أما بعد:
فإن موضوع بر الوالدين موضوعٌ عظيمٌ جداً ينبغي على المسلم أن يهتم به وأن يعيره الاهتمام الكبير، والله عز وجل قد حكم بالبر ونهى عن العقوق، فكان لزاماً علينا طاعته سبحانه وتعالى.
والتعامل مع الوالدين أدباً وفقهاً هذا هو موضوعنا، فهناك آدابٌ للتعامل مع الوالدين، وهناك أحكامٌ فقهية تتعلق بهذا الأمر.
كما قال في الآية الأخرى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [النساء:36].
وقال: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً [الإسراء:23].
فأمر بالقول الحسن، والفعل الحسن، بعدما نهى عن القول السيئ، والفعل السيئ.
فقال: (لا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) وهي أدنى كلمة تدل على التضجر والاستثقال، أو تقال للاستقذار لما شمه الإنسان، ولو توجد كلمة أدنى منها لذكرها الله محذراً منها، فلا يؤذى الوالدان ولا بأقل القليل، ولا يسمعهما كلاماً سيئاً.
(وَلا تَنْهَرْهُمَا) لا تزجرهما بالكلام، ولا تنفض يدك في وجهيهما تبرماً.
(وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) لا تسميهما باسميهما ولا تكنيهما، وإنما تقول: يا أبي! أو يا أبت! ويا أمي! وكذلك تقول لهما قولاً كريما، وهو قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ.
وقد بين الله عز وجل الباعث على البر تهييجاً للنفوس، فقال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14].
قال ابن كثير رحمه الله: وإنما يذكر تعالى تربية الوالدة وتعبها ومشقتها في سهرها ليلاً ونهاراً؛ ليذكر الولد بإحسانهما، المتقدم إليه كما قال تعالى: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:24]، ولهذا قال: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14] أي: فإني سأجزيك على ذلك أوفر جزاء.
ولقد امتدح عبده يحيى عليه السلام بأنه كان تقياً وباراً بوالديه ولم يكن جباراً عصياً، فكان مسارعاً لطاعتهما عليه الصلاة والسلام، ولم يكن مستكبراً لا عن طاعة ربه، ولا عن طاعة والديه، وحدثنا عن عيسى عليه السلام كذلك بقوله: وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً [مريم:31-32].
وحدثنا عن بر إسماعيل عليه السلام بأبيه، وأن الله لما أوحى لإبراهيم عليه السلام أن يذبح ولده إسماعيل استجاب الولد، وأذعن لأمر الله، وتواضع للأب، وقال: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:102-105].
هذا الولد الصالح البار قام يساعد أباه في بناء البيت العتيق، وقاما ببناء الكعبة معاً، وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127] وكذلك تحلق أولاد يعقوب عليه السلام حوله عند موته وهو يوصيهم: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133].
وحتى في القرآن ضرب الله لنا المثل بالبنتين الصالحتين اللتين خرجتا تسعيان على أبيهما الكبير العاجز عن العمل، وهما تذودان الغنم عن الرعاة الأجانب، حتى لا تختلط بغنم أولئك القوم، وتقفان حتى يفرغ الناس من السُقيا؛ ليسقيا، فيسر الله لهما موسى.
هاتان البارتان يسر الله لهما نبياً كريماً يسقي لهما، ويتزوج إحداهما، ويكفيهما مئونة العمل، ويقوم هو بالسُقيا عشر سنين، فإن نبي الله إذا قال فعل، هل سقى ثمانية أو عشرة؟ عشر سنين، فقضى أتم الأجلين وأوفاهما أو أكملهما.
معنى ذلك: أن بر الوالدين مقدم على الجهاد في سبيل الله، بل الخروج سعياً على الوالدين، والعمل لأجل الإنفاق على الوالدين، وتحصيل ما ينفق عليهما، ويسد حاجتهما هو نوعٌ من الجهاد، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبويه شيخين كبيرين فهو في سبيل الله) والحديث صحيح.
ولا يمكن لشخص أن يجزي أباه حقه إلا أن يجده مملوكاً فيعتقه، كما قال عليه الصلاة والسلام.
وهناك نموذج من البشر دعا جبريل عليه السلام عليه وأمن النبي عليه الصلاة والسلام: (رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه -من هو هذا؟- قال: من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة) رواه مسلم. (رغم أنفه) ذل، وحل به الخزي، والتصق أنفه بالتراب رغماً عنه، وهذا دليلٌ على حقارة هذا الإنسان.
إن بر الوالد والوالدة باب عظيم من أبواب الجنة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (الوالد أوسط أبواب الجنة) يعني: خير الأبواب وأعلاها، وهناك أبواب للجنة.
وجعل الله رضاه في رضا الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين، ما لم يأمره بمعصية.
وقال عليه الصلاة والسلام يوصي معاوية بن جاهمة بوالدته: (الزمها فإن الجنة تحت رجليها) .. (الزم رجلها فثم الجنة) وهما حديثان كلاهما حسن، وقوله: الزم رجليها ورجلها يعني تواضع، فهو لم يقل: رأسها، بل قال: (رجلها) يعني: تواضع للوالدة، وأن الجنة عند رجلها، وأن الجنة لا تنال إلا برضاها.
ولذلك -أيها الإخوة!- يجب أن تكون معاملتنا لوالدينا أعظم من معاملتنا لأصحابنا، لماذا؟ لأن الله قال عن الوالدين: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24] وقال عن الأصحاب: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215].
انتبهوا معي! أيهما أعظم؟ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215] أم وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24]؟
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24] معناها: لا بد أن تعامل والديك أعظم من معاملتك لأصحابك المتدينين؛ لأن الله قال: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215] وقال عن الوالدين: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24].
وكذلك قال عليه الصلاة والسلام، لما قال الرجل: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، فكررها الرجل ثلاثاً والنبي صلى الله عليه وسلم يجيبه الإجابة نفسها، ثم قال: ثم أبوك).
إذاً المعاملة الحسنة تكون للوالدين مقدمة على الإخوان والأصحاب.
كان هناك رجل من التابعين هو خير التابعين أويس القرني، وقد أخبر عنه النبي عليه الصلاة والسلام أنه خير التابعين، وذكر من أسباب ذلك أنه: (له والدةٌ هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره) والحديث في صحيح مسلم.
ويقول محمد بن المنكدر: "بت أغمز رجل أمي، وبات أخي يصلي ليلته، فما تسرني ليلته بليلتي". أي: لو قال: بادلني لا أبادله، ولا يسرني أن أقوم الليل وأمي تحتاج إلى أن أغمز رجلها لأجل الألم.
وكان زين العابدين -من سادات التابعين- كثير البر بأمه، حتى قيل له: [إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة؟ قال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها فأكون قد عققتها].
عبد الله بن عون نادته أمه فأجابها، فارتفع صوته فوق صوتها فأعتق رقبتين.
أبو يوسف الفقيه الذي تتلمذ على يد أبي حنيفة، وانتفع بـأبي حنيفة جداً، كان يقول: "اللهم اغفر لأبوي ولـأبي حنيفة ".
طلق بن حبيب كان يقبل رأس أمه، وكان لا يمشي فوق ظهر بيتٍ هي تحته إجلالاً لها.
مسعر بن كدام له أمٌ عابدة، كان يحمل لها اللبد إلى المسجد، فيدخله، ويبسطه، ويصلي عليه، ثم يتقدم هو لمقدمة المسجد يصلي، ثم يقعد ويجتمع الناس فيحدثهم، وهو شيخ عالم معروف، ثم بعد ذلك ينتهي مجلس الحديث، فيقوم فيطوي لبدة أمه ويرافقها إلى البيت.
حيوة بن شريح من كبار العلماء، كان يقعد في حلقة الدرس يعلم الناس، وعند مضي بعض الوقت تأتي أمه وتقول: يا حيوة ! قم ألقِ الشعير للدجاج، فيقوم ويقطع الدرس! الشيخ العالم الكبير حيوة يقطع الدرس وهو يدرس الطلاب؛ ليضع الشعير للدجاج، ثم يرجع يكمل الدرس، وهكذا..
فالوالدة حقها عظيم، وبأي شيء يجزيها الإنسان؟
هؤلاء الذين يحملون أمهاتهم، ويأتون بهم من أماكن بعيدة، هذا الحمل هل يجزيها عن حملها الذي حملته لما كان في بطنها؟
يقول ابن أبي بردة : [سمعت أبي يحدث أنه شهد ابن عمر ورجل يماني يطوف بالبيت قد حمل أمه وراء ظهره يقول: فقال: يا بن عمر! أتراني جزيتها؟ قال: لا. ولا بزفرةٍ واحدة إني لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر
وفي رواية يقول: [الله أكبر! الله أكبر! ذو الجلال الأكبر! هل ترى جازيتها يا بن عمر؟! قال: لا. ولا بطلقة واحدة] فالأم عند الولادة لها طلقاتٌ، قال: [ولا بطلقة واحدة، ولكن أحسنت، والله يثيبك عن القليل كثيراً].
هناك رجلان صالحان كانا في الطواف، فإذا أعرابيٌ معه أمه يحملها على ظهره، وهو يرتجز ويقول:
أنا لا أزال مطيتها لا أنفر وإذا الركائب ذعرت لا أذعر |
وما حملتني ووضعتني أكثر لبيك اللهم لبيك |
فقال أحدهم للآخر: تعال بنا ندخل في الطواف، لعلَّ الرحمة تنـزل فتعمنا؛ لأجل هذا المشهد الذي رأياه.
قالوا في تعريف بر الوالدة: حملها عند ضعفها، والإنسان قد يرى أحياناً أبواباً من الخير فيأتيها، ويغفل عن بر الوالدين، وربما يعاني الوالد والوالدة نفسياً من غياب هذا الولد -ولو كان صالحاً- عنهما.
وقد كان أمية رجل أدرك الجاهلية والإسلام، وله ابن اسمه كلاب، فاستعمل عمر كلاباً على الأيلة، وأرسله إلى هناك أميراً عليها -كان رجلاً أميناً صاحب دين، فاستعمله عمر- وهذا الرجل أمية اشتاق إلى الولد، فمن الحنين أنشد يقول:
لمن شيخان قد نشدا كلاباً كتاب الله لو عقل الكتابا |
أناديه فيعرض في إباءٍ فلا وأبي كلابٍ ما أصابا |
إذا سجعت حمامة بطيـن وادٍ إلى بيضاتها أدعو كلابا |
تركت أباك مرعشةً يداه وأمك ما تصيغ لها شرابا |
فإنك والتماس الأجر بعدي كباغي الماء يلتمس السرابا |
أنشدها عمر فرق له، وأرسل خلف كلاب ليأتي من الأيلة، فقدم وسأله عمر: ماذا كان يفعل بأبيه؟ ولماذا يقول هذه الأبيات؟ فقال: إنه كان يحلب له، فقال عمر لـكلاب: احلب لبناً، فحلب واختفى -أخفاه- ثم استدعى الأب فجاء أمية، فقدم له عمر الإناء، فقال الأب: إني لأشم رائحة يدي كلاب، فبكى عمر وقال: هذا كلاب، فخرج فضمه إليه، وقال: جاهد في أبويك وأعفاه. يقول ابن عبد البر عن الخبر: إنه صحيح.
لماذا كان الصحابة يقولون للنبي عليه الصلاة والسلام: فداك أبي وأمي؟ لو كان عندهم شيء أغلى من أمور الدنيا لقالوه، لكن ما عندهم، لقد ضربوا لنا أمثلة رائعة، ابن عمر مع عمر .. ابن عمرو مع عمرو بن العاص .. عائشة مع أبيها .. جابر مع أبيه .. سعد بن عبادة ولده قيس .. علي وأبناؤه الحسن والحسين .. والزبير وابنه عبد الله .. العباس وعبد الله بن عباس، وهناك أمثلة كثيرة جداً تترى من واقع الصحابة رضوان الله عليهم.
أولاً: هو من أسباب إجابة الدعاء، وأنتم تذكرون قصة أصحاب الغار، وكيف أن أحدهم كان له أبوان شيخان كبيران يسعى عليهما، وقدمهما على أولاده، وهم يتضاغون عند قدميه طيلة الليل، حتى استيقظ والداه فشربا قبل أولاده، ففرج الله شيئاً من الصخرة بسبب هذا.
ثانياً: ثم بر الوالدين يكفر الكبائر، والدليل على ذلك: أن رجلاً أتى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: (يا رسول الله! إني أصبت ذنباً عظيماً، فهل لي من توبة؟ قال: هل لك من أم؟ قال: لا. قال: هل لك من خالة؟ قال: نعم. قال: فبرها) حديثٌ صحيح رواه الترمذي .
وهذا الرجل لما أذنب الذنب العظيم والكبيرة ماذا رأى له عليه الصلاة والسلام لتكفيرها؟ بر الوالدة.
وجاء رجل إلى ابن عباس فقال: [إني خطبت امرأة فأبت أن تنكحني، وخطبها غيري فأحبت أن تنكحه، فغرت عليها فقتلتها، فهل لي من توبة؟ قال: أمك حية؟ قال: لا. قال: تب إلى الله عز وجل، وتقرب إليه ما استطعت] فذهب، قال الراوي: فسألت ابن عباس : لم سألته عن حياة أمه؟ فقال: [إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة] رواه البخاري في الأدب المفرد، وإسناده على شرط الشيخين.
وروت عائشة أيضاً أن امرأةً كانت تعمل السحر بـدومة الجندل ، قدمت المدينة تسأل عن توبتها، قالت: فرأيتها تبكي، لما لم تجد النبي عليه الصلاة والسلام فيشفيها، حتى قالت: إني لأرحمها، فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يومئذٍ متوافرون -هذه المرأة جاءت تسأل عن التوبة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد مات، فحزنت أنها لم تدركه، فجاءت تسأل الصحابة-: إني كنت أعمل السحر، فكيف أتوب؟ فما دروا ماذا يقولون، وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلم، إلا أنهم قالوا: لو كان أبواكِ حيين أو أحدهما لكانا يكفيانكِ. جود إسناده ابن كثير رحمه الله تعالى.
ثالثاً: بر الوالدين سبب البركة وزيادة الرزق، أوليس هو من صلة الرحم؟! (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه).
رابعاً: من بر أباه وأمه؛ بره أبناؤه، ومن عقهما؛ عقه أولاده، وهكذا..
قال ثابت البناني : رأيت رجلاً يضرب أباه في موضعٍ، فقيل له: ما هذا؟ فقال الأب: خلوا عنه، فإني كنت أضرب أبي في هذا الموضع، فابتليت بابني يضربني في هذا الموضع، بروا آباءكم تبركم أبناؤكم.
خامساً: ثم رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين.
فنقول: البر قولي وبدني ومالي، فيه رفقٌ ومحبة، وتجنب غليظ القول، وعدم رفع الصوت، فضلاً عن السب والشتم واللعن .. المناداة بأحب الألفاظ وليس بالاسم المجرد .. تقبيل اليد والرأس .. الإنفاق عليهما .. تعليمهما ما يحتاجان إليه في أمور دينهما ودنياهما .. طاعتهما فيما أمرا في غير معصية الله .. إدخال السرور عليهما.
لو أغضبت والدك أو والدتك وما أكثر ما يقع، فكيف تكفر؟ تكفر بإضحاكهما لحديث: (ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما) هذه هي الكفارة، فتضحكهما كما أنك أبكيتهما، وتجعل السرور يدخل عليهما كما جعلت الحزن يدخل عليهما أولاً.
لا تتقدم عليه في المشي إلا لضرورة، كظلامٍ وخوفٍ ونحوه.
لما مات عمر بن ذر قال أبوه: اللهم إني قد غفرت له ما قصر فيه من واجب حقي، فاغفر له ما قصر فيه من واجب حقك، قيل له: كيف كانت عشرته معك؟ قال: ما مشى معي قط بليلٍ إلا كان أمامي، وما مشى معي في نهارٍ إلا كان ورائي، ولا ارتقى سقفاً كنت تحته.
على الابن ألا يستنكف عن عسل البول والنجاسة التي تخرج من الوالدين عند كبر السن والإصابة بمرض السلس وعدم القدرة على التحكم في البول ثم عليه أن يساعدهما في الوضوء، كل ذلك أخذاً من قوله تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الإسراء:23].
لا يحد النظر إليهما، قال بعضهم: ما بر أباه من سدد النظر إليه.
ثم يدعو لهما أحياءً وأمواتاً، فالله عز وجل قال في كتابه مرشداً إلى هذا: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:24] وقال نوح: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح:28].
إذا احتاج للطعام تطعمه، والكسوة تكسوه، كله من قوله تعالى: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً [لقمان:15]، إذا احتاجا إلى الخدمة تخدمهما، إذا دعواك فأجبهما فوراً، إذا أمراك بأمرٍ فأطعمهما ما لم يكن معصية .. خطابك لهما بلين بدون عنف .. ترضى لهما ما ترضى لنفسك .. تنفذ عهدهما .. تكرم صديقهما .. تستغفر لهما.
بر الوالدين مراتب: أنت الآن لو حضرك طعامٌ لذيذ فأرسلت أحداً يدعو أباك لحضور الطعام فأنت بار، وأعظم منه أن تذهب أنت بنفسك لتدعو أباك، فأنت ممكن تقول للخادم أو العامل: اسكب الماء على يد أبي للتنظيف، لكن لو سكبت أنت بنفسك بدلاً من الخادم فهذا أبلغ في البر.
إذاً: أعظم شيء الدعاء للوالدين بالمغفرة والرحمة، (إن الله عز وجل يرفع درجة العبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب! أنى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك) حديث صحيح.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من أحب أن يصل أباه في قبره، فليصل إخوان أبيه من بعده).
فأجاب: أما مطالبتهما له في الآخرة، فلا طريق إلى إبطالها.
ولكن ينبغي له بعد الندم على ذلك أن يكثر من الاستغفار لهما والدعاء، وأن يتصدق عنهما إن أمكن، وأن يكرم من كانا يحبان إكرامه من صديقٍ لهما ونحوه، وأن يصل رحمهما، وأن يقضي دينهما، أو ما تيسر له من ذلك.
ما حكم الحج عن الوالدين والعمرة عنهما؟ لو كانا حيين عاجزين لم يحجا الفريضة جاز الحج عنهما، وكذلك العمرة.
قارن بين من عق والديه وماتا ساخطين عليه، وبين من يموت أبوه وأمه راضيين عنه، قال رجل: عزيت شخصاً في أمه، فقال: لكن الذي يخفف عني، أن أمتي ماتت بين يدي وأنا أحملها، وهي تقول: أموت وأنا راضية عنك، وتشهدت وماتت.
وإيذاء الوالدين -أيها الإخوة- وعقوقهما أمر سيئ جداً ذكره الله في كتابه، وقد ذكر صورة شنيعة، فقال: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ [الأحقاف:17-18].
فهذا نعت عاق الوالدين، وهما يجتهدان له في النصيحة، ويدعوانه إلى الله، فلا يزيده ذلك إلا عقوقاً، ونفوراً، وعتواً، وتمرداً، وتمادياً في الجهل، وما قصة ولد نوح عنا ببعيدة، وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [هود:41-43] الأبوة الملهوفة تهتف بالولد الشارد، ولكن البنوة العاقة، والفتوة المغرورة تأبى هذا، والأبوة المدركة ترسل النداء الأخير، (لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) والمغرور يأبى الإجابة، والموجة تحسم الموقف، ولما هدأت العاصفة، وسكن الهول، استيقظت لهفة الوالد المفجوع رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هود:45] فجاء الرد بأن الأهل عند الله ليسوا قرابة الدم واللحم، وإنما هم قرابة العقيدة، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود:46] انقطعت العلاقات لأجل التوحيد والشرك.
لقد حرم الله العقوق، وجعله من أكبر الكبائر، (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات) والله لا ينظر إلى العاق يوم القيامة، كما جاء في الحديث الصحيح: (ثلاثةٌ لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان عطاؤه) وفي رواية: (لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، والرجلة من النساء) وفي رواية: (ثلاثةٌ لا يقبل الله عز وجل منهم صرفاً ولا عدلاً: عاقٌ، ومنان، ومكذب بالقدر) وإسناده حسن.
وجاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (يا رسول الله! شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الخمس، وأديت زكاة مالي، وصمت رمضان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا -ونصع بإصبعيه- ما لم يعق والديه) رواه ابن خزيمة وابن حبان، وأخرجه أحمد والطبراني بإسنادين أحدهما صحيح، والحديث: (ملعون من عق والديه).
قال العلماء: أما جزاؤه في الدنيا فهو من باب التعزير، ويختلف قدره باختلاف حاله وحال فاعله، فإن تعدى على أبويه أو أحدهما بالشتم، أو بالضرب -مثلاً- عزراه، أو عزره الإمام بطلبهما -والقاضي نائب عن الإمام- إن كانا مشتومين، أو مضروبين معاً، أو بطلب من كان منهما معتدى عليه بذلك، فلو اشتكت الأم على الولد عند القاضي فإنه يعزره، إذا ثبت عليه العقوق بالشتم أو الضرب أو غيره، فإن عفا المشتوم أو المضروب كان ولي الأمر بعد عفوه على خياره، في فعل الأصلح من التعزير تقويماً، أو الصفح عنه عفواً، فإن تعافوا عن الشتم والضرب قبل الترافع للإمام سقط التعزير.
لكن كيف يكون التعزير؟ شخص عاق رفع أمره إلى القاضي ماذا يفعل فيه القاضي؟ يكون تعزيره بالحبس على حسب الذنب والهفوة، أو بالضرب، أو التأنيب بالكلام العنيف، أو بغير ذلك مما به ينـزجر ويرتدع، ومن الممكن أن يكتب لمرجعه في العمل في القضية، ليعزر بما يردعه.
وحاله وحال أبيه كقول الشاعر:
أريد حياته ويريد موتي |
والأب ربما يتمنى أنه لم يولد له هذا الولد، وأنه لو كان عقيماً كان أحسن.
كان هناك شاب مكب على اللهو واللعب لا يفيق عنه، وكان له والد صاحب دين، وكان كثيراً ما يعظ هذا الابن، ويقول: يا بني! احذر هفوات الشباب وعثراته، فإن لله سطوات ونقمات ما هي بالظالمين ببعيد، وكلما ازداد عليه بالنصيحة ازداد ذاك في العقوق وجار على أبيه، وفي يوم من الأيام، وهو ينصحه على حسب العادة وإذا بالولد يمد يده على أبيه ويضربه، فحلف الأب بالله مجتهداً ليأتين بيت الله الحرام ويتعلق بأستار الكعبة ويدعو على ولده، فخرج حتى أتى بيت الله الحرام، وامسك بأستار الكعبة وقال:
يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا عرض المهامه من قربٍ ومن بعد |
إني أتيتك يا من لا يخيب مـن يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمد |
هذا منازل لا يرتد عن عقـقي فخذ بحقي يا رحمن من ولدي |
وشل منه بحولٍ منك جانبه يا من تقدس لم يولد ولم يلد |
فما استتم كلامه حتى يبس شق الولد الأيمن.
وهذا ينهب مال أبيه، وهذا يطرد أباه من البيت، وهذا يمنع عنه النفقة، وهذا يرفسه، وهذا يطالب بالحجر على أبيه، وهذا يقول لأبيه: أنت أخذت حقك من الدنيا فيكفيك، قد مَلَّكَ الزمان، وسئمتك الحياة، فيكفي ما أخذت.
ويذكر أن أباً كان له ولد يضربه، فيقول: دعوة والد، لقد ضربت أبي في هذا الموضع.
ثلاث دعوات مستجابات -يا إخوان!- لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده.
فليحذر الأبناء من دعوة الآباء والأمهات، فقد تكون ساعة إجابة وحينئذٍ لا ينفع الندم.
وبعضهم يتكبر على أبويه؛ لأنه صاحب شهادة جامعية، وهما أميان، وعندما جاء مع بعض أصحابه الذين يدرسون معه في الخارج خجل أن يقول لهما: هذا القروي أبي، فقال: هذا الخادم الذي ينظف البيت، ماذا تتصورون موقف أبيه لو علم بذلك؟ ولا يستحي أن يقول لزملائه في المجلس وهو يشير إلى أبيه الطاعن في السن، خفيف السمع: هذا (اكس فاير) وهو قد أتى من الخارج متعلماً الإنجليزية، يقول: هذا (اكس فاير) وهي كلمة بالإنجليزي معناها انتهت صلاحيته.
يأخذ المال من أحد أبويه ويقول: أعطني سلفة وأنا أرجعها لك، ثم لا يردها، ويغافل أمه المسكينة، ليستلف منها ثم لا يردها، وهناك شخص استلف من أمه عشرين ألفاً ولم يرجعها، وآخر أخذ من والده اثنى عشر ألفاً ولم يرجعها، ولما طالبت الأم الأول قال: أنتِ ساكنة معي في البيت ثلاث سنين، تأكلين وتشربين، اعتبري العشرين ألفاً إيجار حق الثلاث السنوات، ليس لكِ شيء.
وبعض الأبناء لا يلبون احتياجات آبائهم، ولو طُلب منه شيء جلس يتهدد ويتوعد، وبنت تقول لأمها: إذا طلبتِ مني شيئاً زيادة لا أدخل بيتكِ، ولا أسمح لكِ أن تدخلي بيتي.
قال لي شخص يعمل في الإسعاف في ليلة الأحد: طلبنا مرةً إلى أحد البيوت، وهو بيت كبير عظيم، فدخلناه، فقادنا الذي فتح لنا وقال: تعالوا ورائي، فهنا حالة مرضية، وأخذنا إلى غرفة صغيرة موجودة في البيت، يقول: نظنها مخزن أو غرفة غسالة، وعندما فتحنا وجدنا عجوزاً على سرير، في غرفة منتنة، قذرة، رائحتها عفنة، وعرفنا بعد ذلك أنه أبوه، قال: عالجوه، وانظروا وضعه فإنه إذا مات علينا تصير مشكلة، قالوا: هذا البيت الكبير ما وسع هذا الأب، ضاق هذا البيت الكبير عن هذا الأب.
وآخر ذهب وقال لزوجته: اركبي معي، قالت: أين ستذهب بي؟ قال: اركبي، وأخذها إلى المحكمة. قالت: ماذا تريد؟ قال: أريد أن أسجل لك البيت باسمك. فهو عنده قصر كبير، قالت: ما يحتاج، أنا وعيالي لن نختلف، قال: لا. أسجله باسمك أحسن، فسجل البيت باسم زوجته، فما مر على الزوج عشرة أيام إلا واختاره الله ومات، وأول ما مات جاء الأولاد، وقالوا لأمهم: هذا البيت كبير علينا، وما في داعي لكل هذا، فنحن نريد أن نبيعه ونأخذ لك شقة صغيرة على قدرك، وهذا البيت ما تحتاجينه، قالت في نفسها: الله يرحم الشيخ -زوجها- فعلاً حسب للمستقبل. قالت لهم: الآن فترة العدة، وتعرفون أن في العدة يجب على الزوجة أن تعتد في بيت الزوج، اتركوا لي البيت حق عشرة أيام وإذا انتهت العدة تعالوا إليَّ.
وفي اليوم العاشر على الموعد جاءوا، قالوا: موضوع البيت، قالت: موضوع البيت، انظروا الورقة هذه؟ هذه صورة العقد وعندي عشر صور، وعندي الأصل في مكان غير البيت هذا، هذا البيت سجله أبوكم -يا عاقين- باسمي قبل وفاته رحمه الله، فهو يعلم هذه الخلفة التي خلفها قبل أن يموت، فهو حسب حسابكم، فكل واحد يأخذ أثاثه ويخرج خارج البيت، ما أحد له حق في البيت. هذا بيتي، اطلعوا من البيت. فأخذ كل واحد أثاثه وطلع مدحوراً مقبوحاً.
وهذا كله في الوفاء، وهذا شيء من الأمثلة الكثيرة التي تحدث في هذا الزمن.
وآخرون أبوهم عنده عمارة، وهم يريدون أن يأخذوا العمارة، وأبوهم صار يخرف في آخر عمره، وصار يفقد الذاكرة أحياناً، فقالوا له: أنت تحب البر، فلذلك سوف نخرج إلى البر، ففرح وظن أن أولاده في النهاية سيعملون له رحلة، فهو يطالبهم بها منذ زمن وهم يرفضون بحجة أنهم مشغولون، فأخذوه إلى البر في مكان بعيد في الصحراء، ونصبوا الخيمة وجلسوا، إلا أن الرجل هذا جاءت له الحالة المعروفة التي يغيب فيها عقله، ويدخل في حالة الخرف هذه، فقال أحدهم: أنتم تقدموا وأنا ألحق بكم، ولما اطمأن أن الأب هذا لن يعود إلى عقله بسرعة، ترك أباه ومشى، وبقي الأب مرمياً بالصحراء وحده، فقدر الله أن يعود إلى عقله قبل أن يموت، فقام يمشي في الصحراء هائماً على وجهه، لا يدري أين يذهب، فهام على وجهه، لكن قدر الله أن يصل إلى الطريق الرئيسي بعد مدة، ليراه صاحب سيارة فيركبه، وفي الطريق بدأ الأب يستوعب، ويعود إليه عقله، وصاحب السيارة يقول: أين تريد؟ فقال: أوصلني إلى البلدة الفلانية، فأول ما وصل وجد صاحب المكتب العقاري الذي قال له: إن أبناءك قالوا أنك تريد تبيع العمارة، فأخذ أوراق العمارة وذهب إلى ملجأ العجزة، ودخل على مدير الملجأ وقال: اسمع! أنا لم يعد لي مكان خارج الملجأ هذا، وقد ضاقت عليَّ الدنيا، وحدَّثه بالقصة، فهذه العمارة وقف على الملجأ، ومن الآن فصاعداً أنا سأسكن فيه، وأنا والذين معي في الملجأ نستفيد من إيراد هذه العمارة.
فهذا نتيجة العقوق الذي يفعله هؤلاء، وهم من المسلمين وموجودون بين المسلمين، هكذا يفعلون، وربما لا يقدر الولد أنه ربما يسقى بالكأس نفسه، وأن تكون أشد قسوة.
هذا عاق كان يجر أباه برجله إلى الباب، فجاء له ولد أعق منه، فكان يجره برجله إلى الشارع، فيقول: حسبك ما كنت أجر أبي إلا إلى الباب، فقال: الزائد صدقة مني عليك، أنت كنت تجر أباك إلى الباب، وأنا أجرك إلى الشارع صدقة.
أراد ولد أن يذهب بأبيه إلى مغارة ليتخلص منه؛ لأن زوجته تقول: هذا العجوز مللنا منه، فقد وسخ علينا البيت، ونجاساته في كل مكان، أخرجه وإلا لن أجلس معك.
فأخذ أباه يريد أن يذهب به إلى كهف، وقال لولده -حفيد الجد-: هات لحافاً لجدك، والولد كان ذكياً فشق اللحاف نصفين، وأخذ نصفه، فانتبه الأب فقال: لماذا أتيت بنصف اللحاف فقط؟ قال: أنا مخبي لك النصف الثاني في المستقبل.
في بعض حالات العقوق يكون زواج الابن هو السبب، فما أن تزوجه أمه حتى ينقلب رأساً على عقب، بعد أن كان باراً بأمه، ومتفقداً لاحتياجاتها أصبح الآن بعيداً عنها، لا يخدمها، ولا يستمع لنصحها، ولا يسأل عن حاجتها، ولا يتفقدها، فهو قد انشغل بالزوجة، وأخذت عليه حياته، فتشعر الأم بفراغ كبير من جهة الولد، وتزداد الغيرة، وتحس أن الزوجة أخذت ولدها عنها بالكلية، وربما تأتي زوجة الابن إلى أم زوجها في زيارة خاطفة، للمجاملة وتكلم زوجها من بيت أمه، تقول: خذ كلِّم أمك وسلم عليها، أي: هو ما عنده وقت ليزورها، فيرسل مندوبة خمس دقائق للمجاملة وانتهى الأمر.
وبعض الأبناء ينشغلون عن آبائهم باللهو مع أصدقاء السوء، والسفر إلى خارج البلاد، وينفقون أموالهم على متعهم وملذاتهم الشخصية، وإذا احتاجت الأم أو الأب نفقة تذمروا.
أنت الآن تضيع الآلاف المؤلفة في السفريات المحرمة، ولما يجيء أبوك ويقول: أعطني خمسمائة ريال، أو الأم تقول: أعطني خمسمائة، تقول: ليس عندي .. انتهى الراتب، وربما يلقي عليه بالفتات اليسير، والأم تبكي، ومن المعاناة ربما تدعو على نفسها، وعلى البطن الذي حمل الولد، وعلى الثدي الذي أرضع الولد، والولد هذا راتبه كبير ومع ذلك لا يعطي أباه، ويجعله واقفاً كالشحاذ على الباب..!!
اعترضت أم على ابنها في استعمال المخدرات، قال: هاتي مالاً، فرفضت إعطاءه المال، وهي تعرف أنه يريد يشتري مخدرات، فأخذ السكين وجلس يطعن فيها حتى ظنها أنها ماتت، فأخذ النقود وهرب، فالأم صاحت وجاء الجيران والشرطة، وأمسكوا بالابن الجاني، وكان المنظر المؤثر أمام القاضي في المحكمة أن الأم تتوسل إليه ألا يوقع العقاب بالولد.
لكن لو قال شخص: لماذا لا نصلح القضية هذه بعيد الأم، وهو عيد لطيف، فنقول: هذا العيد الذي اخترعوه الكفار وأحدثوه لما رأوا الأمومة المنسية، وأرادوا أن يذكروا أبناءهم وبناتهم المهملين لآبائهم وأمهاتهم، هل يحتاجه المسلمون؟
المسلم كل يوم يقبل رأس أبيه وأمه، ويستأذنهما في الدخول والخروج، وذاك يأتي يوماً في السنة ليرمي لها هدية ويذهب! فهم اخترعوه لقلة الوفاء، يعصي أحدهم أمه في السنة كلها ثم يأتيها يوماً في السنة بصندوق من الحلوى، وضعوا آباءهم وأمهاتهم في المصحات، ودور الرعاية!! هناك يفتخر الأب أمام الآخرين أن ابنه يزوره في الشهر مرة، ويقول: إذا لم يستطع يتصل عليَّ بالهاتف.
وأحدهم توسلت أمه أن يؤويها عنده، ففي النهاية وافق بشرط أن تعمل خادمة تجلب الأغراض من السوق إلى المنزل بالأجرة، ويخصم عليها السكن، وإذا زاد عليها يأخذ.
العقوق: كل فعلٍ يتأذى به الوالد -الأب والأم- تأذياً ليس بالهين، والعقوق أن يؤذي الولد أحد أبويه بما لو فعله مع غير أبويه لكان من جملة الصغائر، فيكون في حق الأبوين من الكبائر.
أنت الآن لو قطبت وعبست في وجه صديقك، قد لا يكون حراماً، أليس كذلك؟ لكن لو فعلت هذا العبوس في وجه أبيك أو أمك، لعد ذلك عقوقاً.
وماذا قال الله: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا [لقمان:15] ومع ذلك قال: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً [لقمان:15].
سعد بن أبي وقاص نزلت هذه الآية فيه، فقد حلفت أم سعد ألا تكلمه أبداً ولا تأكل ولا تشرب حتى يكفر بدينه، قالت: زعمت أن الله أوصاك بوالديك، وأنا أمك فأنا آمرك أن ترجع عن دينك، فمكثت ثلاثاً حتى غشي عليها من الجهد، فقام ابنٌ لها فسقاها، فجعلت تدعو على سعد ، فأنزل الله هذه الآية: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي [لقمان:15] وفيها: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً [لقمان:15] لا يمكن أن يقدم رضا أمه على العقيدة والدين إطلاقاً: [لو كان لكِ مائة نفسٍ فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني].
أبو هريرة كانت أمه مشركة، وقد دعاها مرة ً إلى الإسلام فوقعت في النبي عليه الصلاة والسلام فذهب يبكي إلى النبي عليه الصلاة والسلام ويقول: (يا رسول الله! إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليَّ فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم
أسماء جاءت تستفتي النبي عليه الصلاة والسلام في أمها المشركة، فقد جاءت أمها من مكة راغبة في صلتها، فخشيت أسماء إذا وصلت أمها أن تكون قد أخطأت في عقيدة الولاء والبراء، فجاءت تستفتي، تقول: (يا رسول الله! قدمت عليَّ أمي وهي مشركة وهي راغبة في صلتي، أفأصل أمي؟ قال: نعم. صلي أمك) لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ [الممتحنة:8] فالرحم الكافرة توصل من المال ونحوه.
وبعض العلماء فهموا وجوب النفقة على الأبوين الكافرين، فقالوا: الأبوان الكافران لهما نفقة، وعليه أن يجتنب غليظ القول معهما، ويناديهما بالكلام الطيب، ولا يتبرم بهما مع أنهما كافران، أما الاستغفار لهما بعد الممات فممنوع؛ لأن الله قال: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى [التوبة:113].
ونحن عندنا الآن في المجتمع مع انتشار الفجور والعياذ بالله هناك آباء فجرة وأمهات فاجرات، فالمعاصي قد دخلت على الكثيرين، حتى الآباء والأمهات، فقد يأتي شخص ويقول: أمي تعمل بالسحر والكهانة، وعندها ثلاث عمارات بنتها من أجرة السحر والكهانة.
والذي أبوه مرتد يسب الدين صباح مساء، ويسخر من أهل الدين، ومن الأحكام الشرعية، أو أن أباه يسكر، أو قد يجلب أدوات السكر إلى البيت، ماذا يفعل مع أبيه أو أمه في هذه الحالة؟
يقول الإمام أحمد رحمه الله: "يأمر أبويه بالمعروف وينهاهما عن المنكر -إذا رأى أباه على أمرٍ يكرهه يكلمه بغير عنفٍ ولا إساءةٍ- ولا يغلظ له في الكلام وإلا تركه -إذا ما استجاب يتركه- ويدعو له، ليس الأب كالأجنبي" هذه كلمة الإمام أحمد، قال: إذا كان أبواه يبيعان الخمر، لم يأكل من طعامهم، وخرج عنهم.
وسأل رجلٌ أبا عبد الله: إن أباه له كرم -يعني: أشجار عنب- يريد أن يعاونه على بيعها، قال: "إن علمت أنه يبيعها ممن يعصرها خمراً فلا تعاونه".
وإذا قال: فإذا اشتغلت -والعياذ بالله- أمه في أمور الدعارة، هل يبلغ عنها؟
الجواب: يبلغ عنها، وتقوم البنت بوعظ أمها الزانية، وتصبر على ما تلاقيه منها نتيجةً لذلك، وإن هددتها أنها ستغضب عليها، ولو دعت عليها صباح مساء، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا يقبل الله هذا الدعاء؛ لأنه اعتداء والله لا يحب المعتدين، ولا يقبل دعاء المعتدين.
ولو رأى أباه يضرب أمه هل يتدخل أم لا؟
نقول: يتدخل، وإن كان قد يستعمل القوة مع أبيه، لكن يبدأ يدفع بالأسهل فالأسهل، ولو أدى ذلك إلى استعمال القوة.
نأتي الآن إلى بعض المسائل الفقهية: ما هو حق الوالدين في المال؟
مال الولد حلال للأب وأطيب ما أكل الوالد من مال ولده؛ لأن ولده من كسبه كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم) حديث حسن صحيح.
ولما جاء رجل يقول للنبي عليه الصلاة والسلام: (إن أبي يريد أن يجتاح مالي، قال: أنت ومالك لأبيك) والعلماء أخذوا منه وجوب الخدمة على الولد من قوله: (أنت) فمالك لأبيك واضح، لكن ما معنى: أنت لأبيك؟ أنت لأبيك يعني تخدمه، وتقوم عليه.
وهذه أقوال العلماء في مسألة أخذ الأب من مال الابن:
القول الأول: قالوا يد الوالد مبسوطة في مال ولده يأخذ منه ما شاء، سواءً أذن الولد أم لا، ما لم يكن على وجه السرف والسفه، يعني: يضيع المال في المعاصي، والتافهات.
القول الثاني وهو قول الجمهور: لا يأخذ من ماله إلا عند الحاجة. فالنفقة واجبة للأبوين المحتاجين، فلو كانت الأم متزوجة فلا يجب على الابن أن ينفق عليها؛ لأن عندها زوجاً ينفق عليها، لكن لو كان ليس لها نفقة فيجب عليه أن ينفق عليها.
ولا يحق للابن أن يمنع أمه من الزواج، وهذه مهمة، حيث إنه قد يكون بعض الناس عندهم عادات مخالفة للشريعة، فيمنع أمه من الزواج إذا طلقها أبوه أو مات، وربما يعيرها إذا تزوجت، وهذا حرام لا يجوز، أليس من شرع الله أن تتزوج بعد انقضاء العدة؟! فلماذا يمنعوها؟!
إذاً: حديث: (يا رسول الله! إن لي مالاً وولداً وإن أبي يريد أن يجتاح مالي، قال: أنت ومالك لأبيك) يدل على وجوب إعطاء الأب.
وقد علق الخطابي رحمه الله على حديث: (إن أبي يريد أن يجتاح مالي) فقال: يشبه أن يكون ما ذكره السائل من اجتياح والده ماله إنما هو بسبب النفقة -يعني الأب محتاج للنفقة عليه- وإن مقدار ما يحتاج إليه للنفقة عليه شيءٌ كثير لا يسعه عفو ماله -يعني مال الوالد- والفضل منه، إلا أن يجتاح أصله ويأتي عليه، فلم يعذره النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرخص له في ترك النفقة وقال له: (أنت ومالك لوالدك) على معنى: أنه إذا احتاج إلى مالك أخذ منك قدر الحاجة كما يأخذ من مال نفسه، وإذا لم يكن له مال وكان له كسبٌ لزمه أن يكتسب وينفق عليه. يعني: لو كان الأب محتاجاً والولد ما عنده، الأب قال: أنا بيتي كبير، وعندي زوجتان، وعندي أولاد، وعندي فواتير الكهرباء والهاتف وأجرة الخادمة والسائق، هذا مصروفي. والابن عنده دخل لكنه محدود يكفيه فقط هو، لكن الابن يستطيع أن يعمل عملاً إضافياً ويصرف على الأب، فهل يلزم الولد أن يعمل عملاً إضافياً وينفق على الأب؟ الجواب: نعم. يلزمه ذلك.
قال: "فأما أن يكون أراد به إباحة ماله واعتراضه حتى يجتاحه ويأتي عليه لا على هذا الوجه، فلا أعلم أحداً من الفقهاء ذهب إليه والله أعلم".
إذاً: أخذ الأب من مال الابن بسبب النفقة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقوله عليه الصلاة والسلام: (أنت ومالك لأبيك) وأمثال ذلك مما جاءت به اللام للإباحة، يعني: يباح لك أن تأخذ منه، وليست اللام للملك، ولذلك يقول ابن القيم: واللام في الحديث ليست للملك قطعاً، ومن يقول: هي للإباحة أسعد بالحديث، وإلا تعطلت فائدته ودلالته.
قال ابن قدامة : فصلٌ: ولأبٍ أن يأخذ من مال ولده ما يشاء ويتملكه مع حاجة الأب إلى ما يأخذه ومع عدمها، وهذا رأي الحنابلة، صغيراً كان الوجه أم كبيراً بشرطين:
أحدهما: ألا يجحف بالابن ولا يضر به، ولا يأخذ شيئاً تعلقت به حاجته.
الثاني: ألا يأخذ من مال ولده فيعطيه الآخر، نص عليه أحمد .
فإذاً: ما هي الشروط؟
أولاً: أن يكون فاضلاً عن حاجة الولد، فلا يجوز للأب أن يقول للولد: اخرج من بيتك واجلس في الشارع، هات سيارتك واذهب على رجليك مسافة ساعتين حتى تصل إلى مكان العمل، أو هات ملابسك ويتركك عارياً.
فالابن يحتاج لأولاده وزوجته مبلغاً معيناً، وما فضل عن حاجة الولد وحاجة زوجته وأولاده فللأب أن يأخذ منه. لا ضرر ولا ضرار.
وكذلك من الشروط: ألا يأخذ من ولد ويعطي للولد الآخر.
فالأب واجب عليه أن يعدل في العطية لأولاده من ماله هو، فمن باب أولى ألا يأخذ من ولد ويعطي للثاني، فهذا يوغر صدور الأولاد على بعض.
وكذلك ألا يكون في مرض موت أحدهما.
وكذلك ألا يكون الأب كافراً والابن مسلماً؛ لأنه إذا كان الأب كافراً فلا يمكَّن في مال الولد، فالإسلام يعلو ولا يعلى كما قال العلماء.
وكذلك أن يتملك عيناً موجودة، فلا يتملك دين ابنه، فالابن إذا أقرض شخصاً لا يجوز للأب أن يقول: أنا تملكت الدين الذي لك عند فلان.
إذاً: ينبغي أن يكون عيناً موجودةً.
فإذاً: بعض العلماء قالوا: الأب يأخذ على حسب الضرورة والحاجة، وبعضهم قال: حتى بغير حاجة، لكن من الشروط أن يكون فاضلاً عن نفقة الولد وما تقدم من الشروط أيضاً.
ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي أن له ذلك؛ لأنه دينٌ ثابت، فجازت المطالبة به كغيره، وأما الحنابلة فقد قال ابن قدامة رحمه الله: ليس للولد مطالبة أبيه بدينٍ عليه، وهو مقتضى قول سفيان بن عيينة، واحتجوا بحديث: (أنت ومالك لأبيك).
لكن لو فرضنا أنه يريد أن يطالبه فلا يكون برفع دعاوى عند المحاكم، وإنما يقول: يا أبتِ أنا أحتاج إلى المال الذي اقترضته مني إذا أمكن، أي: بكل لطف يطالب به، فحتى على القول بجواز المطالبة فليس معنى ذلك أن يرفع عليه دعاوى ويشهر به ويؤذيه، ويلاحقه في بيته والأماكن التي يذهب إليها.
لذلك -أيضاً- لا تقطع يد الأب فيما أخذ من الولد، ولو بغير علم الولد، وهذا أجمعوا عليه.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجلٍ له ولد وطلب منه ما يمونه، قال: إذا كان موسراً وأبوه محتاج فعليه أن يعطيه تمام كفايته، وكذلك إخوته إذا كانوا عاجزين عن الكسب فعليه أن ينفق عليهم إذا كان قادراً على ذلك، ولأبيه أن يأخذ من ماله ما يحتاجه بغير إذن الابن وليس للابن منعه.
إذاً: أجمع العلماء على أن نفقة الوالدين الفقيرين اللذين لا كسب لهما ولا مال واجبة في مال الولد.
أولاً: أن يكونوا فقراء لا مال لهم، ولا كسب يستغنون به.
وثانياً: أن يكون ما ينفقه عليهم فاضلاً عن نفقة نفسه.
وثالثاً: أن يكون المنفق وارثاً.
الجواب: يجب أن ينفق عليه ولو كان الأب قادراً على العمل. قال ابن قدامة رحمه الله: ولا يشترط في وجوب نفقة الوالدين نقص الخلقة ولا نقص الأحكام، قال: وهذا ظاهر كلام الخرقي : فإنه أوجب نفقته مطلقاً إذا كانوا فقراء وله ما ينفقه عليهم.
فإذاً: لو كان الأب ليس عنده مال وكان قادراً على العمل يجب على الابن أن ينفق عليه. لكن لو كان له عقارات تكفيه، هل يجب على الابن أن ينفق عليه؟ لا. لا يجب عليه.
قال النووي رحمه الله: هذا كله دليلٌ لعظيم فضيلة برهما، وأنه آكد من الجهاد، وفيه حجة لما قاله العلماء: إنه لا يجوز الجهاد إلا بإذنهما إذا كانا مسلمين، أو بإذن المسلم منهما، فإن كانا مشركين لم يشترط إذنهما عند الشافعي ومن وافقه.
وسألت الشيخ ابن باز رحمه الله، قلت: يا شيخ! إذا كان أبوه كافراً تاركاً للصلاة بالكلية، قال: هذا مرتد ليس له إذن ولا يستأذنه، وإذا كانت أمه مسلمة تصلي يجب عليه أن يستأذن أمه.
هذا كله إذا لم يحضر الصف ويتعين القتال، لكن إذا التقى الصفان أو استنفر الإمام الناس للخروج، أو دهم العدو البلد، لم يعد هناك استئذان للأبوين، بل يخرج للدفاع وللجهاد.
وما معنى الإذن؟ لأن بعض الأبناء يريدون الجهاد فيظل يلح على والديه حتى يملا منه، ويقولا له: اذهب، فتجده يقول: أنا فرحان؛ لأنهم وافقوا.
ماذا قال العلماء في هذا؟ قال الإمام أحمد رحمه الله: إن أذنت لك من غير أن يكون في قلبها حرجٌ أو كراهةٌ وإلا فلا تغز -انتبه معي- لأن بر الوالدين فرض عين.
وكنت يوماً واقفاً عند باب الحرم فجاء رجل يقول للشيخ ابن عثيمين: يا شيخ! أنا أريد أذهب أجاهد، فهل يجب أن أستأذن أبواي؟ قال: نعم. قال: أليس الجهاد فرض عين؟ فقال الشيخ ابن عثيمين: أليس بر الوالدين فرض عين؟
ولا ننس قبل ذلك أن أهل الأعراف قيل فيهم: إنهم أناس خرجوا إلى الجهاد بغير إذن آبائهم وأمهاتهم فماتوا في الجهاد، فمنعهم القتل في سبيل الله من دخول النار، ومنعهم عقوق آبائهم من دخول الجنة، فوقفوا على الجبل بين الجنة والنار، هذا جبل الأعراف.
إذا كان في سفره مصلحة للإنفاق على نفسه وعياله لا يمكن تحصيلها في البلد، أي: بحث عن وظيفة في البلد فلم يجد وظيفة مطلقاً، وعنده زوجة وأولاد، فجاء يريد السفر لطلب الرزق ببلد ثانية فقال أبوه: لا تسافر، فعند ذلك لا تجب طاعتهما، فهذا المضطر لا بأس، ويمكث فقط قدر الحاجة.
أما إذا وجد في البلد عند أبويه ما يغنيه فلا يجوز الخروج بغير إذن أبويه.
ولو قال: في البلد أجد آلافاً وهناك أجد ملايين، فنقول: إذا كانت تكفيك الآلاف فلا يجوز أن تسافر إلى الملايين، وإنما يبقى عند أبويه إذا منعاه من السفر والخروج.
نقول: طلب العلم الذي لا يتحصل إلا بالسفر، وهو يحتاجه -لاحظ هذين الشرطين- يخرج بغير طاعتهما، أما إذا كان يستطيع تحصيله في البلد فلا يجوز الخروج بغير إذنهما.
والآن فيه كتب، وأشرطة، ونشرات، وهاتف، ويمكن للإنسان أن يسأل.
إذاً: لا بد أن تدقق في شرط عدم إمكانية تحصيله في البلد.
قال النووي: وقد قال الشيخ الإمام أبو محمد بن عبد السلام رحمه الله: وقد حَرُم على الولد الجهاد بغير إذنهما لما شق عليهما من توقع قتله أو قطع عضو من أعضائه، ولشدة تفجعهم على ذلك، وقد ألحق بذلك كل سفرٍ يخافان فيه على نفسه أو عضوٍ من أعضائه.
إذاً: كل سفر لا يؤمن فيه الهلاك -انتبه معي، هذا الضابط مهم في قضية أسفار الولد بغير إذن الوالدين- ويشتد فيه الخطر، لا يحل للولد أن يخرج إليه بغير إذن والديه، لماذا؟ لأنهما سيخشيان ويشفقان ويتضرران ويقلقان عليه إذا خرج.
أما إذا كان السفر لا يشتد فيه خطر يحل له الخروج إذا لم يضيعهما، فإذا كان له حاجة، والسفر غير خطير، والأبوان عندهما ما يكفيهما، وعندهما من يخدمهما، والسفر غير خطير، ليس سفر الجهاد -مثلاً- فيجوز له الخروج بغير إذنهما، كما ذكر في بدائع الصنائع.
ماذا بالنسبة لمنع الوالدين ولدهما من الطاعات؟
مثلاً: شخص يريد أن يحفظ القرآن، فقالا له: لا.
أو يريد أن يدرس في مسجد فقالا له: لا. أو قال: أريد أن أصبح إماماً، فقالا: لا. أو يريد أن يصحب الأخيار، فقالا: لا، فما هو الموقف؟
سأل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله سائلٌ فقال: إنني أشتغل منذ عدة سنوات بتحفيظ القرآن الكريم في مكان بعيد عن المدينة التي يسكن فيها والداي، ولهذا يطلبان مني أن أترك التدريس وأعمل مع أحد إخواني الذين يسكنون عندهما، وأنا متردد في هذا الأمر؛ لأنني أخشى أن أترك التدريس، فيضيع الطلاب وينسوا ما حفظوه من القرآن الكريم، فما تنصحونني جزاكم الله خيراً؟
فأجابه رحمه الله: ننصحك بالاستمرار في تحفيظ القرآن الكريم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، ولما في ذلك من المصلحة العامة للمسلمين -طبعاً ما في سفر خطير هنا- ولا تلزمك طاعة والديك في ترك ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف) ويشرع لك الاعتذار إليهما بالكلام الطيب والأسلوب الحسن، وبالله التوفيق.
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: إذا أمرني والداي بأن أترك أصحاباً طيبين وزملاء أخياراً وألا أسافر معهم لأقضي عمرة، مع العلم بأني في طريقي إلى الالتزام، فهل تجب عليَّ طاعتهما في هذه الحالة؟
فأجاب: -هذا سؤال يعرض لكثير من الشباب الآن- ليس عليك طاعتهما في معصية الله، ولا فيما يضرك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف) وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) فالذي ينهاك عن صحبة الأخيار لا تطعه، لا الوالدان ولا غيرهما، ولا تطع أحداً في مصاحبة الأشرار أيضاً، لكن تخاطب والديك بالكلام الطيب وبالتي هي أحسن، كأن تقول: يا والدي! كذا، ويا أمي! كذا، هؤلاء طيبون، وهؤلاء أستفيد منهم، وأنتفع بهم، ويلين قلبي معهم، وأتعلم العلم، وأستفيد، فترد عليهم بالكلام الطيب، والأسلوب الحسن، لا بالعنف والشدة.
وإذا منعوك فلا تخبرهم بأنك تتبع الأخيار وتتصل بهم -اكتم الأمر- ولا تخبرهم بأنك ذهبت مع أولئك إذا كانوا لا يرضون بذلك، لكن عليك ألا تطيعهما إلا في الطاعة والمعروف، وإذا أمروك بمصاحبة الأشرار، أو أمروك بالتدخين، أو بشرب الخمر، أو بالزنا، أو بغير ذلك -طبعاً لا تستغربوا؛ لأن هناك آباء فسقة، قد يقول أحدهم لولده: لماذا لم تتعرف على بنت إلى الآن؟! ويقول للبنت: لماذا تتحجبي عند الخروج؟ ويشد الحجاب عنها وهي في الشارع، فهذه حال بعض البنات المسكينات، أو يريد من ابنته أن تذهب وتتعرف وتختلط، ويغضب إذا لم تختلط بالرجال الأجانب، وهذا من الفسق والفجور، والعياذ بالله-.
قال: فلا فلا تقطعهما ولا غيرهما في ذلك للحديثين المذكورين آنفاً، وبالله التوفيق.
فإذاً: عرفنا الآن ما هي الفتوى في قضية منع الولد من مصاحبة الأخيار، ومن حضور حلق العلم، وتحفيظ القرآن، ورحلة العمرة ... إلخ.
قال بعض العلماء: فإن كان في بلده من يفيده -يعني: هذا العلم- فلا يخرج إلا بإذنهما.
وأجاز بعض العلماء للطالب الذي عنده أهلية، وقدرة على أن يصبح مفتياً -مثلاً- أو مجتهداً ولا يستطيع تحصيل درجة الفتوى والاجتهاد إلا بالسفر من البلد، أن يخرج بغير إذنهما إذا كان السفر غير خطيرٍ، وكان عندهما ما يكفيهما، ومن يقوم عليهما بالخدمة.
وسئل الأوزاعي رحمه الله عن رجل تمنعه أمه من الخروج إلى الجمعة والجماعة؟ قال: ليطع ربه وليعص أمه.
إذاً: لا يجوز طاعة الوالدين في ترك واجب.
وإذا كان الأب والأم في بلاد الكفر، ولا يستطاع إقامة شعائر الدين فيها، والولد قد كبر ومن الممكن أن ينفصل عن الأبوين، ويستقل بنفسه، وعنده قدرة على الوظيفة، قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في هذه المسألة: الواجب على المسلم أن يحذر الإقامة في بلدٍ يدعوه إلى ما حرم الله، أو يلزمه بذلك ترك الصلاة، أو حلق اللحى، أو إتيان الفواحش مثل الزنا والخمور، فيجب عليه ترك هذه البلاد والهجرة منها؛ لأنها بلاد سوء، فلا يجوز الإقامة فيها أبداً، بل يجب أن يهاجر منها، وأن خالف وعصى والديه؛ لأن طاعة الله مقدمة، وطاعة الوالدين إنما تكون في المعروف، فكل بلدٍ لا يستطيع إظهار دينه فيه أو يجبر على المعاصي فيه يجب أن يهاجر منها.
ما حكم منع الأب ولده من حج الفريضة؟
قال ابن مفلح الحنبلي رحمه الله: لا يجوز لوالدٍ منع ولده من حجٍ واجب، ولا تحليله منه، فإذا قال له تحلل وارجع، فإنه لا يجوز له ذلك، ولا يجوز للولد طاعته فيه.
وقال ابن قدامة: ليس للوالد منع ولده من الحج الواجب، ولا تحليله من إحرامه.
وقد سألت الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله فقلت: يا شيخ! هذا شاب يسأل ويقول: إن أباه هدده وقال: لو ذهبت إلى الحج -وهو حج الفريضة- لأعاقبنك بعد رجوعك وأضربنك ضرباً مبرحاً، وهدده وتوعده بالعقوبة الشديدة.
فقال الشيخ رحمه الله: العقاب ظني فيذهب، ويكفيه الله شره.
المستحبات متعددة، فهناك سنن راتبة، وهناك صلوات نافلة أخرى، وصيام نفل، وحج نفل، فما هو الحكم في هذه القضية؟
أما السنة الراتبة مثل حضور الجماعات في المساجد، وركعتي الفجر، والوتر وما أشبه ذلك، فإن دعواه لحاجتهما المرة بعد المرة فليطعهما، يعني: مرة دعواه وهو يصلي سنة راتبة، فعليه أن يقطع ويطيع، لكن لو قالا له: ممنوع أن تصلي السنن الرواتب أبداً، فلا يلزمه طاعتهما.
قال الطرطوشي رحمه الله: وأما إن كان ذلك على الدوام واللزوم فلا طاعة لهما فيه؛ لأن فيه إماتة لشعائر الإسلام، وسئل الإمام أحمد عن رجلٍ يصوم التطوع فسأله أبواه أو أحدهما أن يفطر، قال: يروى عن الحسن أنه قال: -طبعاً الإمام أحمد كان يفتي بأقوال التابعين كثيراً-: [يفطر وله أجر البر وأجر الصوم].
وقال: إذا أمره أبواه ألا يصلي إلا المكتوبة -هذه حالة أخرى- فقال: يداريهما ويصلي.
قال الشيخ تقي الدين: ففي الصيام كره الابتداء فيه إذا نهاه، واستحب الخروج منه، وأما الصلاة، فقال: يداريهما ويصلي.
أما الخروج من الصلاة أثناء الصلاة فإنه يقطع الصلاة، فإذا كان يصلي صلاة نافلة فنادته أمه إذا كان في نهاية الصلاة أنهاها بسرعة وأجاب والدته، لكن إذا كان في أول الصلاة، وخشي أن تغضب أمه، حيث أنها نادته مرة وثنتين وثلاثاً، وهو في أول الصلاة، فإنه يقطع الصلاة النافلة ويجيبها لحديث جريج .
فبالجملة منع الولد من المستحبات عموماً كالسنن النوافل، وعلم النافلة، وحلق الرأس في الحج والعمرة، ليس لهما حقٌ في ذلك، ولا يلزم طاعتهما مع المدارة.
أما فعل المشتبهات، فقد يكون أبوه عنده كسب فيه شبهة، والابن يأكل منه، فقد قال العلماء: الأولى أن يتورع ويداريهما، فإن أكل أو أخذ فلا حرج عليه إن شاء الله. فإن كان تركه لأكل الطعام، وتركه لأخذ المال مؤثراً فيهم، -يعني: الأب كسبه مشبوه، والابن لو امتنع لتأثر الأب وترك الكسب المشبوه- يجب على الابن الامتناع والترك حتى يجعل الأب يترك المشبوه، لكن لو كان لا يترك ويأمر ولده بالأكل، قال بعض العلماء: يأكل.
الآن المشبوه ممكن ينتج من اختلاط الحلال بالحرام، أبوه يضع الأموال في البنك ويأخذ ربا ويخلطها بالإيجارات تبع العقارات، فدخل أبيه فيه الحلال والحرام متداخل، والآن يعطيه نفقة، ويعطيه مال من هذا ويقول: كل من طعامي هذا. فماذا يفعل؟
قال بعض العلماء: لا يجوز، وقال بعضهم: إذا زاد الحرام على الثلث لا يجوز، وقال بعضهم: إن كان الأكثر الحرام لا يجوز. وقال بعضهم: جائز مطلقاً ولعله هو الأقوى في المذهب، لكن يكره، وتقوى الكراهة وتضعف بحسب كثرة الحرام وقلته.
وهذه المسألة الإمام أحمد رحمه الله تردد فيها، ورفض أن يفتي وقال: ما أحسن أن يداريهم، يعني: ما يأكل ويحاول أن يداريهم، قال السفاريني رحمه الله: والذي استقر عليه المذهب عدم الحرمة، بل يكره ذلك، يقول: الكسب المختلط من الحلال والحرام الذي استقر عليه المذهب عدم الحرمة، بل يكره ذلك، وقوة الكراهة فيه وضعفها بحسب كثرة الحرام أو قلته.
وإذا كان الولد له كسب مستقل فليأكل من كسبه، وإذا كان لا كسب له فليأكل من كسب أبيه.
لكن إذا كان كسب الأب كله حرام؟ وكان الولد محتاجاً وليس له نفقة إلا من مال أبيه، فإنه يأخذ وليس عليه إثم، لكن لا يتوسع كما قال علماؤنا، بل يأخذ الكفاية فقط، وإذا علم الحرام بعينه يجتنبه ويأخذ من الآخر، قد يقول لك: أخذته رشوة من الحرام، ويقول: خذ يا ولد المصروف فالابن إذا عرف أن هذا بعينه الحرام لا يأخذه، بل يأخذ من مالٍ آخر.
مثلاً: قال: يا ولد! يجب أن تأكل هذا النوع من الأكل، ويجب أن تتزوج هذه المرأة، فلا يجب الطاعة في هذه الحالة، ولا التزوج ممن لا يرغب، وإذا كان الشخص لا يجب عليه أن يطيع في أكلةٍ تنغصه ساعة، فكيف يجب عليه أن يطيع في الزواج بامرأةٍ لا يريدها تنغص عمره كله؟!
قال الإمام أحمد رحمه الله: إن كان الرجل يخاف على نفسه، ووالداه يمنعانه من التزوج فليس لهما ذلك. لو قال: يا ولد! لا زواج إلا بعد التخرج، والولد يستطيع أن يتزوج قبل التخرج، وهو يخشى على نفسه الحرام فلا تلزم طاعة أبويه.
قال الشيخ تقي الدين : ليس لأحد الأبوين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد، وإذا امتنع لا يكون عاقاً.
وإذا قال له: يا ولد! طلق زوجتك، لماذا؟ قال: هي لم تأتِ لي بالحذاء إلى عندي، قلت لها: هاتي الحذاء فلم تأتِ به، فخلاصة مسألة طلاق الزوجة: أنه إذا كان الأب عدلاً، وكانت المرأة فيها سوء في الدين أو الخلق فيلزمه طاعة أبيه، فـعمر أمر ولده بطلاق زوجته، وأمره عليه الصلاة والسلام أن يطيع أباه عمر؛ لأن عمر عدل، ليس عنده هوى في القضية هذه، لكن إذا كان الأب صاحب هوى، والزوجة صاحبة دين وخلق حسن فلا يلزمه الطلاق.
وإذا أصرت عليه أمه يطلق زوجته للغيرة والزوجة حسنة الدين والخلق، يقول ابن تيمية: هذه من جنس هاروت وماروت في السعي في التفريق بين الزوجين، فلا يطعهما، ولا يحل له أن يطلقها لقول أمه، بل عليه أن يبر أمه وليس تطليق امرأته من برها.
إذاً: هذا بالنسبة لقضية طلاق الزوجة، وقد سئل ابن تيمية عن امرأة وزوجها متفقين، وأمه تريد الفرقة، فلم تطاوعها البنت، فهل عليها إثم في دعاء أمها عليها؟ قالت: يا بنت! تطلقي من زوجك، واطلبي الخلع، أو نكدي عليه إلى أن يطلقك.
فأجاب ابن تيمية رحمه الله وقال: إذا كانت الأم تريد التفريق بينها وبين زوجها فهي من جنس هاروت وماروت، فلا طاعة لها في ذلك، ولو دعت عليها. اللهم إلا إذا كانا مجتمعين على معصية، أو يكون أمره للبنت بمعصية الله، فالأم تتدخل تريد أن تطلق البنت؛ لأن زوجها يأمرها بالمعصية.
وسئل الإمام أحمد سؤالاً لطيفاً: أب يقول لولده: ادخل عليَّ الغرفة، والغرفة مفروشة حريراً، فقال: يلف البساط من تحت رجليه ويدخل. فيلف البساط ولا يطأ عليه إذا كان من حرير ويدخل.
وأفتى الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله بعدم جواز طاعة الوالدين في حلق اللحية.
يحاول التوفيق بشتى الوسائل، لكن لو قالت أمه: لا تبر أباك، فإن أباك طلقني، ولو زرته فإني سأدعو عليك إلى قيام الساعة، فيزوره ويخفي الزيارة، أو قال الأب للابن: لو زرت أمك وخالك وجدك وجدتك أغضب عليك إلى قيام الساعة، فيزورهم ويخفي أمر الزيارة.
لكن إذا كان لا يستطيع الإنفاق إلا على الأب أو الأم؛ لأن المال قليل عند الولد، فمن يقدم؟
يقدم الأم، فإذا أراد أن يحج عن أبيه وأمه اللذين ماتوا من غير حج الفريضة يقدم الحج عن الأم.
وهكذا في هذه المسألة.
وقد أفتى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله فقال: لا نرى أن يتوكل لأمه على أبيه، أي: في المحاكم، فإذا قالت أمه له: وكلتك في المحكمة تترافع ضد أبيك بطلب نفقة أو كذا، فنقول: لا نرى أن يتوكل لأمه ولو كانت أمه مظلومة، ولكن يشير على أبيه في دفع الضرر.
إذاً: لا يتوكل عنها في المحاكم.
بهذا انتهى الوقت وقد وصلنا تقريباً إلى نهاية الموضوع.
ونسأل الله تبارك وتعالى أن يغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر