إسلام ويب

الأربعين النووية - الحديث الثالث عشرللشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    شرح حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد:

    [ عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) متفق عليه].

    هذا الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، والحديث الذي قبله يبين حسن الإسلام، والإسلام هو: النطق بالشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، من محاسنه: ترك ما لا يعني، والبر، وحسن الخلق، وأشياء أخرى متعددة.

    معنى: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه...)

    وإذا كان الحديث السابق يبين حسن الإسلام، فهذا الحديث يبين كمال الإيمان، وقد جاء في هذا المعنى أحاديث عديدة، وقوله: (لا يؤمن أحدكم) (لا) نافية، تنفي الإيمان عن أحد، وأحد نكرة أضيفت للمخاطب، فتعم جميع آحاد الناس، والإيمان كما جاء في حديث جبريل عليه السلام: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره) ، وهذا الحديث ينفي كل أركان الإيمان الستة، وهل يكون قد خرج عن عداد المؤمنين أو المعنى: لا يؤمن إيماناً كاملاً؟

    لا يؤمن إيماناً كاملاً كما جاء في سورة الحجرات: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]، وعند علماء اللغة أن (لما) تشترك مع (ما) في النفي، إلا أن (لما) تدل على أن المنفي هو في سبيل إتمامه، تقول: أثمرت النخلة ولما ترطب، أثمرت الشجرة ولما تينع، أي: ينضج ثمرتها، أي: أنها في طريق النمو، وفي طريق اكتمال النضج، وكذلك الأعراب، أسلموا، وبوادر الإيمان في طريق اكتمالها، فقوله: ( لم تؤمنوا ) أي: لم يكتمل إيمانكم، وبقي مراحل حتى يكتمل، ولذا حملوا النصوص التي ترد بهذا المعنى على نفي كمال الإيمان كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)، وليس المراد أنه انتفى عنه الإيمان وخرج عن مسمى المسلمين، لا، بل جاء في الحديث الآخر: (يكون الإيمان عليه كالظلة حتى يرجع عن ذلك أو ينتهي منه)، فالإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. هذا الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) نقيسه بالشمول وعموم الإسلام كله، (حتى يحب لأخيه)، وليس المراد بأخيه ابن أمه وأبيه أو أخوه من الرضاع أو أخوه لأب أو لأم، بل المراد أخوة الإسلام إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وقال بعض العلماء: الأخوة في الإنسانية أعم من الأخوة في الإسلام؛ لأن الواجب عليك لو رأيت كافراً مشركاً -وتعلم أن نهاية الكفر والشرك إلى النار وأنت تكره ذلك- أن تحب له الإسلام لينجو من النار كما تحب ذلك لنفسك، فبعض العلماء وسع نطاق الأخوة، وجعلها في الجنس البشري، وبعضهم يقصرها على الأخوة الإسلامية.

    أهمية الأخوة في الله

    ينبغي إشعار المسلم بالأخوة مع المسلمين، ولو أراد إنسان أن يوفيها حقها، فعليه أن يرجع إلى أصل دعوة الإسلام وأولها، والهجرة هي أعظم حدث في الإسلام بعد النبوة، فقد هيأت المجال للإسلام أن ينطلق وينتشر، بعد أن كان محدوداً في مكة، ومحصوراً فيها، ومحاطاً من جميع الجهات، ولا يسمح له بالتحرك، فهاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وعند خروجه صلى الله عليه وسلم من بيته إلى الغار كان الصديق تارة يمشي أمامه، وتارة يمشي وراءه، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم وقال: (يا أبا بكر ! ما بالك تارة تمشي أمامي وتارة ورائي؟! أتود لو كان شيئاً أن يكون فيك يا أبا بكر ؟! قال: نعم، إن أهلك أهلك أنا وحدي، أما أنت -يا رسول الله- فإن معك الرسالة)، فمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة معناه مجيء رسالة الإسلام، وليس ذاته صلى الله عليه وسلم فقط، بل ما يحمله من رسالة ربه إلى خلقه، وكان في المدينة الذين بايعوا عند جمرة العقبة من الأنصار، والذين خرجوا قبل رسول الله مهاجرين، مثل مصعب بن عمير الذي كان يعلم الناس الإسلام، فكان فيها بوادر الإسلام، وبجانب هذه القلة كان هناك عباد أصنام، وكان عمرو بن الجموح له صنم في بيته، وكان ولده ممن حضر بيعة العقبة شاباً يافعاً، فلم يستمع لولده، وكان من سادة قومه، وكان كلما أصبح الصباح يأتي إلى صنمه ويطيبه ويمسحه ويؤدي له حقوقه في زعمه! فجاء الولد ونكس الصنم في الليل، فجاء الأب ووجد الصنم منكساً، فعدله، ثم جاء الولد ووضع عليه بعض القاذورات، فأخذه الأب وغسله وطيبه وعدله، ثم ربط الولد صنم أبيه مع كلب ميت في حفرة خارج البيت، وألقاهما معاً، وأصبح الأب يبحث عن معبوده فلم يجده، فأخذ يبحث عنه حتى وجده مع الكلب في حفرة، فلما وجده تعجب من ذلك! وأبعد عنه الكلب، وطيبه ووضعه في محله، وجاء بالسيف ووضعه بجواره، وقال: انتقم لنفسك، فإذا مرة أخرى يأخذه الولد ويجعله بتلك الصورة، فتنبه الأب وقال: عجباً! والله! لو كنت إلهاً حقاً لما كنت مع كلب في قرن، أف لك من إله، وتركه في مكانه وأسلم.

    إذاً: كان في المدينة حينئذٍ أقلية مسلمة، ومشركون يعبدون أصناماً، ومنافقون أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، ويهود يعادون الدعوة بصراحة.

    إذاً: المجتمع المدني كان مؤلفاً من عدة طوائف، أما مجتمع مكة فكان طائفتين فقط، إسلام وشرك، والكفار صرحاء، ولم يكن نفاق في مكة أبداً، إما مسلم واضح وإمام كافر ظاهر، لكن المجتمع في المدينة كان على أربعة أقسام، فكيف للإسلام أن ينتشر وأن يمضي في هذا المجتمع الخليط؟

    ومع أن هذه بلدة صغيرة، وفيها هذه الطوائف، إلا إن الإسلام وقضى على تلك المظاهر كلها، وانطلق خارج المدينة، ولو وقف الساسة ورجال الاجتماع لعجزوا عن تعليل هذا، لكن ذلك كان بوسيلة الأخوة بين المسلمين، فأول ما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار، وكتب الصحيفة العالمية المشهورة بينه وبين اليهود، وبين المشركين، وكان منها: ما كان من أمر في المدينة فمرجعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أول الإسلام كانوا يتوارثون بالإخوة، فإذا مات رجل من الأنصار وله أخٌ في الله من المهاجرين ورثه كما يرث الأخ أخاه والولد أباه، حتى نزلت آية المواريث: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [الأنفال:75].

    من مظاهر الأخوة في الله

    مظاهر الأخوة في عصر النبوة يعجز إنسان أن يصورها، فمن تلك المظاهر: عندما رجع صلى الله عليه وسلم من بني المصطلق تلاحى غلامان: غلام من الأنصار، وغلام من المهاجرين، وضرب غلام المهاجرين غلام الأنصار، فبلغ الأمر إلى عبد الله بن سلول رئيس المنافقين، فقال: قد قلت لكم من قبل: ما نحن وهم إلا كمثل القائل: سمّن كلبك يأكلك، آويناهم في المدينة، وأطعمناهم، والآن يضربونا، لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ [المنافقون:8]، فبلغت مقالته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكاد المهاجرون والأنصار أن يفتتنوا، فأمرهم بالمسير وقت الظهيرة ليشغلهم، وجاء الوحي وبين مقالة ابن أُبي، فقال تعالى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8] .

    ويقول علماء الأصول وعلماء البلاغة: إن ابن أُبي حكم حكماً صحيحاً، فالأعز يخرج الأذل، لكن من هو الأعز ومن هو الأذل؟ هذه هي نقطة الخلاف، فالحكم صحيح، ولكن من هو الأعز، ومن هو الأذل؟

    ابن أُبي يزعم بأنه العزيز في بلده، والقرآن قد رد على ابن أُبي حكمه، وبين أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولكنك لا تفقه يا ابن أُبي !!

    فلما وصل الناس إلى المدينة، ظهرت ثمرة الأخوة في الله، جاء عبد الله بن عبد الله بن أُبي - وهو صحابي جليل، وكان من أبر الناس بأبيه رئيس المنافقين- فأمسك بزمام راحلة أبيه عند باب المدينة، واستلّ سيفه وقال: والله! لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله، وتعلم أنك أنت الأذل، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين!

    فما أعجب هذا الارتباط بين الولد وبين المسلمين، وفصل العرى التي بينه وبين أبيه، فرابطة النسب ضاعت؛ لأنها رابطة ماء وطين، أو رابطة زوجية، أما رابطته برسول الله فهي من الله: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]، وأي نعمة؟

    إنها نعمة الإسلام: وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا [آل عمران:103]، والذي لم يدخل في الإسلام لا يزال واقفاً على شفا حفرة من النار.

    وهكذا وقف الأب أمام الولد ولم يستطع أن يدخل المدينة!

    من الذي منعه؟ هل هو الرسول؟ لا، هل هو أبو بكر أو عمر ؟ لا. بل منعه ولده! ثم بلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه: دعه يدخل، فدخل المدينة ذليلاً حقيراً!

    وأمثال هذه المواقف كثير، ويهمنا أن الأخوة الإسلامية ربطت بين أفراد الأمة الإسلامية، وهي أقوى من النسب والقرابة والرحم، ويظهر أثرها أكثر من هذا في الغزوات، فمثلاً: بعد أن انتهت معركة القادسية، خرج رجل يطلب ابن عم له في القتلى، وقال: لعلي أجده في رمق يحتاج إلى ماء، وحمل معه قدحاً من الماء، ثم وجده في النزع، فقال: ألك حاجة في الماء؟ قال: نعم، فقدّم إليه الماء في القدح، فلما أخذ القدح وأهوى به إلى فيه إذا به يسمع جريحاً يئن، فرفع الماء وقال: اذهب به إليه لعله أحوج إليه مني، فذهب به إليه، وعندما أراد أن يرفع القدح إلى فيه سمع أنيناً ثالثاً فأرسله إليه، فذهب إلى الثالث فوجده قد مات، فرجع إلى الثاني فوجده قد مات، فرجع إلى ابن عمه فوجده قد مات، فمات الثلاثة وكل يؤثر أخاه على نفسه، والماء يبقى في القدح!!

    روى البخاري رحمه الله عن ابن عمر قال: (كنا في زمن لا يعرف أحد منا فضل درهم على أخيه، ونحن في زمان الدرهم عند الرجل أعز من أخيه وأبيه!)، فإذا كان ابن عمر يقول هذا في وقته، وهو صحابي جليل، فكيف بنا اليوم؟! تجد أن الفلس عند الرجل أعز من الدنيا كلها!

    رابطة الإيمان مع الملائكة

    إذا تجلت الأخوة بين المسلمين كان المجتمع مثالياً، وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: إن رابطة الأخوة الإيمانية لم تقف عند سطح الأرض، بل امتدت إلى السماء، وإلى حملة عرش الرحمن، وربطت بينهم وبين المؤمنين، وذلك في قوله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7]، فما هي الرابطة هنا؟

    إنها رابطة الإيمان، رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [غافر:7-9]، أي دعاء أبلغ وأعظم وأشمل من هذا الدعاء الذي تدعو به الملائكة حملة العرش للمؤمنين؟!

    وهذا بسبب رابطة الإيمان.

    ونقول أيضاً: إن تلك الرابطة لم تقف عند حد الدعاء بل كانت عملياً، قال الله: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [فصلت:30-31]، فهم أولياؤهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فمثلاً: في يوم بدر، نزلت الملائكة وقاتلت مع المسلمين.

    إذاً: ربطت الأخوة الإيمانية بين المؤمنين وبين حملة العرش.

    رابطة الإيمان مع الجماد

    وربط الإيمان بين مؤمني هذه الأمة وبين الجماد.

    فهذا العلاء بن الحضرمي حينما ذهب إلى البحرين، علم به مشركو المجوس، فرجعوا إلى الجزيرة وأخذوا السفن، وجاء العلاء ومن معه من المسلمين والبحر أمامهم، فماذا يفعلون؟

    توجه العلاء إلى من معه من المؤمنين وقال: أيها الناس! إني عزمت على أمر، إن الله قد أراكم آية في البر، وهو قادر على أن يريكم آية في البحر.

    وما هي الآية التي أراهم الله إياها في البر؟

    لما كانوا في الطريق، نفذ عليهم الماء، وكادوا يموتون عطشاً، فنزلوا منزلاً ينتظرون الموت، وفي الظهيرة جاءت سحابة صغيرة من بعيد، ووقفت على مساحتهم ثم أمطرت! مدد من الله، أليس هذا من جنود ربك؟! بلى، جند من جند الله، فشربوا وسقوا دوابهم وتزودوا منه.

    فقال العلاء : إن الذي أراكم تلك الآية في البر قادر على أن يريكم آية في البحر، قالوا: وماذا تريد؟ قال: عزمت أن أخوض هذا البحر، فتقدم إلى البحر، وهو جماد لا يدري، فقال: أيها البحر! إنك تجري بأمر الله، ونحن جند في سبيل الله، عزمت عليك لتجمدن حتى نعبر لنقاتل عدو الله، ثم عبر البحر بجيشه!!

    قرار في ثلاث كلمات (توجه إلى الله)، والرابطة الكبرى التي تجمع بين الجميع هي الإيمان.

    يقول ابن كثير في ذكر هذه القصة: (فما ترجل الفارس، ولا احتفى المتنعل، واجتازوا وقاتلوا وانتصروا).

    بأي أمر استطاع العلاء أن يعبر على الماء؟ هل بشخصيته أو بقوته وجيشه؟ لا. بل لأنه في سبيل الله، وهذا يجري بأمر الله، والكل من خلق الله.

    رابطة الإيمان مع الحيوان

    ذكروا عن سفينة خادم رسول الله، أنه رجع من الغزو، فإذا بالأسد يعترض الناس في الطريق، فما استطاع أحد أن يجاوزه، فتقدم إلى الأسد وقال: أيها الأسد! أنا سفينة صاحب رسول الله، عزمت عليك لتخلين الطريق لنمضي، فإذا بالأسد يذهب بعيداً، ويخلي الطريق!

    بماذا طرد سفينة الأسد؟! هل طرده بسيفه ورمحه؟

    لا والله! إنما طرده بإيمانه وصحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

    إذاً: لو قال قائل: إن إخوة الإيمان تربط بين جميع خلق الله فلا يستبعد عن ذلك أبداً، : (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه)، فالأخوة الإسلامية ذللت كل شيء لهؤلاء المسلمين.

    وهذه الآثار تبين لنا معنى نفي الإيمان في هذا الحديث، وأنه نفي كمال وتمام الإيمان، كما جاء في نظير ذلك: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن

    قالوا: يسمى مسلماً ولا يسمى مؤمناً، فالإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.

    وتقدم الكلام على أن الأخوة هنا: (أن يحب لأخيه) هي أخوة الإيمان، وليست أخوة النسب، بل أخوة الجنس البشري، كما في رواية: (يحب للناس ما يحب لنفسه، ويكره للناس ما يكره لنفسه)، وأشرنا إلى مدى آثار الأخوة في الله، وذكرنا قضية ابن أُبي وولده عبد الله، وما قاله عند الرجوع من غزوة بني المصطلق، ووقوف ولده أمامه عند باب المدينة ليمنعه من دخولها حتى يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه تبين لنا كيف ألقى الرابطة بينه وبين أبيه من جانب النسب، وقوى الرابطة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بعلاقة الإيمان.

    موقف أبي بكر رضي الله عنه من ولده في غزوة أحد

    في غزوة أحد حينما اصطف الفريقان، خرج من المشركين من يطلب المبارزة، وكان منهم ابن أبي بكر الكبير رضي الله تعالى عنه، فقال: من يبارز؟ فأول من نهض ليبارزه أبوه: أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فأمسك به رسول الله وقال: (أبق علينا نفسك يا أبا بكر!).

    وأشرنا إلى ما كان في معركة القادسية، عندما ذهب رجل يطلب ابن عمه في الجرحى ومعه الماء، فلما وجده دفع إليه قدح الماء ليشرب، فسمع الجريح أنيناً، فقال: اذهب بالماء إليه لعله أحوج إليه مني، فذهب إليه فسمع أنين شخص ثالث، فقال: اذهب بالماء إليه لعله أحوج إليه مني، فلما وصل إلى الثالث وجده قد مات، ثم رجع إلى الثاني ووجده قد مات، ثم رجع إلى ابن عمه فوجده أيضاً قد مات، يموت الثلاثة وكل يؤثر صاحبه على نفسه، ويبقى الماء في القدح!

    هذه حقيقة الأخوة في الله، وأشرنا إلى أثر الإيمان بين الجماد والمؤمن في قصة العلاء بن الحضرمي، حين أقسم على البحر أن يجمد ليعبر عليه حتى يقاتل العدو، فجمد الماء وقاتل الأعداء وانتصر، إلى غير ذلك من آثار الأخوة في الله.

    وأشرنا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة كان فيها تيارات مختلفة، وعقائد متنوعة، ما بين قلة مؤمنة، وكثرة مشركة، وبعض المنافقين واليهود، واستطاع النبي صلى الله عليه وسلم بنور النبوة وحكمتها أن يشق طريق الإسلام بين تلك الطوائف الأربع.

    الأخوة من أسس بناء الدولة الإسلامية

    أول خطوة عملها عليه الصلاة والسلام عند بناء الدولة الإسلامية هي: المؤاخاة بين المهاجرين أنفسهم، وبين المهاجرين والأنصار، وكتب الاتفاقية العامة بينه وبين اليهود، وقد أعطت رسول الله صلى الله عليه وسلم حق الحل والعقد فيما يتعلق بالمدينة، وكل ما شجر فيها فمرجعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وقد استطاع النبي عليه الصلاة والسلام أن يؤاخي بين المسلمين، حتى صار في فجر الإسلام يستظل بمظلة الإسلام الكبرى شتى الجنسيات المختلفة، فهنا سلمان الفارسي ، وهنا بلال الحبشي ، وهنا صهيب الرومي ، والكل يعيش في ظل راية الإسلام، وتحت مظلة: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

    أما العالم اليوم فقد دمر بالحروب وبالتفرقة العنصرية، وتمزق بالتعصب الشخصي أو الحيدة والمصلحة الخاصة، ولكن الإسلام بتعاليمه يذيب الفوارق بين تلك الجنسيات فيعيش الحبشي والرومي والفارسي والعربي والعجمي جميعاً تحت مظلة الإسلام، قال الله سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، ويقول الإمام علي رضي الله تعالى عنه:

    الناس من جهة التكوين أكفاء أبوهمُ آدم والأم حواء

    فإن يكن لهم من أصلهم نسب يفاخرون به فالطين والماء

    إذاً: الإسلام يذيب الفوارق ويجمع الشتات، ويربط الجميع بأخوة واحدة، ويصبح هذا التآخي بمثابة التلاحم، قال تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، ويقول صلى الله عليه وسلم: (المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً)، ويقول: (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، كيف فعل الإسلام ذلك؟

    أشرنا إلى عنصرين أساسيين هما:

    - الروح.

    - الجسد.

    يقولون: الإنسان حيوان ناطق، والحيوانية مبناها على الحياة بالأكل والشرب، فهو حيوان كسائر الحيوانات: يأكل ويشرب، ويجوع وينام، والنطق هي الملكة التي بها تميز عن غيره، كالصهيل للفرس، والنهيق للحمار، إذاً: هذا الفصل عن الجنس، والله كرم الإنسان بالقوة المخيلة، والذاكرة، والعقل الذي به يدرك خطاب الله لخلقه.

    إذاً: الإنسان جسدٌ وروح، والجسد بدون الروح لا قيمة له، يكون جثة هامدة، والروح بدون الجسد ناقصة؛ لأنها ساكنة في الجسم، ولابد للساكن من بيت يسكن فيه، وإذا انهدم هذا البيت صعدت الروح إلى بارئها.

    إذاً: الإنسان من مادة وروح، (جسم وروح)، فالإسلام آخى بين المسلمين على هذين العنصرين:

    أما العنصر المادي فهو -كما أشرنا-: رد الإنسان إلى أصله الأول: خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى [الحجرات:13]، وكما قال علي رضي الله تعالى عنه: (من ماء وطين)، هذه هي الناحية المادية: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا [نوح:17].

    أما الناحية المعنوية، وهي الروح والعقل والإيمان، فهي نعمة من الله: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]، ولما أوجد الله هذا الكيان الإنساني، جاء الإسلام بروافد تغذي تلك النبتة القوية التي أصلها ثابت وفرعها في السماء.

    فمنع وحرم كل إيذاء بين بني البشر: من القتل، والسرق، والضرب، بل منع من السخرية والهمز واللمز، وأوجب روافد الخير: من التآخي، والتزاور، والهدايا، وصلة الأرحام، و.. و.. إلخ، وكف عنها آفات الفرقة بالاعتداء والخصومة، وسلط عليها روافد النمو من الأخوة والمحبة والموالاة والزيارة .. إلى غير ذلك.

    والخلاصة: منع الإسلام من كل آفة تعيق نمو المحبة، وشرع روافد الخير التي تغذيها حتى تنميها وتؤتي ثمارها في كل حين.

    ثمرات العمل بحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ..)

    قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم) أي: لا يبلغ حقيقة الإيمان حتى يتصف بهذه الصفة، وهذه صفة لو طبقت لألغيت المحاكم والسجون؛ لأنه إذا أصبح كل إنسان يحب لأخيه ما يحب لنفسه فلن يحصل اعتداء، ولا ظلم، ولا بغي، ولا حسد، ولا حقد، ولا غل، ولا سخرية... إلى آخر الشرور، وقد طبق النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث في الشاب الذي جاءه وأعلن إسلامه وقال: (يا رسول الله! أريد أن تأذن لي في شيء واحد، قال: ما هو؟ قال: في الزنا، فنهره أصحاب رسول الله وزجروه، فقال عليه الصلاة والسلام: هلم! ادن، فدنا الشاب وأجلسه بين يديه، وسأله فقال: أترضى ذلك في أختك؟ قال: لا والله! قال: أترضاه في ابنتك؟ قال: لا، أبداً. قال: أترضاه في أمك؟ قال: لا، أبداً، قال: كذلك الناس لا يرضونه في محارمهم)، وهذا من تطبيق الحديث: أن تحب للناس ما تحبه لنفسك، وأن تكره للناس ما تكره لنفسك.

    وهذا تطبيق عملي من الرسول صلى الله عليه وسلم مع هذا الشاب في موضوع خطير جداً، فالشاب كان يجب شيئاً محرماً، ولكن بصره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشره فانتهى، فكما أن لك محارم فللناس محارم، فإن كنت ترضاه لنفسك فهذه نقيصة، وإن كنت لا ترضاه لنفسك فكيف ترضاه للناس؟ ومن هنا كف الشاب عن ذلك، وأبغض الزنا!

    ولو أن كل شاب طبق هذا الحديث في نزواته لما زنى أحد؛ لأنه لا يرضى ذلك في محارمه. وكذلك المال، قال صلى الله عليه وسلم -فيما معناه- (لا يحلب أحد ماشية أحد، فإنما هي تحزن طعامهم) أرأيت لو أن إنساناً جاء إلى مخزنك وأخذ منه طعامك وشرابك! وكأنه يقول: تلك الإبل المحفلة بالحليب تحمل غذاء أهلها، فإذا أخذت هذا الحليب، أترضى أن يخلفك إنسان إلى مخزن بيتك ويأخذ رزقك وطعامك من هناك؟!

    الجواب: لا، إذاً: دع أرزاق الناس مكانها، فلو طبق هذا أيضاً من جهة المال لما سرق سارق؛ لأنه لا يرغب إنسان أن يسرق ماله، ولما ظلم ظالم ولا اغتصب غاصب؛ لأنه لا يرضى إنسان أن يظلمه أحد أو يبغي عليه أحد، وهكذا.

    عامل الناس كما تحب أن يعاملوك

    المولى سبحانه وتعالى يقول: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً [النساء:9]، مذا؟ ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9]، أي: خافوا عليهم من الناس.

    إذاً: أنت في حياتك لك ذرية ضعيفة، وأمامك وبين يديك ذرية الآخرين، فإذا أحسنت إليهم سخر الله من يحسن إلى ذريتك الضعاف، وإن أسأت إلى ذرية الآخرين الضعاف فخف على ذريتك من بعدك، فالأمر مبادلة، فأحب لذرية الأجانب الآخرين ما تجب لذريتك، وافعل لهم من الخير، وكف عنهم من الشر ما تحب أن يفعل لذريتك الضعاف من بعدك.

    ويقول الله في الآية الأخرى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ [البقرة:266]، يعني: أنت في كبر السن، ولك ذرية ضعاف، ولك يستان وحديقة، ثم يأتي إعصار فيه نار فيحرق تلك الحديقة، فأين تذهب ذريتك الضعيفة؟

    وهذه الآية جاءت بعد قوله تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ [البقرة:263]، سبحان الله! كيف تعامل المساكين؟ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ [البقرة:263]، باللسان، خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ [البقرة:263]، بالمال مهما كانت يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة:263]، لماذا تؤذي الفقراء؟ هل ترضى أن تكون فقيراً ويؤذيك الأغنياء؟!

    لا والله! وبعدها قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264]، لما تؤذي المسكين وتمن عليه؟! هل هذا من جهدك ومالك أنت؟ المال مال الله، وهو في يدك ابتلاء، ومنع منه المسكين ابتلاء، كلٌ يبتلى لينظر أيشكر الغني ويصبر الفقير أم لا؟

    النصح للمسلمين

    الله عز وجل يريدك أن تكون مسلماً حقاً، تحب لأخيك ما تحب لنفسك، وتعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، وتنصح لهم كما في الحديث: الدين النصيحة، فينبغي أن يكون كل مسلم ناصحاً لكل إخوانه.

    ويذكر بعض العلماء أن رجلاً جاء ليبيع دابة، فجاءه شخص وقال: أسألك: أتصلح لي هذه الدابة؟ قال: لو كانت تصلح ما بعتها، ما الذي حمله على هذا؟ إنها الأخوة في الله.

    وذكروا قصة عن نبي الله سليمان عليه السلام، وهي أنه عندما أراد أن يبني بيت المقدس، أوحى الله إليه: (أن ابن لي بيتاً) قال: يا رب! وأين أبني ذلك البيت؟ قال: حيث ترى الفارس المعلم شاهراً سيفه، فرآه، فسأل عن صاحب هذه الأرض، فقالوا: لرجل من بني إسرائيل، فقال: أحضروه، فجاء، فقال: ثامني على أرضك هذه، فقال: بألف، قال: اشتريت، فقال: يا نبي الله! أستنصحك: الأرض خير أم الألف؟ قال: الأرض، قال: أقلني، قال: أقلتك، ثم قال: بألفين، قال: بعتك، ثم قال: يا نبي الله! أستنصحك الأرض خير أم الألفين؟ قال: الأرض، قال: أقلني، قال: أقلتك، وهكذا خمس مرات حتى وصلت إلى خمسة آلاف، وأخيراً قال له نبي الله: كم تريد فيها وأعطيك؟ سم أنت الذي ترضى!

    فقال: تملؤها عليَّ نعماً، إبلاً وبقراً وغنماً فأمر بني إسرائيل أن يملئوها له بما طلب!

    والشاهد قوله: (أستنصحك: الأرض خير أم الثمن؟ فقال: الأرض خير، فما الذي حمله على ذلك؟ إنه النصح.

    ومن الإيمان: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنك إذا رأيت إنساناً على منكر لا ترضاه لنفسك، فلابد ألا ترضاه لهذا الشخص، وأن تخلصه منه، ولكن كيف تخلصه؟ هل تخلصه بالسوط والعصا؟

    لا، إنما بما تحبه لنفسك، فلو كنت مثله، ورآك آخر، فبأي طريقة تريد أن ينهاك أو يأمرك؟ أتحب أن يزجرك ويسبك ويعنفك أمام الناس؟! أتحب أن يقبحك ويخرجك من الإسلام ومن الإيمان؟! لا والله! وكما يقول بعض السلف الصالح: إن الأتقياء الصالحين ينظرون بنور الله، يرون العبد على المعصية، فيكرهون العمل ويشفقون على العامل، وينصحونه بالرحمة والرفق؛ ولذا الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر كالطبيب الحاذق الحليم؛ حينما يرى إنساناً مريضاً لا يربطه بالحبال، ولا يقيده بالقيود، ولكن يتلطف معه، ويبدأ بما يخفف إحساسه، وبما يلطف الطريق إليه، فيعطيه منوم، أو مسكن، ثم يفعل ما يشاء في علاجه، والمريض ربما يسبه وربما يتطاول عليه، ولكنه يتحمل ذلك في سبيل علاجه، والآمر بالمعروف أولى بالصبر من الطبيب: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3]. وبالتناصح سنجد الصدق، والأمانات ستؤدى إلى أهلها. يقول العقلاء: إن مطامع العقلاء في الدنيا لأحد أمرين: إما لجلب نفع، وإما لدفع ضر.

    لمنافع يسعى اللبيب فلا تكن بشيء دهرك ساعياً

    إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يرجى الفتى كما يضر وينفعا

    تضر الخصم والعدو، وتنفع نفسك والصديق، فالإنسان العاقل ما دام يتصف بالعقل لا يسعى سعياً إلا لأحد أمرين:

    إما ليجلب نفعاً إليه، وإما ليدفع شراً عنه، وجاء الإسلام بهذين المبدأين، وزاد مبدأً ثالثاً ألا وهو: الحث على مكارم الأخلاق، فإذا كان لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فبالتالي يكره لغيره ما يكره لنفسه.

    إذاً: كلما فيه جلب نفع أحبه للغير، وكلما فيه دفع ضر أحبه للغير، وقد اتفق العلماء والأصوليون والعقلاء من كل الملل على أن أهم ما يحافظ عليه الإنسان، ويسعى للحفاظ عليه، الكليات الخمس: الدين، والعقل، والجسم، والمال، والعرض، ويدخل فيه النسب.

    فإذا أحببت أن تحفظ دينك: فأمرت بالمعروف، وانه عن المنكر؛ لتسعد بإنقاذ إنسان مما هو فيه، وإذا وجدت إنساناً في دينه أعلى منك اجتهدت أن تصل إليه، وإذا وجدت إنساناً أقل منك ساعدته حتى يصل إليك، وهذا من حفظ الدين، أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتجاهد نفسك لتؤدي حق الله عليك.

    وحفظ العقل بأن تجتنب كل ما فيه مضرة على العقل، وكذلك تجنب غيرك أن يقع في مثل ذلك.

    وكذلك حفظ البدن فكما تحب أن يحفظ بدنك من ضرب أو من جرح أو من إساءة بدنية فكذلك كف هذا عن غيرك.

    وحفظ العرض: كما لا تحب أن يعتدى على عرضك، فلا تسمح لنفسك أن تعتدي على أعراض الآخرين.

    وحفظ المال كما تحب أن تحفظ مالك من أي اعتداء، وتكره أن يغصبك أحد، فكذلك أحب الخير لغيرك في ماله.

    ولو طبق هذا الحديث، فلا حاجة للمحاكم، إذا كان كل إنسان يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويكره لأخيه ما يكره لنفسه، فلن تكون هناك خصومة.

    عمر رضي الله تعالى عنه طلب منه أبو بكر رضي الله تعالى عنه أن يلي أمر القضاء، ويكفيه مئونته، فمكث عمر سنة ثم جاء إلى أبي بكر رضي الله عنه وقال: أغفني من القضاء، فقال له: لماذا؟ قال: لم يأت إليّ أحد! وليت على أمة كلٌ قد عرف ما له وما عليه، عرف ما له فلم يتجاوزه، وعرف ما عليه فلم يقصر فيه.

    وما دام كل إنسان يمضي في خطه المرسوم له، فلن يعتدي على أحد، ولن يعتدي عليه، فلماذا المحاكم؟ ولماذا الشرطة؟!

    إذا: لو طبق الناس هذا الحديث وحده، لكان المجتمع الإنساني مجتمعاً مثالياً، فما أعظم قوله صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.

    ولعل في هذا القدر الكفاية لبيان معنى الحديث النبوي الشريف، وبالله تعالى التوفيق.

    وصلى الله وبارك على نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756445913