أيها الأحبة في الله! أسأل الله جل وعلا أن يكتب خطاكم إلى هذه الروضة العبقة من رياض الجنة في موازين أعمالكم، كما أسأله أن يحط عنكم بكل خطوة خطيئة، وأن يرفع لكم بكل خطوة درجة، كما أسأله سبحانه أن يحشرنا وإياكم كما اجتمعنا بكم في هذا المكان الطيب، نسأله أن يحشرنا وإياكم في زمرة نبيه صلى الله عليه وسلم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
أيها الأحبة! إنه لجمع نباهي به بفضل الله جل وعلا، وإنه لاجتماع يبعث في النفوس الإشراق ويبعث في القلوب الأمل ويستمطر الرحمات بالدعاء من الله جل وعلا أن يسدد هذه الصحوة وأن يجعل مسيرها إلى خير، وأن يجعل عاقبتها إلى رشد وفلاح في الدنيا والآخرة، وأن يعصمها عن مواقع الزلل والفتن ما ظهر منها وما بطن.
أيها الأحبة! إن جمعاً كهذا كان قبل اثنتي عشرة سنة نادراً في أكبر المدن، والله لقد كنا في المحاضرات قبل اثنتي عشرة سنة أو قبل ذلك أيضاً، يندر أن تجد اجتماعاً كهذا في مدينة من كبريات المدن، أما ونحن بفضل الله جل وعلا في منطقة من المناطق أو في ضاحية من الضواحي ونرى هذا الجمع الطيب المبارك برجاله ونسائه، بشبانه وشيبه، بذكوره وإناثه، بصغاره وكباره، فهذه نعمة نسأل الله جل وعلا أن يديمها علينا، اللهم لك الحمد كلما قلنا: لك الحمد، اللهم لك الشكر كلما قلنا: لك الشكر، اللهم لك الثناء الحسن كلما قلنا: لك الثناء الحسن.
إذا كان شكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكر |
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الآماد واتصل الدهر |
إذا عم بالسراء أعقب مثلهـا وإن مس بالضراء أعقبها الأجر |
فذلك فضل من الله عظيم جدا.
أيها الأحبة! الحياة الحقيقية ليست هي الحياة التي يراها الناس في ظاهر تصرفات بني جنسهم من الذهاب والإياب واليقظة والنوم والحل والترحال والسفر والنزول والوصول، وإنما الحياة الحقيقية هي حياة القلوب، قال جل وعلا: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا
[الأنعام:122] إن الحياة الحقيقية هي حياة القلوب، إن الحياة الصادقة هي توجه الأفئدة إلى بارئها إلى الذي خلقها وأنشأها من العدم، إلى الذي قسم أرزاقها وقسم آجالها، إلى الذي يطعمها ويسقيها ويكفيها ويؤويها، إن الحياة الحقيقية أن يتوجه الإنسان بقلبه وقالبه، بظاهره وباطنه، بشكله ومضمونه بجوهره وعرضه، أن يتوجه بهذا كله إلى الله جل وعلا.
أولها: أن يشعر الإنسان أن حياته ليست لذاته فحسب، يعني هذا أن حياتك ليست لجوفك، وليست لفرجك، وليست لجيبك، وليست لرصيدك، وليست لمالك، وليست لأنانيتك، وليست لأثرتك، وإنما الحياة الحقيقية أن تعيش دائراً مع الحق حيث دار، الحياة الحقيقية ألا تكون حياتك قمة الأنانية في خدمة البدن.
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أذهبت عمرك فيما فيه خسرانُ |
أقبل على الروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان |
الحياة الحقيقية عندما يكون لها معنى أن يشعر الإنسان بأن بدايته قديمة، وأن نهايته لا تخط أثراً للترحال إلا في رضوان الله جل وعلا، يوم أن تكون من المكلفين فإنك تشعر ببدايتك بداية الحق الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم، فليست بدايتك أيها المسلم حينما يكون لحياتك معنى، ليست بدايتك هي ولادتك وإنما بدايتك هي بداية الحق الذي بعث به الرسول صلى الله عليه وسلم وبشر به الأمة وأنذر به الأباعد والأقارب وكان رسولاً به إلى الثقلين كافة الجن الإنس بشيراً ونذيرا، بدايتك تبدأ مع هذا الحق وتشعر أن نبيك هو قائدك الأول، وأن صحابة نبيك هم المثل وهم القناديل، وهم النجوم الزاهرة الذين تتلألأ كواكبهم في سماء الحق وفي طريق الهداية، وفي جادة الدعوة التي تمضي بها إلى مرضاة الله مروراً بالصحابة والتابعين والسلف الصالحين وعلماء الإسلام وقادة الأمة المسلمين أجمعين، البداية ليست بداية الميلاد حينما يكون للحياة معنى وإنما هي بداية الحق، والنهاية ليست بخروج الروح من البدن، وإنما خروج الروح من البدن هو أول خطوة تضعها في باب نوال الجزاء والثواب وجميل المغفرة والستر والفوز والفلاح برب العالمين، أيها المسلم حينما يكون لحياتك معنى فإن حياتك لا تنتهي بموتك، وإنما تبدأ رحلة جديدة أوسع آفاقاً وأبعد مدى وأعمق أصولا وأشمل في جميع الجوانب؛ لأن نهاية المؤمن من الحياة هي بداية النعيم إلى مرضاة الله جل وعلا، وكما يقول واحد من دعاتنا وعلمائنا: أيها المسلم أنت موعود بمستقبل مشرق يبدأ بموتك.
حياة الذين لا معنى لحياتهم ماذا يجدون فيها؟
مهما بلغ الواحد من الثراء والنعم والأموال فإنه لا يلبس إلا ثوباً واحداً، ولا يرى إلا بعينين اثنتين، ولا يجد إلا أنفاً واحداً في بدن محدود القوة قصير الصحة مهدد بالسقم والآلام تصبحه أو تمسيه، حياة الذين يرون الحياة التي لا معنى لها، الذين يرون الحياة مطعما حياتهم في الحقيقة أيها الإخوة نغص ونكد وآلام.
من ذا الذي قد نال راحة عمره فيما مضى من عسره أو يسره |
يلقى الغني لحفظه ما قد حوى أضعاف ما يلقى الفقير لفقره |
فأبو العيال أبو الهموم وحسرة الرجل العقيم كمينة في صدره |
أو ما ترى الملك العظيم بجنده رهن الهموم على جلالة قدره |
ولقد حسدت الطير في أوكارها فرأيت منها ما يصاد بوكره |
ولرب طالب راحة في نومه جاءته أحلام فهام بأمره |
والوحش يأتي موته في بره والحوت يأتي حتفه في بحره |
كيف التخلص يا أخي مما ترى صبراً على حلو القضاء ومره |
الحياة التي تتعلق بالمتع أو بالملك أو بالوزارة أو بالإمارة أو بالجاه أو بالثراء أو بالسلطان هي حياة والله قصيرة، ولذلك عبر عنها إمام أهل السنة صاحب تاج الوقار في المنافحة عن منهج أهل السنة والوقوف عقبة كئوداً أمام البدعة أحمد بن حنبل رحمه الله، لما ابتلي بالقول بخلق القرآن وأوذي أذىً شديداً وعذب عذاباً بليغا، جلد بالسياط فتمزق قميصه، وبقي أثر السياط على جلده، دخل عليه ولده عبد الله بن الإمام أحمد ، جاء ليسأل أباه: أين الحياة؟ أي حياة هذه؟ إمام السنة يعذب، إمام السنة في السجن، إمام السنة يعلق برجليه، إمام السنة يسجن في الجب والبئر، إمام السنة في ضيق والمبتدعة في سعة، إمام السنة في ضنك ونكد وأهل البدع على مفارش الحرير والنمارق والسندس، إمام السنة يبتلى صباح مساء وأولئك يتقلبون كيفما يشتهون، قال عبد الله بن الإمام أحمد : يا أبتي متى الراحة؟ أين الحياة؟ أين طعم الحياة؟ أين لذة الحياة؟ فقال الإمام أحمد : يا بني الراحة عند أول قدم نضعها في الجنة. فحي على تلك المنازل.
فحي على جنات عدن فإنـها منازلك الأولى وفيها المخيم |
حينما يكون لحياتك معنى فبصرك بنور الله جل وعلا، وسماعك لما يرضي الله لكلام الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخطواتك في الدعوة إلى الله والسير في سبيل الله والسعي في مرضاة الله جل وعلا.
حينما يكون لحياتك معنى فإن نَفَسَك تسبيح، ونومك عبادة، وأكلك عبادة، وشربك عبادة، وبذلك عبادة، وأخذك عبادة، وقبضك عبادة، هذا حينما يكون للحياة معنى أن تجد النية لصيقة لا تفارقك بأي حال من الأحوال، فإذا خرجت من بيتك سألت القدم: إلى أين؟ وسألت القلب: من المقصود بهذا؟ فتقول القدم: إلى روضة من رياض الجنة، ويقول القلب: لكي نكون مع الذين غشيتهم الملائكة، وحفتهم السكينة، ونزلت عليهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده، ففي القلب إخلاص لله جل وعلا، وفي القدم سير صحيح على صراط الله المستقيم.
انظر إلى اثنين في المستشفى أحدهما إذا انقلب قال: يا الله، وإذا أحس بالألم استعان بالله، وإذا وجد مرارة السقم احتسب هذا عند الله جل وعلا؛ لأنه يعلم أن نبيه قد بلغه عنه: (ما من هم ولا غم ولا نصب ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كَفَّر الله بها من خطاياه) هذا لحياته معنى وإن كان على سرير المرض، وآخر على سرير المرض إذا انقلب انقلب بالويل، وإذا تجافى تجافى بالثبور، وإذا تحرك تحرك بالسخط، وإذا قام قام بالاعتراض على قدر الله جل وعلا، فشتان بين هذا وهذا، حياة سقيم رضا وحياة سقيم سخط، حياة سقيم عبادة وحياة سقيم تعجيل للعقوبة في الدنيا، وإن لم يتداركه الله برحمته ففي عقوبة الآخرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
حينما يكون للحياة معنى ترى الواحد منا يحدد البداية والغاية والنهاية والوسيلة، البداية بهذا الحق، والغاية مرضاة الله جل وعلا، والوسيلة إلى هذا الدعوة إلى دين الله جل وعلا، سواء في الوظيفة أو في المسجد أو في السيارة أو في المنتدى أو في المعسكر أو في المركز أو في النادي أو في السوق أو في المستشفى أو في الذهاب أو في الإياب، هذه عبادة، الدعوة إلى الله غاية لنيل رضوان الله جل وعلا.
قيل لـبلال بن رباح: كيف كنت تصبر على حر الرمضاء يا بلال ؟! كيف تصبر والحجر يوضع على ظهرك ويوضع على بطنك وتسحب في الرمضاء، والحجارة تنكب جسدك، كيف كنت تصبر؟ قال: [والله أما إني كنت أجد ألماً عظيماً، ولكني مزجت حرارة الألم بلذة الرضا في ما أرجوه من عند الله فغلب ذلك ما أجد من آلامها] إنه قلب، (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
وذكر الله جل وعلا شأن المعرضين وإن كانوا أحياء على وجه الأرض شأن المعرضين عن ذكر الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جل وعلا: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ
[الأعراف:176] تلك حياة الذين لا يستجيبون لله ورسوله،
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ
[الأحقاف:17] فيكون جوابه العناد والاستكبار ويقول لهما:
مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
[الأحقاف:17] ليست الحياة أن يرمق الطرف، أو أن تمشي الخطى، أو أن يخفق القلب، أو أن يضخ الدم، أو أن تتحرك الجوارح، هذا عرض من أعراض الحياة، لكن الحياة الحقيقية هي حياة القلوب، كما مر أحد السلف برجل من الذين ابتلوا بالأمراض والأسقام فقيل له: يا فلان كيف تجد حالك؟ قال: أحمد الله الذي آتاني لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً وبدناً على البلاء صابراً. هذه حياة القلوب ليست حياة الجوارح التي لا تنقاد ولا تستجيب لأمر الله جل وعلا.
أيها الأحبة! أيضاً حينما يكون للحياة معنى فإن القلب يكون حراً حتى وإن غلت الأيدي إلى الأعناق وإن القلب يكون حراً وإن كُبلت الأقدام بالسلاسل، وإن القلب يكون حراً وإن هدد البدن بالموت، وإن القلب يكون حراً حتى وإن هدد الإنسان بقطع رزقه أو أجله، لماذا؟ لأن الحياة بالقلب والقلوب بيد الله جل وعلا.
تالله ما الدعوات تهدم بالأذى أبداً وفي التاريخ بر يميني |
والدعوة هي الحياة الحقيقية.
ضع في يدي القيد ألهب أضلعي بالسوط ضع عنقي على السكينِ |
لن تستطيع حصار فكري ساعةً أو نزع إيماني ونور يقيني |
فالنـور في قلبي وقلبي في يدي ربـي وربي حافظي ومعيني |
الحياة الحقيقية أن يكون القلب حراً حتى وإن كان الجسد محبوساً، أن يكون القلب غنياً حتى وإن قطعت موارد المال، أن يكون القلب عزيزاً بالله حتى وإن مس بألوان الأذى والبلى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ماذا يصنع أعدائي بي؟ أنا سجني خلوة، وطردي من بلدي سياحة، وقتلي شهادة، فماذا يفعل أعدائي بي؟!
الحياة الحقيقية حينما يكون لها معنى فإنها ترتبط بالبداية كما في حديث ابن مسعود : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يؤمر الملك فينفخ فيه الروح، ثم يؤمر الملك بكتب أربع كلمات: برزقه وأجله ..).
الحياة الحقيقية أن تعرف أن الرزق مقسوم وأنت جنين صغير تتحرك في رحم أمك، الحياة الحقيقية أن تعرف أن الأجل محدود، والنفس معدود، وأنت جنين مضغة مخلقة في رحم أمك، هذه هي الحياة الحقيقية ليست حياة الجبناء.
ترددت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما |
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أعقابنا تقطر الدما |
هذا حينما يكون للحياة معنى، كما قال صلى الله عليه وسلم في موقفه وفي حديثه صلى الله عليه وسلم: (وددت أن أغزو في سبيل الله فأُقتل) ما قال فانتصر أو فأغنم أو فتفتح لي.. قال: (وددت أن أغزو في سبيل الله فأُقتل) القتل هو بداية الحياة، (ثم أغزو ثم أُقتل ثم أغزو ثم أُقتل) ثلاث مرات يرددها صلى الله عليه وسلم، هذه هي الحياة الحقيقية حينما ترتبط النفوس بالله جل وعلا، ولكن أيها الأحبة من الذي يعرف قيمة الحياة؟ هل يعرف معنى الحياة من استهلك نور البصر والبصيرة بالأفلام والمسلسلات على ألوان الشاشات؟ هل يعرف قيمة الحياة من لا يجد للسماع مذاقاً إلا في الأغاني والملاهي والطرب والزمر والدندنة؟ هل يعرف للحياة معنى من لا يجد السعي إلا إلى مجالسة البطالين والعاطلين الذين تفنى أيامهم وتنقضي ساعاتهم وتشهد عليهم ملائكة الليل والنهار بغفلتهم وإعراضهم وإدبارهم وتشهد الأرض عليهم بما يقترفون ويشهد الناس عليهم بصدهم عن سبيل الله جل وعلا؟ أهذا هو معنى الحياة؟! لا والله، الحياة الحقيقية إما أن تكون في علم وتعليم، أو في بذل ومال ترضي به وجه الله، تسلطه على هلكته في الحق، أو تكون في جهاد في سبيل الله، أو تكون في عدل وقسط بين الناس، أو تكون في ركوع وسجود وما أطيبها إذا اجتمعت جميعاً.
إذا ما مات ذو علـم وتقوى فقد ثلمت من الإسلام ثلمة |
وموت الحاكم العـدل المولى بحكم الأرض منقصة ونقمة |
وموت الفارس الضرغام هـدمٌ فكم شهدت له بالنصر عزمة |
وموت فتىً كثير الجـود مـحلٌ فإن بقاءه خصب ونعمة |
وموت العـابد القـوام ليـلاً ينادي ربه في كل ظلمة |
أولئك الذين كانت حياتهم معنى، كانت حياتهم وجودا، وكان غيبتهم فقدانا، أولئك الذين كانت حياتهم عطاء وإيجابية، وكان ذهابهم سلبية وحرمانا:
فحسبك خمسة يبكـى عليهم وباقي الناس تخفيف ورحمة |
وباقي الخلق همج رعاءٌ وفي إيجادهم لله حكمة |
الحياة الحقيقية أيها الأحبة أن تجد لذة العبودية وأعلى مراتب العزة بتمريغ الجبهة والأنف بين يدي الله جل وعلا، أن تشعر بالتحليق في طباق السماوات وأنت تمرغ الجبهة والأنف والجبين بين يدي الله جل وعلا.
كذلك أيها الأحبة في الله حينما يكون للحياة معنى فإن الإنسان تجده بركة أينما حل وأينما كان، كما قال عيسى عليه السلام: وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ
[مريم:31] .
أيها الأحبة! حينما يكون للحياة معنى فإن لوجودك أثراً ولغيبتك أثراً، وحينما يكون للحياة معنى فإن لحركاتك وسكناتك وذهابك وإيابك أثراً، كما قال الله جل وعلا على لسان عيسى بن مريم: وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ
[مريم:31] إخواني! من هو المبارك فينا أينما كان؟ أين المبارك في وظيفته؟ أين بركتك على زملائك في الوظيفة؟ أين بركتك على بيتك المبارك بأسرته؟ أين المبارك في مسجده؟ أين المبارك بين جيرانه؟ أين المبارك بين أصدقائه؟ أين المبارك بين زملائه؟ أين المبارك بين زملائه في الدراسة في الجامعة في الوظيفة في كل مكان حل وارتحل؟
وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ
[مريم:31] إن الذي تجد فيه بركة أينما حل هو الذي لحياته معنى، وأما الذي يعيش ولا أثر لحياته فذلك كما يقول القائل:
وأنت امرؤ فينا خلقت لغيـرنا حياتك لا نفع وموت فاجع |
غاية ما يوجد بعده أن تفجع مصيبته أمه وأباه أو أهله وذويه، بموته، ويُنسى.
1206هـ ونحن الآن 1412هـ والأصول الثلاثة وكشف الشبهات تدرس في الصين ليست دولة لا دينية أو دولة علمانية أو دولة نصرانية، دولة أهل كتاب، وإنما دولة ترى أن الدين أفيون الشعوب، دولة الإلحاد: لا إله والحياة مادة، إن الرجل في قبره وحياته فوق ظهر الأرض بل في أقاصي البلاد، ليس في هذه الجزيرة وحدها وإنما في أبعد نواحي الدنيا، هذه هي الحياة الحقيقية.
وميت ضجت الدنيا عليه وآخر لا تحس له نعيا |
الناس ألف منهم كواحد وواحد كألف إن أمر علا |
وكما في الحديث الصحيح عن ابن عمر : (الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة) نعم ما أكثر الخلق الذين نراهم، ما أكثر الذين يملئون الطرقات والشوارع والمساجد والمدارس والجامعات والمؤسسات والشركات والدوائر لكن لا تكاد تجد في كل ألف إلا واحدا، كما قال ابن قيم الجوزية رحمه الله في نونيته الكافية الشافية:
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحد لا اثنان |
يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان |
يا سلعة الرحمن سوقك كاسد بين الأراذل سفلة الحيوان |
يا سلعة الرحمن سوقك كاسد فلقد عرضت بأيسر الأثمان |
أيها الإخوة! حينما يكون للحياة معنى، سنظل أحياء حتى وإن كنا في قبورنا، إنا لنرجو الله جل وعلا إن يصل أجرنا ونحن في اللحود والقبور، لعلها ببركة من بركات القبول التي يمن الله بها علينا لشريط من الأشرطة، محاضرة من المحاضرات، كلمة من الكلمات، كتيب من الكتب، رسالة من الرسائل، جولة غدوة وروحة في سبيل الله لدعوة ضال أو توجيه منحرف أو مناقشة صاحب شبهة، يرجو الإنسان أن يبقى حياً وإن كان ميتاً، هذه هي الحياة الحقيقية، يبقى لك الذكر بعد موتك، يبقى الثناء وتذهب الأموال ويبقى الثناء والحمد بخير، ولكل عصر دولة ورجال:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني |
فاحفظ لنفسك بعد موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني |
شيخ الإسلام ابن تيمية أليس حياً من الأحياء؟ بلى والله، فقد توفي في أوائل القرن الثامن 720هـ، وابن قدامة، وابن عبد البر، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن حجر، علماء الإسلام، كل أولئك ما زالوا أحياء وإن كانوا الآن في قبورهم، أياً كانت نهايتهم ماتوا بالقتل، أو ماتوا حتف أنوفهم، أو ماتوا على فرشهم، لكنا رأينا حياتهم، ورأينا ما كتب لهم من القبول، حفيد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وهو سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب قال له الأتراك في ذلك الزمن: أنت تكفرنا، قال: نكفر كل من يعبد القبور، ويتوسل بها، ويرجو منها جلب المنافع ودفع الكربات وتحقيق الغايات، قالوا: ما ترجع عن قولك هذا؟ قال: لا، فأتي به وهو العالم النحرير العلامة الذي ألف من أشهر كتبه تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، يقول في مقدمة هذا الكتاب: وإني لأعرف رجال الحديث أكثر من معرفتي بأهل الدرعية. وهذا من علمه وتحقيقه، هذا الرجل لما فتن في هذا الباب، في باب التوحيد ثبت ولزم عقيدة الأنبياء والمرسلين، ماذا فعل به؟ عزفت الموسيقا بين يديه تبكيتاً له، ثم ربط في فوهة المنجنيق وأطلقت قذائفه فتطايرت أشلاؤه رحمه الله، هل مات سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ؟ لا، ما مات، فلا زال تيسير العزيز الحميد من أشهر شروحات كتاب التوحيد التي يتداولها طلبة العلم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً في هذه البلاد وفي غيرها، إذاً حينما يكون للحياة معنى سنظل أحياء ولو متنا، سنظل أحياء وإن كنا في القبور، سنظل أحياء وإن كنا في اللحود.
ليس من مات فاستراح بـميت إنما الميت ميت الأحياء |
أيها الأحبة! لا تظنوا أن من دفن انتهت حياته، انتهت المرحلة الأولى من الحياة، وانتقل إلى المرحلة الثانية ألا وهي حياة البرزخ؛ فإما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار، إما أن يقول: ربّ أقم الساعة، ربّ أقم الساعة، لما يرى من نعيم في حياة البرزخ، وإما أن يقول: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة، مما يرى من بدايات العذاب في دار البرزخ، والمرحلة الثالثة الحياة الأبدية حياة الجنة أو حياة النار، حياة في نعيم أو حياة في جحيم، حياة السعداء أو حياة الأشقياء، ينبغي أن نعرف أن معنى الحياة أن تمتد به آفاقنا وتفكيرنا وسعينا وحركاتنا وجهودنا لكي نبلغ تلك المنازل، حينئذ كما قال الإمام أحمد : حينما نضع أول خطوة أو أول قدم في الجنة، نكون قد بلغنا الحياة الحقيقية. وهذه مراحل قبل الحياة، أو مراحل أولية فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
[لقمان:33] الحياة الدنيا من غرته فليست لحياته معنى،
وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ
[لقمان:33] إنما الحياة الحقيقية هي الدار الآخرة والحيوان الكامل
وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ
[العنكبوت:64].
طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار |
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار |
الحياة، اسأل نفسك يا من تظن أنك الآن في الحياة الحقيقية، أخي الكريم هل عافيتك لا يكدرها المرض؟ هل حياتك لا يهدمها الموت؟ هل اجتماعك لا ينغصه الفراق؟ هل ملذاتك لا تكدرها المخاوف؟
يا نائم الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا |
والليالي من الزمان حبالى مثقلات يلدن كل عجيب |
ما حل بغيرك يحل بك، أقل ما فيه السقم والموت، من الذي رأيته سالماً لا ينصب ولا يمرض ولا يتعب؟ ومن رأيت مخلدا؟
ولو كانت الأعمار تبقى لواحد رأيت رسول الله حياً مخلدا |
إذاً فليست هذه بحياة، أين أبوك؟ أين جدك؟ أين أمك؟ أين ذهبوا؟ اسألوا الملوك أين ذهبوا؟ هل نزل في القبور معهم خدم؟ هل نزل معهم الوزراء؟ اسألوا الأثرياء هل فتح البريد الإلكتروني في اللحود والقبور؟ اسألوا الأغنياء هل نزل بالشيكات والأرصدة في اللحود؟ اسألوا الرؤساء حينما يقبر أحدهم كسائر الناس وربما تتجول الكلاب في المقابر فتبول على قبري أو قبرك أو قبر أي ملك من الملوك، لا قيمة لهذا البدن لا مكانة لهذا البدن، إنما القيمة والمكانة والمنزلة الحقيقية إنما هي في هذه الروح، الروح إن كانت متعلقة بالله جل وعلا فلتبشر بخير عظيم وفضل عميم في الدنيا والآخرة.
ولا تظنوا أن العمل الصالح في الحياة الدنيا لا يجد العبد نتيجته إلا في الآخرة، لا، جل ربنا أن يعامله العبد نقداً فيجازيه
نسيئة، إن البشرى والبركة والنعم وحسن الجزاء والثواب هو في الدنيا وهو أيضا في الآخرة: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً
[الكهف:30]،
إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
[التوبة:120].
فيا أحبابنا! هل من الأحياء من لا ينام إلا وقد قلب عينه في فيلم السهرة ولا ينام إلا الساعة الحادية عشرة والنصف؟ أو في المسلسلات اليومية؟ أسألكم بالله هل هذه حياة؟ أهذه حياة أن يسهر الإنسان في الليل على الأفلام والمسلسلات، ينام متأخراً ويتخلف عن صلاة الفجر، يخرج إلى عمله متأخراً، يقابل الناس بوجه عبوس قمطرير، ضعيف في الصلاة لا يحضر قلبه، بطيء حينما يقوم إليها، لا يخشع لذكر الله، لا تدمع عينه من خوف الله، لا يرقب في مؤمن إِلاً ولا ذمة، إن وجد مالاً قبضه لا يسأل عن حله أو حرمته، أهذه حياة؟! لا، هذه شريعة الذئاب، هذه مناهج الغاب، هذه حياة السباع التي يبغي بعضهم على بعض.
الحياة أن ترى إشراقه الصباح فتقول: أصبحنا وأصبح الملك لله، والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، رب أسألك خير هذا اليوم وخير ما بعده، وأعوذ بك من شر هذا اليوم وشر ما بعده، رب أعوذ بك من عذاب النار وعذاب في القبر، الحياة أن تدخل البيت فتقول: باسم الله اللهم أسألك خير المولج وخير المخرج، الحياة حينما تخرج أن تقول: بسم الله توكلت على الله، باسم الله خرجنا وعلى الله توكلنا، اللهم إني أعوذ بك أن أزل أو أُزل، أو أضل أو أُضل، أو أظلم أو أُظلم، أو أجهل أو يجهل علي، الحياة أن تلقى المسلمين فما ترى أحداً من المسلمين إلا ابتسمت في وجهه لماذا؟ لأنها تدنيك إلى درجات الحياة الحقيقية، وتبسمك في وجه أخيك صدقة، الحياة أن تجد قلبك حاضراً بين يدي الله وفي تلاوة كلام الله، الحياة أن تجد من نفسك استعداداً للقاء الله جل وعلا، هذه الحياة، أما حياة الذين ضاعت -كما قلت- لياليهم في السهر والعبث والضياع والغيبة والنميمة فليست هذه والله بحياة، ليست هذه والله بحياة، والحياة الحقيقية كما قال عنها أحد علماء السلف: [إننا لفي نعمة ونعيم لو علمها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف].
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد |
رب لحد قد صار لحداً مـراراً والهاً من تزاحم الأضداد |
أيها الأحبة! كم عاش على الأرض قبلكم؟ أمم كثيرة وملوك كثر! وأثرياء كثر! ولكن ما ذكر إلا طائفة كانت حياتهم حقيقية فهل تجعلون لحياتكم معنى؟ هل تجددون نمط الحياة فيما يرضي الله جل وعلا؟ هل تنتقل الحياة من الأنانية والأثرة وحب الذات والسؤال عن النفس والاقتيات الشخصي إلى الحياة الواسعة لخدمة قضايا المسلمين والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر الخير والمساهمة فيه، والدعاء للصالحين، على الأقل حياة القلوب بالدعاء لهؤلاء فيما يرضي الله جل وعلا.
ربوا البنات على الفضيلـة إنها في الشرق علة ذلك الإخفاق |
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق |
الأم روض إن تعاهده الحيا بالري أيرق أيما إيراق |
حينما يكون لحياة المرأة المسلمة معنى فإنها ستتعدى مستعلية مرتفعة محلقة بفكرها وخلقها وسمتها وصلاحها، ترتفع عن مجالس الرقص والطبل واللهو وتبادل الحديث الطويل الذي يأخذ الوقت في الأقمشة والأواني.
فهذا أيها الأحبة أمر له أكبر الأثر، والأم والزوجة والبنت لها أثر طيب، عرفنا أسراً كانت مغرقة في الفساد والضلال فانقلبت إلى رياض من الذكر والتوحيد وحفظ القرآن والحجاب والستر والحياء، أين دخلها النور؟ وأين بدأت بالاستقامة؟ من فتاة استقامت وحفظت القرآن وأصبحت حريصة في دعوة أمها وأخواتها وإخوانها حتى أثرت على من حولها جميعاً، فليس الأثر للرجال دون النساء، وليس الأثر والفعل والتأثير محصور في الرجال دون النساء، بل من النساء من فيهن خير كثير ولهن قبول كثير، فنرجو أن تحرص كل واحدة من أخواتنا اللاتي يسمعن هذا الكلام أن يكون لحياتها معنى بأن يكون لوجودها معنى وأن يكون لحياتها أثر في نفسها وذريتها ومن حولها، وأبويها وإخوانها وأخواتها وجيرانها وقريباتها.
أيها الأحبة! لا أود أن أطيل، أسأل الله جل وعلا أن يجعل أعمالنا وإياكم خالصة لوجهه، كما أسأله أن تكون حياتنا حياة طيبة، كما أسأله سبحانه أن نكون من الذين بارك الله فيهم وجعلهم مباركين أينما كانوا، كما نسأله أن تكون حياتنا طويلة ولو كنا في قبورنا، ولو كنا في لحودنا، اللهم إنا نسألك بركة الأعمال وإن كنا في اللحود، ونسألك القبول والرضا.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
الجواب: أيها الأحبة، هذا والله أمر مهم، وأعظم سبب كان شؤمه جلياً على العباد والبهائم والبلاد الربا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ
[البقرة:278-279] الربا شره خطير وشؤمه مستطير، بل إن أدنى آثار الربا أن تمحق البركات وأن يحبس القطر من السماء.
ومن أسبابه: قطيعة الأرحام وعقوق الوالدين، والغش في المعاملات، والتدليس في البيوعات، هذا أيضا من أسباب القحط ولا حول ولا قوة إلا بالله، كذلك انتشار بعض المعاصي ورضا كثير من الناس بها على أنها أمر قد فرض نفسه، الملاحظ مثلاً كل واحد يمر يجد على اليمين فيديو الأماني مثلاً، ليتهم يسمونه بأسماء حقيقية لو يقولون مثلاً: فيديو الانحراف، فيديو الإفساد فيديو الجريمة، لكان معقولاً، لكن يسمونها بغير اسمها وغاياتها، فيمر الإنسان على محل الفيديو على اعتبار أن محل الفيديو أمر طبيعي قد فرض نفسه، لا، هذه شوكة ونبتة نجسة غريبة في قلب المجتمع المسلم هنا، فلو أن كل واحد مر .. وكما قال أبو محمد بن حزم: لو اجتمع المنكرون بقلوبهم على أمر ما غُلبِوا عليه. يعني: لو أن كل من يمر على محل الفيديو وينزل قائلاً: يا أخي الكريم! اتق الله لا تكن سبباً في شؤم نفسك وأولادك والإنفاق على أهلك من السحت والحرام، اتق الله لا تفسد بيتك وتفسد أهلك وتفسد مطعمك ومشربك وملبسك وجيرانك ومجتمعك، ما ظنكم هذا الجمع الآن لو أن كل من مر على فيديو دخل إليه يعطيه شريطاً أو كتاباً وآخر ينصحه أو يدعو له، أو يسأل الله له الهداية، والذي يقول: يا أخي اترك هذا أسأل الله أن يبدلك خيراً منه، هل تظنون أن صاحب هذا المنكر سيبقى على ضلالته وإمعانه وانحرافه؟ لا والله، لو اجتمع المنكرون بقلوبهم على أمر لم يغلبوا عليه، لكن تعود الناس أن يقبلوا صوراً من المنكرات ويعتبرونها أمراً طبيعياً، فكثير من الأمور يظن بعض الناس أن هذا وضع طبيعي، خذ مثالاً آخر على ذلك: محل الأغاني، بيع المحرمات وآلات اللهو والطبل والزمر وغير ذلك، فيا إخوان لو أن كل واحد رأى منكرا أنكره بكل ما في وسعه، وأقول: أما الإنكار باليد فلا تمدن يدك إلا إن كنت مخولاً بسلطة من ولي الأمر، لماذا؟ لأننا لو فتحنا باب الإنكار باليد، لربما جاء عدو لصاحب الفيديو وكسر محله ليس غيرة له ولكن انتقاماً لذاته وليس لمرضاة الله، ويدعي ويقول: جئت لأنكر المنكر، ولا تنضبط الأمور بقاعدة، نقول: لا، إنما الإنكار بالقلب واللسان هو من مسئولياتكم: (من رأى منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه) فأنت مأمور بأن تغير ما كان تحت قدرتك وتحت صلاحياتك وتحت مسئولياتك في مؤسستك وشركتك ومتجرك ودكانك وقسمك ودائرتك، وهذا الأمر بين يديك فلا يجوز أن تقر منكراً وأنت قادر على تغييره.
أيضا من أسباب القحط: عدم شعور الناس بحاجتهم إلى الغيث والقطر، فالناس قد غرهم أن المياه تحلى من البحار، وهذه نعمة من نعم الله جل وعلا، ونرجو ألا يكون استدراجاً، نسأل الله جل وعلا ألا نكون من الذين قال الله فيهم: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ
[الأنعام:44] حتى البحار المالحة جاءت إليهم في أنابيب بيوتهم حلوة
حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ
[الأنعام:44] نسأل الله ألا نكون من أولئك. فبعض الناس لم يشعر بالحاجة إلى ذلك، وظن أن القضية مسألة مياه من البحر، محطات تحلية وتصل، ما هي الحاجة للاستسقاء؟ شغلونا في كل وقت بالاستسقاء! ما هي الحاجة إلى ذلك؟ والدليل على ذلك، أن هذا الجمع مثلاً لا تجده غداً في صلاة الاستسقاء، هذا الجمع بأكمله لا تجده غداً في صلاة الاستسقاء، بل الكثير ربما يجلس لفطوره أو يتقلب في فراشة أو يتقلب ويقول: فرصة أن نتعذر بالاستسقاء ونتأخر عن العمل قليلاً، البعض ولا أعمم -أستغفر الله- فيا أحبابنا شعورنا بعدم الحاجة إلى ذلك أمر خطير، ثم إن هذه الأنابيب التي تحلي المياه، لو شاء الله لجعل الماء جامداً حجراً صلتاً لا يسري فيها:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ
[الملك:30] أليست قدرة الله جل وعلا التي سخرت البحار المالحة، عبر الأنابيب عبر هذا التكاتف والترشيح ومختلف أساليب التحلية والتقطير وغيرها، حتى تصل إليك حلوة، أليست قدرة الله التي جعلت هذا ممكناً؟ بلى، فينبغي أن نتقي الله في أنفسنا، وأن نشعر بحاجتنا إلى الله، ونسأل الله سبحانه بأسمائه وصفاته واسمه الأعظم نستغفره ونتوب إليه ونتوكل عليه، ونثني عليه الخير كله، أن يغيثنا وأن يسقينا وأن يرحم العباد والبهائم والبلاد بمنه وكرمه إنه أرحم الراحمين.
جواب: نصيحتنا لهؤلاء الشباب أن يسألوا أنفسهم ما هو دورهم في الحياة؟ وما هي الغاية من وجودهم؟ هل سأل كل واحد منهم نفسه سؤال الجاد، وأجاب جواب الصادق، ووقف يخاطب نفسه صراحةً أو أمام مرآة ويشير إلى عينه بعينه، ويقلب الوجه بالوجه ويسأل هذا الجسم، العين خلقت للبصر، والأذن خلقت للسمع، والأنف خلق للشم والنفس، وهذا الجسم خلق لماذا؟ أتخلق كل جارحة لحكم عظيمة وهذا البدن يضيع هباء منثورا، هذا أمر عجيب، ثم أيضاً أهذا البدن يستمر على هذه الدنيا معافىً مسلماً بلا كدر ولا نكد..
ما أضيق العيش ما دامت منغصة لذاته بقدوم الموت والهرم |
أيها الإخوة! أيها الشباب! إن من عرف قيمة نفسه عرف أين ينزل بها، وخذ مثالاً على ذلك: تجد الإنسان إذا كان من أهل الثراء والمال، حينما يريد أن يسافر فيقول له موظف الخطوط: أين تريد أن نحجز لك؟ يقول: طبعاً أحجز درجة أولى، لأن الإنسان يعرف عن نفسه إنه إنسان في مرتبة عالية، رجل أعمال لا يليق به إلا درجة أولى، أو إنسان تسأله عن أمور دنياه وملابسه من أي ثياب تلبس؟ يقول: ثيابي من المحل الفلاني، المقص الذهبي، أو خياط الأمراء، لأنه يرى نفسه في الأعلى، فيما يتعلق بأمر عرض في الحياة وليس من أساسيات الحياة، سفر أو ثوب أو حذاء -أجلكم الله- أو غتره أو شيء من ذلك، لكن تعال لنفسك، السفر: درجة أولى، الغتره: شماغ ملكي، الثياب: دفة أصلي -هذه دعاية للدفة- وهلم جرا المهم يعني تجد الرجل يختار لنفسه منازل محددة في ملابسه وتنقلاته وسيارته، فأي المنـزلتين تختار لنفسك؟ رياض الجنة، وحلق الذكر أم المجالس التي تحضرها الشياطين وتفتح لأصحابها صحائف السيئات، وتكتب الملائكة على أهلها الزلات والعبارات؟ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ
[ق:18] فعجباً للناس، وعجباً للإنسان كيف يختار لنفسه في أمور تنقله، وملابسه، وذهابه وإيابه، وطعامه، وأكله وشرابه يختار أرقى الأمور، لكن بالنسبة لنفسه ومنـزلته في هذا الكون يختار أدنى الدرجات؟! سبحان الله، مجلس كهذا تغشاه الملائكة، تحفه الرحمة، تتنـزل السكينة، يذكركم الله فيمن عنده، هل أحد يترك هذا المجلس لكي يجلس على رصيف ليلعب (بلوت) أو (يعمر شيشة) أهذا معقول؟ من الذي يقال له: أتريد الطيب أم النجاسة؟ يقول: لا، لا أريد طيباً أريد نجاسة، أتريد العزة أم الهوان؟ أريد الهوان، نقول: أتريد الكرامة أم الذلة؟ يقول: أتريد أن تكتب لك الحسنات أم تكتب عليك سيئات؟ يقول: نريد أن تكتب السيئات ولا تكتب الحسنات، أتريد أن تذكر في عداد الأبرار الأخيار الأطهار، أو في عداد سقط المتاع على الأقل؟ يقول: دعني مع سقط المتاع، أنا لا أقول كل من جلس على الرصيف من سقط المتاع، لكن أقول: ينبغي لمن جلس أن يعرف كما قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والجلوس في الطرقات، قالوا يا رسول الله: ما لنا عنها بد، قال: فإن كنتم فاعلين لا محالة، فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حقه؟ قال: رد السلام وغض البصر، وكف الأذى) نعم لا أحد يمنعك أنك تجلس إذا مشيت أنت ومجموعة من إخوانك لكن اجلس على مرضاة الله، اجلس على أمر ينفعك وإخوانك، يجلس عشرة من الشباب يقرءون في كتاب، يسمعون شريطاً، يشوون دجاجاً، يشوون حماماً كما يشاءون، لا أحد يمنعك؟ لا تقل: والله هؤلاء المطاوعة عقدونا حتى على الأرصفة لا يريدون أحداً يجلس، أين تريدوننا أن نذهب؟ لا، نقول: لا حرج أن تجلس لكن بالضوابط الشرعية، أعطوا الطريق حقه، ما حقه؟ كف الأذى ورد السلام وغض البصر، أما جلسة على الطريق .. أذكر ذات مرة كنا في جدة، فمررنا على طريق اسمه الكورنيش، فرأينا شاباً مع صديق له فاتحين (الكبوت) و(الشنطة) والزجاج، والأغاني تصدح، حتى كأن الحوت منـزعج في الماء، من ارتفاع الصوت فقلت لأخي الذي كان معي: ما رأيك بأن نقف ونرى ماذا عند الشباب، ونزلنا: سلام عليكم، حيا الله الشباب، فأخرج السيجارة، تدخن يا شيخ، قلت له: شكراً جزاك الله خيراً، وجعلناه يعيد الدخان في مكانه، فقد كان لديه (باكتين) فوق بعض، وعنده الزمزمية ونحن جالسون، قلنا: يا أخي سمعنا هذا الصوت الذي هو يصدح يميناً ويساراً أو ينعق بالأحرى والله وينعب يميناً ويساراً، وأحببنا أن نسألك يا أخي الكريم، أسألك بالله هل أقصى حجر أو مدر يبلغه الصوت من الغناء تؤجر به يوم القيامة؟ الصوت الذي كلما بعد وسمع يكون لصاحبه أجر وقبول، هو صوت الحق داعي الفلاح، داعي الأذان، (إذا كنت في ماشيتك أو في غنمك فأذنت فارفع صوتك فإنه لا يبلغ مدى صوت المؤذن أو لا يبلغه حجر ولا مدر إلا شهد له يوم القيامة) يا أخي الكريم! كل من يصل له هذا الصوت يشهد عليك ولا يشهد لك يوم القيامة، يا أخي الحبيب! الله أكرمك، ليس لتجعل الدخان المضر يدخل في جوفك ويحتبس في رئتيك، يا أخي الحبيب! حياتك ثمينة، حياتك عظيمة، الله خلقك في أحسن تقويم، وأسجد الملائكة لأبيك، وجعل أحسن الخلق والإبداع والدقة والتكوين فيك
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ
[فصلت:53] أعظم الآيات (ِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ
[فصلت:53] ثم دخلنا في موضوع الوظيفة، وما الوظيفة؟ وهلم جرا، أخيراً الشاب أخذ الدخان وحطه، وأغلق سيجارته، وقصر أو أغلق الموسيقى الذي كانت معه، وكان معنا شريطان وأعطينا كل واحد منهما شريطاً، ودعونا لهم بالهداية والتوفيق وذهبنا وتركناهم.
فيا أحبابنا! نحن لا نقول ذلك حتى لا يقولوا والله هؤلاء المطاوعة يحرمون الجلوس على الأرصفة، لا، من الذي قال: هذا حرام، لكن إذا جلست فأعط الطريق حقه، وإذا جلست أيضاً تذكر أن جلوسك من حياتك، أن تشذب وتقطع وتنشر في عمرك:
والليل فاعلم والنهار كلاهـما أرواحنا فيها تعد وتحسب |
الليل والنهار مطيتان تقربان إلى الأجل، فإذا مضت ليلة قرب موتك ليلة، وإذا مضى يوم دنا موتك يوماً، فأحبابنا نقول أيضاً: إن الوقت هو الحياة، وما دمت تعرف ذلك جيداً فاحرص أن تنتفع وليكن جلوسك مثلاً أنت وخمسة وستة من إخوانك على الرصيف، إذا رأيت شاباً منحرفاً تعال دعه يجلس معكم، ابتسموا معه تبادلوا المرح والمزاح في المباح، والكلام الطيب وتألفوا قلبه، أهدوه شريطا، أعطوه كتابا انصحوه، حينئذ يكون لكل واحد منا دور ونفع ويكون للحياة معنى في كل موقع، حتى ولو كانت حياة على الرصيف فلها معنى أيضاً.
جزاكم الله خيراً وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر