الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
مم خلق الجن؟
قال عليه الصلاة والسلام: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم).
إذاً الجن مخلوقة من نار كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قال الله سبحانه وتعالى: خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [الرحمن:14-15].
والجن يتشكلون في صور، فأحياناً يتشكلون في صورة الإنس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي هريرة : (يا
ويتشكلون في صورة حيات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من حيات المدينة جن قد أسلموا)، ومن العلماء من قال: إنهم يتشكلون أيضاً في صورة كلاب، لظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الكلب الأسود شيطان).
الجن أصناف، فمنهم العالم، ومنهم الجاهل، ومنهم المبتدع، ومنهم المحسن، ومنهم المسيء... إلى غير ذلك من الأصناف، كما سيأتي -إن شاء الله- في تفسير السورة.
ولهم أماكن يكثر فيها تواجدهم، لا سيما على الماء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عرش إبليس على الماء، وإنه يرسل سراياه فيفتنون الناس، فأعظمهم عنده أعظمهم فتنة ..) الحديث.
ويتواجدون أيضاً في: الأماكن المستقذرة كالخلاء ونحوه؛ ولذلك (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم! إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) أي: من ذكران الشياطين وإناثه، وسيأتي ما يتعلق بهم في ثنايا تفسير السورة إن شاء الله.
قال الله سبحانه وتعالى فيها: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [الجن:1].
(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ) الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. (قل) يا محمد لأصحابك (أوحي إلي) بشيء ألا وهو (أنه استمع نفر من الجن) استمعوا لقراءتي وأنا أقرأ، (فَقَالُوا) أي: لبعضهم (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا)، وهل علم الرسول صلى الله عليه وسلم بتواجدهم أثناء قراءته أم لم يعلم؟
روي عن عبد الله بن عباس أنه نفى أن النبي صلى الله عليه وسلم رآهم وهو يقرأ عليهم، إنما نزلت الآية الكريمة فأخبرت رسول الله أنهم استمعوا، أما ابن مسعود فرأى أن النبي كان يعلم أن الجن يستمعون إليه وقال: (آذنته بهم نخلة) أي: أعلمته نخلة بأن الجن يستمعون لقراءته، وفي رواية: (آذنته بهم شجرة) أي: شجرة أخبرت رسول الله أن هنا جناً يستمعون إلى قراءتك يا محمد!
وجمع فريق من العلماء بين الأثرين: أثر عبد الله بن عباس وأثر عبد الله بن مسعود ، بأن قالوا: هذا يحمل على التعدد، فيحتمل أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ مرة القرآن واستمعت إليه الجن وهو لا يدري، ثم بعد مدة قرأ الرسول القرآن على الجن وهو يعلم أنهم يستمعون إليه، وهذا وجه جيد، وقد قال عبد الله بن مسعود : (خرجنا مع الرسول صلى الله عليه وسلم فافتقدناه ذات ليلة، فبتنا بشر ليلة، فقلنا: اغتيل، استطير، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرنا بقراءته على الجن، وأرانا آثارهم وآثار نيرانهم)، وهذا الجمع جمع حسن، فيقال: إن كل صحابي تكلم بالذي بلغه.
وقد ثبت ما حاصله: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث كثرت الشهب في السماء، وكانت الجن تتسمع وتتنصت على الملأ الأعلى، فلما رأت هذه الشهب المتكاثرة التي تأتيها من كل فج وتحرقها، قالت: ما نرى أنه قد حيل بيننا وبين خبر السماء إلا لشيء قد حدث في الأرض، فقالوا: اضربوا مشارق الأرض ومغاربها للبحث عن هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فاتجهت كل طائفة من الجن اتجاهاً تبحث عن السبب الذي من أجله حيل بين الجن وبين خبر السماء، وسلطت عليهم الشهب، فاتجهت طائفة منهم إلى ناحية تهامة، فاستمعوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن، وأنصتوا إليه، فلما استمعوه قالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، كما قال تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:29-31] وهذا ثابت بلا شك ولا يمنع أن يكون بعد ذلك ترددت الجن على رسول الله، وطلبت منه أن يقرأ القرآن عليها إذ هو عليه الصلاة والسلام مبعوث للثقلين للإنس والجن، قال الله: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1].
قال الله سبحانه: (قُلْ أُوحِيَ) قل لأصحابك يا محمد! (أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) والجن -كما تعلمون- قال الله فيهم: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27] ولفتة سريعة في شأن الجن استفيدت من بعض الكتب: هناك علم كان يبث في صفحات الجرائد فيما يتعلق بالشيء الذي أسموه الأطباق الطائرة، وكانت تفرد له صفحات كاملة من الجرائد، وذكروا أن شخصاً على شاطئ المحيط الأطلنطي قال: إنني قد رأيت أناساً طوال الأجسام صفتهم كذا وكذا، ومعهم كذا وكذا، ثم انطلقوا، وخصصت الولايات المتحدة الأمريكية أربعين مليون دولار لمسألة الأطباق الطائرة، وملاحقة الأطباق الطائرة، وكانوا يرسلون طائرات في غاية السرعة وراء هذه الأجسام ولا يجدون شيئاً، وبعضهم يفتري ويقول: هم خلق آخر يعيشون في كواكب أخر، وأهل الكواكب الأخر أرسلوا إلى الأرض من يستكشف أهل الأرض، وينظر كيف حال أهل الأرض، ويتجسس على أهل الأرض، كل ذلك قيل ونشر وأفردت له كتب، وصنفت فيه تصانيف، وفي الحقيقة أن تأويلات أهل السنة لمثل هذا أنهم جن يتشكلون، ويرهق هذا أهل الكفر كما أرهق المشركين قول رسول الله عليه الصلاة والسلام، لأنهم لا يؤمنون بالجن ولا بشيء من هذا، وكل شيء عندهم مبني على التأويل المادي المحسوس، وليس من وراء أفعالهم إلا الكفران كما هو واضح.
وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا [الجن:3] ما معنى جد ربنا؟
من العلماء من قال: الجد هنا: العظمة. أي: أنه تعالت عظمة ربنا عن أن يكون له شريك، ومن العلماء من قال: إن المعنى: وأنه تعالى ربنا عن اتخاذ الشريك والولد.
(وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) تعالت عظمة ربنا، وتعالى جلال ربنا أن يكون له ولد، وعن أن يكون له شريك، وعن أن يكون له صاحبة.
هؤلاء الجن فارقوا طوائف أهل الشرك فقالوا: (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) وأيضاً: نفوا الولد والزوجة عن الله سبحانه وتعالى.
شَطَطًا [الجن:4] الشطط: التخريف والبعد عن الصواب، والجور فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ [ص:22]. أي: لا تبتعد عن الصواب ولا تحيد عنه.
وتستمر الجن أيضاً في الحكايات فتقول: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ [الجن:6] جاء في تفسيرها بعض الآثار التي تفيد أن أهل الشرك من العرب كانوا إذا سافروا ونزلوا وادياً من الأودية، قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي أن نصاب بسوء، يستجيرون بسيد الوادي -وهو من الجن- أن يحفظهم من سائر الجن، وكانت الجن تخشاهم، فلما رأت الجن أن الإنس يخشوهم زادتهم رهقاً، قال البعض: كانت تسرق عليهم بعض المتاع، فيستغيثون بسيد الوادي كي يرد المتاع إليهم، وهكذا أرهقتهم الجن والعياذ بالله.
(فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) أي: زادتهم الجن رهقاً.
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا [الجن:7] كان منهم قوم كفار، ظنوا كظن الإنس أن لن يبعث الله أحداً.
فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا [الجن:8].
قال تعالى: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ [الجن:9] أي: من قبل كنا نجلس نتنصت على السماء، ونسمع الأخبار التي تدور بين الملأ الأعلى، كما تقدم في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في وصف استماع الجن فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ [الجن:9] بعد بعثة الرسول يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [الجن:9] بالمرصاد، كما قال تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ [الصافات:6-8].
قال تعالى: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ [الجن:10] حتى سلطت علينا هذه الشهب أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10].
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ [الجن:11] قال كثير من العلماء: منهم: الكفار، والفسقة والمرجئة والقدرية ، والخوارج، والروافض، وكل الملل في الجن كما هي في الإنس، (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ) أي: فرقاً شتى.
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ [الجن:12] الظن هنا بمعنى: اليقين. أي: اعتقدنا الآن أننا لن نعجز الله في الأرض. أي: لن نفوت من ربنا سبحانه وتعالى وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا [الجن:12] أي: ولن نستطيع أن نهرب منه سبحانه.
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا [الجن:13] (البخس) (النقص) (الرهق) الإثم والخطيئة، ومنه: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ [الأعراف:85] أي: لا تنقصوا الناس أشياءهم.
طُرِح هذا السؤال في بعض كتب التفاسير، فمن العلماء من قال: إنما ينجيهم الله من النار فقط؛ لأن الجن قالت: فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ولم يذكروا ثواباً، وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا فذكروا عقاباً، وهذه وجهة ضعيفة في التفسير، والحكم لا يؤخذ من هذه الآية فقط، بل يؤخذ من عموم الآيات والأحاديث.
قال الله: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا [طه:112]، وقال: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97]، وقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف:107] وهي آية عامة، وكذلك كل ما كان على شاكلتها من قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يدخل فيها الجن.
للعلماء في تفسير الطريقة قولان مشهوران:
القول الأول: أن المراد بالطريقة: طريقة الاستقامة، فلو استقام عليها الخلق لأسقاهم الله سبحانه وتعالى ماء غدقاً، كما قال سبحانه وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96]، وكما قال الله سبحانه وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة:66]، وكما قال نوح فيما حكى الله عنه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا [نوح:10-11].
القول الثاني: أن المراد بالطريقة: طريقة الغواية والضلال، فالمعنى: لو استمروا في غيهم، وفي ضلالهم؛ لأسقيناهم ماء غدقاً لنفتهم في هذا الماء، ولنفتنهم في هذا الرزق، كما قال الله سبحانه وتعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:44]، واستظهر لهذا التأويل بقوله تعالى في الآية التي تليها: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [الجن:17]، فالقولان مشهوران وواردان في تفسير الآية الكريمة، وكل قول له وجه ودليل يشهد له من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي: لنختبرهم في الرزق الذي رزقناهم إياه، والرزق الذي رزق الله العبد إنما هو فتنة وابتلاء، وسيُسئل عنه العبد، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام (وأصحاب الجد محبوسون) أي: للتحقيق معهم، فيسئلون: من أين اكتسبوا هذه الأموال؟ وفيم أنفقوها؟ ولذلك كره بعض العلماء كثرة المال لأنفسهم، واستدلوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم (قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنّعه الله بما آتاه)، بينما ذهب آخرون إلى أن الحال والمقام يختلف من شخص لآخر، فإذا كان الشخص قوياً في دينه، رشيداً في فهمه، ومسدداً في فعله، فكما قال الرسول: (نعم المال الصالح للعبد الصالح) وقال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه عل هلكته في الحق)، واستدل في هذا الباب بحديث: (ذهب أهل الدثور بالأجور) إلى آخر الحديث، وفيه: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)، فالمقام يختلف من شخص إلى شخص آخر.
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي: لنختبرهم فيما رزقناهم، كما قال الله: لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [المائدة:48]، وكما قال سليمان عليه السلام لما رأى العرش مستقراً عنده: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل:40]، وكما أسلفنا فليست كثرة المال دليلاً على الخير، وعلى رضا الله على عبده، وليست هي المقياس في الدنيا، فـقارون قد علمتم حاله، ونبينا محمد لم يؤت من الدنيا إلا القليل، وهو أرفع درجة من سليمان الذي سخرت له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب.
القول بالتعميم في مثل هذا أولى.
وما المراد بالعذاب الصَعَد؟
أي: عذاب يصعد فيه في جهنم، كما قال تعالى: سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا [المدثر:17]، الذي يصعد سلالم ودرج في الدنيا يتعب ويرهق، ففي النار يصعد صعوداً طويلاً، وهذا الصعود فضلاً عما هو في الجحيم، فيرهقه الصعود ويؤذيه.
هذه الآية يقذف بها في وجوه المشركين والمتصوفة والزنادقة الذين يدعون المقبورين في القبور.
ما المراد بالمساجد هنا؟
من العلماء من أول المساجد بأنها المساجد العادية المعروفة لدينا ذات الأبنية، ومنهم من قال: إن المساجد هي مواطن السجود، ومواضع السجود، فلا يسجد إلا لله سبحانه وتعالى.
(وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) يرد سؤال: كل شيء لله كما لا يخفى، البيوت لله، والأراضي لله، والأسواق لله، وكل شيء على وجه الأرض لله، فلماذا خصت المساجد بالذكر في قوله: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ)؟
من العلماء من قال: إن الإضافة إضافة تشريف للمساجد، كما أضيفت ناقة صالح لله، قال: هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً [الأعراف:73]، مع أن كل النوق لله، لكن أضيفت ناقة صالح عليه السلام لله إضافة تشريف، ومنه وصف عيسى عليه السلام بأنه روح الله تشريفاً لعيسى صلى الله عليه وسلم.
كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19] الشيء الملبد هو: الملتف المجتمع، ومنه: تلبيد الشعر. أي: جمع بعض الشعر إلى بعض، كما في الحديث: (إني لبدت شعري وقلدت هديي) فالتلبيد: جمع الشعر بعضه إلى بعض بالصمغ، (كَادُوا) أي: كاد الجن (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) التفوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجتمعوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأطبقوا عليه، وهذه الآية للعلماء فيها قولان:
القول الأول: أن الجن والإنس الكفار لما سمعوا مقالة رسول الله، وتلاوته اجتمعوا على رسول الله، وتلبدوا حول رسول الله كي يطفئوا نور الله، ولكن الله أظهره.
القول الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ القرآن، اجتمعت الجن وتلبدت حوله، وركب بعضهم فوق بعض حتى يستمعون لهذا القرآن.
فإما أن يكون تفسير: (كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) أي: لحجبه وإطفاء نور الله، ولكن الله أظهره، أو يكون تفسيرها: للاستماع والإنصات لهذا القرآن العجب.
قال تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا * قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا * قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا [الجن:19-21] هذا قول رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام، قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الجن:22] أي: مهرباً أهرب فيه.
إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [الجن:23] العصيان هنا محمول على الكفر، لأنه أوجب الخلود، لكن مجرد العصيان لأمر من الأوامر أو لنهي من النواهي، لا يوجب الخلود، فالعصيان الموجب للخلود هو الكفر.
حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا [الجن:24] خبر يحمل معنى التهديد.
قال الله: (فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) أي: فإنه يطلعه على بعض العلم، فالله سبحانه يطلع بعض رسله على بعض الأمور الغيبية، كما قال تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم:2-3]، وكما أخبر الرسول عن يأجوج ومأجوج، وقد جاء ذكرهم الله في كتابه، وكأشراط الساعة الكبرى والصغرى، فكلها أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل: خروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، فكل هذه أمور لم تحدث إلى الآن، وستحدث كما أخبرنا بها رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ففي الآية دليل على أن الله يطلع أنبياءه على بعض الأمور الغيبية وليس كلها، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الساعة، قال الله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا [النازعات:42-43] ليس لك بها علم، إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا [النازعات:44].
ما معنى (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا)؟
الرصد هم من الملائكة. أي: إن الله سبحانه وتعالى يحيط هذا النبي الذي يطلعه على بعض الأشياء الغيبية بالملائكة من أمامه ومن خلفه، حرساً حتى يوحى إليه بهذا الأمر الغيبي، فلا تأخذه الشياطين من رسول الله.
(فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) أي: يحيطه بملائكة من أمامه ومن خلفه حتى لا تستطيع الشياطين إدخال شيء في هذه الغيبيات الذي يخبر بها الرسول، وكذلك حتى لا يستطيعون أخذ شيء من هذه الغيبيات التي يخبر بها الرسول عليه الصلاة والسلام، كما في الآية الأخرى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ [فصلت:41-42] -أي: الشيطان على رأي بعض المفسرين- مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42] فمعنى الآية والله أعلم: أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يطلع بعض أنبيائه على بعض الأمور الغيبية، عززهم بملائكة تحرسهم عن اليمين والشمال، ومن الأمام ومن الخلف، ومن كل اتجاه، ثم يوحى إليه بهذا الأمر الغيبي فلا يستطيع الشيطان أن يدخل معه أمراً آخر، أو يأخذ منه خبراً وينشره بين الناس.
(فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا)، أي: رصداً من الملائكة، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ [الجن:28] من هو الذي يعلم؟
فيها أقول لأهل العلم:
قيل: ليعلم هذا النبي أن إخوانه من الأنبياء قد أبلغوا رسالات ربهم.
وقيل: (لِيَعْلَمَ). أي: ربنا سبحانه وتعالى، وليس هذا منافياً لعلمه، إنما المراد بالعلم: علم ينبني عليه الثواب، والعقاب، كقوله: لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [المائدة:94]، فهو علم يترتب عليه الثواب والعقاب، وإلا فهو سبحانه يعلم كل شيء، وثم أقوال أخر.
وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ [الجن:28] أي: عندهم، وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن:28].
الجواب:لم يرد أن عفريتاً تزوج امرأة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا صحابياً تزوج عفريتة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فالبحث فيها فضول وليس له معنى، ولولا أن بعض العلماء كـالسيوطي وغيره أثاروها ما تعرضنا لها أصلاً، واستدل بعضهم بقوله تعالى: لمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56] على أن الجان يمكن أن يطمث، وإن كان الجن يمكن أن يطمث، لكن ليس في الآية جواز الزواج، واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا [الأنعام:128] والآية تفسرها سيرة رسول الله وسيرة أصحابه رضوان الله عليهم، فليس المراد بالاستماع الزواج والمعاشرة، إنما يراد الاستمتاع بالشرك والكفر والعياذ بالله.
الجواب: من العلماء من قال: تفيد التأبيد في الدنيا، (لَنْ تَرَانِي ) أي: في هذه الدنيا، أما الآخرة فلها حكم آخر.
الجواب: إذا كنت تستطيع البقاء مع والدك، ولو كان في المعيشة كفافاً، فلتبق مع والدك، فأنت لست مأموراً ولا مطالباً شرعاً أن تكثر من دخلك، فما دام أن الدخل يكفيك فهو الكفاف، أما إذا كان دخلك لا يكفيك، والأولاد يجوعون، والدخل لا يكفيك أصلاً، فهل تمد يديك للناس؟ لا. ولا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، ولا يلزمك الشرع بأن تستدين، بل قال تعالى: وامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك:15]، لكن طيب خاطر الأب، وأقنعه بالوضع الذي أنت فيه، والعلم عند الله سبحانه وتعالى.
الجواب: انتظر حتى تنتهي الساعة، وصل جماعة مع العمال ما دامت هناك أعذار مانعة، والله أعلم.
الجواب: اتق الله ما استطعت، وغض بصرك كما قال الحسن البصري وقد سئل عن نساء الأعاجم: يكشفن شعورهن وأرجلهن، فقال: اصرف بصرك.
الجواب: على صاحب العمل أن يوقف العمل لصلاة الجمعة، قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9]، وهذا إذا كان العمل من الأعمال التي يصلح فيها التأخير، لكن إذا كانت أعمالاً لا يصلح أن تؤخر ولا أن تهمل مثال ذلك: حارس إذا ذهب يصلي سرق المحل، أو شخص واقف على مكينة إذا غفل عنها ساعة أو نصف ساعة أحدثت حريقاً، فالضرورات تقدر بقدرها، وكما يحدث مثلاً في الحرم المكي أو المدني فيقف عسكر أمام الأبواب، إن صلوا مع الناس وتركوا المسجد مفتوحاً؛ فقد يدخل شيعة روافض بأي سلاح، ويعبثوا بالحرم، فالضرورة تقدر بقدرها، والله أعلم.
الجواب: ليس هناك سبيل إلى الاطمئنان على النهاية إلا رجاء رحمة الله سبحانه، فلا أحد يستطيع أن يطمئن على نهايته إلا من الله سبحانه، فاطلب من الله الثبات حتى الممات، فرسولك محمد صلى الله عليه وسلم كان يكثر في اليمين من قول: (لا، ومقلب القلوب!) وكان يكثر في الدعاء: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب! صرف قلبي على طاعتك)، وأهل الإيمان يقولون: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران:8]، وإبراهيم الخليل يقول للمشركين: وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ [الأنعام:80] أي: أنا لا أخاف من الأصنام (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا) أي: إذا شاء الله لي شيئاً آخر، خفت من هذه الأصنام، فعليك دائماً أن تكون خائفاً وجلاً من الله سبحانه، وتسأله الثبات حتى الممات، وأحسن الظن بالله سبحانه وتعالى.
الجواب: إن فعل ذلك أحياناً فلا بأس، فهناك أدلة تشعر بجواز ذلك، لكن لا تتخذ عادة، فإن الصحابة رضوان الله عليهم ما ورد عنهم أنهم كانوا يتخذون ذلك عادة، وقد ورد في بعض الروايات مجيء صحابي إلى الرسول وتقبيله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بعض الصحابة مع بعضهم، لكن لا تتخذ عادة، والله أعلم، والقول بتحريمها لا يصار إليه.
الجواب: الظاهر -والله أعلم- أنه خلاف السنة، ولا شك في ذلك ؛ لأن الصحابيات كنّ ينصرفن من صلاة الفجر متلفعات بمروطهن لا يعرفن من الغلس، وأنت الآن إذا أخرت صلاة الفجر ساعة ورمت موافقة السنة في القراءة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم (كان يقرأ في الفجر من الستين إلى المائة) خرجت من الصلاة والشمس طالعة! فتأخير صلاة الفجر ساعة كاملة بعد أذانه خلاف السنة، والله أعلم.
أما حديث أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أسفروا بالصبح فإنه أعظم للأجر) فقد حمله فريق من العلماء على التأكد من دخول وقت الصبح، لكن الأحناف يفهمون غير ذلك، ويؤخرون الفجر حوالي ساعة كما يحدث الآن في الهند وباكستان فيخرجون من الصلاة والشمس طالعة!!
الجواب: لا يثبت هذا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
الجواب: هذا باطل.
الجواب: هذا لا يثبت.
الجواب: إسناده ضعيف.
الجواب: نعم يجوز الوضوء مع الغسل، بل السنة أن تتوضأ ثم تغتسل، ولا يتنافى مع الترتيب.
الجواب: لا نقول: إنها ذبحت على النصب، لأن النصب أشياء تنصب ويعبد عندها غير الله سبحانه وتعالى، فيأتي الناس يذبحون عند هذه الأشياء، لكن لا تأكل مما ذبح في الموالد؛ لأن نوايا الناس تختلف في هذه المواطن، فمنهم أو الغالب يذبحها تقرباً إلى الميت، إلى السيد البدوي أو غيره، فلا تأكل مما يذبح في الموالد.
وصلى الله على نبينا محمد وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر