وبعد:
فيقول الله سبحانه: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:66-68].
قوله تعالى: ( ولو أنا كتبنا عليهم ) الضمير في قوله تعالى: ( عليهم ) يرجع إلى من؟
قال فريق من المفسرين: إنه يرجع إلى أهل النفاق، والمعنى على هذا التأويل: ولو أنا كتبنا على أهل النفاق أن اقتلوا أنفسكم، كما كتبنا ذلك على طائفة من بني إسرائيل، أو اخرجوا من دياركم، كما كتبنا ذلك على المهاجرين الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم، والذين هاجروا إلى الحبشة، (ما فعلوه) أي: ما فعلوا ذلك، أعني: قتل النفس، والمراد به: قتل بعضهم بعضاً كما فعل بنو إسرائيل مع بعضهم، وكذلك الخروج من الديار، لا يفعل ذلك المنافقون، فالمعنى: ولو أنا كتبنا على أهل النفاق أن اقتلوا أنفسكم، كما كتبناه على طائفة من بني إسرائيل، أو اخرجوا من دياركم، كما كتبنا ذلك على المهاجرين الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا في الآية إشارة إلى أن الشخص يقنع بالتكاليف التي كلفه الله تعالى بها، ولا يسأل الله المزيد من التكاليف، فلعله إن سأل مزيداً من التكاليف وكُلف ألا يقوم بتلك التكاليف، وفي هذا الصدد يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاصبروا وسلوا الله العافية) فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تمني لقاء العدو، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسألوا الآيات -أي: لا تسألوا المعجزات- فقد سألها قوم من قبلكم ثم كفروا بها) أو كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وفي هذا الباب أيضاً يقول الله تعالى ناقماً على قوم سؤالهم مزيداً من التكاليف: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:246]، استطردوا فسألوا: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246] لما جاءهم طالوت ملكاً قالوا معترضين: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ [البقرة:247] ، فالشخص ينبغي له ألا يسأل مزيداً من التكاليف، فلعله إن كلف أن ينكص على عقبيه، وقد قال الله تعالى في شأن أقوام كهؤلاء: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [النساء:77] ، وهم كانوا قد سألوا ربهم سبحانه وتعالى التكليف بالقتال، ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذروني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم) ، ولما سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحج: (أفي كل عام يا رسول الله؟ قال: لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ذروني ما تركتكم) ، فهذا كله يفيد أنه ينبغي للشخص ألا يسأل ربه مزيداً من التكاليف، ومن ذلك: الإمارة، إذا سألها الشخص لم يعن عليها، وإذا أتيت إليه رغماً عنه أعانه الله تبارك وتعالى عليها، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا لا نولي هذا الأمر أحداً سأله أو حرص عليه) ، فجدير بالشخص أن يقنع بما كلفه الله سبحانه وتعالى، ولا يسأل ربه مزيداً من التكاليف لعله ألا يقوم بتلك التكاليف التي أمره الله تبارك وتعالى بها.
قوله: (ولو أنا كتبنا عليهم) قال كثير من المفسرين -كما سمعتم-: إن ( عليهم ) أي: على أهل النفاق.
وقوله: ( أن اقتلوا أنفسكم ) أي: يقتل بعضكم بعضاً، فإن النفس تطلق ويراد بها الإخوان أو الأقارب أو الخلان كما قال تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ [الحجرات:11] ، وكما قال تعالى: فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ [النور:61] ، وكما قال تعالى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ [النور:12] أي: بإخوانهم، فكل هذا يفيد أن النفس قد تطلق على نفس الشخص أحياناً، وتطلق على إخوانه أحياناً أُخر، والآية هنا محتملة للوجهين من التفسير.
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ الضمير في ( فعلوه ) يرجع إلى القتل، ويرجع إلى الإخراج أيضاً، يرجع إليهما معاً، والضمير قد يثنى ويراد به المفرد ويراد به الجمع، وقد يفرد ويراد به المثنى ويراد به الجمع، وهذا وارد في مواطن متعددة من كتاب الله سبحانه، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:34] ولم يقل: ولا ينفقونهما في سبيل الله، وقال تعالى في نحو هذا: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [المؤمنون:50]، وقال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45]، ومن العلماء من قال: ( وإنها ) ترجع إلى الاستعانة نفسها فخرج من الإشكال، ومن تثنية الضمير وإرادة الجمع قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38] ولم يقل: يديهما، فجمع الأيدي، والسارق والسارق مثنى، والله سبحانه أعلم.
فقوله تعالى: ( ما فعلوه ) أي: ما فعلوا الاثنين معاً: القتل والإخراج.
قوله: ( ما فعلوه إلا قليل منهم ) أي: قليل منهم من يمتثل الأمر في الظاهر، هذا إذا حملت الآية على أهل النفاق، فأهل النفاق إن نفذوه ينفذونه ظاهراً، أما باطناً فلا تطاوعهم قلوبهم على فعل أمر الله وفعل أمر رسول الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
فالأكثرون لا يقومون بالتكاليف، ومن ثم قال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، وقال سبحانه: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، وقال تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي الأمم، فرأيت النبي يمر ومعه الرهط، والنبي يمر ومعه الرجل، والنبي يمر ومعه الرجلان أو الثلاثة، والنبي يمر وليس معه أحد)، وقال تعالى أيضاً مبيناً أن الكثرة غاوية: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ:20].
قال سبحانه هنا: مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ المراد بالوعظ هنا: الأمر، أي: ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به، الوعظ يطلق أحياناً على الزجر، ويطلق أحياناً على التذكرة، ويطلق أحياناً على الأمر، والمراد به هنا: الأمر، ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به، أي: اقتصروا على فعل أمروا به لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ أي: خيراً لهم من طلب تكاليف أخر لا يستطيعون القيام بها، فالقصد في العبادة والمداومة على القليل مطلب شرعي، سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن عمله فقالت: (كان أحب العمل إليه ما داوم عليه صاحبه)، أو كما قالت أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، وهذا عبد الله بن عمرو رضي الله عنه لما كانت له في شبابه همة عالية للعبادة، وحثه النبي صلى الله عليه وسلم على قراءة القرآن كل شهر مرة فقال: (إني أطيق أكثر من ذلك يا رسول الله! قال: فاقرأه في الشهر مرتين، قال: إني أطيق أكثر من ذلك يا رسول الله، قال: فاقرأه في كل أسبوع مرة، قال: إني أطيق أكثر من ذلك يا رسول الله! قال: فاقرأ في ثلاث ولا تزد على ذلك)، وفي آخر حياته كان يقول -لما كبر ولم يطق القيام والصيام-: ( يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) فالمداومة على العبادة وإن كانت قليلة، أولى من الاندفاع إليها والإكثار منها ثم الفتور والخمول بعد ذلك، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (لكل عابد شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل)، أو كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ففيه: أن طلب المزيد والنكوص على العقب قد يكون سبباً في الانهيار، أما فعل المأمور به، سواءً كان الأمر أمر إرشاد وندب، أو أمر إيجاب، فعل المأمور به على الوجهين، سواءً كان الأمر للندب أو الإيجاب فإنه سبب في التثبيت من الله سبحانه وتعالى: ( لكان خيراً وأشد تثبيتاً ).
فالهداية أصلها من الله كما قال تعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43] لكن هناك أسباب يسلكها العبد بها ينال هداية الله عز وجل له.
وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا أي: طريقاً مُسْتَقِيمًا .
فالشاهد: أن النبي عليه الصلاة والسلام ينال منزلة الوسيلة وهي لا تنبغي لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على أن المعية في قوله تعالى: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لا تقتضي المماثلة في الأجر، إنما يكون معهم في مجالسهم يزورهم ويزورنه، يراهم ويرونه، يستضيفهم ويستضيفونه، إلى غير ذلك، لكن إذا أوى كل شخص منهم إلى رحله كانت درجته أرفع وأعلى ممن هو دونه في العمل، وقد رضي كل واحد منهم بالقسمة التي رزقه الله تبارك وتعالى إياها، وهذا كما نكون نحن في المسجد كلنا معاً، يقال: هذا كان معي أمس، وهذا معي اليوم، لكن إذا آوى أو ذهب كل منا إلى رحله، كانت لهذا منزلة وله سعادة في بيته، ولهذا منزلة دونها وله مشاكل وشقاوات في بيته، وإن كانت الجنة منزهة عن تلك الشقاوات، فهذا معنى المعية، والله تبارك وتعالى أعلم.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى أيضاً: (إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في السماء) وكلهم في الجنة، ومع ذلك بينهم التفاضل هذا الوارد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
من أسبابها طاعة الله ورسوله كما في الآية الكريمة: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69].
ومن أسبابها: كثرة السجود: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم حزيناً كئيباً فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إنك تذهب في منزلة أعلى من منازلنا فلا نراك يا رسول الله! فأسألك مرافقتك في الجنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك؟ قال: بل هو ذاك يا رسول الله! قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود)، فالإكثار من السجود يقرب الشخص من حبيبه محمد عليه الصلاة والسلام في الجنة.
وهنا يقال: هل النبيون أعلى درجات ثم الصديقون ثم الشهداء ثم أهل الصلاح؟
قد يكون الأمر على ذلك في بعض الأحيان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما صعد أحداً ورجف بهم جبل أحد، وكان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان، فضربه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان)، والنبي هو محمد عليه الصلاة والسلام، والصديق أبو بكر، والشهيدان عمر وعثمان رضي الله عنهما، فلا شك أن النبي أعلى درجة ثم أبا بكر الصديق أعلى درجة من عمر ثم عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما، فهنا الواو أفادت الترتيب، لكن في الآية قد يسلم هذا الاستدلال وقد لا يسلم؛ لأن الصديقية قد تلازم النبوة كما قال الله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا [مريم:41]، وقال الله سبحانه وتعالى في شأن إدريس كذلك: إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا [مريم:56] وغيرهم من الأنبياء، فقد تلازم الصديقيةُ النبوةَ، وقد تختلف النبوة عن الصديقية، فتكون الصديقية أنزل درجة من النبوة، فيكون الصديق أقل درجة من النبي، فحال يتحد الصديق والنبي، فكل نبي صديق، وقد يفترق النبي في المعنى عن الصديق.
فهذا فضل الساعي على الأرملة والمسكين واليتيم، فقد تكون هناك أعمال في بعض الأحيان في حق بعض الأشخاص تفوق الشهادة في سبيل الله، ألا ترون أن أويساً القرني رضي الله تعالى عنه ورحمه الله طلب منه أمير المؤمنين عمر أن يستغفر له، وذلك بسبب بره بأمه، فعلى الشخص أن يعمل العمل الذي يقربه من الله، ولا يرائي الناس، ولا يحرص على اختيار العمل الذي يرضي الناس، إنما يحرص على العمل الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، وليس في هذا تقليل لمنزلة الشهداء، فالشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم كما قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم.
وفي قوله: وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا أن إطلاق الرفيق على الصاحب مستنده من كتاب الله، وبعض الشيوعيين يستعملونها، فيقولون للزميل: رفيق، وهي لغة لبعض البلاد كباكستان ونحوها، وهذا من المستساغ لغة الذي لا يلام فاعله، ولكن لكل بلد في هذا الشأن عادتها، وإذا اتجهنا إلى سمت رسول الله فهو الأولى والأليق، ففي باكستان مثلاً يقولون: يا رفيق، للزميل، وفي مصر يقولون: يا جدع، وفي السعودية يقولون: يا بويه، وفي اليمن: يا خبير، وفي أوصاف الإخوة يقولون: يا أخ فلان، لكن لو درجنا على ما درج عليه النبي صلى الله عليه وسلم من أن الشخص يدعى باسمه أو بكنيته فهذا أكمل هدي وخير هدي، وهو هدي نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فالاستحباب أن يدعى الشخص باسمه أو بكنيته، وما أخال أحداً يكره أن يدعى باسم ولده: يا أبا فلان، والمرأة تدعى باسم ولدها: يا أم فلان، والله تعالى أعلم.
ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا [النساء:70] أي: عليم بمن يستحق أن يهتدي فيهديه الله سبحانه وتعالى، وبمن يستحق أن يضل فيضل، عياذاً بالله من الضلال!!
وقوله تعالى: فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا [النساء:71] أي: انفروا فرادى أو انفروا مجتمعين، أو فرقة فرقة أو كلكم معاً، انفروا ثبات لمجابهة العدو أو انفروا جميعاً، وهذا يراه إمام المسلمين، إن شاء أن يرسل سراياه سرية سرية أرسل، وإن شاء أن يرسل عيوناً فرادى فرادى أرسل، وإن شاء أن يرسل الجمع كلهم لمجابهة أعداء الله فعل، فهذا الأمر إلى إمام المسلمين هو الذي يأمر بذلك. فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا [النساء:71].
قال تعالى: فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا [النساء:72] دليل على أن المنافق يعرف الله أيضاً، المنافق يعرف أن له رباً وخالقاً بدليل أنه يقول: قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ ، كذلك المشرك كما في قوله تعالى: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32]، وفي هذه الآية الأخيرة عبر بها يهودي عبد الله بن عباس يسأله فيقول له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن عباس ، قال: من أين؟ قال: من قريش، قال: أنت من القوم الذين قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً هلا قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليك! فقال له ابن عباس : وأنت يا إسرائيلي من القوم الذين ما زالت أرجلهم مبللة بماء البحر، حتى إذا مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فرد عليه عبد الله بن عباس وكان سريع البديهة رضي الله تعالى عنهما بآية مشابهة تشبه مقالته التي قال.
قال تعالى: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا [النساء:72] أي: حاضراً، فالشهادة هنا بمعنى: الحضور.
.
الجواب: عليّ الطلاق -كاللفظ الدارج بين الناس الآن- لا يعد يميناً ولا يعد طلاقاً. أما قوله لزوجته: تكوني محرمة علي إذا حصل كذا وكذا فهذا تحريم معلق، إذا أجريناه مجرى الطلاق المعلق ففيه الخلاف هل يقع أو لا يقع؟ فإذا أخذنا بالاحتياط فيه فالقول أنه يكفر كفارة يمين لقول الله تبارك وتعالى: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:1-2] فجعله يميناً، وهذا رأي كثير من أهل العلم أن قول الرجل لامرأته: أنت علي حرام، كفارته كفارة يمين: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام.
ومن أهل العلم من قال: لا شيء عليه مطلقاً؛ لأن رب العزة سبحانه وتعالى قال: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:2] لما أقسم النبي صلى الله عليه وسلم على ألا يشرب عسلاً، فقال: (قد شربت عسلاً ولن أعود وقد حلفت)، فالاحتياط أن يكفر كفارة يمين.
الجواب: حديث: (حلق رأس المولود في اليوم السابع والتصدق بوزنه ذهباً) ضعيف، لكن الحلق يكون من باب إماطة الأذى عنه يوم سابعه، فالحلق يدخل في إماطة الأذى يوم السابع، فيشرع أن يحلق يوم السابع، لكن التصدق بوزنه ذهباً أو فضة لا أعلم له أي مستند صحيح في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الجواب: العقيقة ليست واجبة إنما هي سنة، وقد تقدم أن الدعوة إلى العقيقة لم يدرج عليها السلف، إنما هي من باب المباح.
الجواب: ادع الله له بالتوفيق، وخذ بيده إلى أهل العلم، وبين له أن الجهاد لا يشترط أن يكون جهاداً بالسيف في كل الأحوال، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: (فمن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن)، والله سبحانه يقول: وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الحجرات:15]، فللجهاد بالمال أوقات، وللجهاد بالنفس أوقات، فالآن تضبط مسيرته إلى أن ييسر الله للمسلمين أحوالهم وأمورهم.
الجواب: لا يجب الحج والحالة هذه، إذا كنت ستبني البيت فابنه، ولا يجب عليك الحج إلا إذا يسر الله لك بعد ذلك، والله تعالى أعلم.
الجواب: التشهد الأوسط للصلاة الصحيح الذي عليه أكثر العلماء: أنه إلى: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ وذلك لشيئين: أحدهما: أن في رواية أبي عوانة من حديث ابن مسعود أن النبي عليه الصلاة والسلام علمه التشهد، وهو علم التابعين، فجاء إلى قوله: (أشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال: إذا بلغت ذلك فقم)، وهل هي مدرجة من قول ابن مسعود على الحديث أو هي من كلام رسول الله؟ فأياً كان الأمر فـابن مسعود هو الراوي وهو أعلم به من غيره.
ثانياً: إنه ورد أثر عن أبي بكر وعمر : أنهما كانا يجلسان في التشهد الأوسط كأنما يجلسان على الرضخ، وهي: الحجارة المحماة، فهذا يدل على سرعة جلوسهم في التشهد الأوسط.
ثالثاً: لا يجب أصلاً الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حتى في التشهد الأخير؛ لعدم وجود الدليل على ذلك، دليل الموجبين هو قول القائل: (يا رسول الله! عَلِمْنَا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: قل: اللهم صل على محمد.) وهذا الحديث ليس فيه دليل على الوجوب، إنما هو تعليم ندب وإرشاد، والله أعلم.
الجواب: أما الظهر فلا أعلم فيها تفصيلاً هل هي ركعتان أو أكثر، وإنما ورد من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى -أو كان يصلي- قبل الظهر أربعاً) وهل مجتمعة أو متفرقة؟ ورد في الباب زيادة في حديث: (صلاة الليل مثنى مثنى) وهي: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)، لكن زيادة (النهار) في الحديث زيادة شاذة، والصواب فيه: (صلاة الليل مثنى مثنى)، وقد حكم بشذوذ زيادة (النهار) عدد من علماء الحديث المتقدمين.
فعلى هذا فالظاهر أن الأمر واسع، والله تعالى أعلم.
أما سنة العصر فكذلك لا أعلم شيئاً إلا حديث: (رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعاً) على نزاع في تصحيحه من أصله، منازع فيه هل هو ثابت أو غير ثابت؟ وإن ثبت لا يدل على المواظبة، وإنما يدل على الفضيلة فقط، لكن معنا عموم حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة لمن شاء).
الجواب: نعم الصلاة صحيحة.
الجواب: حديث ثابت صحيح.
الجواب: المسألة لما ناقشها العلماء: ناقشوا حكم ما إذا نبت للمرأة شارب أو لحية، إذا نبت للمرأة شارب أو لحية ذهب كثير من أهل العلم إلى جواز إزالته، واستدلوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال) قالوا: وهذه وإن لم يكن لها شيء من التشبه، لكنها تفعل ما يؤدي بها إلى أن تكون امرأة كسائر النساء، يعني: إذا فعلته تكون فعلت وسيلة توصلها إلى أصلها، أصل النساء أو أصل التأنيث، فهذا رأي كثير من العلماء: أنه يجوز لها أن تزيله كي تصل بحالها إلى حال النساء، وتبتعد عن التشبه بالرجال. ومن العلماء من منع مستدلاً بقوله تعالى: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النساء:119] فاستدل البعض بهذه الآية على المنع كـالطبري والنووي في قول له، ولكن هذا الاستدلال لم يره كثير من أهل العلم في محله؛ لأن المراد بتغيير خلق الله هنا: ما كان يفعله أهل الشرك من شق أذن البعير وتركه سائبة أو وصيلة أو حام للآلهة، وكذلك يلتحق به ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن مسعود : (لعن الله النامصة والمتنمصة والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)، أما إزالة الشعر بهذه الصورة فليس فيه شيء, والله تعالى أعلم.
الجواب: نعم، تتزين له ويخلو بها ليلة الزفاف، فرب العزة فرق بين البناء وعدمه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب:49]، ففرق بين المساس وبين البناء، وقال تعالى: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النساء:23]، ففرق أيضاً بين الدخول وبين العقد، ثم المصالح المرسلة التي تنشأ من جراء التفريق بين العقد والبناء يبنى على ذلك كله، ودفعاً للمشاكل التي تحدث للمرأة، وهذا ليس على سبيل التحريم، الأمر ليس على سبيل التحريم إنما على سبيل دفع المفاسد، وعلى سبيل المصالح التي تتحقق من وراء التفريق بين العقد والبناء، وكذلك للمفاسد التي تقع من كثرة حمل المعقود عليهن. واليوم -والله- قبل ما آتي بنصف ساعة تقريباً واحد اتصل عليّ ويقول: إنه عاقد على زوجته وجامعها، وأهلها لا يعرفون، ويقول: ماذا أصنع؟ هل أذهب للأطباء؟ أهلها يرفضون أن أدخل بها الآن، فلهذه المشاكل نقول: هناك فرق بين البناء والعقد كما كان على عهد الرسول، لكن إن شئت أن تعقد وتبني في الحال فنعم، أما أن تعقد وكل يوم تذهب في غياب والدها وتعبث بها وقد يصل إلى الجماع فلا، وإذا طلقتها ترد مشاكل شرعية: هل لها الصداق أو نصف الصداق؟ نحن لا نقول: إن الأمر على سبيل التحريم، ولكن على سبيل الاقتداء بسلفنا من أصحاب رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام.
إلى هنا، وبارك الله فيكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر