إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [60]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من عقيدة أهل السنة الإيمان بعذاب القبر، وقد دلت عليه كثير من الأدلة من القرآن والسنة، وقد رد أهل العلم على شبه من ينكره من أهل الأهواء والبدع.

    1.   

    الإيمان بعذاب القبر وفتنته

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً، سؤال منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيه، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة رضوان الله عليهم.

    والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران).

    قال تعالى: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:45-46]، وقال تعالى: فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الطور:45-47]، وهذا يحتمل أن يراد به عذابهم بالقتل وغيره في الدنيا، وأن يراد به عذابهم في البرزخ وهو أظهر؛ لأن كثيراً منهم مات ولم يعذب في الدنيا، أو المراد أعم من ذلك.

    وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله كأن على رءوسنا الطير، ولما يلحد له، فقال: (أعوذ بالله من عذاب القبر ثلاث مرات، ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزلت إليه الملائكة كأن على وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: يا أيتها النفس الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض.

    قال: فيصعدون بها فلا يمرون بها -يعني: على ملأ من الملائكة- إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها الى السماء، فيستفتحون له فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى.

    قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له: ما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي؛ فافرشوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة.

    قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: يا رب! أقم الساعة؛ حتى أرجع إلى أهلي ومالي.

    قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح خبيثة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40] فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحاً، ثم قرأ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].

    قال: فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري، فينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي، فافرشوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب! لا تقم الساعة) رواه الإمام أحمد وأبو داود ، وروى النسائي وابن ماجة أوله، ورواه الحاكم وأبو عوانة الإسفرائيني في صحيحيهما وابن حبان ، وذهب إلى موجب هذا الحديث جميع أهل السنة والحديث، وله شواهد من الصحيح، فذكر البخاري رحمه الله عن سعيد عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم، فيأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقول له: انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعداً من الجنة، فيراهما جميعاً)، قال قتادة : وروي لنا أنه يفسح له في قبره .. وذكر الحديث.

    وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرىء من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة، فدعا بجريدة رطبة فشقها نصفين، وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا).

    وفي صحيح أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قبر أحدكم أو الإنسان أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما: المنكر وللآخر النكير ..)، وذكر الحديث إلخ].

    الأدلة على عذاب القبر

    الإيمان بالبرزخ وما يكون فيه ثبت تفصيلاً بالسنة، وثبتت أدلته من القرآن، وقد روي أن امرأة من اليهود دخلت على عائشة ، فكان من جملة ما قالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فأنكرت عائشة أن يكون في القبر عذاب، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم سألته، فقال: (نعم، إن القبر فيه عذاب وفيه نعيم) أو كما قال.

    وقد استدل الشارح على عذاب البرزخ بآيات، وابتدأ بقوله تعالى في قصة آل فرعون: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، في بعض الحكايات أن أناساً رأوا في المنام أو في اليقظة أن طيوراً تذهب أول النهار وهي بيض إلى وراء البحر، وترجع في آخر النهار وهي سود، فقيل له: إن هذه أرواح آل فرعون في أول النهار تعرض على النار فتحترق، ثم ترجع فتعود كما كانت، ثم ترجع في آخر النهار فتحترق، يعرضون على النار فيحترقون فتسود ألوانهم، هذا عذاب البرزخ، يعرضون على النار غدواً أول النهار، وعشياً آخر النهار.

    فإذا كان هذا في حق آل فرعون فكذلك كل كافر، وكل خارج من الإسلام، وكل مبتدع؛ يثبت له هذا العذاب الذي ثبت لآل فرعون.

    الآية الثانية في آخر سورة الطور، وهي قوله تعالى بعدما ذكر يومهم الذي فيه يصعقون، وهو يوم القيامة، قال: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ [الطور:47] (عذاباً دون ذلك) يعني: قبل ذلك، فسر هذا العذاب بأنه عذاب القبر، وقيل: إنه عذاب في الدنيا، ورجح الشارح أنه عذاب القبر؛ وذلك لأن كثيراً منهم مات ولم يعذب في الدنيا، فدل على أنه لابد أن يأتيه عذاب قبل عذاب يوم القيامة، ولا يكون إلا عذابه في البرزخ.

    وقد استدل أيضاً بقوله تعالى في سورة السجدة: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى [السجدة:20-21] ففسر العذاب الأدنى بأنه عذاب البرزخ، فإن عذاب القبر قبل العذاب الأخروي.

    واستدل أيضاً عليه بقوله تعالى في سورة التوبة لما ذكر المنافقين: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ [التوبة:101] المرتان قيل: مرة في الدنيا ومرة في البرزخ، أو مرتين في البرزخ، يعني: عذاب على الأرواح وعذاب على الأبدان، فهذه أدلة تدل على إثبات عذاب القبر من القرآن.

    وقد تكلم العلماء على القبور وما يكون فيها، فكتب المتقدمون كتباً كثيرة كـابن أبي الدنيا له كتاب مطبوع فيمن شوهد يعذب في قبره، وكذلك ابن القيم في كتابه المسمى بكتاب الروح، تكلم فيه على عذاب القبر، وذكر الأدلة عليه، وذكر أنواعه، كذلك تلميذه ابن رجب في كتابه الذي يسمى: (أهوال القبور وأحوال الموتى إلى النشور) تكلم فيه على عذاب القبر وأنواعه، وتوسع في ذلك، وذكروا أمثلة وأدلة على ذلك.

    شرح حديث البراء الطويل في عذاب القبر

    وردت أحاديث كثيرة تدل على إثبات عذاب القبر، وذكر الشارح بعضها كما سمعنا، وذكر ابن كثير في التفسير عند قوله تعالى في سورة إبراهيم: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27] أنها نزلت في عذاب القبر، وقد أورد عندها أحاديث كثيرة طويلة وقصيرة فيها ذكر ما يعرض على الميت في قبره وما يناله من العذاب، ومنها هذا الحديث الطويل الذي سمعناه، فنتأمل في هذا الحديث، ونأخذ منه عبرة.

    يشترك المؤمن والكافر في أن ملك الموت يجلس عند رأس كل واحد منهما، إلا أنه يقول للمؤمن: اخرجي أيتها الروح الطيبة، كانت في الجسد الطيب، اخرجي إلى روح وريحان، ورب غير غضبان، ويقول للكافر: اخرجي أيتها الروح الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي إلى سخط من الله وغضب.

    أما روح المؤمن فإنه يسلها كما تسل الشعرة من العجين، أو تسيل روحه كما تسيل القطرة من فم السقاء، وأما روح الكافر فتتفرق في جسده فينتزعها بقوة كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، والسفود هو الذي له أطراف من حديد محددة، إذا أدخل في الصوف المبلول لا يخرج إلا بعد ما يتقطع الصوف، وبعدما يتقطع ما علق به، وأنت إذا أردت أن تخرج شوكة من وسط صوف أو قطن ما تخرج إلا بعد أن يتقطع الذي حولها، فروح الكافر تتفرق في جسده، وينتزعها الملك بقوة فتتقطع العروق، وتتقطع الشرايين، فلا تخرج إلا بقوة، وهذا دليل على أن هذا أول عذاب.

    وبعدما تخرج الروح تأخذها الملائكة، فملائكة المؤمن كأن وجوههم الشمس، وملائكة الكافر سود الوجوه، ومع ملائكة المؤمن أكفان من الجنة، وحنوط من الجنة، والحنوط هي الأطياب التي يطيب بها الميت، فالميت يطيب بدنه بأنواع من الطيب، وروحه كذلك تطيبها الملائكة بحنوط من الجنة، وياسمين من الجنة، وأكفان من الجنة، وأما الكافر فإن روحه تجعل في تلك المسوح، وهو الخشن من ثياب الصوف الذي في غاية الخشونة، هذا الفرق بينهما.

    بعدما يُصعد بها يخرج من المؤمن كأطيب ريح مسك وجدت على وجه الأرض، ويخرج من الكافر كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، مع أنها روح، ولكن هذه لها رائحة طيبة، وهذه لها رائحة خبيثة.

    وكذلك المؤمن يسمونه بأحسن أسمائه في الدنيا، والكافر بأقبح أسمائه في الدنيا، والمؤمن يستفتح له فتفتح له أبواب السماء، ويشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء الثانية، وهكذا حتى تصل روحه إلى السماء السابعة، فعند ذلك يقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتصعد روحه وتصل إلى السماء السابعة، ويكتب كتابه في عليين كما في قوله تعالى: كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين:18] مشتق من العلو.

    وأما الكافر فيقول: اكتبوا كتابه في سجين، قال تعالى: كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [المطففين:7] سجين قيل: إنه مشتق من السجن، يعني: كأن أرواحهم مسجونة في أسفل الأرض السابعة، فيكون هذا مستقر أرواحهم، ومحل كتابهم، وروح الكافر لا تفتح لها السماء، لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40] الجمل هو زوج الناقة، وسم الخياط هو ثقب الإبرة، فالإبرة التي يخاط بها لها ثقب يدخل فيه السلك الذي يخاط به، فكيف يتصور أن الجمل يدخل من ثقب الإبرة التي يخاط بها؟

    والمعنى: أنهم لا يدخلون الجنة حتماً؛ لأنه لا يتصور دخول الجمل في سم الخياط.

    كذلك روح الكافر تطرح من السماء طرحاً إلى الأرض، واستدل عليه بقوله تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31] في مكان بعيد، فتطرح روحه طرحاً.

    وكل منهما تعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان يقال لهما: منكر ونكير كما سمعنا، ويسألانه عن ثلاث مسائل: عن ربه ونبيه ودينه، فيثبت الله المؤمن وينطقه بالصواب، ولو كان أمياً، ولو كان لا يقرأ، ولكن عقيدته التي مات عليها يبقى عليه أثرها، فينطقه الله بأن يقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، أما الكافر فكما سمعنا ولو كان قارئاً، ولو كان عالماً، ولو كان فاهماً، يزيغه الله ويضله، فلا يدري بالجواب، فيقول: هاه هاه! لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، وفي بعض الروايات: (يضرب بمرزبة من حديد)، والمرزبة هي حديدة كبيرة لها رأس كبير، يضرب بها، يقول في بعض الروايات: (لو ضرب بها جبل لكان تراباً)، وماذا يتحمل هذا الإنسان الذي يضرب بهذه المرزبة؟! ولكن لأن الله ما أراد إفناءه لم يفن، فيتألم بذلك وإن كنا لا نشعر بذلك، ولا تدركه أفهامنا.

    ثم إذا سئل المؤمن وأجاب بالجواب الصحيح يقول الله: صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من روحها وريحانها، وينظر إلى منزله من الجنة، وفي بعض الروايات: (يفتح له بابان: باب إلى النار ويقال: هذا المنزل الذي أعاذك الله منه، وباب إلى الجنة ويقال: هذا منزلك الذي أبدلك الله به -فينظر إليهما ويراهما جميعاً، ويتمنى أن تقوم الساعة- فيقول: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي، فيفسح له في قبره مد بصره)، ويكون القبر عليه روضة من رياض الجنة، وإن كنا لا ندرك ذلك.

    وأما الكافر والعياذ بالله فيقول الله: كذب عبدي، فأفرشوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، فيكون عليه حفرة من حفر النار، وإن كنا لا ندرك ذلك؛ لأنه في عالم ونحن في عالم.

    الرد على من ينكر عذاب القبر

    وردت الأدلة التي تثبت عذاب القبر مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا وضع الرجل في قبره، وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فيجلسانه)، إلى آخر الأحاديث التي سمعنا.

    فإذا قال قائل: أين العذاب ونحن قد نحفر القبر بعد يومين أو بعد أيام ونجده كما هو لم يتغير؟ ويقول بعضهم: إنا نضع على صدره الزئبق الذي هو خفيف الحركة، ومع ذلك نجده على حاله لم يتغير عن موضعه، فكيف يكون العذاب مع هذا؟

    فالجواب: أنكم في عالم وهم في عالم، والعالم الذي هم فيه هو عالم الأرواح، ولا شك أن الروح هي التي يكون عليها الحساب، وعليها العذاب، وهي التي تتألم وتتنعم، ونحن لا نشعر بذلك، ولا تدركه أفهامنا، والذي في الدنيا لا يشعر بما يكون بعد الموت؛ فلأجل ذلك يقول في الحديث: (إنه يصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق) لو أسمعنا الله ما يكون من أهل القبور لما استقر الناس في الدنيا، ولما تهنوا بمأكل ولا بمشرب، ولما عمرت هذه الدنيا بأهلها؛ لأنهم إذا كانوا يسمعون عذاب هؤلاء وصياحهم وعويلهم، ويعلمون أنهم سيصيرون إلى مثل ذلك، تنكدت عليهم الحياة، وتكدر عليهم صفوها، وتكدرت عليهم معيشتها؛ فلأجل ذلك لما أراد الله عمارة هذه الدنيا حجب عنهم الأمور الأخروية، التي أولها ما بعد الموت، حجبها عنهم فلا يسمعون شيئاًمما فيها، ولا يعلمون حقيقته، ولكن قد يطلع الله أفراداًعلى شيء من ذلك، ومن أراد أمثلة لذلك فيرجع إلى الكتب التي ذكرنا، مثل كتب ابن أبي الدنيا فله رسائل في ذلك، وكتاب أهوال القبور لـابن رجب ، وكتاب الروح، فقد ذكروا عن أناس أنهم أطلعوا على بعض الأمور الأخروية، ومنها ما هو أحلام ومرائي، ومنها ما هو رأي عين، وفي بعض الحكايات أن بعضهم رؤي في المنام وعلى وجهه سفعة من سواد، فقيل له: ما هذا السواد في وجهك؟ فقال: دفن عندنا بشر المريسي فزفرت جهنم زفرة، فنال جميع أهل القبور منها هذه السفعة من السواد!

    ومعلوم أن المقبورين قد يكون أحدهما سعيداً والآخر شقياً، ويدفنان في قبر واحد، ويكون هذا قبره روضة من رياض الجنة، وهذا حفرة من حفر النار، وهما ملتصقان، ولا يتألم هذا بعذاب هذا، ولا يتنعم هذا بنعيم هذا، والله قادر على كل شيء؛ لأنه يقدر على إيصال كلٍ ما يستحقه، ولا يستبعد في قدرة الله أمثال هذه الأمور.

    وأما الحكايات الدنيوية فذكروا منها أشياء كثيرة، ذكروا أن فلاناً لما دفنوه، وسووا عليه لبنه، سقطت قلنسوة واحد منهم، فخفض رأسه ليأخذها، فرأى القبر قد مد وقد وسع في نظر عينه، ولم يره غيره! وهذه بشرى.

    وكذلك يحكى عن كثير من الذين يشهد لهم بالخير أنه يخرج من قبورهم رائحة المسك، وأنه يشم منهم قبل أن يدفنوا روائح طيبة على الأبدان، فكيف بالأرواح؟! ولا شك أن الله سبحانه أخبر على لسان رسله بهذه الأمور، وأظهر منها علامات لتكون شاهداً ودليلاً للأمة على مثل هذه الأمور التي لم يروها.

    إطلاع الله نبيه على عذاب بعض أهل القبور

    أطلع الله نبيه على ما لم يطلع عليه غيره، ففي بعض الأحاديث أنه كان صلى الله عليه وسلم راكباً على حمار فأقبل على خمسة قبور، فحادت الأتان التي كان راكبها، فنزل وسأل: (لمن هذه القبور؟) فأخبر بأنهم من المشركين، فأخبر بأن الأتان -التي هي أنثى الحمر- لما سمعت عذابهم أو أحست بما هم فيه من العذاب حادت، فأطلعه الله على ذلك، ولم يطلع عليه غيره، ولا يلزم أن يكون ذلك مطرداً، يعني: ليس كل من ركب حمار ومر على قبر أن ينتبه له ذلك الحمار أو نحوه، والدواب قد يكون لها سماع وانتباه لشيء لا نسمع به، ولكن قد لا يظهر عليها أثر ذلك السماع، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الدواب في صباح كل يوم جمعة تصيخ قرب الصباح إلى طلوع الشمس تخشى أن يكون ذلك هو يوم القيامة، يقول في الحديث في فضل يوم الجمعة: (وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة حتى تطلع الشمس مخافة أن تقوم الساعة)، ونحن لا نشعر بهذه الإصاخة التي فيها، ولا هذا الوجل، ولا هذا الخوف، وكذلك أيضاً لا نشعر بما يحصل لها من الخوف أو من السماع المفزع أو نحو ذلك، وأما الرسل فالله تعالى يطلعهم على بعض الأمور الغيبية، ومن ذلك أن الله أطلع نبيه على هذين القبرين اللذين يعذبان، وما يعذبان في كبير، وقد مر الحديث، وفيه: (أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة، فدعا بجريدة فشقها نصفين، وغرز في كل قبر واحدة وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)، وهذا من خصائص الرسول عليه الصلاة والسلام، فالله تعالى هو الذي يطلعه على ما يشاء، ولا يجوز لغيره أن يغرز جريدة أو عصاً رطبة على أي قبر، ولا يمكن أن يقاس على الجريدة التي غرسها النبي صلى الله عليه وسلم غيرها.

    وقد ذكر عن بعض العلماء أنهم استحبوا أن يغرس على كل قبر جريدة، وكلما يبست نزعوها وغرسوا أخرى، وهذا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم مع كل أحد، ولم يفعله الصحابة، ولا نقل عن الأئمة، فلا يجوز، ولا يكون له وجه من الدلالة، ولكن علينا أن نعمل الأعمال الصالحة التي تنجي من عذاب القبر، وعلينا أن ننصح المسلمين ألا يعملوا عملاً يدخلهم في العذاب، أو يؤهلهم إلى العذاب، ونحثهم على الأعمال الصالحة التي يستحقون بها نعيم البرزخ، وينجيهم الله بها من عذاب النار، وعذاب القبر.

    الدعاء للميت بالنجاة من عذاب القبر

    يستحب في الصلاة على الجنازة أن يدعى للميت بالنجاة من عذاب القبر، يقال في آخر الدعاء له، بعدما يدعى له بالمغفرة، وأن تكفر عنه خطاياه: اللهم افسح له في قبره، ونور له فيه. وهذا مما يرجى إجابته، فيفسح له في قبره، ويقال أيضاً: اللهم أنجه من عذاب القبر وعذاب النار. هكذا يستحب أن يدعى للميت، ويدعى كذلك لكل المسلمين أن ينجيهم الله من عذاب القبر، ومن فتنة القبر، ومن فتنة ما بعد الموت.

    وإجماع المسلمين على الدعاء بذلك، حتى أوجبه بعضهم في آخر الصلاة، دليل على أنهم يوقنون بذلك، ويدل على وجوده قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال)، فجعل من جملتها عذاب القبر، فدل على أنه عقيدة راسخة عند المسلمين، وهي أن القبر فيه عذاب، ولو لم يقبر الميت، قد يقال: إن هناك أمماً لا يدفنون أمواتهم، بل يحرقونهم كما هو معروف، وهناك من يموت في صحراء ولا يدفن، بل تأكله الطيور، وتتقطعه السباع، ولا يبقى له جثة تدفن أبداً!

    فنقول: يأتيه عذابه أو نعيمه ولو كان رماداً، ولو كان تراباً، فقدرة الله تأتي على كل شيء، يعذب أو ينعم أياً كانت حياته وحالته، لكن الأصل شرعية الدفن للأموات، فالإسلام شرع التدافن، يقول الله تعالى: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس:21] أي: فشرع أن يقبر، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا ألا تدافنوا لسألت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع) كأنه يقول: إنهم لو سمعوا ما يسمعه من المعذبين في القبر لخشي أنهم لا يتدافنون، فيقولون: لا حاجة إلى الدفن، لا ندفنه إذا كان يعذب في قبره، لكن شرع الله التدافن، وقدر أن يصل العذاب أو النعيم إلى كل أحد سواء دفن أو لم يدفن.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756521940