وبعد:
قال تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:8-9].
الفيء هو: المال الذي دخل على المسلمين من عدوهم بوجهٍ مشروع من غير إيجاف خيل ولا ركاب ولا قتال، وأما الغنيمة فهي: المال الذي يدخل على المسلمين من عدوهم من جراء القتل والقتال، ومصارفها كما ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال:41]، فهؤلاء المذكورون لهم خمس، والأربعة الأخماس الباقية للمجاهدين الغزاة، أو المجاهدين بصفة عامة، وفيما يلي ذكر لبعض الأصناف المستحقة للفيء.
قوله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ) الفقر أمر نسبي يختلف من بلدة إلى أخرى، ومن زمن إلى زمن آخر، ففي زمن قد يكون من ملك دينارين غنياً، وفي زمن آخر قد يكون من ملك عشرة دنانير فقيراً، ومرجع ذلك إلى العرف ويترتب على هذا تحديد الفقير الذي تُخرج له الزكاة فيكون مصرِفاً من مصارفها.
وقوله تعالى: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ) أي: تركوها رغماً عنهم، فلم يكونوا يحبون الخروج من ديارهم ولكنهم أُخرِجوا منها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم على جبل الحزورة وهو ينظر إلى مكة: (والله! إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلي، والله لولا أني أخرجت منك ما خرجت)، فقوله تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا أي: أخرجهم غيرهم، والإخراج ليس لذنب اقترفوه ولا لإثم ارتكبوه، ولكن كما قال تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الحج:40].
وقوله تعالى: (وَأَمْوَالِهِمْ) أي: أخرجوا من أموالهم كذلك، أي: تركوها.
وقوله تعالى: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي: ينصرون شرع الله، وينصرون رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته.
قال تعالى: (أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)، فهؤلاء الفقراء لهم نصيب من الفيء.
وقد ذهب جمهور العلماء رحمه الله تعالى إلى أن المهاجرين على الإجمال أفضل من الأنصار، وفي كلٍ خيرٌ، وذلك بدلالة تقديمهم في عموم الآيات على الأنصار، ومنها في هذه السورة، ولكن ذلك لا يمنع أن يكون هناك أنصاري أفضل من مهاجري بخصوصه، فلا يخدش هذا في التقعيد، كما في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم)، فهذا على وجه الإجمال؛ إذ لا يُمتنع أن يأتي زمان خير من الزمان الذي قبله، كما كان الزمان الذي عقِب موت الحجاج بن يوسف الثقفي أفضل من زمن الحجاج ، وكما هو معلوم أن زمان المهدي خير من الزمان الذي قبل المهدي، وكذلك الزمان الذي فيه رسول الله خيرٌ من الزمان الذي لم يكن فيه الرسول عليه الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا)، هذه هي حال الأنصار، قلوبهم مملوءة بالحب للمهاجرين، ولا يحملون في صدورهم شيئاً على إخوانهم المهاجرين لكونهم فضِّلوا عليهم ببعض الفضائل.
ومن ذلك ما فعله سعد بن الربيع مع عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما بعد أن آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهما عندما آخى بين المهاجرين والأنصار عند مقدم المهاجرين إلى المدينة، فقد قال سعد لـعبد الرحمن : قد علمت -يا عبد الرحمن- أني من أكثر الأنصار بالمدينة مالاً، وأن لي زوجتين، فأشاطرك مالي، وانظر أي امرأتي شئت فأنزل لك عنها حتى تتزوجها! فقال له عبد الرحمن : بارك الله لك في أهلك ومالك! ولكن دلوني على السوق.. الحديث.
ولما فتح الله سبحانه وتعالى على نبيه الفتوحات، وأراد عليه الصلاة والسلام أن يُقطِع للأنصار البحرين، قالوا: لا -يا رسول الله- حتى تعطي إخواننا من المهاجرين مثل ذلك!
فقوله سبحانه وتعالى: (وَيُؤْثِرُونَ) أي: يؤثرون غيرهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
وقد روي عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه أنه كان يطوف بالكعبة وله دعوة واحدة يدعو بها، يقول: اللهم! قني شح نفسي، اللهم! قني شح نفسي، اللهم! قني شح نفسي. فقال له قائل: لم تدع بهذه الدعوة يا عبد الرحمن؟! قال: إنك إن وُقِيت شح نفسك فقد أفلحت كل الفلاح -أو كما قال رضي الله تعالى عنه-، وقد قال تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم! فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح! فإن الشح أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم).
وأما ذم البخل فقد وردت جملة هائلة من الأحاديث تحذر منه، بل ومن الآيات كذلك، فقد قال سبحانه وتعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:37]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم! أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم! أعط ممسكاً تلفاً).
وجاء بنو سلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: (من سيدكم يا بني سلمة؟! قالوا:
وثم جملة نصوص في ذم البخل ثابتة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
كما جاء ذم البخل بلهجات شديدة على ألسنة الشعراء، ومن ذلك قول أحدهم:
رأيت الفضل متكئاً يناجي الخبز والسمكا
فقطب حين أبصرني ونكس رأسه وبكـى
فلما أن حلفت لـه بأني صائـم ضحكـا
والأبيات في هذا كثيرة لا تكاد تُحصَر.
وفي مقابل البخل الإيثار والكرم، وقد تحلى بالإيثار والكرم أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، وأهل الفضل والخير والصلاح، وهذا في الحقيقة منهم لأنهم أيقنوا بأن الخلف من الله سبحانه وتعالى، وأن ما يُفعل من خير فلن يُكفَر، وأن من عمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن عمل مثقال ذرة شراً يره، فدل هذا الكرم، ودل هذا الإيثار، ودل هذا الإنفاق على صدق الإيمان وحسن اليقين، والله أعلم.
والشح ليس بالمال فحسب، بل وبالمناصب والمستحقات من أي شيء، فقد قال الله سبحانه وتعالى في شأن الزوجين المتشاحنين: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [النساء:128]، فقوله سبحانه: (وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ) أي: كل نفس تسرَّب إليها شحها؛ فنفس الرجل أتاها الشح، ونفس المرأة أتاها الشح، وذلك أن الآية نزلت في الرجل تكون عنده المرأة لا يحبها، ويريد فراقها، فتقول له: أمسكني لا تطلقني، وأنت في حلِّ من شأني، فيقبل منها ومع قبوله يحضر نفسه شحها، ونفس المرأة يحضرها شحها، فالرجل يمسكها بلا طلاق وهو يبغضها ويكرهها، فينفق عليها إذ هي زوجة ليست بمطلقة، فيقول في نفسه: لماذا أنفق عليها وأرهِق نفسي بالإنفاق؟ ويعدد على نفسه الأشياء التي يصنعها فيها، وهي الأخرى يحضرها الشح فتقول: أنا زوجة له، فلماذا لا ينفق علي؟ ولماذا لا يأتيني في كل ليلة كما يأتي الزوجة الأخرى؟ فكل نفس يحضرها الشح، فالشح عام، وغالباً ما يراد به الخصوص، كما هو الشأن في أكثر مواضع الكتاب العزيز، بل وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي الآية الكريمة بيان لصرف الفيء في الأنصار أيضاً، فلهم نصيب منه.
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي: أهل الإيمان الذي جاءوا من بعدهم.
وقوله تعالى: (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ) استدل الإمام مالك رحمه الله تعالى بهذه الآية على أن الروافض والشيعة البعداء البغضاء ليس لهم نصيب من الفيء، ووجه استدلاله أن الله ذكر مصارف الفيء فقال: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ)، فالذين يقولون: ربنا العن إخواننا الذين سبقونا! ليس لهم من الفيء شيء، وهؤلاء الشيعة البغضاء البعداء الروافض يلعنون أبا بكر، ويلعنون عمر رضي الله تعالى عنهما، وهم ممن سبقونا بالإيمان، فـأبو بكر وعمر من السابقين الأولين إلى الإسلام والإيمان، فالشيعة يلعنونهما في صلواتهم، ومن مقالاتهم السخيفة التي هي مردودة عليهم بلا شك، أنهم يقولون: (اللهم العن صنمي قريش وجبتيها وطاغوتيها وابنتيهما)، ويريدون بذلك أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، فلا شك أنهم يُحرمون من الفيء، وهذا أقل ما يُفعل بهم.
وأفادت الآية أيضاً أنه يسن لمن جاء بعد القرون المفضلة، وبعد المهاجرين والأنصار؛ أن يدعو لإخوانه السابقين بالمغفرة، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ)، وهي تشمل كل مؤمن سبقك وصدق برسول الله صلى الله عليه وسلم وآمن ووحّد قبلك، فإذا فعلت، فمن قال بعد موتك: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ) لحِق بك نصيب من هذا الدعاء الطيب.
وقال صلى الله عليه وسلم في شأن خديجة رضي الله تعالى عنها لما كان يكثر من ذكرها، وتغار أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (إني قد رزقت حبها)، والذي رزقه حبها هو الله سبحانه وتعالى.
فالأشياء التي في القلوب من محبة وبغض، كل ذلك أصله من الله سبحانه وتعالى، لا يثبِته إلا الله، ولا ينزعه إلا الله سبحانه وتعالى، ومن هذا قوله تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات:7].
فأهل الإيمان لما فطِنوا لهذه المسألة طلبوا من الله سبحانه وتعالى أن يظهر لهم قلوبهم؛ إذ هو القادر على ذلك، ولا أحد يقدر على هذا إلا هو سبحانه وتعالى، فقالوا: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا)، ولا يليق أن يكون في قلب المؤمن غلٌ على أخيه المؤمن، ولكن من ناحية تواجده قد يتواجد، والله يقول في شأن أهل الإيمان يوم القيامة: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47].
وقد أخذ بعض العلماء رحمهم الله تعالى من هذه الآية مشروعية الدعاء للنفس قبل الغير؛ إذ هم قالوا: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا) فدعوا لأنفسهم ثم لإخوانهم.
قوله تعالى: (أَلَمْ تَر) هذه الجملة تأتي أحياناً بمعنى: (ألم تعلم)، وأحياناً يراد بها الرؤية بالبصر، فمن الأول قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:246]، والرسول صلى الله عليه وسلم ما رآهم، وكذلك قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ [البقرة:243]، ومن الثاني قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1]، فقد ذكر بعض العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مميزاً أثناء هذه الحادثة.
قوله تعالى: (أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) أي: إن طُردتم من بلادكم (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) أي: من يطلب منا شيئاً في شأنكم فلن نطيعه أبداً، بل سنؤازركم، وسنواليكم، وسنناصركم، قال تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الحشر:11].
ثم قال تعالى: لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [الحشر:12] هذا عام في عموم أهل الكفر، فأهل الكفر هذا شأنهم، بعضهم يبغض بعضاً ولا يحبه وإن أظهر ذلك، كما قال الله سبحانه وتعالى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:14]، أي: تحسبهم مجتمعين في الظاهر لكن قلوبهم متفرقة، وكما قال سبحانه: فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [المائدة:14]، يقول العلماء في تفسير قوله تعالى: (فَأَغْرَيْنَا): كأن العداوة والبغضاء بينهم أُلصِقت بالغراء، فكأن القلوب أُثبِتت بها العداوة والبغضاء كما أن الخشب يضم إلى بعضه ويلصق بالغراء، فهي ثابتة في قلوبهم تجاه بعضهم.
وكذلك عموم أهل الظلم، يجلسون جميعاً، ثم بعد التفرق كلٌ يلعن الآخر ويسب الآخر، وكل يخون صاحبه في الغالب، ومنهم الذين يضحكون ويسخرون من أهل الإيمان.
أي: يا أهل الإيمان! أنتم (أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)، فمن غبائهم أنهم يخافون منكم -يا أهل الإيمان- أكثر من خوفهم من الله سبحانه وتعالى! فمن غباء اليهود وجهلهم، ومن جهل أهل النفاق، ومن جهل الكفار بصفة عامة أنهم يعملون للمؤمنين حساباً أكثر من هذا الذي يعملونه لربهم سبحانه وتعالى! فهم يرهبون السيف ولا يرهبون الرب سبحانه وتعالى، ويرهبون البشر ولا يخافون من رب البشر، وهذا دليل على ضعف الإيمان في قلوبهم، وعلى جهلهم وقلة علمهم، كما قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ).
قال تعالى: لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ [الحشر:14].
أفادت هذه الآية أن اليهود وأهل النفاق جبناء، وهذا الجبن منشؤه حب الدنيا وقلة اليقين في الآخرة، فهم يريدون أن يستمتعوا بحياتهم الدنيا كما قال سبحانه وتعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ [البقرة:96].
فقوله سبحانه: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) هذا في شأن اليهود، فهم أشد الناس حرصاً على الحياة، وقوله تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) فيها تأويلان:
أحدهما: أن المعنى: لتجدن اليهود أشد الناس حرصاً على الحياة، وأشد من الذين أشركوا، ويكون قوله تعالى: (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) راجعاً إلى اليهود، فكلها تكون في اليهود.
الثاني: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة، وأحرص من الذين أشركوا الذين يود أحدهم لو يعمّر ألف سنة، فالذين أشركوا -على التأويل الآخر- يطمع أحدهم أن يعيش ألف سنة، واليهود أشد منهم حرصاً على هذه الحياة، فمصدر الجبن عندهم حبهم الحياة.
قال تعالى: لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ [الحشر:14]
سبب هذا القتال (مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ) هو -كما سبق- الجبن المستكن في نفوس اليهود وصدورهم، وهذا الجبن سببه الحرص على الحياة، فإذا كان هناك يقين بالآخرة وبلقاء الله، فسيتحول الأمر كما تحول مع عمير بن الحمام رضي الله تعالى عنه لمّا سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض)، وكان بيده تمرات يأكلهن فقال: والله! إنها لحياة طويلة إن عشت حتى آكل هذه التمرات، ثم ألقاهن وقاتل حتى استشهد رضي الله تعالى عنه.
وكما قال سحرة فرعون لما أيقنوا بلقاء الله واليوم الآخر: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:72]، فالجبن المستكن في الأنفس، وحب الدنيا وحب الاستمتاع بها؛ هو الذي حملهم على القتال من وراء جدُر، فالتلذذ بالحياة والدنيا غاية المراد عندهم؛ إذ لا يقين عندهم بالله تعالى، ولا باليوم الآخر، وأما أهل الإيمان فليسوا كذلك، بل علموا أن الدنيا بما فيها كلها سجن للمؤمن وجنة للكافر.
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى.
الجواب: العصا ليست للشباب ولا للشيوخ، بل من احتاج إليها حملها، ومن لم يحتج إليها فلا يحملها، فموسى عليه السلام لما سأله ربه تعالى: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى [طه:17-18]، وسليمان عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى عنه: فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ [سبأ:14]، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يتكئ على العصا إذا كان متعباً، وإذا كان يخطب أحياناً، ولكن من الجهل بالشرع أن تحمل العصا في الطرقات وليس لك فيها فائدة، ومن الجهل أن تحول الشيء الجبلي، أو سنة العادة إلى سنة عباده، فتحول حمل العصا إلى سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحث الناس على حملها.
فحمل العصا من أمور العادات، فإن احتجت إليها حملتها، وإن لم تحتج إليها فلا تحملها، بل قد تزري بنفسك حين تمشي وأنت تعمل شيئاً لا فائدة فيه، فجعلها سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتة، وحث الناس عليها، هذا -والله تعالى أعلم- قولٌ غير موفق للغاية، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الجواب: الحديث إلى آخره ضعيف.
الجواب: نعم، يحكم عليه بالنفاق، ولكن ليعلم أن النفاق على قسمين: نفاق عمل، ونفاق اعتقاد، فنفاق العمل لا يخلد صاحبه في النار، ولكن نفاق الاعتقاد -أي: أن تبطن الكفر، وتظهر الإسلام- هو المخلد صاحبه في النار حتى وإن صدق، ولم يخلف العهد، ولم يخن الأمانة، ولم يفجر في الخصومة، لكن الذي يفعل هذه الخصال الأربع، وقلبه فيه إيمان وتوحيد، فهو منافق نفاق عمل، ونفاق العمل لا يخلِّد صاحبه في النار، والله تعالى أعلم.
الجواب: نعم له ذلك، فإذا كان يشعر أن هناك ضرراً سيلحق باستمرار طول الحياة، فارتكابه بعض الضرر الذي هو إحزان لهذه الفتاة شيئاً ما، أولى من أن يعيش مكفهر الوجه طول حياته معها.
ولا يكون ظالماً لها إذا أعطاها حقوقها الشرعية، وما دام أنه قد عقد عليها؛ فإذا كان سمى الصداق فلها نصف الصداق، إلا إذا عفت هي، أو عفا هو وأعطاها الصداق كاملاً، والله تعالى أعلم.
الجواب: إذا قدم لها هدية، فإن كانت الهدية هبة، فالراجع في هبته كالكلب يرجع في قيئه كما قال عليه الصلاة والسلام، وأما إذا كان عرفه وعرف أهل بلده يعتبر أن الشبكة من الصداق، فلها نصف الصداق الذي يشمل الشبكة ويشمل المؤخر المسمَّى، ويشمل أيضاً ما إذا كانوا قد اتفقوا على عفش معين، كل هذا ينصّف نصفين، ولها النصف.
الجواب: الحج فرض، وتجهيز البنتين مستحب، وليس بواجب على الولي، فالفرض يقدم على المستحب، ولا شك.
الجواب: أما الآفاق كما في قوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ [فصلت:53] فجمع أفق، وهي أقطار السموات والأرض، ومنه كذلك قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير:23]، فالأفق المبين هو: اتجاه السماء المُظهِر للأشياء، وهو جهة طلوع الشمس، وأما الأفَّاك فهو الكذاب.
وحديث: (رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين) إسناده ضعيف كذلك.
وحديث: (ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار) ضعيف أيضاً.
وحديث: (اللهم إني أسألك خير المولج...) عند دخول المنزل، إسناده منقطع.
وحديث: (سبحانك اللهم وبحمدك...) بعد الوضوء، في إسناده ضعف.
وزيادة: (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين) بعد الفراغ من الوضوء، ضعيفة.
وحديث : (وأعوذ بك أن أقترف إثماً أو أجره إلى مسلم) لا يحضرني الحكم عليه.
الجواب: الدليل هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر).
الجواب: إن كُنّ في مكان آمن، وقد أوصلهن أهلهن، ويأخذونهن عند الرجوع، والمكان آمن فلا بأس؛ إذ لم يرد في تحديد المدة خبر إلا عمومات كخوف الفتنة.
الجواب: لا أعلم حديثاً يخص الصلاة بعينها في النهي عن تشبيك الأصابع، وإنما في الباب حديث: (إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامداً إلى المسجد فلا يشبكن يديه فإنه في صلاة)، أو بلفظ قريب منه، فإذا أُخِذ المنع على أن النهي عن تشبيكهما في الطريق إلى المسجد بسبب أنه في صلاة، فيكون النهي عن التشبيك في الصلاة من باب أولى.
إلا أن الإمام البخاري رحمه الله تعالى أومأ في صحيحه إلى تضعيف هذا الخبر، حيث بوّب: (باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره)، واستدل بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه)، وبقوله صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان يغربلون فيه غربلة يبقى منهم حثالة قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه)، وهي أسانيد ثابتة صحيحة، والآخر في تصحيحه نزاع طويل.
الجواب: تفسير الألوسي من التفاسير البعيدة عن تفاسير أهل السنة والجماعة، وفيه خلل كثير، فلينتبه إلى مثل هذه التفاسير، ومن الأمثل والأقرب والأيسر تفسير ابن كثير رحمه الله تعالى، وتفسير القرطبي رحمه الله تعالى على ما فيه من خلل في مسائل الأسماء والصفات، وانتصارٍ في كثير من المسائل الفقهية للمذهب المالكي، لكن على وجه الإجمال هو تفسير حسن، وقد هُذِّب إلى حد كبير في تفسير فتح القدير للشوكاني رحمه الله تعالى، واختصر تفسير فتح القدير إلى تفسير فتح البيان لـصديق حسن خان رحمه الله تعالى، وعلى العموم فإن المبتدئ يستحسن له تفسير ابن كثير ، كما يستحسن له تفسير الشيخ الجزائري حفظه الله تعالى.
الجواب: في الحديث: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ..)الحديث، وقال صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها)، ثم تلا قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14].
الجواب: المسألة تحتاج لضبط أوسع، والمقام لا يتسع لها.
الجواب: إذا كانت الأم تأخذ من لبن أرسلته ابنتها فلا إشكال؛ لأنها تأخذ من مال بنتها، إلا أن في ذلك إثماً خفيفاً؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر)، فهي لم تأخذ اللبن فقط، بل تضع الماء مكانه، فالغش وصل بها إلى أن تضع الماء حتى تستر على نفسها، فدل ذلك على وجود الإثم.
ويصل هذا إلى التحريم إذا أفتى الإطباء أن اللبن إذا شِيب بالماء بهذه الصورة يضر بالطفلة، فيقع حينئذٍ الإثم، فإن قالوا: فيه مصلحة للطفل، يتغير الحكم.
وأخذها هذا صورته صورة السرقة، إلا أنه يخف حجم هذه السرقة؛ لأنه من ابنتها فقط، والمخرج من هذا أن يشتري للجدة لبناً لتخرج من الحرج.
الجواب: لا يجوز.
الجواب: لا يثبت.
الجواب: لا أعلم دليلاً على هذا، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع والشراء في المسجد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر