يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة: حديثا اليوم عن موضوع من مواضيع الإيمان وأعمال القلوب، التي لا يستشعرها ولا يعيش لحظاتها إلا من أوقد الله قلبه بحرارة الإيمان، وعمَّره برياض ذكر الله سبحانه وتعالى والإقبال عليه، وخشيته في السر والعلانية. إنه موضوع فيه احتساب للأجر، وفيه صبر لله وفي ذات الله عزَّ وجلْ، وصبر على أقدار الله سبحانه، يقول الله عزَّ وجلَّ في محكم تنزيله: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [النمل:62] فمن الذي يجيب المضطر إذا رفع يديه إلى الله سبحانه وتعالى يطلب منه المدد؟ ومن الذي يجيب المسلم في لحظات الكرب والشدة وهو يهتف داعياً ربه منيباً إليه طالباً منه العون وتفريج تلك الهموم؟
وقال الله تعالى: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:6] فهذا العسر معرفة، واليسر نكرة في الآية، ولذلك قال ابن عيينة رحمه الله: أي: إن مع ذلك اليسر يسراً آخر، كقوله سبحانه: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التوبة:52] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غِيَرِه)، إن العباد إذا نزلت بهم الشدائد فإنهم سرعان ما يقنطون، والله سبحانه وتعالى جعل لكل أجل كتاباً، وجعل لهذا الهم نهاية ولهذا الكرب تفريجاً، ولكن العباد يستعجلون، والله سبحانه وتعالى يعجب ويضحك من قنوطهم ومن قرب فرجه.
وكتب عمر إلى أبي عبيدة يقول: [مهما ينزل بامرئ من شدة يجعل الله له بعدها فرجاً، وإنه لن يغلب عسر يسرين].
وهذا يعقوب عليه الصلاة والسلام عمي من كثرة البكاء والحزن على فقد ولديه، وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ [يوسف:84]، ثم تداركته رحمة الله بعد سنوات من الشدة ومفارقة الأولاد الأحباء إلى نفسه، فجمعه الله سبحانه بهما على غير ميعاد منهم.
وهذا يونس في بطن الحوت، لما نزل به البلاء دعا ربه في مكان ما دعا به أحد من الناس ربه، في جوف البطن المظلم، فاستجاب الله دعاءه.
وهذه سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيها شدائد وأهوال وكرب وهموم، ومنها شدائد المواطن التي نصره الله بها في معاركه ضد المشركين.
وهذه عائشة رضي الله عنها، لما نزل بها من الضيق الشديد عندما اتهمها المنافقون، وردد ذلك معهم الذين لم يعوا الأمور من المسلمين ولم يتثبتوا فيها، فاتهموا تلك المسلمة العفيفة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها قد وقعت في الفاحشة، وهي منها بريئة، فصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليها فلا يكلمها ولا يتلطف معها كما كان يتلطف، واشتعلت الفتنة من حولها، والألسن تلوك في عرضها، وهي البريئة، حتى بكت الدموع أياماً متواصلة، حتى انقطع دمعها وكان لا يأتيها النوم، ثم جاءها فرج الله بتبرئتها من فوق السبع الطباق، وفرَّج الله همها وأذهب كربها.
وهؤلاء الثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خُلِّفوا فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، بعد أن عزلهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن المجتمع المسلم، ونهى الناس عن تكليمهم، فصاروا غرباء في أهلهم وذويهم، حتى وصل الحال إلى أن أمر زوجاتهم بفراقهم، فصاروا كالمبتوتين من المدينة الذين لا يتصل بهم أحد ولا يكلمهم أحد، حتى نزل فرج الله سبحانه وتعالى بالتوبة عليهم، فوسَّع الله عليهم بعد أن كانوا في ضيق، ونفس عنهم بعد أن كانوا في كربة.
وهؤلاء الثلاثة من بني إسرائيل الذين دخلوا في الغار، فانطبقت عليهم الصخرة، ثم فرج الله سبحانه وتعالى عليهم بعد أن أيقنوا بالموت والهلاك.
وهذا إبراهيم وسارة نجاهما الله من الجبار الكافر الذي كان يريد أن يأخذهما.
بل إن رحمة الله واسعة تشمل الكافر لو كان في كربة عندما تنزل به إذا شاء ربك أن يفرج عنه.
فقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها: أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب فأعتقوها، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، فكان لها خباء في المسجد أو حفش -وهو البيت الصغير في ناحية من نواحي المسجد- قالت عائشة : فكانت تأتيني فتتحدث عندي فلا تجلس مجلساً عندي إلا قالت:
ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني |
فقلت لها: ما شأنك لا تقعدين معي مقعداً إلا قلت هذا؟
قالت: خرجت جويرية -أي: صبية- لبعض أهلي، وعليها وشاح من أدم -وهذه القصة في الجاهلية قبل أن تسلم هذه المرأة- فخرجت صبية من الأهل الذين كانت تعيش معهم هذه الخادمة، وخرجت معها خادمتها، وكان على هذه الصبية وشاح من أدم أي: من جلد لونه أحمر، وفي الطريق وضعته هذه الصبية أو وقع منها، فمرت به حدأة فحسبته لحماً فخطفته، قالت: فالتمسوه فلم يجدوه، جاء أهل البنت الصغيرة فبحثوا عن الوشاح فلم يجدوه، قالت: فاتهموني به، فطفقوا يفتشون، فعذبوني حتى بلغ من أمرهم أنهم طلبوه في قبلي -فتشوا قبلها- قالت: والله! إني لقائمة معهم وأنا في كربي إذ مرت الحديات حتى وازت رءوسنا، فألقته، فوقع بينهم فأخذوه، فقلت: هذا الذي اتهمتموني به وأنا منه بريئة وهو ذا، ثم كان من أمرها بعد ذلك ما كان من إسلامها.
فتأمل حال تلك المرأة المسكينة -مع أنها كانت كافرة- كيف لما نزل بها الكرب فعذبت تداركتها رحمة الله بحادثة عجيبة، ليست بمعهودة؛ أن يأتي ذلك الطائر فيلقي بالقطعة التي خطفها، والله لطيف بعباده لطفه واسع ورحمته واسعة، فإنه ينقذ العباد من الضيق، ولو كان في أعتى صوره، ولا يتخلى سبحانه عن المخلوقين.
وهذه قصة نسوقها، وقد ذكرها القاضي بهاء الدين بن شداد -رحمه الله- في كتابه: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية ، وهو كتاب يحكي تاريخ معارك المسلمين بقيادة صلاح الدين مع النصارى.
قال رحمه الله في وقعة الرمل الذي على جانب عكا ، يقول: ومن نوادر هذه الوقعة أن مملوكاً كان للسلطان يدعى سراسنقر ، وهو من المسلمين، وكان شجاعاً قد قتل من أعداء الله خلقاً عظيماً وفتك بهم، فأخذوا في قلوبهم من نكايته بهم، فمكروا به وتجمعوا له وكمنوا له، وخرج إليه بعضهم، وتراءوا له يستدرجونه ليخرج من عسكر المسلمين ليقاتلهم، فحمل عليهم -وكان شجاعاً لا يخاف- حتى صار بينهم فوقع في الكمين، ووثبوا عليه من سائر جوانبه فأمسكوه، وأخذ أحد من النصارى بشعره، وضرب الآخر رقبته بسيفه، وهم يحيطون به من كل جانب، والآخر رفع سيفه فضرب رقبة المسلم؛ لأن هذا المسلم كان قد قتل قريباً لهذا الكافر، فرفع سيفه ليضربه فماذا تظن يا أخي أن يفعل الله في تلك اللحظات؟ ماذا تظن وتحسب أن يحدث وكيف ينقذ الله رجلاً في هذا الموقف؟
يقول: فوقعت الضربة في يد الماسك بشعره، فقطعت يده وخلى عن شعر المسلم فاشتد هارباً حتى عاد إلى أصحابه، وأعداء الله يشتدون عدواً خلفه، فلم يلحقه منهم أحد، وعاد سالماً ولله الحمد.. وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً [الأحزاب:25] فتأمل لطف الله الذي أوقع ضربة الكافر على يد الماسك بشعر المسلم حتى قطعت فاستطاع أن يفلت منهم.
وهؤلاء الذين يركبون البحر فيسافرون كان لهم في الماضي شأن عظيم، وكانت تحل بهم النكبات والعواصف، حتى تكاد أن تغرقهم، يقول العلامة: صديق حسن خان -رحمه الله- في كتابه رحلة الصديق إلى البيت العتيق : ولما سار المركب من الحديدة سكن الهواء إلى ثلاثة أيام، ولم يتحرك المركب خطوة من محل القيام، وبعد ذلك هبت الريح الأزيز وجاء الغيل والمطر بالليل، ورجع المركب إلى عقبه، وسار إلى غير صوبه، فمكثنا بهذه الحالة في البحر إلى أيام، آيسين من الوصول إلى المأمول، وضاقت علينا الأرض بما رحبت من طول الركوب، ومخالفة الهواء وقلة المطعوم والمشروب، وبلغت الأنفس التراقي، وكانت الأيدي إلى السماء مرفوعة، فقلنا: سمع الله دعاء الآيسين، وهبت لنا ريح طيبة من رب العالمين إلى يومين، وكانت ضعيفة ولكنها أخرجت المركب من مجمع الجبال المستغرقة في الماء إلى ساحل النجاة، ولما قربنا من جدة قرب المركب ليلاً إلى جبل في الماء، ومن أخطر الأمور أن يقترب المركب إلى جبل في الماء، فاضطرب له المعلم اضطراباً شديداً، وربط أشرع السفينة، وعمل كل تدبير خطر له في البال، وأنزل الملاحون قوارب السفينة، وسعوا إلى جوانبه، وعلموا أن المركب لو سار قريباً لتصادمت بالجبال، فمضى هذا الليل في غاية الاضطراب، وتمت تلك الليلة بالاستغفار وإخلاص النية والتوبة، وكلمة الشهادة على الألسن، وسلموا أنفسهم للموت، ومنَّ الله علينا بالسلامة حتى طلع الفجر، وشاهدنا ذلك الجبل في ضوء النهار.
أولاً: أن الله يكفر بها الخطايا، ويرفع بها الدرجات، ويدفع الكربُ المكروبَ إلى التوبة، ويلجأ إلى الله وينكسر بين يديه، وهذا الانكسار أحب إلى الله من كثير من العبادات؛ أن ينكسر المخلوق لله سبحانه، وأن يشعر بذله أمام الله، وأن يشعر بحاجته إلى ربه وافتقاره إلى خالقه، فينقطع إلى الخالق ويترك المخلوق، وهنا يتحقق التوحيد ويتنقى من أدران الشرك بأنواعها، ويخلص الإنسان لربه.
وقد علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعية إذا نزل بنا الكرب واشتدت الأمور وضاقت علينا الأرض بما رحبت، فقد جاء في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم) وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قال: (يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث) وقال عليه السلام لـأسماء بنت عميس : (ألا أعلمك كلمات تقولينهن عند الكرب: الله ربي لا أشرك به شيئا) وقال عليه الصلاة السلام: (من أصابه هم أو غم أو سقم أو شدة فقال: الله ربي لا شريك له، كشف ذلك عنه) وعن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دعوة المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوة ذي النون إذ دعا بها في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لا يدعو بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له).
وهذه ألطاف الله قد تخفى على الكثيرين.
وكم لله من لطف خفي يدق خفاه عن فهم الذكي |
وكم يسر أتى من بعد عسر وفرج لوعة القلب الشدي |
وكم هم تساء به صباحاً فتعقبه المسرة بالعشي |
إذا ضاقت بك الأسباب يوماً فثق بالواحد الأحد العلي |
وقال أبو الحاكم علي السجستاني رحمه الله:
إذا اشتملت على اليأس القلوب وضاق بما به الصدر الرحيب |
وأوطأت المكاره واطمأنت وأرست في أماكنها الخطوب |
ولم تر لانكشاف الضر وجهاً ولا أغنى بحيلته الأريب |
أتاك على قنوط منك خوف يمن به اللطيف المستجيب |
وكل الحادثات إذا تناهت فموصول بها فرج قريب |
اللهم فرج كرباتنا، وفرج همومنا وأحزاننا، اللهم واجعل لنا من رحمتك نصيباً موفورا، اللهم واجعلنا من عبادك الصلحاء الأتقياء الأخفياء، وصلِّ اللهم على نبينا محمد، وأستغفر الله لي ولكم.
كيف نستفيد من هذا الموضوع في حياتنا العملية؟
وما هي الجوانب التي قد تحدث لنا فيها الكروب؟
وماذا يكون موقفنا فيها؟
أخي يا من تحاول أن تكون ربانياً تربي الناس بصغار العلم قبل كباره! قد تستغلق عليك بعض الأذهان، ولا تفهم المراد ولا تعي المطلوب، أو يذهب ما تريد أن ترسخه سريعاً، وقد تقع الأخطاء المخالفة لبعض أساسيات المنهج والتصور الصحيح في نفوس من تعاشرهم، وقد تواجه حالات من الاستعصاء في الانقياد وتتكرر الأخطاء في مسائل طال عليها التنبيه، وتكرر فتحس باليأس ولا جدوى، فلا يركبنك الهم، واعلم أن مع العسر يسراً، وأن فرج الفهم والتطبيق قريب، وتذكر موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة حاطب وكعب
قال الشافعي رحمه الله:
صبراً جميلاً ما أقرب الفرجا من راقب الله في كل الأمور نجا |
أخي العامل أو الموظف! قد تمر بك ساعات شدة، قد تفصل من عملك، أو تفقد وظيفتك فينزل بك الكرب ويركبك الهم، وأسئلة تدور في خلدك: ماذا ستفعل؟ وكيف تعيش؟ ومن أين تكسب اللقمة التي تضعها في أفواه أولادك؟ وما مصيرهم؟ ولكن اعلم أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وأنه يرزق الطير في جوها، والنملة في جحرها، وأن الله لا يضيع عباده، واتق الله في جميع أمورك حتى يجعل الله لك فرجاً ويرزقك من حيث لا تحتسب.
وأنبه هنا -أيها الإخوة- وأقول لبعض الناس الذين تركوا أعمالاً محرمة مثل بعض أعمال البنوك ووظائفها ولم يعثروا على وظائف، وبقوا فترات طويلة بدون عمل، حتى وقع بهم الشك والحيرة: أين قول الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]؟ ويقول: إني اتقيت الله فخرجت من العمل المحرم ولكني لم أجد عملاً.
يا أخي! إنك اتقيت الله في عمل واحد من أعمال حياتك وهو خروجك من العمل المحرم، ولكنك ربما لا تزال مقيماً على أعمال كثيرة محرمة، ربما أنك تمشي إلى معصية الله، وتنظر إلى ما حرم الله، وتسمع ما حرم الله، فكيف بعد ذلك تقول: إن الله يقول: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [الطلاق:2] وأنا ما جعل الله لي مخرجاً؟! أنت لم تتق الله إلا في شيء واحد، أين تقوى الله في بقية الأشياء؟!
إذاً: أخلص لله واترك جميع المعاصي، والله لا بد أن يجعل لك مخرجاً وفرجاً؛ لأنه وعد في الآية، لكن تقوى الله واسعة وعامة
لأن الطلاق شيء كبير، وفيه هَمٌ عظيم لمن اتخذ ذلك القرار إرضاءً لله عزَّ وجلَّ، إن الله سيجزيه على عمله ذلك ويعوضه خيراً.
أخي، يا من وقعت في ورطة فلم تعرف كيف الخلاص، وحاولت الفكاك ولكن ولات حين مناص! تذكر في لحظاتك هذه قوله تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87-88].
أخي، يا من ابتلاه الله في جسده! فهو يئن تحت وطأة المرض، ويتلوى من الوجع على فراش الإصابة، تحيط بك هموم الآلام بأنواعها. ويا من ابتلاه الله في حبيبه أو ولده فهو يحس حرارة الابتلاء في كبده، لا تيأس فإن فرج الله بالشفاء لآت، وإن لم يحصل الشفاء فهو ابتلاء ترفع به الدرجات في الجنات، وتضاعف الحسنات.. وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:83-84].
ومن رحمة الله أن جعل طعم البلاء يخف على الإنسان كلما امتد زمن البلاء، فأنت ترى المريض المزمن في مرضه اللحظات التي يعيشها الآن أهون عليه من اللحظات التي كانت عندما بدأ المرض؛ لأنه قد تعود مع أن المرض لم يخف بل إنه ربما يشتد؛ لكن الله يصبره، وعلى قدر البلاء تنزل المعونة.
تعودت مس الضر حتى ألفته وأسلمني طول البلاء إلى الصبر |
ووسع صدري للأذى كثرة الأذى وكان قديماً قد يضيق به صدري |
وكذلك الداعية إلى الله عندما يبتلى بأذى الناس ربما يجزع في المرات الأولى، ولكن يوسِّع صدره على الأذى كثرة الأذى، وعلى قدر البلاء تنزل المعونة
متى أتى النصر؟ أتى النصر عندما اشتدت الأمور، وظنوا أنه لن يأتي جَاءَهُمْ نَصْرُنَا [يوسف:110]، وهكذا لكي لا يكون النصر رخيصاً، فلو كان النصر رخيصاً لقام في كل يوم دعيٌ بدعوة لا تكلفه شيئاً، ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثاً ولعباً، فإنما هي قواعد في حياة البشر ومنهاج لهم.
يا فارج الهم عن نوح وأسرته وصاحب الحوت مولى كل مكروب |
وفارق البحر عن موسى وشيعته ومذهب الحزن عن ذي البث يعقوب |
وجاعل النار لإبراهيم باردة ورافع السقم من أوصال أيوب |
إن الأطباء لا يغنون عن وصب أنت الطبيب طبيب غير مغلوب |
اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك، نسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا.
وصلى الله وسلم على النبي الأمي محمدٍ، صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر