إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [124]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الواجب على العبد أن يعرف ربه، وأن يظن به الظن الحسن، فإحسان الظن من الإيمان، وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده اعتراضاً على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا.

    1.   

    معنى ظن الجاهلية وظن السوء

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: قول الله تعالى: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:154]، وقوله: : الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً [الفتح:6].

    المقصود من إيراد هاتين الآيتين في الباب

    قال ابن القيم في الآية الأولى: فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته، وفسر بإنكار الحكمة وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله وأن يظهره الله على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظن المنافقون والمشركون في سورة الفتح.

    وإنما كان هذا ظن السوء لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق، فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة فذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ، وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله سبحانه وتعالى وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده.

    فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتاً على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم؟!

    فإن تنج منها تنج من ذي عظيمـة وإلا فإني لا إخـالك ناجيـاً ].

    المقصود من ذكر هذا الباب أن المؤلف رحمه الله أراد تبيين وجوب حسن الظن بالله جل وعلا، وأن كل ما يقع من فعل الله وتدبيره أنه حسن جميل، وأنه وقع من حكيم عليم عدل يضع الأمور في مواضعها، ويكون الإنسان هو محل الاتهام فيتهم نفسه؛ لأنه لم يقم لله جل وعلا بما يجب عليه.

    وذكر الآية التي مر ذكر بعضها في الباب وهي في سياق قصة أحد، لما ذكر الله جل وعلا أنه صدق المؤمنين وعده؛ لأنه وعدهم أن ينصرهم ولكن بشرط الصبر وعدم الفشل والتنازع، فلما حصل التنازع وحصلت المخالفة تخلف الوعد الذي وعده، وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ [آل عمران:152] يعني: هذه كلها حصلت، ولكن لما حصل التنازع وحصلت المعصية تخلف النصر، فأديل العدو عليهم فحصل ما حصل. ثم بعد ذلك ذكر جل وعلا استنكارهم بقوله: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آل عمران:165] أي: من أين جاء هذا وكيف؟ فأجابهم سبحانه بقوله: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] يعني: أنتم السبب وهذا وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ثم ذكر مِنَّته وعليهم بعد هذا بعد ما حصلت الهزيمة وحصل القتل، ذكر أنه أنزل عليهم نعاساً فقال: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154]، فالله جل وعلا يجب أن يظن به الحق دائماً؛ لأنه هو الحق وقوله الحق، ودينه الحق، وحكمه الحق، ووعده حق جل وعلا، وظن الجاهلية وصف بالجاهلية، والجاهلون هم الذين يجهلون أمر الله، ويجهلون صفات الله، ويجهلون مقتضى أسمائه ويجهلون حكمته، وذكر أن هذا الظن الذي ظنوه بالله أنه ينصر العدو على نبي الله جل وعلا نصراً مستقراً، حيث يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم ويضمحل دينه ويمحى، بين أن هذا ظن السوء، وأن هذا ظن الجاهلية؛ لأن حكمة الله تأبى هذا.

    وقد أخبر أنه ينصر رسوله ويؤيده ويظهر دينه على الدين كله، وفسر هذا الظن بأنه إنكار للقدر، أي أن هذا الذي أصابهم ليس مقدراً لله جل وعلا. ومعلوم أن المقدر لابد من حصوله، بل حصول الشيء لابد أن يكون له سبب، فتأتي الأسباب والأسباب مقدرة، كما أن النتائج مقدرة، كل شيء مقدر، وإن كان الإنسان يؤخذ بعمله، ولكن الله هو الذي خلق الإنسان وأفعاله وما يصدر منه، فكله مقدر لله جل وعلا، وإن كان الإنسان هو السبب فسيكون اللوم عليه.

    وفسر الظن بإنكار الحكمة التي انتصر العدو فيها وأصيب من أصيب.

    وقد ذكر الله جل وعلا علتين في ذلك:

    الأولى: التمحيص والتمحيص معناه: التخليص والتصفية. بأن يخلص المؤمنين من ظنونهم، فيكون هذا تمحيصاً لذنوبهم.

    الثانية: الابتلاء وإظهار ما في النفوس وما في القلوب من الشيء المكنون. فالله يعلم ما في قلوب العباد، ولكن من كمال عدله أنه لا يؤاخذ إلا على الفعل الظاهر.

    فلما حصل ذلك وظهر ما في قلوب كثير من الناس وبرز صاروا يقولون: لا نسمع، يظنون بالله ظن السوء: (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) ما وقع هذا، ويقولون: لو كان لنا تدبير، ولو كان لنا نهي وأمر ما وقع ذلك. فهم يعتقدون أنهم يستطيعون أن يغيروا الواقع، ويقولون ذلك على سبيل التسخط والتحسر والأسى الذي أصابهم، فهم غير راضين بما قدره الله جل وعلا.

    فهذا من الحكم التي ذكرها الله جل وعلا في إدالة العدو، وإدالة العدو لا تكون إلا تمحيصاً، ولا تكون مستقرة، فلابد أن تكون النهاية والنصر في آخر الأمر للمؤمنين، للرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه.

    عموم الظن السيئ بالله في كل ما يخالف أمره ومقتضى أسمائه وصفاته سبحانه

    ذكر عن ابن القيم أن ظن الجاهلية عام في كلما يخالف أمر الله، أو ما يخالف مقتضى أسمائه وصفاته، فمن ظن أن الله جل وعلا يساوي بين المؤمنين والمجرمين فقد ظن بالله ظن السوء، ومن ظن أنه يحبط أعمال المؤمنين بذنب أو كبيرة يفعلها المؤمن وهو قد عاش حياته كلها في الطاعة فقد ظن بالله ظن السوء، مثل الخوارج الذين يقولون: إذا فعل الإنسان كبيرة من الذنوب فهو كافر ويخلد في النار.

    ومن ظن أن عمله يذهب عليه ولا يحفظ له، ولا يجزى بالحسنة عشر أمثالها وبالسيئة مثلها فقد ظن بالله ظن السوء، ومن ظن أن الله لا يعلم ما في قلبه ولا يطلع على أفعاله فيجازيه عليها إن كانت خيراً فخيراً، وإن كانت شراً فإنه يعاقبه بما يستحق فقد ظن بالله ظن السوء، فكلما ظن الإنسان خلاف شرع الله وخلاف مقتضى أسماء الله جل وعلا، فإنه يظن بالله ظن الجاهلية.

    والآية الأخرى التي في سورة الفتح: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ [الفتح:6]، وفي قراءة أخرى: (ظَنَّ السُّوْءِ)، والسوء خلاف الحسن وخلاف الجميل وخلاف العدل والحق.

    استحقاق الله للحمد في المبدأ والمنتهى

    فالله جل وعلا كل ما يفعله فهو عدل وحق يحمد عليه، ولهذا بين جل وعلا أن أفعاله كلها خير، وأنه يستحق عليها الحمد في المبدأ وفي المنتهى، ولهذا ذكر حمده في مبدأ الخلق وذكر حمده في نهايته، فقال جل وعلا في المبدأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] هذا حمده في المبدأ، فهو المحمود على كل ما يفعله جل وعلا.

    وحمده في المنتهى كما قال جل وعلا: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزمر:75]، فالملائكة يقضى بينهم بعد القضاء بين العباد، وقد قال قبل هذا: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ [الزمر:69] لقد جيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق، وسائر الناس بعد ذلك، ثم انتهى بالملائكة.

    فالمقصود أن هذا يدل على أنه يحمد حتى على دخول أهل النار النار، يحمد على ذلك، وأهل النار أنفسهم يقرون بهذا ويعترفون أن هذا هو جزاؤهم، وأنهم في المحل اللائق بهم الذي اقتضته حكمة الله جل وعلا، ويجب أن يظن الإنسان بربه خيراً ويحسن الظن بربه، ولهذا جاء قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه)، وفي الحديث القدسي أن الله جل وعلا يقول: (أنا عند ظن عبدي بي، فمن ظن خيراً وجده، ومن ظن سوءاً أو شراً وجده)، ولكن الظن يكون تبعاً للفعل، ليس معناه أن الإنسان يفعل المعاصي ويترك الواجبات، ويقول: أنا أظن بربي الظن الطيب والظن الحسن، وأنه سينجيني وسيتفضل علي. فهذا تفريط وغرور من الشيطان، فالإنسان يجب عليه أن يمتثل أمر الله ويجتنب نهيه، ثم يظن بربه الظن الجميل الحسن أنه يجازيه ويعفو عنه، وأنه يجازيه على القليل كثيراً ويعفو عن سيئاته، ويجب أن يكون عند لقاء ربه أحسن ظناً منه في حالة صحته؛ لأنه أصبح أسيراً بين يدي الله جل وعلا، فعليه أن يحسن الظن بربه؛ لأن الله يعفو الذنب العظيم ويقبل اليسير بجوده وكرمه وسعة رحمته، وقد أرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، وجاء في الحديث: (لو يعلم الظالم والكافر ما عند الله من الرحمة والخير لطمع في ذلك)، مع أنه في المقابل المجتهد والمحسن لو يعلم ما عند الله من العقاب والنكال لأصابه من القلق ومن الخوف الشيء العظيم.

    ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)؛ لأنه هو أعلم الخلق بالله صلى الله عليه وسلم، وذكر (أن الله جل وعلا لما خلق النار أمر جبريل عليه السلام أن يذهب وينظر إليها، فنظر إليها فقال: لقد ظننت أن لا يسمع بها أحد فيدخلها، وخلق الجنة وأمره أن يذهب وينظر إليها فقال: لقد ظننت أن لا يسمع بها أحداً إلا ودخلها)، ثم إن النار حفت بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره، فقال له جل وعلا: (اذهب فانظر، فقال: لقد خشيت أن لا ينجو من النار أحد وأن لا يدخل الجنة أحد).

    فلابد للإنسان أن يبتلى بحب الدنيا والتمسك بها كثيراً، ولهذا تجده وإن كان مريضاً، -والمرض بريد الموت ورسول الموت- تجده يأمل ويخطط، وربما يخطط في نفسه أنه سيفعل ويفعل ويفعل، فهو متعلق بالدنيا مع أن الدنيا ليست شيئاً، وإذا مات فإنه لابد أن يبقى في قبره أكثر من بقائه على ظهر الأرض، وهذا بلا شك؛ لأن حياة الإنسان محدودة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين)، هذه هي فترة الموت تبدأ من بعد الستين، وقليل من يجاوزها أو يجاوز السبعين، فأكثر الناس في هذا ما بين الستين إلى السبعين، فما هي الستون سنة أو السبعون سنة؟ ليست شيئاً، هي عمر شاة أو عنز، والإنسان أكثر عمره يذهب إما في نوم وإما في لعب وإما في أكل وشرب أو شهوة أو ما أشبه ذلك، إذاً ما الذي يمضيه في طاعة الله؟ أكثر عمره للدنيا، وقليل منه لآخرته، مع أنه مسافر إلى الله جل وعلا إلى الآخرة، كل الناس مسافرون إلى الآخرة، فمنهم من وصل وانتهت مراحله، ومنهم من هو في الطريق، والأيام والليالي كفيلة في تقريب المسافة وطوي المراحل.

    ثم إذا بقي في قبره يبقى طويلاً، وقد يكون في قبره إما منعماً وإما معذباً ولابد؛ لأن القبر دار بعد هذه الدار، برزخ بين الحياة الدنيا وبين الآخرة، ودار البرزخ حياة في الواقع، ولكن الله أعلم بها فلا نعلم حقيقتها، فبعض الناس تكون حياته في البرزخ أكمل من حياته في هذه الدنيا، كحياة الأنبياء، فالأنبياء حياتهم أكمل من حياتهم في هذه الدنيا بغير شك، بل الشهداء الله جل وعلا أخبر أنهم أحياء، وأنهم عند ربهم يرزقون، ونهانا أن نسميهم أمواتاً، حيث قال سبحانه: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة:154] يعني: ما نشعر، وما نعرف حقيقة حياتهم، حقيقة حياتهم الله أعلم بها.

    وليست هذه الحياة حياة روح فقط؛ لأن حياة الروح للمؤمن والكافر، للبر والفاجر، فالروح لا تموت، كلنا مشتركون في حياة الروح، ولكن حياة الشهداء والأنبياء حياة روح وبدن، وإن كان البدن قد يتفكك، والعظام نراها بالية، وقد تكون تراباً، ولكنها حية في الواقع حياة ما نعرفها نحن.

    وقد يتنعم وهو في قبره على هذه؛ لأن هذا من أمور الغيب وأمور الآخرة، وأمور الآخرة كلها غيب، ثم بعد ذلك مدة طويلة، ويكون في قبره إذا بعث، ومنهم من يقول: مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا [يس:52]. يعني: كأنه مضى وقت قصير جداً. ولهذا يتساءلون فيما بينهم إذا حشروا، يقولون: كم لبثتم؟ فبعضهم يقول: لبثنا يوماً، وبعضهم يقول: بعض يوم، وبعضهم يقول: لبثنا ساعة، كل الدنيا وما مر منها كأنه ساعة، فهل هذا كذب؟! هل يقولون وهم يكذبون؟! لا، وإنما هذا الذي أوصلهم إليه فكرهم ونظرهم وواقعهم الذي هم فيه.

    فالله جل وعلا يقول: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ [يونس:45] فقط يتعارفون، يعني: يعرف بعضهم بعضاً ثم ينتهون.

    فإذا كان الأمر هكذا فيجب على العبد أن يعمل ويحسن الظن بربه جل وعلا، ويعلم أنه هو محل الظن السيئ؛ لأن نفسه مركبة من الجهل ومن الظلم، فالإنسان جهول وظلوم، وإذا اجتمع جهل وظلم ماذا يكون؟ يكون الشر كله، وهذه هي طبيعة النفوس كلها، كل نفوس بني آدم ركبت من الجهل والظلم، ولكن الله يمن على من يشاء فتتهذب نفوسهم بالوحي، بأوامر الله، وبما يأتي به الرسل من الله جل وعلا، تتهذب وتتخلق بأخلاق الملائكة، وقد يكون التخلق قليلاً وقد يكون كثيراً بحسب التأثر.

    فيجب على العبد أن يكون ظنه بنفسه ظن السوء؛ لأن النفس أمارة بالسوء، وتحب الباطل وتحب خلاف الحق. والحق عند غالب النفوس ثقيل، ولهذا يصف العلماء الحق بأنه مر، فيجب أن يعمل الحق وإن كان مراً؛ لأن الله جل وعلا أمر به فيجب أن يمتثل، ولكن إذا وطن الإنسان نفسه على أمر الله، تصبح في الواقع حياته سعيدة، فكونه يعمل بطاعة الله يجد أنه أحلى من الشهوات التي ينالها من الدنيا، ولا مناسبة بينها، فهو بهذا يجد حلاوة الإيمان وحلاوة الطاعة، ويكون في طمأنينة وفي سعادة، ويزداد كل يوم خيراً، وهو يفرح بلقاء الله جل وعلا، ويكون مشتاقاً إلى ذلك، فإنه لما حضرت الوفاة بلال بن رباح رضي الله عنه صارت زوجته تقول: وا كرباه، وهو يقول: (وا قرباه، غداً ألقى الأحبة محمداً وحزبه) فالمؤمن في سعادة، وإن كان أهله والذين حوله يرون أنه في شقاء وفي كرب، والواقع أنه ليس في كرب، سعادة تغمره حتى تنسيه ألم المرض وكرب الموت، وهكذا قبل ذلك وإن ناله ما ناله من الدنيا؛ لأنه يعرف أنه مسافر إلى الله، مثلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (مالي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال تحت ظل دوحة ثم سار وتركها).

    يعني: إنما أنا كمن أدركته القيلولة فارتاح قليلاً تحت شجرة ثم سار، هذا مثله في الدنيا، فمثل هذا هل يركن إليها؟ وهل يطمئن بها؟ المسافر إذا كان مسافراً في بلد من البلاد تجده يعد العدة للرجوع إلى أهله وإلى وطنه، فهكذا العبد في هذه الدنيا، وكثيراً ما يضرب الرسول صلى الله عليه وسلم الأمثال لهذا، كما ضرب الله جل وعلا الأمثال فيها، ومن الأمثال البليغة المطابقة تماماً لحالتنا ما قاله صلى الله عليه وسلم: (إنما مثلي ومثلكم كمثل قوم سلكوا طريقاً، فلما صاروا في وسطه، لا يدرون ما مضى أكثر أو ما بقي أكثر، انتهى زادهم وماؤهم وانقطع ظهرهم)، يعني: لا مركوب ولا مأكول ولا مشروب، فما حالتهم؟ أيقنوا بالموت هنا (بينما هم كذلك ينتظرون الموت إذ طلع عليهم رجل يقطر رأسه ماء، فقالوا: إن هذا حديث عهد بماء، فقال: ما شأنكم؟ فقالوا: كما ترى ننتظر الموت، فقال: أرأيتم إن دللتكم على ماء روي ورياض خضراء أتطيعونني؟ قالوا: نعم ولا نعصي لك أمراً، فقال: عهودكم -يعني: أعطوني العهود والمواثيق على ذلك- فأعطوه ما شاء من عهود ومواثيق، فسار بهم إلى مياه كثيرة ورياض خضراء، فبقوا فيها يشربون ويأكلون، فبينما هم كذلك إذ صاح بهم: الرحيل، فقالوا: إلى أين؟ فقال: إلى رياض هي خير من هذه الرياض، ومياه أعذب من هذه المياه وأفضل، فقال أكثرهم: والله ما وصلنا إلى هذه الرياض وهذا الماء ونحن نصدق أننا ننجوا فأبوا أن يطيعوه، وأطاعه قليل منهم فنجا بهم ونجوا، وتخلف أكثرهم فصبحهم العدو، فأصبحوا ما بين قتيل وأسير).

    فهذا هو مثل الرسول صلى الله عليه وسلم ومثلنا، فالذي يطيع الله ورسوله ويفعل الواجبات ويجتنب المحرمات ينجو ويكون في عيشة هنيئة، والذي يعصيه وإن رأى أنه في عيشة طيبة فهو في الواقع في عيشة ضنك، وإذا كان يوم القيامة تتضاعف هذه الذنوب وهذا الشر الذي أصابه حتى يجتمع الشر كله في النار.

    1.   

    وجوب إحسان الظن بالله في حكمه وعدله وأموره كلها

    [باب قول الله تعالى: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [آل عمران:154] الآية، وهذه الآية ذكرها الله تعالى في سياق قوله تعالى في ذكر وقعة أحد: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ [آل عمران:154] يعني: أهل الإيمان والثبات والتوكل الصادق، وهم الجازمون بأن الله تعالى ينصر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وينجز له مأموله، ولهذا قال: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [آل عمران:154] يعني: لا يغشاهم النعاس من الجزع والقلق والخوف، يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154]، كما قال تعالى: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا [الفتح:12].

    وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة ظنوا أنها الفيصلة، وأن الإسلام قد باد وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك، إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة تحصل لهم هذه الأمور الشنيعة.

    عن ابن جريج قال: قيل لـعبد الله بن أبي : قتل بنو الخزرج اليوم، قال: وهل لنا من الأمر من شيء؟

    قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على ما تضمنته وقعة أحد: وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله سبحانه بأنه لا ينصر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن أمره سيضمحل، وأنه يسلمه للقتل.

    وفسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضاء الله وقدره ولا حكمة له فيه، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأن يظهره على الدين كله.

    هذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح، حيث يقول: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [الفتح:6] ].

    من ظن بأحكام الله جل وعلا وأوامره أنها غير عدل، وأنها غير حكيمة، فهو يظن بالله ظن السوء، فالذي يتضجر من حكم شرعي أقيم عليه، أو يرى أن غير حكم الشرع أحسن منه وأنه أكمل وأتم للإنسان الذي يكون هو أرقى المخلوقات، ويرى أنه لا يليق بالإنسان أن تقطع يده، أو أن يرجم إذا زنى وهو محصن، أو أن يكون الرجل أكثر إرثاً من المرأة، أو أن يكون الرجل عنده زوجتين أو ثلاثاً أو أربعاً، وأن هذا غير عدل، الذي يظن مثل هذا يكون ظن بالله ظن السوء.

    [ قال ابن القيم رحمه الله في الآية الأولى: فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته، وفسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله، وأن يظهره الله على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح، وإنما كان هذا ظن السوء لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق.

    فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة فذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ.

    وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته، وموجب حكمته وحمده. فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتاً على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر وفتش نفسك هل أنت سالم؟

    فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجياً].

    الواجب على العبد أن يعرف ربه جملة إذا أمكن ذلك، وأن يظن به الظن الحسن، وأن يحسن الظن بالله، فإحسان الظن من الإيمان، لهذا جاء الأمر به: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه)، وفي الحديث القدسي يقول الله جل وعلا: (أنا عند ظن عبدي بي، فمن ظن خيراً وجده، ومن ظن شراً وجده)، وليس معنى ذلك أن الإنسان يسيء ويعصي ويترك الواجبات، ثم يقول: أنا أظن بالله جل وعلا ظناً حسناً!!

    والله عز وجل يضع الأشياء في مواضعها؛ لأنه حكيم تعالى وتقدس، فكل ما صدر عن الله جل وعلا فهو خير، وأما هذا فإنه فسر بالشيء الخاص، كما ذكر: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154]، وكذلك: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ [الفتح:6] ، والسوء جاء تفسيره في الآية الأخرى التي بعدها حيث قال: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا [الفتح:12] ، فظنهم ظن السوء في هذه الآية فسر بأنهم ظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه يقتلون، وأن الكفار ينتصرون، وأن الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ينتهي أمره ويزول، هذا ظن السوء بالله جل وعلا.

    صور من ظن الجاهلية وظن السوء

    وشيء آخر من ظن الجاهلية وظن السوء هو إنكار أن الله قدر هذا الذي وقع على المؤمنين يوم أحد، وإنما ذلك بمقتضى الأسباب، وهي قوة الكفار وكون المسلمين صاروا قلة فوقع ذلك، وليس هناك تقدير سابق وعلم أزلي لله جل وعلا، وهذا تنقص لله جل وعلا؛ لأنه -كما سيأتي- لا يقع شيء من قليل أو كثير أو صغير أو كبير في الكون إلا بمشيئة الله وتقديره جل وعلا؛ لأنه هو الرب المتصرف في كل شيء، وكل ما سواه مخلوق يتصرف فيه جل وعلا كيف يشاء بمشيئته.

    وكذلك كونه يظن الإنسان أنه يفعل الشيء على مقتضى المشيئة فقط بغير حكمة، كما يظنه كثير من الجهال، وإن كانوا يزعمون أنهم علماء؛ لأن كل من جهل أمر الله فهو جاهل، يقولون مثلاً: تجد الإنسان عاقلاً، تجده أديباً، تجده لبيباً، ثم تجده فقيراً مدقعاً تضيق عليه وجوه الحياة في معيشته، وتجد إنساناً أحمق جاهلاً تجد عنده من الدنيا الشيء الذي لا يستطيع أن يصرفه، ثم يقولون: هذا ليس من الحكمة، فهذا اعتراض على الله جل وعلا وهو من أقبح الظن بالله جل وعلا وأسوئه، ومن لقي الله جل وعلا بمثل هذا فهو من الهالكين الذين يستحقون عذاب الله جل وعلا.

    فالله جل وعلا خلق الخلق بعلمه وتقديره ومشيئته وقدرته، ووزع عليهم أرزاقهم حسب مشيئته وإرادته وتقديره وحكمته، ولا يلزم أن يكون الإنسان عارفاً بالحكمة؛ لأن الإنسان قاصر، وقد ابتلى الله جل وعلا عقولهم هل تخضع وتنقاد لله جل وعلا ولأوامره، أو تعترض وتقف حتى في الأمور التي أمر الإنسان أن يزاولها كثيراً، مثل أمور العبادات وغيرها مثل الوضوء والغسل من الجنابة وما أشبه ذلك.

    فالعقل ليس له دخل في هذا، كون الوجه يغسل، وكون اليدين تغسلان إلى المرفقين والرجلين إلى الكعبين ويمسح على الرأس، فالصلاة لا تصح إلا بهذا، فهذا قد لا يدرك الحكمة منه كثير من الناس.

    ولهذا كثير من هذه الأمور إذا ذكرها العلماء قالوا: هذا تعبدي ومعنى (تعبدي): أنا نفعله عبادة لله وخضوعاً له سبحانه، ولو لم نعرف الحكمة، ومن ذلك كثير من أعمال الحج، مثل رمي الجمار، فقد يعترض بعض الناس على ذلك ويقول: ما الفائدة من رمي الجمار؟ وليس كما يعتقده الجهال أن الشيطان يرمى، لا، وإنما هذا منسك من المناسك نؤديه كما أمرنا، ونرمي بهذه الحصيات كما أمرنا، وليس الشيطان واقفاً هناك يرمى، الشيطان لا يقف للناس يرمونه، ولا يجوز أن يسمى شيطاناً، بل يقال: رمي الجمار منسك من المناسك، فقد يقول -مثلاً- بعض الناس: ما الحكمة في هذا؟ وكون الناس يتزاحمون على هذا المكان يرمون بهذه الحجارة لا نرى له نفعاً دنيوياً، ولا نرى شيئاً يمكن يقابل ما يقع من الزحام ومن الموت أحياناً! نقول له: هذا أمر تعبدي، أمر الله جل وعلا عباده بذلك، فما عليهم إلا أن يخضعوا ويذلوا.

    ومن ذلك المبيت بمنى، والمبيت بمزدلفة، والوقوف بعرفات، والطواف بالبيت، وسائر أعمال الحج على هذا المنوال، وقد فهم الصحابة هذا؛ لأنهم ذوو العقول، ولأنهم أعمق الناس عقولاً وأكملهم إيماناً وأتمهم إدراكاً، فأدركوا ذلك وصاروا يقولون في تلبيتهم: (لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً) تعبداً كوننا نجيب ما أمرتنا به تعبداً لك بدون أن نطلع على حكمة ذلك.

    وكذلك في مخلوقات الله جل وعلا، يقول قائل مثلاً: نجد بعض الحشرات ما الفائدة من وجودها؟ ما فيها إلا مضرة، مثل الذباب، ومثل البعوض، ومثل الحيات والعقارب والخنافس وما أشبه ذلك! هناك ناس يقولون هذا.

    نقول: إن عقلك قاصر، ولا يجوز أن تعترض على الله جل وعلا في خلقه وإيجاده، ولا في أمره وشرعه، ولا في قضائه وقدره، يجب أن تكون عبداً منقاداً لأوامر الله وتسلم وتذعن لذلك، وإلا فلن تعجز الله، والأمر يسير لدى الله جل وعلا إذا عصى الإنسان ربه.

    فشرعه الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم كثير منه على هذا النحو.

    ولهذا لا يجوز للإنسان أن يبحث عن الأسرار ويقول: ما السر في كذا؟ ما الحكمة في كذا؟ لأن هذا غالباً يدعو إلى الاعتراض وإلى التعنت والتكبر على الله جل وعلا، وهذا هو الطريق إلى الهلاك، وكذلك حينما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالدين وعد أنه سيظهره على الدين كله وأنه سينصره، فيجب أن يؤمن بوعده، وإذا حصلت انتكاسة على المسلمين وانتصار للكافرين فهذا معناه أنه تمحيص لذنوب المؤمنين بسبب المعاصي التي يقعون فيها.

    فالله قد ذكر الحكمة جل وعلا في ذلك، ثم قال جل وعلا: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آل عمران:165]، قال جل وعلا: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، يعني: بسبب ما فعلتموه أنتم.

    وجاء ذلك أيضاً في آيات آخر، مثل قوله جل وعلا: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، يعني: لو يؤاخذكم بكل ما فعلتموه لما بقي على وجه الأرض أحد، ولكنه يعفو عن كثير جل وعلا، ثم الأمر مثلما قال صلى الله عليه وسلم: (إن أمر المؤمن كله خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) يعني: يؤجر على ذلك عندما يصبر ويحتسب، وتحصل بذلك على حسنات.

    (وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له) بخلاف الكافر والمنافق، فإنه لا يشكر ولا يصبر، وإنما شأنه الاعتراض، ثم الظن بالله جل وعلا أنه ما يفعل شيئاً إلا لحكمة، ولا يأمر العباد إلا بما فيه مصلحة لهم قد تكون ظاهرة لهم وقد لا تكون ظاهرة، ولا يقدر شيئاً إلا لحكمة عظيمة قد يعرف شيء منها وقد لا يعرف.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756477703