إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [3]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أعظم ما أمر الله به هو التوحيد، وأعظم ما نهى عنه هو الشرك، والقرآن الكريم كله في التوحيد كما بين ذلك أهل العلم، وأصل دعوة الرسل هي الدعوة إلى التوحيد، ولذا يجب معرفة التوحيد لتحقيقه والقيام به، ومعرفة الشرك للحذر منه واجتنابه.

    1.   

    أنواع التوحيد

    توحيد المعرفة والإثبات

    قال الشارح رحمه الله: [ قال العلامة ابن القيم رحمة الله عليه: وأما التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب، فهو نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد.

    فالأول هو: إثبات حقيقة ذات الرب تعالى، وصفاته وأفعاله وأسمائه، وتكلمه بكتبه، وتعليمه لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمته، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع جد الإفصاح، كما في أول سورة الحديد، وسورة طه، وآخر الحشر، وأول تنزيل السجدة، وأول آل عمران، وسورة الإخلاص بكاملها، وغير ذلك ].

    هذا كثير في القرآن جداً، وقل آية في القرآن إلا وفيها شيء من أسماء الله وصفاته، إما صفة فعل أو صفة ذات أو غير ذلك، والحكمة في هذا أن الناس كانوا يحتاجون إلى هذا؛ لأن من حكمة الله جل وعلا أن الناس إذا احتاجوا إلى شيء يكون وجوده أكثر، مثل الماء، فالناس يحتاجون إلى الماء فصار وجوده كثيراً، ومثل وجود الهواء، ومثل وجود الملح، ومثل وجود النار وما أشبه ذلك، فكل شيء الحاجة إليه عامة شاملة كان وجوده وتيسيره أكثر للناس، وهذه حكمة من الله ورحمة منه.

    ففي زمن الصحابة ما كانوا بحاجة إلى تكثيره إلا من ناحية أن الله يعرفهم بنفسه، هذا هو الأصل، والله تعرف إلى خلقه بذكر أسمائه وأوصافه، وكل اسم له معنى يدل عليه، فعرف المؤمنون ربهم بهذا؛ لأن الله غير مشاهد، وليس له مثيل يقاس عليه تعالى وتقدس، فليس هناك طريق لمعرفته إلا أن يخبر جل وعلا عن نفسه، هذا هو الأصل في الإكثار من ذكر أسماء الله، وبعدما ذهب عصر الصحابة وعصر التابعين وأتباعهم وجاءت الخلوف حدث في الأمة من يكفر بهذا النوع وينكره، وأصل مجيء هذا الإنكار وهذا الكفر من اليهود والنصارى والمجوس الذين يعادون هذا الدين، فأوجدوا المؤسسات والجمعيات الخبيثة التي تحارب العقيدة، وصاروا يبثون سمومهم في أوساط الناس، وربما في الكتب أيضاً، وبدءوا بتشكيك الناس في معبودهم وإلههم، فصاروا ينكرون الأسماء والصفات، ولو جاءوا إلى الناس وقالوا: إن الله لا يتكلم، إن الله لا يسمع، إن الله لا ينزل إلى السماء الدنيا، إن الله لم يستو على عرشه، إن الله ليس فوقنا، وما أشبه ذلك، بدون أن يذكروا مبررات؛ ما قبل منهم ذلك، فأحكموا الخطة وقالوا: إنكم إذا قلتم هذا، قلتم بالكفر والتشبيه، فيجب أن تنزهوا الله عن هذه الأوصاف والأسماء، فجاءوا من هذا القبيل، فقبل قولهم الذين لا يعلمون، فانبرى العلماء للرد عليهم وإبطال كيدهم، فملأوا الدنيا كتباً، وكلها مأخوذة من كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم في الرد على مثل هؤلاء، وكتاب الله مملوء جداً بإبطال كيد هؤلاء، ولكن مع هذا كله انطلى هذا الخبث وهذه الدسائس على كثير من الناس، فأصبحوا إلى اليوم متأثرين بهذه الدعايات، فإلى الآن كثير من المسلمين متأثر بذلك، فأنكروا أن الله جل وعلا مستو على عرشه، وأنكروا أن الله جل وعلا فوق عباده، وأنكروا أن الله جل وعلا ينزل إلى السماء الدنيا، وأنكروا أن الله جل وعلا يأتي يوم القيامة لفصل القضاء، وأنكروا أن الله جل وعلا يتكلم ويكلم من يشاء كلاماً حقيقياً، إلى غير ذلك، وهذا كله تأثر بدعاية هؤلاء المبطلين، ولكن الذي يتبع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يعصمه الله جل وعلا بذلك.

    توحيد الطلب والقصد

    قال الشارح رحمه الله: [ النوع الثاني: ما تضمنته سورة قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، وقوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64]، وأول سورة (تنزيل الكتاب) وآخرها، وأول سورة المؤمن ووسطها وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وجملة سورة الأنعام، وغالب سور القرآن، بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد شاهدة به داعية إليه.

    فإن القران إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأقواله، فهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته، وأمره ونهيه، فهو حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرام أهل التوحيد وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم. انتهى ].

    سبق أن ذكرنا أن التوحيد ينقسم إلى قسمين: توحيد في العلم والعقيدة، وتوحيد في النية والإرادة، وقلنا: إن شئت جعلته قسمين، وإن شئت جعلته ثلاثة أقسام، فمن باب البسط والإيضاح يكون ثلاثة من حيث تعلق التوحيد، فإما أن يتعلق بلفظ الرب جل وعلا فيكون توحيد الصفات والأسماء، أو يتعلق بأفعاله تعالى وتقدس فيكون توحيد الربوبية.

    وهذان القسمان يجوز أن نجعلهما قسماً واحداً؛ لأنهما يتعلقان بالرب جل وعلا صفة وفعلاً، فمن العلماء من يجعله قسماً واحداً، ومنهم من يجعله قسمين.

    فصفات الله جل وعلا وأسماؤه تثبت بالدليل الذي جاء في كتاب الله جل وعلا، وجاءت به الرسل فقط لا أكثر، ولا دخل للقياس في ذلك، ولا دخل للعقل في هذا، وقلنا: إن السبب في هذا شيئان:

    أحدهما: أن الله جل وعلا لا مثيل له ولا نظير له فيقاس عليه.

    الثاني: أنه تعالى وتقدس غيب ليس يشاهده أحد ولم يره أحد، فليس هناك طريق لمعرفته وتسميته ووصفه إلا الوحي فقط، قال الله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3] قال كثير من المفسرين: يؤمنون بالله لأنه غيب، فهو غائب عن كل الخلق، وقد قال جل وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا [البقرة:22].

    فكل هذا يدل على أنه متفرد جل وتقدس، ولهذا اتفق أهل السنة على أن أسماء الله جل وعلا وأوصافه توقيفية، ومعنى (توقيفية): أنه يوقف على النص فيها، فما جاء به النص وجب أن يؤمن به ويعتقد ويقال بمقتضاه، وما لم يأت به النص فلا يجوز أن يشرك بالله شيئاً لم يثبت بنص، والذين ضلوا في هذا الباب لأنهم يعتمدون على عقولهم، فضلوا فيه وتاهوا، فليس هناك طريق يمكن أن يوصل الإنسان إلى الحق إلا الاستمساك بكتاب الله وبسنة رسوله فقط، وهذا في الواقع هو أصل الإيمان، وهو أيضاً أصل دعوة الرسل.

    فالله جل وعلا تعرف إلى عباده بما يذكره من أوصافه وأسمائه، وكذلك بأفعاله تعالى وتقدس، فالمؤمنون لا يعرفون الله جل وعلا إلا عن هذا الطريق، بالإضافة إلى الفطرة، ولكن هذه مشتركة بين الخلق كلهم، كل الخلق فطروا على معرفة الله جل وعلا، ولكن هذا لا يكفي؛ لأن هذا قد يتغير، فالفطرة يغيرها المعلم الذي يتولى تعليم الإنسان وتربيته، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، أما إذا ترك ونفسه فإنه يكون قابلاً للحق بل طالباً له، ولا يكفي كونه قابلا له؛ لأنه مولود على الفطرة، بل لابد أن يكون طالباً له، فإذا جاء الوحي لا يمكن أن يرده؛ لأنه موافق لما في فطرته، ولكن التربية هي التي تغير هذا.

    فأقسام التوحيد هي هذه الثلاثة، وليس هناك قسم رابع، كما يقول بعض الناس: توحيد الحاكمية، وبعضهم يأتي بقسم خامس ويقول: توحيد المتابعة، فتكون أقسام التوحيد خمسة: توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الربوبية، وتوحيد العبادة، وتوحيد الحاكمية، وتوحيد المتابعة، فهذا لا معنى له؛ لأن توحيد المتابعة داخل في توحيد الإلهية، وتوحيد الحاكمية داخل في توحيد الربوبية، لأن الرب جل وعلا هو الذي يحكم بين خلقه، وهو الذي يشرع ويأمر وينهى عباده، فإذا انصرف الإنسان إلى شارع آخر ومحكم آخر فإنه أشرك في توحيد الربوبية، والشرك في توحيد الربوبية يستلزم الشرك في توحيد الإلهية.

    توحيد العلم والعقيدة

    المقصود أن أقسام التوحيد ثلاثة أو اثنان إن شئت:

    فالأول: توحيد في العلم والعقيدة، وتوحيد العلم والعقيدة هو الذي يتعلق بالرب جل وعلا، يتعلق بأسمائه وأوصافه وأفعاله تعالى وتقدس، فيجب على العبد أن يأخذ هذا العلم من كتاب الله جل وعلا ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أكثر الله جل وعلا من ذكر ذلك في كتابه حتى يعرف عباده ما يستحق، ويقدرونه القدر الذي يستحق، كما قال الله جل وعلا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]، فذكر بعد قوله: (وما قدروا الله حق قدره) الأفعال التي ينفرد بها والتي تقتضي تعظيمه وتمييزه جل وعلا عن سائر الخلق.

    وكذلك قوله جل وعلا في قصة نوح: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [نوح:13-14]، وذكر أفعاله بعد هذا، كأنه يقول: إن هذه الأفعال تدعوكم إلى أن تعرفوا قدر الله، وتعظموه العظمة التي يستحقها فتبين بهذا أنه جل وعلا يتعرف إلى عباده بذكر أفعاله وأوصافه، وهذا كثير في القرآن جداً، وهذا هو الطريق إلى الاقتناع بالإيمان بالله جل وعلا، وهو الطريق إلى اليقين الحق الذي من وصل إليه أصبح راسخاً في العلم، وأصبح لا يقبل التشكيك ولا يقبل الارتياب مع توفيق الله جل وعلا، وإلا فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، إن شاء ثبتها على الحق، وإن شاء أزاغها)، ولكن إذا عرف الإنسان ربه، وخضع وذل له، وعبده؛ فعادته جل وعلا التي جرت في عباده أنه يثبته بالقول الثابت حتى يلقاه.

    معنى توحيد الإلهية

    النوع الثاني -وإن شئت قلت: النوع الثالث- توحيد الإلهية وهذا الذي صارت فيه الخصومة بين الرسل وأممهم ؛ لأنه هو الذي أنكر، وهو الذي دخله الشرك؛ لأن أكثر الخلق اتخذوا وسائط وشفعاء يجعلونهم وسائط بينهم وبين ربهم، ويدعون هذه الوسائط لتقربهم إلى الله زلفى لتشفع لهم، ولا يوجد أحد من الخلق زعم أن صنماً من الأصنام أو معبوداً من المعبودات له شركة في خلق السموات والأرض والجبال والأشجار، أو له قدرة على الإحياء والإماتة، لا يوجد أحد اعتقد هذا أبداً، وإنما زعموا أنهم عباد مقربون، أو أنهم لا ذنوب لهم، وأنهم إذا دعوا الله استجاب لهم، واتخاذهم وسائط أقرب إلى الإجابة وأقرب إلى الطلب من دعاء الله جل وعلا، وأصل هذا بني على تشبيه الرب بالمخلوقين، وليس التشبيه الذي يقوله المتكلمون.

    والتشبيه ينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: تشبيه الخالق بالمخلوق وهذا كثر جداً في الأمم السابقة، ولا يزال إلى الآن كثيراً في الخلق، فيجعلون المخلوق هو الأصل والخالق فرعاً تعالى وتقدس، فوجه التشبيه هنا أنهم رءوا أن الملوك والكبراء والعظماء لا يطلبهم الإنسان حاجته منهم رأساً، فلابد أن يذهب إلى محبيهم وإلى وزرائهم وإلى المقربين لديهم ويسألهم أن يتوسطوا له عند الرئيس والملك حتى تقضى حاجته، ووجدوا هذا أنجع وأسرع في قضاء الحاجة، بخلاف ما إذا ذهب ودخل عليهم بنفسه أو طلب منهم بنفسه فإنه ربما لا يلتفت إليه، فقاسوا رب العالمين الذي هو بكل شيء عليم وعلى كل شيء رقيب وشاهد يسمع ولا يخفى عليه شيء قاسوه على المخلوقين، تعالى الله وتقدس، هذا هو أصل الشرك الذي حدث للأمم في هذا الباب.

    فاتخذوا الوسائط حسب اختلاف نزعاتهم واتجاهاتهم، فمنهم من يتخذ ملكاً من الملائكة إن كانوا ممن يؤمن بالملائكة، ومنهم من يتخذ جنياً، ومنهم من يتخذ نبياً، ومنهم من يتخذ رجلاً صالحاً، ومنهم من يتخذ شجرة أو حجراً أو غير ذلك، وكلها أصلها هذا، وكل رسول كان يأمر قومه أن يخلصوا الدعوة لله فقط، وألا يدعوا معه أحداً، ولا يكون هناك وسائط: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه [الأعراف:59] هكذا كل رسول يقول هذه المقالة لأمته: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)، والإله هو الذي يألهه القلب بالدعاء والخضوع والذل، فيدعوه ويذل له ويعظمه، فهذا يوجب أن يكون الدعاء لرب العالمين فقط، ولا يجوز أن يكون لأحد من الخلق، سواء أكان عاقلاً أم غير عاقل، حاضراً أم غائباً، فمن جعل لمخلوق من المخلوقات شيئاً من ذلك فقد وقع في الشرك الأكبر الذي كانت الرسل تحذر منه وتدعوا قومها إلى الابتعاد عنه وتركه.

    القسم الثاني من أقسام التشبيه: تشبيه أوصاف الرب جل وعلا بأوصاف المخلوقين، كأن يقول مثلاً: يد الله كأيدينا، وسمعه كأسماعنا، وبصره كأبصارنا، وكلامه ككلامنا، تعالى وتقدس، وهذا هو الذي يتكلم به المتكلمون، ويجعله العلماء كفراً يخرج الإنسان من الدين الإسلامي، وهو الذي كثرت فيه المؤلفات التي ألفت في هذا الباب، والأصل في هذا قوله جل وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وقوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، وما أشبه ذلك من الآيات، ولا شك أن التشبيه من أبطل الباطل، والذين قالوا به قلة، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، وليس من هذه الفرق طائفة تقول بهذا التشبيه، وإنما يوجد بعض الأفراد يقولون بذلك.

    ولكن سبب كثرة الكلام في هذا أن كل من قال مقالة واعتقد عقيدة فمن يخالفه في مقالته وفي عقيدته يرميه بالتشبيه، فيقول: أنت مشبه، فكثر الكلام بهذا السبب؛ ولهذا نجد في كتب المقالات وغيرها من الكتب أنهم يعينون أناساً من الأئمة، فيقولون: هناك طائفة يقال لها (المالكية) إمامهم مالك بن أنس مشبهة، وطائفة يقال لها: (الحنبلية) إمامهم أحمد بن حنبل مشبهة، وهكذا، ويجعلون الذي يأخذون الآثار ويعملون بها من أهل الحديث مشبهة.

    وهكذا إذا نظرنا إلى الطوائف نفسها، فمثلاً اتباع أبي الحسن الأشعري الذين يسمون الأشعرية، بينهم وبين المعتزلة عداء وخصام، فالمعتزلة يرمون الأشاعرة بالتشبيه؛ لأنهم أثبتوا لله بعض الصفات، والمعتزلة يرون أن من أثبت صفة من الصفات كالسمع والبصر والكلام والإرادة فهو مشبه، فإذا أثبتها قالوا: أنت مشبه، والأشاعرة يجعلون من المشبهة من يثبت النزول لله جل وعلا في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا، أو يثبت العلو لله على خلقه، وكونه مستوياً على عرشه، أو يثبت الضحك لله، وأن الله يفرح ويحب ويرضى ويسخط، فيجعلونه مشبهاً، ويسمونه مشبهاً، ويقولون: هذا مشبه، وهكذا كل طائفة من الطوائف ترمي الطائفة التي خالفتها بالتشبيه، فهذا سبب كثرة الرمي بالتشبيه، وهذا يكون له مقالات معينة في كتب المقالات، ويسمونها طائفة المشبهة، ولكن لو طلبت طائفة معينة لها إيمان تقول بهذا ولها كتب تدافع عن هذا، وتستدل به لم يوجد ذلك أبداً، فليس لهذا وجود، وإنما التشبيه على حسب اعتقاداتهم، وعلى حسب ما يرون أنه باطل، بخلاف القسم الأول فإنه كثير جداً، ولكن لا يسمونه تشبيهاً، وإلا فالذي يأتي إلى القبر ويسأله أن يمده بالنصر وبالإغاثة وبالرزق وبالعطاء وبالنجاة وأن يتوسط له عند الله هذا هو المشبه حقاً، فقد شبه صاحب القبر برب العالمين في دعوته، وفي الطلب منه، وفي طلب ما لا يقدر عليه إلا رب العالمين تعالى وتقدس.

    ولهذا السبب أخبرنا ربنا جل وعلا عن الذين سموا المعبودات التي يتجهون إليها (آلهة) أن هذا كذب وزور، وأنها مجرد أسماء وضعت على مسماها، فقال: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [النجم:23] يعني: ليس لها من معنى الإلهية شيء أبداً، إنما هو كذب وزور، فوضعت هذه الأسماء من أجل الكذب والتزوير والاعتقاد الباطل، وهذا في الواقع يختلف باختلاف الدعوات والاتجاهات.

    1.   

    وجوب الإخلاص لله

    الواجب على الإنسان أن يكون عبداً لله، وأن يخلص العبادة لله جل وعلا، وألا يكون قلبه وعمله مفرقاً بين معبودات شتى، والله لا يقبل من العباد إلا أن يعبدوه وحده، وكل القرآن في هذا المعنى كما ذكر ابن القيم ؛ لأن القرآن لا يخلو إما أن يكون في أوصاف الله حتى يدعو ذلك إلى تعظيمه وتوقيره، ويدخل في أوصافه أفعاله تعالى وتقدس، أو يكون الأمر صراحة أن نخلص له العبادة، كقوله: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ [الزمر:2]، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا [التوبة:31] في آيات كثيرة، فهذا واضح جداً، أو يكون في الأوامر والنواهي التي هي من حقوق هذا التوحيد، مثل إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم وفعل الخيرات كلها، وهذا كله من مكملات التوحيد، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: (لا إله إلا الله)، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)، (إلا بحقها) يعني: بحق (لا إله إلا الله)، فالذي -مثلاً- يمتنع عن الصلاة لم يؤد حقها، ولم يقم بحقها، وهكذا إذا امتنع من الواجبات الواجبة عليه لم يؤد حقها؛ لأنه أخل بها.

    أو يكون القرآن في الجزاء وما أعد الله جل وعلا لأهل التوحيد في الجنة، وما وعدهم به من النصر والتأييد في الدنيا، أو يذكر عقاب من خالف هذا التوحيد وتركه، فيذكر عقاب من ترك التوحيد وخالفه وعقابه في الدنيا أو في الآخرة، ويدخل في هذا قصص الأمم، وقصص الأنبياء، ويدخل فيه الوعد والوعيد.

    إذاً القرآن كله في التوحيد كما قال ابن القيم رحمه الله، وعلى هذا التفسير إذا تأمل الإنسان كتاب الله جل وعلا وجده لا يخرج عن ذلك.

    1.   

    إثبات الإلهية لله وحده

    قال الشارح رحمه الله: [ قال شيخ الإسلام : التوحيد الذي جاءت به الرسل إنما يتضمن إثبات الإلهية لله وحده، بأن يشهد أن لا إله إلا الله، لا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يوالي إلا له، ولا يعادي إلا فيه، ولا يعمل إلا لأجله، وذلك يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، قال تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، وقال تعالى: وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [النحل:51]، وقال تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون:117]، وقال تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45]، وأخبر عن كل نبي من الأنبياء أنهم دعوا الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وقال: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4]، وقال عن المشركين: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات:35-36]، وهذا في القرآن كثير ].

    وقال الله جل وعلا عنهم: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات:35-36]، فيجعلون الرسول شاعراً، ويجعلونه مجنوناً، وهذا اضطراب وتناقض، فكيف يكون شاعراً ويكون مجنوناً؟!

    فالمقصود أن الخلل في هذا أنهم يعرفون معنى (لا إله إلا الله)، فإذا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (قولوا: لا إله إلا الله)، عرفوا أن معنى ذلك إبطال ما هم عليه من الشرك ومن عبادة الأوثان؛ لأن كلمة (لا إله إلا الله) تتضمن الإثبات والنفي، إثبات إله واحد فقط، أن تثبت الإلهية له، وتنفي ذلك عن كل من سواه، نفى ثم حصر المثبت في إله واحد، وهو الله جل وعلا، فهم عرفوا أن معنى ذلك أنه لابد من الكفر بآلهتهم وإبطالها، ولهذا نفروا وأبوا، بخلاف المشركين في وقتنا -وللأسف- فهم يزعمون أنهم مسلمون، بل يظنون أنهم من أفضل الناس، وهم يأتون الشرك الأكبر، وكذلك كثير من الناس يكتفي بقول (لا إله إلا الله) ويقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة) فيأتي بما يناقض هذه الكلمة لأنه لا يعرف معناها، فهو ما عرف معنى الإله، ولا معنى العبادة، ولو عرف ما عرفه المشركون من هذه الكلمة لاجتنب عبادة القبور والأولياء التي يسمونها توسلاً، ويسمونها محبة الصالحين والتوسل بهم، وهم في الواقع يدعونهم، والدعاء هو العبادة كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: (الدعاء هو العبادة).

    فهذا هو السبب الذي أوقعهم في الشرك وجعلهم لا يعرفون معنى هذه الكلمة، وقد علموا أنه لابد لقائل هذه الكلمة من معرفة معناها، وإلا فلا تفيد، فيصبح قوله لها -وهو يعمل هذا العمل- مثل الذي يقولوها وهو سكران، أي: يهذي بها هذياناً لا معنى له، ولا يعرف معناها، ومعلوم أن مثل هذا لا يستفيد من قوله لها، ولو كان قولها ينفع مجرد قول لكان ذلك ينفع اليهود، فاليهود يقولون: (لا إله إلا الله)، ولكنهم كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم من أهل النار، فالذي يقول: (لا إله إلا الله)، وهو يناقضها تماماً ويعبد آلهة أخرى غير الله لا تنفعه، وأي خير في مسلم يكون أبو جهل وأضرابه أعلم منه بكلمة التوحيد؟! ما فيه خير، هذا هو الواقع.

    فيجب على المسلم أن يعرف أصل دينه وجوباً، فما هي مسألة اختيار وأن الإنسان مخير في هذا، بل إذا ترك هذا عذب وهلك، فيجب على العاقل أن يهتم بهذا، وذلك أن الله جل وعلا يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116].

    فإذا كان هذا الأمر هكذا وأن الله لا يغفر للمشرك فالإنسان قد يقع في الشرك؛ لأنه إذا جهله يوشك أن يقع فيه وهو لا يدري، فيهلك بهذا السبب، وهذا أمر عام (إن الله لا يغفر أن يشرك به)، وكل الشرك أخبر الله أنه لا يغفره جل وعلا، والذنوب الأخرى ما عدا الشرك جعلها الله تحت مشيئته إذا شاء أن يغفرها غفرها، وأما الشرك فقطع قطعاً أنه غير مغفور.

    يقول كثير من الناس اليوم: أنا لا أسلم بأن التوسل بالصالحين والتشفع بهم شرك؛ لأن الشرك السجود للأصنام أو السجود للشمس، أو أن تعتقد أن هذا الذي تدعوه يحيي ويميت، أما إذا اعتقدت أن الذي يتفرد بالأحياء والإماتة هو الله فلا بأس أن تدعو الصالح من الأموات، فتدعوهم وتجعلهم وساطة بينك وبين الله، هكذا يقولون.

    فإذا كان إنسان يقول هذا القول وآخر يقول: إن هذا هو عين الشرك الذي جاءت الرسل بالنهي عنه، وهو الذي جعل الكفار في جهنم خالدين، ولا يوجد أحد يقول: إن أحداً من المخلوقين يحيي ويميت، إن شيئاً من الشجر يحيي ويميت أو من الأصنام التي هي حجر، أو أي شيء مصنوع، ما وجد أحد من العقلاء يقول هذا، فمعنى كلامك هذا أن المشركين كانوا يعتقدون أن الحجر الذي يعبدونه أو الشجر ويحيي ويميت، وهذا باطل، فإذا كان الأمر هكذا فيجب على الإنسان أن يبحث ويتأكد ويحتاط لنفسه، ولا يفرط في نفسه، فالنفس لا تعود، ولا توجد حياة أخرى، وإذا مات الإنسان وتبين له الحق لا يقول: أطلب الرجوع لأني عرفت الحق فأبدأ من جديد، هذا ليس لك، إذا فاتتك حياتك هذه فاتك كل شيء.

    فيجب على العبد أن يتعرف على الحق من كتاب الله جل وعلا، ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن سيرته، ولا يغتر بالكثرة، ولا يغتر بأي قائل يقول خلاف ما دل عليه كتاب الله كائناً من كان، ولا يغتر بأن هذا يوجد في بلاد المسلمين بكثرة، وأنه يوجد علماء معهم أعلى الشهادات يسكتون عنه ولا ينكرونه، ويقولون: هذا من جهل العوام، وهذا لا يدخل في الكفر. فلا يغتر بمثل هذا، الأمر ليس سهلاً، الله خلق العباد لعبادته وحده فقط، فمن صرف شيئاً من العبادة لغيره وقع في الشرك الأكبر، ثم مما يعين الإنسان على معرفة هذا هذه الآية وأمثالها: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات:35-36]، أي: إذا قلنا: (لا إله إلا الله) فمقتضاه أننا نترك آلهتنا، إذا قلنا هذه الكلمة يلزمنا أن نترك آلهتنا، وأن نجعل التأله لله وحده، وهذا الذي يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو المطلوب من كل إنسان، وهو الذي تقوله الرسل كلها، كل رسول يقول: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59].

    فمعنى قولهم: (اعبدوا الله) هو شطر الكلمة: (إلا الله)، وقولهم: (مالكم من إله غيره) هو معنى: (لا إله)، فهذا معنى: (لا إله إلا الله) الذي جاءت به الرسل، وكلهم اتفقوا على هذا، وآخرهم وخاتمهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، ولما سأل هرقل أبا سفيان -وكان مشركاً في ذلك الوقت- ماذا يقول، وما يأمركم به قال: يقول: قولوا: (لا إله إلا الله)، ويأمرنا بعبادة الله، وترك ما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بصلة الأرحام.

    والتوحيد أعظم ما أمر الله جل وعلا به، ثم من مقتضى هذا أن يكفر الإنسان بكل معبود عبد من دون الله ويتبرأ منه؛ لأن الذي يعبد من دون الله هو الطاغوت، كما قال الله جل وعلا في هذه الآية: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4]، ثم استثنى جل وعلا من ذلك ما لا يكون لنا أسوة فيه فقال: إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة:4]، ففي هذا لا تتأسوا به، فلا تستغفروا للمشركين، وهذا جاء صريحاً في قوله تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة:113-114]، فالإنسان لا يقول: أنا غير مكلف بمعاداة الناس، بل أنت مكلف بذلك، فالله كلفك أن تعادي أعداء الله؛ لأن الذي يوالي أعداء الله جل وعلا يكون بعيداً عن الله؛ لأن العبادة هي الحب القلبي، حب الخضوع والذل والتعظيم، هذه هي حقيقة العبادة، فكيف تحب عدو الله، هذا لا يمكن؛ ولهذا يقول جل وعلا: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256]، وسيأتينا تفسير الطاغوت، فبدأ بالكفر بالطاغوت أولاً قبل الإيمان بالله، فلابد في التوحيد من إثبات الإلهية لله جل وعلا ونفيها عن كل ما سواه، واعتقاد ذلك والعمل به، وأن كل من خالف هذا لا يكون ولياً لك، بل يكون عدواً لك تعاديه وتبغضه وتظهر له العداوة والبغضاء، كما قال جل وعلا: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22]، يعني: حتى لو كان المشرك أبا الإنسان أو ابنه، فيجب أن يعاديه إذا كان مخالفاً له في العقيدة، وهذا يدلنا على أن الإسلام شيء واحد، وأن العقيدة تجعل المسلمين كالجسد الواحد، وأنه إذا خالف مخالف في ذلك فإنه عضو انفصل من هذا الجسد وشذ، فيجب على العبد أن يتعرف على دينه.

    1.   

    خطأ من يظن أن التوحيد هو توحيد الربوبية فقط

    قال الشارح رحمه الله: [ وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية، وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف، ويظن هؤلاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد، وأنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه فقد فنوا في غاية التوحيد، فإن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات، ونزهه عن كل ما ينزه عنه وأقر بأنه وحده خالق كل شيء لم يكن موحداً حتى يشهد بأن لا إله إلا الله وحده، فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة، ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له، والإله هو المألوه المعبود الذي يستحق العبادة، وليس هو الإله بمعنى القادر على الاختراع، فإذا فسر المفسر الإله بمعنى القادر على الاختراع واعتقد أن هذا المعنى هو أخص وصف الإله، وجعل إثبات هذا هو الغاية في التوحيد، كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية، وهو الذي يقولونه عن أبي الحسن وأتباعه لم يعرف حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء، وكانوا مع هذا مشركين، قال تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106].

    قالت طائفة من السلف: تسألهم: من خلق السموات والأرض ؟ فيقولون: الله، وهم مع هذا يعبدون غيره، قال تعالى: قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [المؤمنون:84-89] ].

    المتكلمون جعلوا توحيد الربوبية غاية التوحيد، ويستدلون على توحيد الربوبية بالأدلة العقلية التي اتخذها المتكلمون أصلاً في هذا، وبنوا عليها الحكم على الناس، وقالوا: إن أول واجب على العبد النظر في هذا الشيء، يجب عليه أن يتجه للنظر وإثباته بالدليل، فإن لم يفعل هذا فليس بمؤمن.

    والواقع أن الذي يقولونه لا يكفي في النجاة؛ لأن النظر الذي أرادوه وقالوه وأثبتوه، كله في إثبات الربوبية؛ لأنهم قالوا: هذه المخلوقات تدل على الخالق؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يكون أوجد نفسه، ولا يمكن أن يكون أوجده موجد مثله، وكل محدث لابد له من محدث، والمحدث يجب أن ينتهي إلى محدث قادر كامل، أول بلا بداية وآخر بلا نهاية؛ لأنه غني بنفسه عن كل ما سواه، وأدى النظر إلى هذا في النظر في المخلوقات وفي أنفسهم وفيما حولهم من المخلوقات وفي الآفاق، وهذا جعلوه هو الغاية في التوحيد، والواقع أن هذا لا يكفي، والفناء الذي يقوله بعض الصوفية المقصود به أن يكون نهاية عمله وغاية مقصده في هذا، يعني أنه يجتهد كل الاجتهاد في هذا، والواقع أنه قد يفنى في هذا وهو مشرك بالله يعبد غيره؛ ولهذا أدى هذا الأمر بكثير منهم إلى الزندقة والخروج من الدين الإسلامي، فيقول مثلاً: أنا أتقلب في طاعة الله دائماً؛ لأني ما أخرج عن إرادته وعن مشيئته، فمثلاً الصلاة مأمور بها شرعاً، فإذا لم يصل يقول: إن الله شاء ذلك مني وأراده، فإذاً: أنا مطيع لإرادة الله الكونية القدرية، فأنا في طاعة، هذه نتائج النظر، وهل المقصود النظر في هذا فقط؟ لا.

    يقول ابن إسرائيل الذي يجعلونه من العارفين:

    أصبحت فعلاً لما يراد بي ففعلي كله طاعات

    كل فعله طاعات، حتى الكفر يكون طاعة عنده!

    وكذلك غيره، وهؤلاء المتكلمون يجعلون معنى الإله: القادر على الخلق والإيجاد والإحياء والإماتة، ويسمونه القادر على الاختراع، وهذا هو معنى الإله عندهم، وهذا في الواقع كذب على اللغة وعلى الشرع، وليس هذا معناه، وإنما معنى (الإله) المعبود، وليس معناه الرب؛ لأن الرب هو المالك المتصرف الذي يتصرف في الشيء ويملكه، ويفعل فيه ما يريد، ومعنى الرب غير معنى الله، معنى الله هو الألوهية والعبودية، والله طلب من الخلق أن يعبدوه وأن يوحدوه، فالمقصود أن الذي جعلهم يقولون هذا القول هو كونهم اعتمدوا على عقولهم، والعقول غايتها أن تدل على وجود الله فقط، أما أن تدل على بيان حقوقه، فهذا لا يدل عليه إلا الوحي الذي جاءت به الرسل.

    وفي الجملة يلزم من كونه الرب أن تعبده وحده، ولكن من يعرف العبادة؟

    العبادة تتوقف على الشرع، فمن العبادة الشرعية الإخلاص في كل عمل يصدر من الإنسان، فيريد به الثواب، والعبادة لابد أن يأتي بها الأمر من الله جل وعلا، وهذا يتوقف على الشرع، وهذا في الواقع وإلا فأقسام التوحيد متلازمة، لا ينفك واحد عن الثاني.

    وقولهم: الإله هو القادر على الاختراع، وإن هذا من أخص خصائص الإله يلزم منه أن يوحدوه، وأن يعبدوه وحده، وألا يتجهوا بقصدهم ونياتهم وأفعالهم إلى شيء آخر، كما قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:21-22]، فألزمهم الله جل وعلا بأن تكون العبادة له وحده؛ لإقرارهم بأنه هو الذي خلقهم وخلق من قبلهم، وهو الذي جعل الأرض على هذه الصفة، وهو الذي ينبت النبات، وهو الذي يرزقهم، ألزمهم بإقرارهم هذا أن يعبدوه وحده، وهكذا في آيات كثيرة يجعل ربنا جل وعلا إقرارهم بتوحيد الربوبية ملزماً لهم بأن يعبدوا وحده، كقوله: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ [النمل:62]، وهم اتخذوا مع الله آلهة، فالله ينكر عليهم هذا، وهذا في الواقع كثير في القرآن، ولكن الذي جعل المتكلمين يقولون هذا القول هو إعراضهم عن القرآن وعدم تأملهم له، وزعمهم أن في القرآن ظواهر لا تدل على التوحيد، عكس ما كان عليه السلف.

    فالحقيقية والواقع أن اليقين هو الذي جاء به القرآن، وجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لا ما دل عليه العقل، وهم يؤصلون في هذا أصولاً يتبنونها، ويقولون: عرفنا صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بعقولنا، فالعقل هو الذي ميز بين الساحر والكاهن والمتنبي والنبي، عرفنا ذلك بعقولنا، فإذا كان أصل معرفة الرسول بالعقل فيكون العقل هو الأصل.

    فلا يجوز أن يجعل الفرع حاكماً على الأصل، وهذا مبدأ اعتقادهم، هذا من ناحية، وهذا في الواقع ضلال، فالله جل وعلا يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي [سبأ:50]، يعني: هداية الرسول صلى الله عليه وسلم بالوحي الذي جاءه من الله، ولا يمكن لأحد غير الرسول أن يهتدي بغير الوحي، لا يمكن أبداً، فالهدى لا يكون إلا بالوحي، ولكن العقل يكون مساعداً؛ لأن الوحي لا يأتي مخالفاً للعقل.

    فالمقصود أن الواجب على العبد أن يتعرف على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعلم أن نجاته بها، ولن تكون له نجاة وهو يجعل عقله دليلاً، أو يجعل شيخه هو الذي يعرف الحق فقط ويترسم طريقه، والله جل وعلا يقول: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65]، وهذا عام شامل في العقائد وفي الأفعال وفيما يحدث من النزاع والشجار بين الخلق وفي كل شئون الحياة، يجب أن يكون الوحي هو الحاكم والمسيطر على عقيدتك وعلى عملك وعلى سلوكك وعلى معاملتك مع الناس، يجب أن يكون هو الحاكم المسيطر على ذلك، وإلا فيكون الإنسان على خطر شديد.

    1.   

    إقرار المشركين بتوحيد الربوبية وشركهم في توحيد الإلهية

    قال الشارح رحمه الله: [ وعامة المشركين أقروا بأن الله خالق كل شيء، وأثبتوا الشفعاء الذين يشركونهم به، وجعلوا له أنداداً، قال تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الزمر:43-44]، وقال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس:18] ].

    قوله تعالى في هذه الآية: (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ) الذي لا يعلمه الله جل وعلا ليس له وجود أصلاً، فهذا إبطال بليغ لدعوتهم الشفعاء، يعبدون من دون الله الذين يتخذونهم من الأصنام ومن الأشخاص ومن غير ذلك، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، ويقول الله جل وعلا آمراً رسوله: (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ)، فهل يمكن أن يكون شيء في السماء أو في الأرض لا يعلمه الله؟

    لا يمكن أن يوجد شيء في السماء في الأرض إلا ويعلمه الله، والله جل وعلا لا يعلم آلهة في السماء ولا في الأرض، وأن هناك من يشفع دونه، فمعنى هذا أنه لا وجود له أصلاً.

    وقوله في الآية الأولى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ [الزمر:43] يقول المفسرون: كل ما جاء من القرآن (أم) فمعناها: بل، أي: بل اتخذوا من دون الله شفعاء.

    يقول جل وعلا: (أم تخذوا من دون الله شفعاء) مع أنهم لا يملكون شيئاً ولا يعقلون؛ لأنهم إما حجر وإما شجر وإما ميت لا يسمع ما يقال نحو ويدعى به، ولو سمع ما استطاع أن يجيب، بل لا يستطيع أن ينفع نفسه، فإذاً دعوتهم ذاهبة في ضلال في الواقع، فكيف يجوز للعاقل أن يسلك هذا المسلك؟

    ثم يقول جل وعلا بعدها: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا [الزمر:44]، فهذا عموم لا يخرج منه شيء، كل شفاعة تقع يوم القيامة هي لله، والمعنى أنه لا تقع شفاعة عند الله جل وعلا إلا إذا أمر الشافع أن يشفع، والله جل وعلا لا يأمر الأصنام أن تشفع، ولا يأمر المعبودات دونه أن تشفع لأحد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756459577