بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
سورة الحشرة يطلق عليها سورة بني النضير، وبنو النضير طائفة من اليهود كانت تقطن جانباً من جوانب مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن المعلوم أن الكفار في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فور مقدمه كانوا على ثلاث طوائف:
- طائفة ناصبت الرسول صلى الله عليه وسلم العداء، وانشغلت بحرب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم المشركون الذين بقوا على شركهم.
- وطائفة أخرى صالحت الرسول عليه الصلاة والسلام وتحالفت معه تحالفات، وهم اليهود.
وطائفة ثالثة أمسكت، فلم تعاد ولم تصالح، وبقيت تترقب إلى أي شيءٍ سيئول الأمر برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم المنافقون.
وطوائف اليهود هم: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، أما بنو قينقاع فقد حاربهم الرسول صلى الله عليه وسلم بعد بدر، وأما بنو النضير فكان بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم حلف فغدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهمّوا بقتله والفتك به عليه الصلاة والسلام، كما ذكر جمهور أهل السير أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب يستعين بهم في دية الرجلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أرسل سبعين من القراء مع قوم فقُتِل القراء في بئر معونة، ونجا منهم عمرو بن أمية الضمري، فلقي رجلين من بني عامر فقتلهما، ولم يكن يعلم بالحلف الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب الرسول عليه الصلاة والسلام يستعين بيهود بني النضير في أداء شيءٍ من الدية لأولياء العامريين، فغدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ورتبوا أمرهم على أن يُلقوا على رأسه صخرة وهو جالس فيقتلوه غدراً، فأطلع الله سبحانه وتعالى نبيه على ذلك، وكان هذا -على ما ذكره جمهور أهل السير- سبب جلاء بني النضير، فحاصرهم الرسول صلى الله عليه وسلم حصاراً طويلاً، وآل بهم الأمر في النهاية إلى الاستسلام على ما سيأتي بيانه، فنزل مطلع سورة الحشر في هذه الحوادث.
والحشر معناه: الجمع، كما قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ [الصافات:22] أي: اجمعوا، وقال تعالى: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [الشعراء:53] أي: قوماً يجمعون الناس ويحشرونهم.
فكل شيء في السماوات وفي الأرض يسبح لله، وهذا المعنى مثبت في عشرات السور، كما قال سبحانه: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء:44]، وقال سبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج:18]، وقال سبحانه: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [الرعد:15]، حتى الجمادات تسبِّح لله، وتنزِّه الله سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق به، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الضفادع: (نقيقها تسبيح)، والنصوص من الكتاب والسنة في هذا في غاية الكثرة، لا تكاد تُحصر ولا يأتي عليها العد.
قلنا: إن ذلك لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى، وهو العزيز الحكيم سبحانه وتعالى، فلا يفعل شيئاً عبثاً، ولا يفعل شيئاً بغير حكمة، وهو أعلم بخلقه، وأعلم بقلوب خلقه، وأعلم بمن يستحق العذاب، ومن يستحق العقاب، ومن يستحق الإجلاء، ومن يستحق الإخراج، وهو العزيز الحكيم.
فقوله سبحانه: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحشر:2]، عام أُرِيد به الخصوص، فالمراد هنا طائفة مخصوصة، وهم يهود بني النضير.
وقوله تعالى: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) الكتاب المراد به: التوراة، وهو كتاب اليهود الذي نزل على نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: (مِنْ دِيَارِهِمْ) هي: المتاخمة للمدينة في أطرافها.
وقوله تعالى: (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) قال عكرمة رحمه الله تعالى، ونُقِل القول أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن غير واحد من أهل العلم: من شك أن الشام هي أرض المحشر فليقرأ هذه الآية: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) أي: لأول الجمع، فالحشر حشران: الأول هو حشر اليهود وجمعهم في الشام، والحشر الثاني هو حشرهم يوم القيامة مع الخلائق، وذلك أن يهود بني النضير أُخرِجوا وأجلوا إلى الشام حين حاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرهم حصاراً شديداً بعد ظهور الغدر منهم، فنزلوا على حكمه بإجلائهم مع حمل ما أقلّته ركابهم وخيولهم إلا السلاح.
وقوله تعالى: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ) أي: أيقنوا، والظن هنا بمعنى: اليقين؛ إذ الظن ظنان: ظن بمعنى اليقين، وظن بمعنى الشك، ويأتي في كتاب الله تعالى بأحد المعنيين، فقد يأتي بمعنى الشك كما في قوله تعالى: إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [يونس:36]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12]، وأحياناً يأتي الظن بمعنى اليقين كقوله تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا [الكهف:53] أي: أيقنوا، إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:20]. أي: أيقنت، وقوله تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:46] أي: يوقنون، فاليهود هنا كانوا مستيقنين أنهم لن يُخرَجوا أبداً لقوة حصونهم وشدة منعتهم، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، أي: من مكان ومن مصدر لا يتوقعونه، فقد تأتي البلايا إلى الشخص الظالم المبير من حيث لا يحتسب، كما قال تعالى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ [النحل:26]، فالظالم قد يحتاط من باب من الأبواب، ويحرص غاية الحرص على غلق هذا الباب حتى لا يأتيه منه الشر والبلاء، فإذا بالبلاء يأتيه من باب آخر لم يكن يتوقعه، ولم يكن يتخيله!
أما المؤمن فهو محفوظ بحفظ الله سبحانه وتعالى، بل يأتيه رزقه من حيث لا يحتسب، كما قال الله سبحانه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]. وقوله تعالى: (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) الرعب سلاح قوي أيد الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أُعطِيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر...) الحديث، أي: يكون بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين العدو مسيرة شهر، ويقذف الله عز وجل في قلب العدو الرعب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قُذِف الرعب في قلب العدو؛ انهارت قواه، وتفتتت سواعده، وكانت الهزائم من نصيبه.
وقوله تعالى: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) وجه ذلك أن الصلح الذي صالحهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من بنوده: أن يحملوا معهم من المتاع ما أقلته ركابهم، وحملته خيولهم، فكانوا ينتقون أثمن شيء وأعز شيءٍ في البيت ويأخذونه، فإذا رءوا عِرقاً قوياً من خشب هدموا السقف حتى يأخذوا هذا العِرق، ولا يتركوه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان تخريب البيوت بأيديهم من ناحية، وبأيدي المؤمنين من ناحية أخرى.
وقد استدل جمهور الأصوليين بهذه الآية الكريمة (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) على مشروعية القياس، وعلى ذلك جمهور أهل العلم، أي: انظروا يا أولي الأبصار! فإذا ظلمتم وبغيتم وغدرتم حل بكم مثل الذي حل بمن ظلم وبغى وغدر، فهؤلاء اليهود، انظروا إلى أمرهم! وتفكروا فيه وتدبروا! فإن أنتم صنعتم مثل صنيعهم حل بكم مثل الذي حل بهم، فالأمور تقاس على مثلها، ومن هنا استدل الجمهور على مشروعية القياس.
أما أبو محمد بن حزم رحمه الله تعالى فطفِق يتهكم على الاستدلال بهذه الآية، فقال -جرياً على ظاهريته-: من الذي قال: إن معنى قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) قيسوا يا أولي الأبصار؟!
ويجاب عن قوله: بأنه ليس المراد أن لفظ (اعتبروا) بمعنى (قيسوا)؛ ولكن المراد النظر فيما حل بسابق الأمم الظالمة، وسيحل بكم إن فعلتم فعلهم مثل الذي حل بهم.
وليست هذه الآية هي دليل القائلين بالقياس فحسب، بل لهم أدلة أخرى، ومن ذلك ما جاء في الحديث: (أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على راحلة، أفأحج عن أبي؟ قال: أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم يا رسول الله! قال: فدين الله أحق أن يقضى).
ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هششت فقبلت وأنا صائم، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو تمضمضت؟)، فقاس قبلة الصائم على المضمضة.
ومن ذلك ما ورد: (أن أعرابياً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، وإني أنكرته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك من إبل؟ قال: نعم قال: فما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أورق؟ قال إن فيها لورقاً، قال: فأنى ترى ذلك جاءها؟ قال: يا رسول الله! عرق نزعها. قال: ولعل هذا عرق نزعه)، ولم يرخص له في الانتفاء منه.
والأدلة في هذا الباب كثيرة، والقياس -كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى- لا يُصار إليه إلا عند الضرورة، كما يصير الرجل إلى التيمم عند فقدان الماء، فلا يُصار إلى القياس مع وجود النص، وأما قول القائل: إن من قاس فهو إبليس، ويتهكم بذلك على من يقيس فقولٌ غير سديد، وإن كان أول من قاس هو إبليس لمّا أُمِر بالسجود فأبى وقاس وقال كما حكى الله تعالى عنه: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، وكذلك حكى الله تعالى عنه قوله: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [الإسراء:61] أي: كما أن النار أفضل من الطين بزعمه، فكيف يسجد من خُلِق من شيءٍ أفضل لمن خلِق من شيءٍ أدنى؟
والإجابة: أن هذا قياس باطل فاسد؛ لأنه قياس مع وجود النص، ووجود الأمر من الله سبحانه وتعالى؛ إذ قال الله سبحانه وتعالى له وللملائكة: اسْجُدُوا لِآدَمَ [البقرة:34]، فلا اجتهاد ولا قياس مع النص بحالٍ من الأحوال.
قوله تعالى: (وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا) هذه الآية الكريمة فيها رد على القدرية الذين يزعمون أن لا قدر، وأن الأمور لم تكتب على العباد، فهذه الآية أفادت أن الأمور مكتوبة ومسجلة على العباد، فقد جفت الأقلام، وطويت الصحف كما قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقال تعالى: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ [القمر:52]، ومعنى الآية الكريمة: لولا أن الله سبحانه وتعالى قدر عليهم قبل أن يُخلقوا أنهم سيخرجون من المدينة، ويجلون إلى أرض الشام لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي والأسر، ولكنه سبحانه وتعالى كتب عليهم الجلاء، فلا بد من إمضاء ما كتبه الله سبحانه.
ومثل هذا قوله سبحانه وتعالى للمسلمين لما قبلوا الفدية من أسارى بدر: لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ [الأنفال:68]، أي: أنه لا يعذبكم لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:68]، وأفادت هذه الآية كذلك أن الأمور مكتوبة ومقدَّرة على الإنسان، ففيها ردٌ على القدرية.
فقوله تعالى: (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا أي: لبقوا في المدينة، وحلّ بهم ما حل بسائر أصحابهم من اليهود كالقرظيين الذين حُكِم في مقاتلتهم بالقتل، وفي ذراريهم ونسائهم بالسبي.
وقوله تعالى: (وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، هذا مصير كل من يشاقق الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فله في الدنيا خزي، وفي الآخرة عذاب النار، وهذا التعليل لا ينسحب على اليهود فحسب، بل على كل معاند لله، وكل معاند لشرع الله، وكل معاند لرسل الله عليهم الصلاة والسلام أياً كان.
فقوله تعالى: (ذَلِكَ) أي: ذلك العذاب الحال بهم (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) .
هذه الآية فيها تسلية وتسرية عن أهل الإيمان، وذلك أن أهل الإيمان وُبِّخوا من عدوهم لعمل عملوه وصنيعٍ صنعوه، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصر بني النضير، وامتنعت بنو النضير من النزول من حصونهم، قطّع النبي صلى الله عليه وسلم النخل وحرّقه، قال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه في ذلك:
وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير
وقال في ذلك أبو سفيان بن الحارث ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عنه:
أدام الله ذلك من صنيعٍ وحرق في نواحيها السعير
فشق ذلك على اليهود أيما مشقة، وكانت مقالة تقاولتها العرب، وطعنوا بها في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم، فقالوا: كيف يقطِّع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم النخيل؟
ولكن لله في الأمر حِكَمٌ، ومن المعلوم أن المفاسد إذا تواردت على محل اختار الشخص أخفها، فكان الأخف هو تحريق نخيل بني النضير، فحينئذ سرَّى الله عن المؤمنين، وأذهب عنهم الهموم والأحزان بقوله تعالى: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ) واللينة: النخلة، وقال فريق من العلماء: هي الشجرة، فأفادت الآية أن هذا أمر قدره الله وقضاه، فليس لكم -يا أهل الإيمان- أن ترتابوا في فعل نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، فما فعله لم يكن يخرج عن إذن الله، ولا عن إرادة الله، وعلى فرض كونكم أخطأتم فهذا مقدر عليكم، وعلى كل حال فـ (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) فلتطمئن خواطركم.
الفيء يختلف شيئاً ما عن الغنيمة، فالفيء هو: مال العدو الذي يأتي إلى المسلمين على وجه مشروع بلا قتال، أما الغنيمة فهي التي تأتي للمسلمين من أموال العدو بعد قتال، وكل له مصارفه.
قول تعالى: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) أي: من بني النضير، وقوله تعالى: (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ) الإيجاف: الإيضاع، وهو: الإسراع، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحج: (فإن البر ليس بالإيضاع) أي: ليس البر بالإسراع، و(ما) في قوله تعالى: (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ) نافية، أي: ما غرتم إغارة على هذه القرية قرية بني النضير بخيولكم ولا بركابكم، ولا بذلتم فيها زاداً للقتال، وما أجهزتم على عدوكم بقتلٍ بخيولكم أو بإبلكم، ولا سافرتم لعدوكم سفراً طويلاً أو قصيراً بخيولكم ولا بركابكم، فقد كانوا في أطراف مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الذي كان أنهم استسلموا ونزلوا على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما نزلوا على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحملوا معهم ما استطاعت إبلهم وخيلهم أن تحمله، وغادروا المدينة؛ بقي هناك فيء في بيوتهم، وهذا الفيء كله له حكم، فالله هو الذي سلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قذف في قلوبهم الرعب حتى خرجوا وتركوا الأموال وذهبوا، كما قال تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
هذه الآية مع الآية السابقة مختلف في كونهما متغايرتين أو أن مؤداهما واحدٌ، والذي عليه فريق من العلماء أن الآية الأولى هي في بني النضير، وهي قوله تعالى: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) أي: من بني النضير، (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ) والتقدير: وما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أموال يهود بني النضير، فهذا الفيء الذي أتى إلى رسول الله من بني النضير كله خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس لكم منه أي شيء يا أهل الإيمان! فالله هو الذي يسلط رسله على من يشاء، والله على كل شيءٍ قدير.
وأما الآية الأخرى وهي قوله تعالى: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) فهي في القرى الأخرى كقريظة وخيبر، فهذه مصارفها لله تعالى وللرسول صلى الله عليه وسلم ولذي القربى واليتامى والمساكين.
فعلى هذا القول يكون فيء بني النضير خاصةً خاصٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومما أيد هذا القول أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لما أتى إليه العباس وعلي رضي الله عنهما يطلبان ميراثهما من رسول الله قال لهما: (قد كانت أموال بني النضير خاصة لرسول الله).
وأما ما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أهل القرى الأخرى كبني قريظة وخيبر وسائر الأمصار والقرى ففيئها على التقسيم المذكور في قوله تعالى: (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ). وأما الغنائم التي ذكر الله في كتابه فمحل تقسيمها في سورة الأنفال في قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ... [الأنفال:41]، فالأنفال التي غنمت عن طريق الحروب بين المسلمين والكفار تُقسَّم خمسة أقسام، أربعة أخماس الغنيمة للمحاربين، والخمس الخامس يُقسَّم خمسة أخماس، لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولذي القربى -أي: قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونهم محرومين من الزكوات، فليس لآل البيت زكاة- واليتامى والمساكين وابن السبيل.
وهناك اتجاه آخر وهو اتجاه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى فحواه أن الفيء في الآية الأولى -وهو فيء بني النضير- لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والفيء الآية الثانية يقسم خمسة أخماس، فأربعة أخماسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والخمس الخامس يُقسم خمسة أخماس، يدفع منها خمسٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيصير له صلى الله عليه وسلم من كل الفيء أربعة أخماس وخمس الخمس، والباقي يصرف في المصارف المذكورة في قوله تعالى: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ)، وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع للمجاهدين الذين يسدون الثغور، ويصرف في تعبيد الطرق وتشييد المستشفيات ونحوها من المجامع التي يحتاج إليها عموم المسلمين.
وفي الحقيقة آيات الأنفال والفيء من الآيات التي أُهدِر العمل بها في هذا الزمان؛ إذ المشروع في حالة انتصار دولة مسلمة على دولة كافرة أن المجاهدين يُقسم لهم كلٌ بحسب جهاده وقتاله، فالمشاة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان لهم قسم من الغنيمة يختلف عن الركبان، ومن بذل في الجهاد واشترى فرساً يجاهد به فيعطى قسماً للفرس، ويعطى قسماً لنفسه، وكلٌ بحسب ما بذل واجتهد، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في المعارك أو في بعضها: (من قتل قتيلاً فله سلبه).
وكل هذه المسائل أضاعتها الأنظمة العلمانية في العالم كله، وعلى رأسها هيئة الأمم المتحدة التي أضاعت مثل هذه الأشياء، وكان من دعاوى الحكومة الإيرانية التي ذهبت أدراج الرياح مع أكاذيب الحكومة الإيرانية: أن نظام الأنفال سيعود، وكانوا يدندنون بهذا في مطلع ثورتهم، ولكنه ذهب أيضاً مع الريح، وعاد إليهم العبث الذي عاد إلى غيرهم، أو الذي هم نشئوا فيه من الأصل.
قوله تعالى: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) هي قريظة وبنو النضير وغيرهما من القرى، وقوله تعالى: (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى) أي: قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكونهم لا يأخذون من الصدقة، وهم: آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل العباس.
وقوله تعالى: (وَابْنِ السَّبِيلِ) هو المسافر الذي انقطعت به السبل، أو الذي ليس معه مال يوصله إلى بلده، فيأخذ من المال ما يكفيه للرجوع إلى بلده.
وقوله تعالى: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) أي: نحن قسّمنا لكم أموال الفيء حتى لا يتسلط الأغنياء أصحاب النفوذ والسلطة على الفيء فيأخذونه غنيمة، ويتداولونه فيما بينهم، كما يحدث في الدول، فأكابر الناس والأغنياء منهم يتسلطون على الأموال وعلى الأراضي وعلى المؤسسات فينهبونها لأنفسهم، فالله جعل للفيء مصارف حتى لا يتسلط عليه الأغنياء، ويصبح مال الفيء دولةً بين الأغنياء، أي: يتداوله الأغنياء فقط، فالله سبحانه وتعالى يقول ما معناه: إنما أظهرت لكم مصارف الفيء كي لا يتسلط الأغنياء الأقوياء على مال الفيء فيستحوذون عليه دون الفقراء، ويقسمونه ويتداولونه فيما بينهم، فإلغاءً لهذا بيّنا لكم مصارف الفيء.
فجاءت المرأة فقالت: يـا ابن مسعود ! ما لك تلعن الناس؟! قال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله؟ قالت: في كتاب الله؟ والله! لقد قرأت ما بين الدفتين فما وجدت ذلك في كتاب الله! قال: إن كنتِ قرأتِه فقد وجدتهِ، ألم تقرئي قول الله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)؟ قالت بلى، قال: فهو ذاك، أو كما قال رضي الله تعالى عنه.
فالاستشهاد بعموم الكريمة رأي الجمهور، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (يوشك رجلٌ متكئٌ على أريكته يحدث بحديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله -أي: يعرض عن السنة، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله- فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله فهو مثل ما حرم الله)، وقد قال تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ [الأنفال:20]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وقال سبحانه: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54].
الجواب: التقرير الذي قرره السائل بأن زيادة الثقة مقبولة بالشروط التي ذكرها ليس بصحيح، وفي الحقيقة كل زيادة ثقة لها ملابستها الخاصة بها، ولا بد من النظر إلى أقوال الأئمة والعلماء فيها، بيد أن الاستدراك الأقوى الذي يمكن أن يرد على الكلام السابق هو أن هناك خلافاً في سماع علقمة بن وائل من أبيه رضي الله تعالى عنه، وهو أمثل طريق جاءت فيه هذه الزيادة، فمن العلماء من أثبَت السماع، ومنهم من نفى السماع، وممن نفى السماع يحيى بن معين رحمه الله تعالى، فقال: (لم يسمع من أبيه)، وأما الإمام البخاري رحمه الله تعالى اضطرب عنه القول، ففي رواية أنه قال: (سمع أباه) كما في التاريخ الكبير له، ونقل الترمذي رحمه الله تعالى في سننه عن الإمام البخاري أنه قال في علقمة بن وائل عن أبيه: ما أدرك أباه، أو قال ما معناه: مات أبوه وأمه حاملة به في ستة أشهر.
واحتج من أثبتت له السماع من أبيه بإخراج مسلم رحمه الله تعالى عدة أحاديث من طريق علقمة عن أبيه، فقال الآخرون: ينظر هل هي من الأصول أو هي من المتابعات؟ فطريقة الإمام مسلم رحمه الله تعالى التساهل في المتابعات، وبعض النسخ فيها زيادة (وبركاته) عن وائل بن حجر رضي الله تعالى عنه، وبعض النسخ بدونها، فالأمر فيها مريب، والذي عليه الجمهور هو الاقتصار على (السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله).
الجواب: لا أعلم كيف تم إسلام السيدة مارية رضي الله تعالى عنها ملك يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الجواب: إذا كنت سرقت الجاكت ولا تعرف صاحبه، فإما أن تتصدق بالثمن عن صاحبه، أو تتصدق بالجاكت، حتى لا يكون ملبسك حراماً، فتدعو الله سبحانه وتعالى فلا يستجيب لك، والله تعالى أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر