإنه إذا نهض للسجود تصلبت فقرات ظهره، فخرّ على قفاه ولم يتمكن من السجود، ولذلك قال: (هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ قالوا: نعم. يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42] فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خرّ على قفاه، ثم يرفعون رءوسهم وقد تحوّل في صورته التي رأوه فيها أول مرة، فقال: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، ثم يُضرب الصراط بين ظهري جهنم) وجهنم دركة من دركات النار، وهي أعلى دركة، ويُضرب عليها الجسر أي: الصراط .
فإن قيل: كيف تعرف الملائكة هؤلاء في النار؟
نقول: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يعرفونهم بأثر السجود) وهذا حجة لمن قال: إن الصلاة من التوحيد، فمن تركها فقد كفر.
يقول: (تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود) فقد حرّم الله على النار أن تأكل أثر السجود؛ ولذلك أخرج البخاري هذا الحديث في كتاب المواقيت تحت باب: فضل السجود، وأن ابن آدم يُحرق ويصير فحماً إلا أثر السجود، واختلفوا في أثر السجود: هل هو السبعة الأعضاء أم أنها الجبهة فقط، الراجح: أنها السبعة أعضاء: الركبتان، والكفان، والجبهة مع الأنف -والجبهة مع الأنف عضو واحد- وأطراف القدمين. هذه ستة، والجبهة العضو السابع؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (يسجد المرء على سبعة أعظم) وفي رواية: (على سبعة آراب).
إذاً: هل النار تأكل كل شيء من ابن آدم إلا هذه السبعة، أو تأكل كل شيء إلا موضع السجود في الجبهة؟
ذكر مسلم حديثاً آخر قال: (تأكل النار كل شيء من ابن آدم إلا دارات الوجوه) أي: إلا هذا المكان الدائري الذي هو موضع السجود.
قال العلماء: هذا الحديث الذي فيه (يسجد المرء على سبعة أعظم) حديث عام مخصوص بحديث دارات الوجوه، فإن الله تبارك وتعالى يمن على عباده بألا تأكل النار منهم سبعة أعضاء، ولكن هناك أقوام تأكل النار منهم ستة أعضاء، ولا يبقى إلا دارات الوجوه على حسب أعمالهم.
قال: (يعرفونهم بأثر السجود، تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود، حرّم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار وقد امتحشوا) أي: احترقوا وصاروا فحماً، ولا بد أن تعلم أنهم موحدون، وأنهم من أهل الصلاة؛ لأن هذه المواضع لم تؤكل منهم فضلاً للسجود، فكيف يزعم مصطفى محمود أنهم لم يعملوا خيراً قط.
يقول: (فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون منه كما تنبت الحبة في حميل السيل) أي: فيما يحمله السيل.
فيقال لهم: (أخرجوا من عرفتم فتحرّم صورهم على النار، فيُخرجون خلقاً كثيراً قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه، ثم يقولون: ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيُخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه، فيُخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحداً، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا تبارك وتعالى: لم نذر فيها خيراً) أي: لم يكن فيها أحد له عمل يُذكر، لم نعلم فيها أحداً من أهل العمل.
يقول: أبو سعيد الخدري راوي الحديث: إن لم تصدقوني في هذا الحديث فاقرءوا إن شئتم: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40].
فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين، فيقول: لكم عندي أفضل من هذا، فيقولون: يا ربنا! أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبداً
) .وفي رواية: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أما أهل النار الذين هم أهلها) ولا بد أن تفرق بين هذا (أما أهل النار الذين هم أهلها) أي: المخلدون فيها وهم الأصناف الثلاثة الذين ذكرتهم لك آنفاً (فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم وبخطاياهم فأماتهم الله تعالى إماتة حتى إذا كانوا فحماً أُذن بالشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر -يعني: لفالف لفالف- فبثوا على أنهار الجنة).
إذاً: تفحيم هؤلاء وصيرورتهم فحماً في نار جهنم من أول وهلة يدخلون فيها الجنة هو من رحمة الله عز وجل لعصاة الموحدين؛ لأنهم يفقدون الإحساس والشعور في النار حينئذ حتى يؤذن بالشفاعة، وتبقى شفاعة أرحم الراحمين، فهؤلاء الذين احترقوا وصاروا فحماً يلقون في نار جهنم ويخرجهم الرحمن وهم عتقاؤه.
قال النووي : معناه -أي: معنى هذا الكلام- أن المسلمين من المؤمنين يميتهم الله تعالى إماتة بعد أن يعذّب المدة التي أرادها الله تعالى، وهذه الإماتة إماتة حقيقية يذهب معها الإحساس، ويكون عذابهم على قدر ذنوبهم، ثم يميتهم ثم يكونون محبوسين في النار من غير إحساس، ثم يخرجون من النار موتى قد صاروا فحماً، فيُحملون ضبائر ضبائر كما تُحمل الأمتعة، ويلقون على أنهار الجنة فيصب عليهم ماء الحياة، فيحيون وينبتون نبات الحبة في حميل السيل، كما تأتي بحبة وتلقيها على هذا القش الذي يحمله الماء في البحار والأنهار، فإذا ألقيت حبة على الشاطئ نبتت، فكذلك، وهو على الله عز وجل أهون.
قال النووي رحمه الله: وينبتون نبات الحبة في حميل السيل في سرعة نباتها وضعفها، فتخرج بضعفها صفراء ملتوية، ثم تشتد قوتهم بعد ذلك ويصيرون إلى منازلهم، وتكمل أحوالهم، فهذا الظاهر من لفظ الحديث ومعناه، وهم موحدون.
فقال: (قدمني إلى باب الجنة. فيقول الله له: أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك لا تسألني غير الذي أعطيتك، ويلك يا ابن آدم! ما أغدرك، فيقول: أي رب! ويدعو الله حتى يقول له: هل عسيت إن أعطيت ذلك أن تسأل غيره؟ فيقول: لا يا رب وعزتك وجلالك، فيعطي ربه ما شاء الله من عهود ومواثيق فيقدمه إلى باب الجنة، فإذا قام على باب الجنة انفهقت له الجنة) أي: اتسعت وانشرحت له (فرأى ما فيها من الخير والسرور، فيسكت ما شاء الله له أن يسكت، ثم يقول: أي رب! أدخلني الجنة، فيقول الله تبارك وتعالى له: أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك ألا تسأل غير ما أُعطيت، ويلك يا ابن آدم! ما أغدرك، فيقول: أي رب! لا أكون أشقى خلقك عليك) أي: لا تجعلني أشقى الخلق، أدخلني معهم ولو خلف باب الجنة، (فلا يزال يدعو الله حتى يضحك الله تبارك وتعالى) وهو ضحك يليق بجلاله وكماله ليس كضحك المخلوق (فإذا ضحك الله منه قال: ادخل الجنة، فإذا دخلها قال الله له: تمنه!) أي: تمن فيها ما شئت (فيسأل ربه ويتمنى، حتى إن الله ليذكره من كذا وكذا) انظروا إلى رحمة الله عز وجل ورأفته بعباده، الرجل يتمنى ما شاء الله له أن يتمنى، ثم تنقطع به الأماني فيقول الله تبارك وتعالى له: يا عبدي! تمن من كذا، وتمن من كذا ويذكره؛ لأن في الجنة شيئاً لم يتمنه (قال: حتى انقطعت به الأماني. قال الله تعالى: ذلك لك ومثله معه، قال: يا رب! أتهزأ بي! أتسخر بي وأنت رب العالمين! قال: لا).
قال أبو سعيد الخدري معترضاً على أبي هريرة رضي الله عنه حين قال: (ذلك لك ومثله معه). قال أبو سعيد : أما أنا فوالله لقد حفظت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ذلك لك وعشرة أمثاله.. ذلك لك وعشرة أمثاله.. ذلك لك وعشرة أمثاله).
نسأل الله تعالى أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال والأقوال؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر