إسلام ويب

ابتلاء العباد [2]للشيخ : مصطفى العدوي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الابتلاء سنة ماضية منذ أن خلق الله الخلق، به يعرف الصابر من الجازع، ويعرف الشاكر من الكافر، والله عز وجل حين قدر البلاء على بعض عباده جعل لهم لقاء صبرهم ثواباً ومنزلة لا يبلغها غيرهم، فكان أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.

    1.   

    التخويف من النار

    الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد:

    معشر الإخوة: إننا نعيش في غفلة شديدة حتى عن كتاب ربنا الذي بين أيدينا، وقد حق على المسلمين شكوى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الله سبحانه: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]، فالكثير منا وإن تلا هذا الكتاب العزيز لا يتدبر معانيه، ومن أعظم المعاني التي جاءت وسيقت في كتاب ربنا تلكم المعاني التي تذكرنا بما هو آتٍ، وأعظم ما هو آت هو النار، تلك النار التي خوف الله سبحانه وتعالى بها عباده، فلا يرقأ لأحد دمع، ولا يهدأ له بال كلما مر على آيات تصف هذه النار التي أعدت للكافرين، وأعدت أيضاً للعصاة المجرمين الآثمين، جمعت هذه النار كل صنوف العذاب، ذكر الله في كتابه صور الإذلال والتعذيب الموجودة في هذه النار، فذكر فيها طعاماً من أسوأ الأطعمة، وشراباً من أسوأ الأشربة، ومناماً هو أسوأ منام، ذكرت فيها صور الإذلال والامتهان لكل من عصى ربنا الرحيم الرحمن.

    كل ما يتوقع ويتصور من صور التعذيب موجود في هذه النار، ففي شأن طعام أهل النار يقول الله سبحانه وتعالى: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ الغاشية:6-7]، ويقول سبحانه: (وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ الحاقة:36-37] ويقول الله سبحانه: إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا [المزمل:12-13] وما معنى (طعاماً ذا غصة)؟ هو طعام ينشب في الحلوق كما يقول العامة: (لقمة وقفت في حلقي)، طعام ينشب في الحلوق ويتعلق بها، تأتي تبلعه فلا تستطيع، هذا شيء من صور طعام أهل النار.

    أما شرابهم: فكما قال الله سبحانه: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29]، ماؤه من بخار الماء الشديد الحار، يحترق وجه الشخص -والعياذ بالله- قبل أن يصل الماء إلى الشفاه.

    وأما منامهم: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ الزمر:16]، لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:41].

    أما ثيابهم: فكما قال ربنا: قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:19-22].

    أماكنهم التي يسكنونها أماكن ضيقة والعياذ بالله! وضيق الأماكن صورة من صور العذاب كما قال سبحانه: وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [الفرقان:13]أي: دعوا على أنفسهم بالهلاك، قال الله سبحانه: لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا [الفرقان:14].

    أماكنهم التي يدخلونها عميقة، كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً مع أصحابه فسمع وجبة -أي: صوتاً شديداً- فقال لأصحابه: (أتدرون ما هذا؟ هذا حجر ألقي في النار منذ سبعين خريفاً فلم يصل إلى قعرها إلا الآن) أماكن موحشة مظلمة!

    كذلك الرفقاء فيها رفقاء سوء، لا تجد عندهم أنس بحال من الأحوال، بل يلعن بعضهم البعض الآخر، ويلعنون من دخل فيها كما قال ربنا: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:38]، كل ما تتخيل من صور العذاب موجود في النار، تخشى في دنياك من الوحوش والحيات، لكن العاصي يوم القيامة -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن مانع الزكاة- : (يطارده شجاع أقرع) وهي: حية ضخمة وعظيمة سقط شعر رأسها من شدة السم الذي فيها، فيلاحق مانع الزكاة، ويقول له هذا الشجاع: أنا كنزك أنا مالك، ثم يطوقه برقبته كما قال تعالى: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:180]، ويقضم يده كما يقضم الفأر!

    ومن صور الامتهان في الدنيا أن تدوس على شخص برجلك، وفي الآخرة يقول سبحانه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ [فصلت:29]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (من آتاه الله إبلاً فلم يؤد زكاتها بطح لها يوم القيامة بقاع قرقر) -أي: يوضع في قاع مستوٍ من الأرض- وتأتيه إبله أعظم ما كانت، تطؤه بأقدامها، وتنطحه، كلما مر عليه أخراها عاد عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم ينظر بعد ذلك سبيله إلى الجنة أو إلى النار.

    ومن صور العذاب في الدنيا الكي بالنار، وفي الآخرة كذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته صفحت له صفائح من نار، يكوى بها وجهه وجبينه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة)، ثم ينظر سبيله إلى الجنة أو إلى النار، وقال سبحانه: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34-35]، كل صور العذاب -والعياذ بالله- التي تتخيلها واردة في نار جهنم مع الفارق بين نار الدنيا ونار الآخرة كما قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (ناركم التي توقدون عليها جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا: وإن كانت لكافية يا رسول الله! قال: إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً)أو كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    وهي نار مغلقة على أهلها، وهم في داخلها في عمد ممدة، كما قال سبحانه: إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ [الهمزة:8-9]، وكما قال: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29].

    الحث على تدبر آيات الوعيد والنار

    أيها الإخوة الكرام: كتاب ربكم الذي بين أيديكم لا تخلو سورة من سوره في الغالب عن ذكر هذه النار؛ ولذلك أرسل الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم نذيراً ومخوفاً منها كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الأحزاب:45]، وقال له لما تدثر بالفراش: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1-2] قم فخوف الناس مما يستقبلهم، قم خوف الناس من نار جهنم، ولذلك يقول ربنا سبحانه وتعالى في شأن نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ [الأنعام:15-16] فمن صرف عنه عذاب جنهم فقد رحمه الله، وتقول الملائكة: وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [غافر:9]، ولذلك كان رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام دائم الاستعاذة بالله من النار في صلواته وبعد انقضاء صلواته وفي مجالسه وطرقاته، وهل لأحد من طاقة بهذه النار؟! جرب بنفسك مرة، وقف فقط بجانب القدر وهو يغلي وقرب منه وجهك وانظر ما الذي ستجده؟

    يا عباد الله! اتقوا النار كما قال رسولكم محمد صلى الله عليه وسلم، أي: اجعلوا بينكم وبينها وقاية، اجعلوا بينكم وبين النار وقايات، حتى يقيكم الله من هذه النار، وأعظم هذه الوقايات -كما لا يخفى عليكم- توحيد الله سبحانه وتعالى، فمن لم يوحد الله عز وجل واتخذ شريكاً معه دخل النار بلا إشكال، وثَم وقايات أخر، وقايات يجعلها الشخص بين نفسه وبين النار، ومن هذه الوقايات الصدقة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ولو بشق تمرة) فإنها تحجبك عن النار، فإن لم تجد فكما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (فمن لم يجد فبكلمة طيبة).

    معشر الإخوة! اقرءوا كتاب ربكم قراءة الموقن المصدق بما أُعد، لا تقرءوه قراءة المجود له فحسب، بل اقرءوه قراءة المتدبر المصدق بوعده وبوعيده، المتفكر في آياته، اقرءوا قول الله عز وجل: إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر:71-72] اقرءوا هذه الآيات وتعقلوها، اقرءوا قول ربكم سبحانه: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [فصلت:21]، اقرءوا بتمعن قول ربكم واعقلوه: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:93-94] اقرءوا وأيقنوا بقوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الأنفال:50]، تخيل المجرم الأثيم وقت الاحتضار والملائكة تستقبله بالضرب على وجهه وعلى دبره قائلة له: (ذق عذاب الحريق).

    فيا معشر الإخوة! كتاب الله بين أيديكم، ولكن من هو العاقل المتدبر المتأمل؟ الفرق بينكم وبين أهل الكفر: أنكم أقررتم بهذا الكتاب وأيقنتم أنه من عند الله سبحانه، وأن نبيكم محمداً عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى، هذا الفارق بينكم وبين أهل الكفر، فما بالكم لا تقبلون على هذا الكتاب، ولا تقرءونه وتنظرون ماذا يريد منكم ربكم، وماذا ينتظركم في قبوركم وعند موتكم وعند بعثكم، لم لا تدبرون القرآن هذا التدبر؟ إن النبي عليه الصلاة والسلام صح عنه أن قال: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا يوم القيامة فيصبغ صبغة في النار ثم يقال له: يابن آدم! هل وجدت نعيماً في حياتك قط؟ فيقول: لا والله ياربي! ما وجدت نعيماً في حياتي قط)، صح هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وفي غيرهما. فجدير بكم أن تزهدوا عما في دنياكم الزائلة الفانية، فالموت يتخطف الناس من حولكم، سواءً كانوا أهل علم وصلاح، أو أهل فجور، كل يتخطف من حولكم، ويدفن بأيديكم، ويوارى أمام أعينكم، وقد قال الله سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [الرعد:41]، وقد قال فريق من أهل العلم في تأويل قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أن ذلك يكون بقبض أهل العلم كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً -أو رؤساء- جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) وثم أقوال أخر منها: أن الناس يموتون من حولهم، وثم قول ثالث: أن البلاد الكافرة كانت تسلم وتدخل الإسلام على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام فتنقص دائرة الكفر.

    فيا عباد الله: أقبلوا على كتاب الله، أقبلوا عليه إقبال العقلاء أهل الفهم الصحيح الثاقب، واسألوا ربكم العون والتوفيق، والله المستعان.

    1.   

    كل نفس ذائقة الموت

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

    وبعد:

    معشر الإخوة: في كل يوم نشيع ميتاً، سواءً كان قريباً، أو حبيباً، أو حتى عدواً، وسواء كان عالماً، أو جاهلاً، نشيع صغيراً أو نشيع كبيراً، نشيع شاباً أو نشيع شيخاً، نشيع طفلاً رضيعاً أو نشيع عجوزاً شمطاء، والله سبحانه وتعالى كتب الآجال على العباد، وما أحد منا يدري متى أجله، فإن الله استأثر بهذا العلم عنده سبحانه وتعالى، وقد قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34]، والعقلاء منكم يفهمون ذلك، فمنا من كان يصلي معنا في الأسبوع الذي مضى، وهو الآن مع المقبورين، ولا ندري نحن عن أنفسنا هل نحن غداً في عداد الأحياء وفي عداد أهل الدنيا أم أننا من أهل القبور؟ الله أعلم بذلك كله، فإن الشخص ينام ولا يدري هل هو ممن قال الله فيهم: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الزمر:42]?

    معشر الإخوة: كل نفس ذائقة الموت كما أخبر ربنا سبحانه وتعالى، والموت في نفسه مصيبة كما قال الله سبحانه: فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ [المائدة:106]، وللموت سكرات، فرسولنا اعترته بعض هذه السكرات، وهو سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، وهو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقد حضرته سكرات الموت ويده في ركوة فيها ماء، فجعل يمسح رأسه وجبينه ويقول: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات)، هذا وهو نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وإن كان للموت سكرات، وإن كان لنزع الروح آلام، وإن كان الفراق يؤلم ويوجع ويحزن؛ لكن ثَم ما هو أعظم، وهو أن يموت العبد مفرطاً في حق الله، فليس كل ميت يبكى عليه، أما البكاء حق البكاء فهو على رجل مات مفرطاً في جنب الله، مضيعاً لحقوق الله، البكاء حق البكاء على رجل مات تاركاً للصلاة متوعداً بقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5]، متوعداً بقوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59]، البكاء حق البكاء على امرأة ماتت متبرجة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن المتبرجات: (صنفان من أهل النار لم أرهما: نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها)، البكاء حق البقاء على رجل مات وهو آكل للربا، أو آكل لأموال الناس بالباطل، أو آكل لأموال اليتامى ظلماً، هذا الذي ينبغي أن تتصدع عليه الأكباد، ولذلك جاءت أم حارثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان حارثة قد قتل ببدر أصابه سهم غرب، لا يعرف راميه فقتله- وقالت: ( يا رسول الله! أخبرني عن حارثة ، أخبرني عن ولدي، فوالله! يا رسول الله! إن كان في الجنة صبرت واحتسبت، وإن كان غير ذلك ليرين الله ما أصنع) فإن كان غير ذلك حق لها أن تبكي عليه وأن تتوجع وأن تتألم، أما إن كان في الجنة فكما قال الرسول عليه الصلاة والسلام لما نعى إلى أصحابه زيداً وجعفر وابن رواحة : (وما يسرهم أنهم عندنا)، وفي رواية: (وما يسرنا أنهم عندنا)، فهكذا قالت أم حارثة : (يا رسول الله! أخبرني عن حارثة إن كان في الجنة صبرت واحتسبت، وإن كان غير ذلك ليرين الله ما أصنع)، فقال لها رسول الله عليه الصلاة والسلام: (أوهبلت يا أم حارثة؟ إنها جنان، وإن ابنك قد أصاب الفردوس) فلها حينئذ أن يسكن حزنها، بل ولها أن تبتهج وتسر.

    الاستعداد للموت

    فيا معشر الإخوة: من كان له قريب عزيز عليه فليذكره بتقوى الله، وليرده إلى طريق الله سبحانه، فوالله! مهما مات من إخوان فالحزن كل الحزن على من مات مفرطاً في جنب الله، فيقول يوم القيامة: يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزمر:56-57]، أو يقول حين يرى العذاب: لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:58]، هذا هو الذي يبكى عليه، والعياذ بالله.

    فيا معشر الإخوة: قوا أنفسكم وإخوانكم من النار، واحذروا مما يقرب إليها من قول وعمل، فدنياكم مهما تكالبتم فيها ومهما تصارعتم فيها؛ فأمرها إلى قلٍ، وأمرها إلى زوال، وأمرها إلى فناء.

    فيا معشر الإخوة: أحسنوا العمل، وأخلصوا النوايا لله، وطهروا القلوب، واستعدوا للرحيل فقد أزف، فالغالب منكم مضى من عمره النصف على الأقل، وقد قال نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام: (أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين وقليل من يتجاوز ذلك)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وماذا ينتظر أحدكم إلا ما قال الشاعر:

    يسر الفتى طول السلامة والبقا فكيف يرى طول السلامة يفعل

    يرد الفتى بعد اعتدال وصحة ينوء إذا ما رام القيام ويعمل

    وأحسن من ذلك قوله تعالى: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ [يس:68]، وقد كان نبيكم محمد يتعوذ بالله من أن يرد إلى أرذل العمر فصلوات الله وتسليماته عليه.

    فاعلموا أنكم على الغد القريب سيكون حالكم كحالهم، فمغلقة عليكم أبواب المقابر كما تغلقونها على الناس، ومغسلون ومكفنون ومصلىً عليكم كما تصلون على الناس.

    اللهم! انصر الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واختم لنا جميعاً بخاتمة خير أجمعين، يا رب العالمين! اللهم! ارحم علماء المسلمين يا رب العالمين! نور لهم في قبورهم، ووسع لهم فيها يا أرحم الراحمين! وخذ بنواصينا إلى الخير، واجعلنا من المتذكرين المعتبرين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756231399