أما بعد:
فإن محاضرتنا في هذه الليلة ستكون في موضوع الدعوة إلى الله عز وجل.
أيها الإخوة: الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وظيفة الأنبياء والمرسلين، الدعوة إلى الله هي أشرف وظيفة: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].
ويدلك على حسن هذه الوظيفة قول الله عز وجل: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33] أمر الله عباده بالدعوة، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك، والأمر للرسول أمر للأمة فقال عز وجل: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] هذه الوظيفة التي لا خيار لنا فيها ولا بد من القيام بها، إذ القيام بها واجب تكليفي، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى أخبر عن وظيفة المؤمنين بقوله: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً [الأحزاب:39] وقد أخذ الله العهد على الأمم من قبلنا أن يبلغوا وأن يدعوا إلى الله فقال عز وجل: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187] وأمرنا صلى الله عليه وسلم بالتبليغ: (بلغوا عني ولو آية) وقال: (نضر الله امرأ سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).
وعدم القيام بواجب الدعوة يعني السكوت عن نشر العلم وتبليغه للناس، وهذا التفريط يوقعنا في محظور عظيم، يقول صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علماً فكتمه ألجمه الله سبحانه وتعالى بلجام من نار).
والداعية إلى الله عز وجل ينطلق من سمو الهدف، وينطلق من عظم الأجر الوارد في حديثه صلى الله عليه وسلم: (لئن يهدي بك الله رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) خير لك من الدنيا وما فيها.
هذه العلاقة الحساسة التي ينبني عليها نقل الدعوة، ونقل الدين، والشريعة، ونقل أوامر الله ونواهيه من الداعية إلى المدعو.
وينبغي أن نكون أيها الإخوة جميعاً دعاة إلى الله، الدعوة إلى الله ليست وظيفة أشخاص معينين، بل هي وظيفتنا كلنا، كلنا ينبغي أن نكون دعاة، كلنا ينبغي أن نبلغ، كلنا ينبغي أن نستشعر المسئولية، كلنا ينبغي أن نقوم بالواجب، كلنا يبلغ ما يستطيع أن يبلغه من هذا الدين، كلنا ينبغي أن نكون هكذا.
ولكن الناس في غفلة، وكثير منهم يحتاجون إلى دعوة لإيقاظهم، فمن هنا انقسم الناس بين داعية ومدعو، وإلا فالواجب على أفراد الأمة أن يكونوا كلهم دعاة، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، يطبقون شرع الله عز وجل، ويبلغون الدين إلى الناس كافة، وهذا الدين مهيمن على سائر الأديان، ويجب على أتباعه وحملته أن يكونوا دعاة إلى هذا المنهج.
وإن ما تجمع لدى كثير من أهل الإسلام من رصيد علمي وعملي قد بلغ بكل تأكيد عند الكثيرين حد النصاب الذي تجب الزكاة فيه، الزكاة للفقراء في العلم، والمساكين في العمل، الذين تنوعت بهم دروب البدع والمعاصي.
إن أفراد هذا المجتمع من المستحقين للزكاة، فهلا قام دعاة الإسلام بواجبهم وأخرجوا زكاة هذا العلم الذي يحملونه.
وكنت أريد أن أقول كلمة مختصرة تجمل هذا الموضوع (علاقة الداعية بالمدعو) فخطر في بالي عبارة نقرأها أحياناً في الشوارع، في اللافتات تقول: القيادة فن وذوق وأخلاق، فوجدت بعد نوع من التأمل أن استعارتها هنا مناسبة، أن الدعوة إلى الله عز وجل: فن وذوق وأخلاق، وأن قيادة البشر أصعب من قيادة السيارات وأحوج إلى الفن والذوق والأخلاق من تلك، الدعوة إلى الله علم وتطبيق لا بد من اقترانهما، تعلم واقتداء وخبرة وممارسة.
ونحن إذ نقدم هنا الجانب النظري لنؤكد على أنه سيبقى كلاماً مطوياً ما لم يتحول إلى واقع، وما لم يتبلور إلى أمور محسوسة ومرئية في هذا الواقع الذي نعيش فيه.
-علاقة الداعية بالمدعو ينبغي أن تكون خالصة لوجه الله.
-يجب أن يشعر المدعو أنك حريص عليه يا أيها الداعية وتحب له الخير.
-وهذه العلاقة لا بد أن تكون علاقة هداية وتعليم.
-ولا بد أن تكون قائمة على تحبيب الخير إليه وتبغيض الشر.
-ولا بد أن تكون هذه العلاقة قائمة على الإشفاق والرحمة، وليس على التكبر والقسوة والاحتقار.
-ولا بد أن تكون هذه العلاقة قائمة على مراعاة الأولويات.
-ولا بد أن تكون قائمة على الرفق.
-ولا بد أن يكون فيها تدرج.
-ولا بد أن تكون قائمة على الحكمة.
وهذه أمور بعضها من بعض، ولكن تفرد للدلالة على أهميتها فيكون ذكر بعضها قبل بعض من باب ذكر الخاص قبل العام لأهميته ونحو ذلك.
-وينبغي أن تكون هذه العلاقة قائمة على مراعاة الأحوال، ولا بد أن تكون هذه العلاقة كذلك قائمة على الصبر على هذا المدعو، وهي قائمة أيضاً على مراعاة المصالح والمفاسد، وتقوم كذلك على الاحترام المتبادل والمحافظة على المشاعر، وهي كذلك محتفظة بدرجة من الجدية والوقار.
-وهذه العلاقة أيضاً ذات نفع متعد لأقرباء المدعو وأصدقائه.
-وينبغي أن تكون كذلك قائمة على نفعه وخدمته، وليس على انتظار النفع منه.
-وأن تكون هذه العلاقة بعيداً عن العواطف الهوجاء.
وإليكم الآن تفصيل هذه الأمور، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما نسمع، وأن يجعل فيما نسمع حجة لنا لا حجة علينا، وأن يرزقنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً إنه سميع قريب.
وكذلك فإن هذه الدعوة لله خالصة، ليست دعوة لحزب ولا لعصبية ولا لطائفة، وإنما دعوة إلى المنهج، دعوة إلى الدين، دعوة إلى الإسلام، دعوة إلى الحق ودعوة إلى الشريعة، دعوة لهداية الناس، دعوة للبلاغ، دعوة لإقامة الحجة، ومن الطبيعي أنك إذا دعوت شخصاً فإنك ستقوم بمهمة تعليمه وتثقيفه وتربيته، فسيكون معك أو مع وسط صالح من إخوانك في الله، ولكن هذا شيء والتعصب والتحزب شيء آخر، ونسيان أن الدعوة للمنهج وللدين وليست للشخصيات ولا للطوائف هذا أمر في غاية الأهمية، وهو الذي يدل على إخلاص الداعية من عدمه.
ولذلك فإن الداعية يذكر نفسه دائماً أنه لا يدعو لنفسه وإنما يدعو لله عز وجل، ولسان حاله يقول: لو رأيت داعية غيري يفيد هذا المدعو أكثر مني من دعاة أهل السنة لتركته له، فهي بعيدة عن العصبية والحزبية.
وإذا كانت الدعوة لله والعلاقة بين الداعية والمدعو مبنية على الإخلاص لله، فإن الداعية يتحرك مع هذا المدعو يبتغي الأجر والثواب من الله، وهو يعلم تماماً أنه لا يصلح له أن يتوقف عن الدعوة، ولا يصلح له أن يدعو ساعة وساعتين أو يوماً ويومين ثم يترك الدعوة.
فهي ليست على التفرغ وإنما هي مهمة مستمرة، وإحساسه بهذا الأجر والثواب يدفعه للمواصلة وعدم التوقف، وهو يتذكر حديثه عليه الصلاة والسلام في شأن اليهود الذين عملوا من أول النهار إلى الظهر على أجر معلوم، ثم قالوا لصاحب العمل: لا نريد أن نعمل ولا نريد أجراً، فقام النصارى فعملوا من الظهر إلى العصر ثم قالوا لصاحب العمل: مللنا، لا نريد مالاً ولا أجراً ولا نريد العمل، ثم قام المسلمون، فعملوا من العصر إلى آخر النهار -إلى موعد استيفاء الأجر؛ لأن الأجر سيحل في آخر النهار؛ إذ الأجرة على من أكمل العمل إلى آخر اليوم فأخذوا أجر الفرق جميعاً.
والشعور بأن المسألة فيها حسنات، ورفع درجات، واقتداء بالأنبياء، وأنك ستحصل على مثل حسنات هذا المدعو لو اهتدى، وأن كل عمل سيقوم به هذا المدعو نتيجة دعوتك، فإن لك من الأجر مثلما يعمل، هذا هو الذي يحركك وهو الذي يدفعك ويكون عندك اندفاعاً ذاتياً، ولن تقول: تعبت أو يئست، ولن تترك شخصاً إلا لمصلحة شرعية.
وهذا الشعور هو الذي سيدفع الداعية للصبر على الصدمات والانتكاسات، قد يرجع إليه المدعو بعد إجازة وقد غير شيئاً من السنن التي كان قد تمسك بها، أو ترك واجبات أو وقع في محرمات، فيكون الصدر فسيحاً متسعاً للتلقي وهو يعلم هذا الداعية بأن هذا المدعو لم ينضج بعد: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14].
فإذاً: عندما يشعر المدعو أنك تريد الخير له فإن هذا مفتاح من مفاتيح استجابته لك، وتأثره بدعوتك إياه، وإيصال الخير إلى الآخرين.
يقتضي أن يذهب الداعية إلى المدعوين، لا أن ينتظرهم كي يأتوا هم، فإنهم قد لا يأتون على الإطلاق، ولا يقولن داعية أبداً: ما جاءني أحد يسأل عن هذا الدين وأنا في انتظار، نقول: اذهب إليهم في أماكنهم، نغشاهم في أعمالهم، في المساجد، في المحافل، في المساكن، في المصانع، في المزارع، في المدارس، في الجامعات وهكذا، وأنت تتذكره صلى الله عليه وسلم في سيرته الذي قال الرواة وأخبروا بأنه كان يذهب إلى أماكن القبائل في المواسم وفي الحج وفي الأسواق يعرض عليهم الدعوة، ويتنقل كما قال الصحابي: كنت مع أبي في الموسم فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذهب إلى القبائل، إلى أماكن تجمعاتهم، ويعرض عليهم الدعوة، يمر عليهم واحدة واحدة، ويكلمهم ويدعوهم إلى لا إله إلا الله، ويقول: يا أيها الناس من يمنعني حتى أبلغ رسالة ربي، ووراءه رجل أحول وضيء يقول لهم: لا تصدقوه إنه كذاب، من هو؟ عمه أبو لهب .
وذهب عليه الصلاة والسلام إلى الطائف فماذا يفعل اليوم بعض المتكاسلين الذين يقولون: نحن ننتظر ونقعد فإذا جاءنا أحد دعوناه، وإذا لم يأت أحد، فالحمد لله نحن في سعة وراحة.
وهذا الحرص يقتضي أن يحس الداعية أنه ينبغي أن يحاول في هذا الرجل أو هذه المرأة إذا كانت امرأة تدعو امرأة أخرى مثلاً أن تهتدي إلى الحق، وأن تبصر الحق مثلما أبصره هذا الداعية.
ثم تكون هذه العلاقة فيها تعليم؛ لأن الحرص معناه أنك ينبغي أن تثقفه وتزوده وتبصره وتقدم له المفهومات الإسلامية والتصورات الدينية التي يحتاجها هذا المدعو، ولذلك فإننا نذكر هؤلاء الناس الذين يشتغلون في الدعوة، ولكن إذا تأملت في علاقتهم بالمدعوين، وجدت علاقة استئناس وقصص وسوالف، ويظنون أنهم يقومون بالدعوة، ولو سألت هذا المدعو: ماذا استفدت من هذا الشخص الذي جلس معك؟ لما استطاع أن يأتي إلا بأمور يسيرة جداً لا تكاد تذكر، ذلك أن هذا الداعية يخدع نفسه، فيظن أنه يدعو، والحقيقة أنه يقيم علاقات اجتماعية فقط، يتداخل مع الناس، لكن في النهاية ماذا استفاد الناس؟ لا شيء.
ولأجل ذلك ينبغي أن يعد كل داعية في نفسه قبل أن يذهب إلى المدعو، ماذا يريد أن يقول له؟ ما هو المفهوم الذي سيوضحه؟ وما هو التصور الذي سيقدمه؟ وما هي الأحكام التي سيبينها؟ فإذا رجع من عنده حاسب نفسه، فقال في نفسه: يا ترى ماذا أفدته؟ ماذا قدمت له؟ هل قمت بما كنت أفكر القيام به قبل أن أزوره؟ وهكذا.
ثم على الداعية أن يتأمل ماهي هذه التصورات التي من المهم أن ينقلها إلى هذا المدعو، مثلاً: لا بد أن يكلمه عن الإيمان وأركانه، وأن يشرح له شيئاً عن الإسلام وأركانه، ومعنى الشهادتين والتوحيد وأنواعه، والمفهوم الواسع للعبادة واليوم الآخر، وتفصيلات اليوم الآخر والقيامة وما فيها، وتغيير العادات القبيحة والطباع السيئة، واتباع السنة وترك البدع، وترك تقليد الآباء والأجداد على الباطل، يذكره بعظمة الله ومراقبته، يذكره بحاجته إلى الهداية، ثم يبين له مفهوم العمل الصالح، ما هي أركان العمل الصالح، وأهمية التفقه في الدين، ويبين له أشياء عن أعمال القلوب، وصنائع المعروف، وشعب الإيمان، وحب الخير وبغض الشر، والورع وترك الشبهات، ويبين له كيد أعداء الإسلام وسعيهم لهدم هذا الدين، وهذا الضياع والتيه الذي تعيش فيه الأمم اليوم من أصحاب الحضارات الكفرية، وكيف يتخبطون، حتى لا يفتن هذا المدعو بها، ويزول إعجابه بهؤلاء الكفرة أو الفسقة المجرمين المخربين.
وهكذا يستمر في التفكير: ماذا يقدم؟ ما هي التصورات اللازمة أن تعطى لهذا المدعو؟
وبعض الدعاة أيضاً قد يظن بأن أمر المدعو بالأوامر الرسمية والإلزام يظنه من الدعوة، دون تقديم هذا التحبيب وتقديم هذا التشويق، وهذا الترغيب والترهيب، وهذا صلى الله عليه وسلم يعلمنا فيقول: (نعم الرجل
فإذاً: لا يصلح هذا الجفاء في العرض، ولا يصلح هذا النمط من الجمود في تقديم الأمور وإلا فمتى يتأثر المدعو إذا كانت الدعوة بهذه الطريقة.
كان يجلس معهم، ويعرض عليهم الأمر، ويقرأ عليهم القرآن، ويقول: يا فلان كم إلهاً تعبد؟ فيقول: ستة في الأرض وواحد في السماء، فيقول: وأيهم الذي تدخره لرغبتك ورهبتك؟ فيقول: الذي في السماء، فعرض الأمر عليه بهدوء وتؤدة، فكان في ذلك استجابة هذا الرجل وإعلانه بالشهادة ونطقه بها ودخوله في دين الإسلام.
وأما إذا كان الداعية ينظر بنظرة احتقار واستعلاء إلى هذا المدعو وانعكس هذا على التصرف، فليس إلا البغض والنفور من هذا المدعو، وليتذكر الداعية إذا قام في نفسه شيء من ذلك قول الله عز وجل: كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا [النساء:94] إذا جاء في نفسك كره أو بغض لهذا الشخص، أو احتقار له، إنه إنسان يتعاطى ويشرب ويعمل ويعمل... وبدء الأمر يتحول إلى استعلاء وتكبر عليه، وأنك ترى نفسك عالياً وهذا الآخر في أسفل سافلين، وانعكس ذلك إلى معاملة سيئة، فتذكر قول الله: كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ [النساء:94] كثيراً من الدعاة ماذا كانوا قبل أن يصبحوا دعاة، وقبل أن يلتزموا بهذا الدين؟ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ [النساء:94] كانوا عصاة وفجرة، كانوا بعيدين عن شرع الله، حتى مَنَّ الله عليهم فهداهم، فالمنة من الله إذن فلماذا احتقار الناس؟
فتقديم الدعوة بقالب التواضع، وتقديم الأفكار والمفاهيم والتصورات بقالب حسن الخلق هو الذي يؤثر فعلاً.
أما أن نقول للناس: أنت يا فاسقاً في سلوكك، ويا مبتدعاً في عملك، ويا كافراً في معتقدك، ونصنف ونسب، ونكيل ألوان وأصناف الألفاظ البذيئة للناس، فإننا لا نساهم بشيء في تقدم مستواهم، ولا في تركهم لشركهم أو بدعتهم أو معصيتهم.
فإذن الأصول قبل الفروع، المبادئ العامة قبل التفصيلات، وهكذا يكون الأمر، وسيأتي مزيد من ذكر هذه الأشياء حينما نتكلم عن التدرج، لأن الأولويات والتدرج والرفق أشياء متداخلة في عالم الدعوة إلى الله.
حتى لقد كان ذلك اليهودي يترقب أن يظهر منه عليه الصلاة والسلام هذا الأمر فظهر على حقيقته، ونهى عمر عن التغليظ على هذا الرجل، وأمر بوفاء الدين، وأمر بأن يعطى عشرين زيادة على ما اقترضه منه مقابل الترويع، وهذا الحديث الذي أخرجه أبو الشيخ في أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره، وقد ذكر الحافظ رحمه الله في الإصابة أن رجاله ثقات وفي أحدهم اختلاف بين ابن المديني وابن معين وابن أبي حاتم رحمه الله تعالى، ولكن له شاهد آخر.
والشاهد من الكلام كله: أنه صلى الله عليه وسلم في دعوته للناس كان رفيقاً رحيماً، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن شر الرعاء الحطمة) أخرجه أحمد ومسلم . والحطمة هو العنيف، والرعاء جمع راعي لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ [القصص:23] الذين يرعون الغنم أو الإبل، (إن شر الرعاء الحطمة) من هو الحطمة الذي هو شر الرعاء؟
قال شراح الحديث: هو العنيف برعاية الإبل في السوق والإيراد والإصدار، إذا أوردها الماء وأصدرها عنه وساقها إلى مكانها أو رعاها، ويلقي بعضها على بعض يعسفها ويشتد عليها ويقسو، هذا شر الرعاء.
ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً لوالي السوء، هذا الحديث له قصة: دخل عائض بن عمرو على عبيد الله بن زياد ، وكان عبيد الله بن زياد ظالماً شديداً على الناس، وعائض بن عمرو صحابي رضي الله عنه فقال: (يا بني! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن شر الرعاء الحطمة، فإياك أن تكون منهم -هذا الوالي ظالم قليل أدب- قال له: اجلس إنما أنت من نخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم) قال: أنت من النخالة، لماذا؟ لأن الصحابي هذا تأخر إسلامه، قال: أنت ما صاحبت أنت من النخالة، سوء أدب مع الصحابي.
فقال عائض رضي الله عنه: (وهل كان لهم نخالة؟ إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم).
فالداعية لا يكون حطمة مع المدعوين، لا يعسفهم ولا يشتد عليهم، وإنما يكون رفيقاً بهم.
وكذلك فإن من الأمور التي تنافي الرفق في علاقة الداعية بالمدعو: الاشتداد في الإنكار عليه والإغلاظ له إذا عمل معصية، بحيث ينفر هذا المدعو منه، وهذه قصة لطيفة تبين ذلك:
قال حماد بن سلمة: إن صلة بن أشيم رحمه الله مر عليه رجل قد أسبل إزاره، وهذا صلة بن أشيم كان له تلاميذ وأصحاب، فهم أصحابه أن يأخذوه بشدة، فقال: دعوني أنا أكفيكم، فقال صلة للرجل: يا بن أخي إن لي إليك حاجة، قال: وما حاجتك يا عم؟ انظر الشيخ الكبير يقول للرجل: يا بن أخي لي إليك حاجة، أنا أريد منك حاجة، خدمة، قال: وما حاجتك يا عم؟ قال: أحب أن ترفع إزارك، قال: نعم وكرامة. فرفع إزاره، فقال صلة لأصحابه: لو تركتموه أو قرعتموه لقال لا ولا كرامة وشتمكم.
فالأسلوب الحسن يأتي بالمردود الحسن، وهذا مثل آخر: خرج محمد بن عبد الله بن عائش رحمه الله ليلة من المسجد يريد منزله، وإذا في طريقة غلام من قريش سكران قد قبض على امرأة فجذبها فاستغاثت فاجتمع الناس عليه يضربوه وهو سكران لا يحس، فقال للناس: تنحوا عنه، ثم أخذه فقال: امض معي، فمضى معه حتى صار إلى منزله، فأدخله، فقال لبعض غلمانه: بيته عندك، فإذا أفاق من سكره فأعلمه بما كان منه، ما فعل في الشارع أمام الناس ولا تتركه ينصرف حتى تأتيني به، فلما أفاق الرجل من سكره ذكر الغلام له ذلك، فاستحيا استحياءً شديداً وهمَّ بالانصراف فقال الغلام: قد أمر أن أدخلك عليه، فقال له ابن عائش لما دخل عليه: أما استحييت لنفسك، أما استحييت لشرفك، أما استحييت من ولدك، فاتق الله وانزع عما أنت فيه، فبكى الغلام منكساً رأسه، ثم رفع رأسه وقال: عاهدت الله عهداً يسألني عنه يوم القيامة، أني لا أعود إلى الشراب ولا لشيء مما كنت فيه، وأنا تائب، فقال: أحسنت يا بني، فكان الغلام بعد ذلك يلزمه ويكتب عنه الحديث.
ومن الأمور المنافية للرفق في الدعوة: أن ينسى بعض الدعاة أنه داعية في بعض المواقف، فيخطئ المدعو ويعنفه، فلنفرض مثلاً أنه ذهب معه في نشاط ترويحي، لنفترض أنه مثلاً في لعب كرة، من باب التداخل والتجديد والترويح، فنسي الداعية نفسه أثناء اللعب، وكلما أخطأ هذا المدعو في نقل الكرات نزل عليه بالتعنيف وباللوم الشديد ونسي واجبه الدعوي، وصار همه الآن فقط في الكرات ونقلها والتسديدات والإصابات ونحو ذلك، فهذا من الأخطاء الشائعة.
وكذلك ما يحدث من بعض الدعاة من جدل عقيم في أمر دنيوي ينزل إلى مستوى المدعو، وقد يتجادل معه أي السيارتين أحسن، وأي السلعتين أجود، وهذه ليست من الدين في شيء، وينسى أنه داعية، وفي الأمور الدنيوية يتصرف مع المدعو كعامة الناس وربما جهل ونسي، ولا يتذكر أنه داعية إلا إذا طرح موضوعاً شرعياً فيه قال الله وقال رسول الله، فهذا من الانفصام النكد بين الحالتين، ولا يصلح ذلك في تصرف داعية مع مدعو.
ومما ينافي الرفق أيضاً: أن يطبق الداعية مع المدعو ما حصل معه هو شخصياً في مبدأ أمره، وقد لا يكون ذلك مناسباً للمدعو أبداً، فلنفرض أن داعية وفق برجل انتشله انتشالاً عميقاً وأحسن إليه إحساناً عظيماً ونفعه نفعاً كبيراً، وسهل له الأمور في طلب العلم والدعوة والتخلص من منكرات كثيرة، ونصحه بنصائح، فالآن هذا الداعية يريد أن هذا المدعو يقفز مثلما قفز هو، وقد لا تلائم الظروف، قد تختلف الشخصيات ويختلف الأشخاص الذين نقلوا، والذين دعوا في الأصل، والفرق بين الداعية الأول والداعية الثاني قد يكون أكبر مما يفعله هذا الداعية الجديد مع المدعو.
فلا بد من مراعاة هذه الأمور، وما كان سهلاً بالنسبة لك قد يكون شاقاً بالنسبة له، فلا تحمله ما لا يطيق.
ومن الرفق كذلك: تشجيعه في العمل وتكليفه بالأمر اليسير حتى إذا نجح فيه شعر بحماس، وشعر هذا فعلاً بقيمة العمل، وأنه أنتج وأثمر فتشجع على مزيد من السؤال.
فمنها: ألا يطالب الداعية المدعو فوراً بطلب العلم، وبالمنهجية فيه، أو بحفظ النصوص، وهو إلى الآن (خام) لم يتعود بعد على مثل هذه الأشياء، أو أن يطالبه بالارتقاء إلى مستويات عالية في الأمور الإيمانية، فيطالبه بقيام الليل وبصيام النافلة، وهكذا، والمدعو بعد لم يتعود على القيام بالفرائض، ولم تستقر نفسه وترسخ قدمه في سبيل الإسلام أو فرائض الإسلام الأساسية، فيكون مطالبته بهذه الأمور من النافلة شاقاً عليه منافياً للتدرج، وقد يفعل ذلك فترة ثم يترك الفرض والنفل.
ومن الأمور كذلك: عدم تكليف المدعو بأن يشتغل مباشرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو أن يحوله إلى داعية بطريقة قسرية، أو يدفعه دفعاً في قفزة محطمة لمثل هذه الأعمال الكبيرة التي تحتاج إلى تهيئة وتدريب ومراس ومران وهكذا.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا) وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن تبدل أحكام الإسلام لتريح الذي يستمع إليك من المدعوين، لكن أن تعلم أن هذا الدين متين، فتراعي حسن المدخل على المدعو، وأن تختار أيسر الأمرين ما لم يكن إثماً.
ومن التدرج مع المدعو: مخاطبته على قدر عقله، فإن على الداعية أن يخاطب المدعو من حيث انتهى علم هذا المدعو لا من حيث انتهى علم الداعية، من حيث انتهى فهم المدعو لا من حيث انتهى فهم الداعية.
فإن بعض الدعاة قد يتخيل أو يتصور أن المدعو الآن لا بد أن يفهم مثلما يفهم هو، ويستوعب مثلما يستوعب هو، وأنه سريع الاستنباط، وسريع الوصول إلى الأمر وفهم القضية مثله، وليس الناس بمستويات متشابهة أو متقاربة، ولذلك يقول علي رضي الله عنه كما روى عنه البخاري في صحيحه : [حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله].
ولذلك من الفوائد التي يرشد إليها كلام علي رضي الله عنه أيضاً من باب التدرج: تأليف قلب المدعو ربما يعرف من الإسلام أولاً، وعدم مخاطبته بغرائب العلم، والأشياء التي لا يطيق فهمه استيعابها، أو لا يطيق عقله فهمها.
قال ابن مسعود : [ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان فتنة لبعضهم] وقد ضرب سلفنا رحمهم الله مثلاً عظيماً في هذا.
قال الشافعي : لو أن محمد بن الحسن كان يكلمنا على قدر عقولنا، ومحمد بن الحسن عالم عظيم من العلماء وفقيه، وعقله جبار، عقله طاقة هائلة، وهو من شيوخ الشافعي.
قال الشافعي : لو أن محمد بن الحسن كان يكلمنا على قدر عقله ما فهمنا شيئاً، ولكنه كان يكلمنا على قدر عقولنا فنفهمه.
وهذا التبسيط في الأمور وحسن العرض من الحكمة في الدعوة، وقال النضر بن شميل : سئل الخليل عن مسألة - الخليل معروف من كبار علماء اللغة والقرآن والسنة أيضاً- فأبطأ في الجواب فيها، فقلت ما في هذه المسألة، وما كل هذا النظر، قال الخليل رحمه الله: فرغت من المسألة وجوابها، ولكني أريد أن أجيبك جواباً يكون أسرع إلى فهمك، يقول: أنا الآن لا أفكر في الجواب، الجواب انتهى عندي من زمان، لكني أفكر في الطريقة السهلة الميسورة التي إذا عرضتها عليك فهمت الأمر.
فتألف قلوب الناس بما يعرفون، وعدم إتيانهم بغرائب العلم من الحكمة، والتبسيط وعدم التعقيد كذلك، وتشجيع المدعو على السؤال من الأمور المهمة حتى يكون ذلك طريقاً إلى فهمه وحرصه على العلم.
ومن هذه الحكمة وداخلة في التدرج أيضاً: ما بينته عائشة رضي الله عنه فقالت: [أول ما نزل من القرآن سور المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام].
ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبداً، وهكذا.
فلا بد من تغيير النفوس شيئاً فشيئاً وإعدادها لتقبل الأوضاع الجديدة، وفطام الطفل يكون على مراحل، وهكذا يكون وضع هذا المدعو، فلا بد أن تكون الأمور إذن فيها تدرج، ولا بد أن يكون فيها الأولويات التي أشرنا إليها، وأول ما يبدأ مع مدعو عاصٍ وفاسق لا يبدأ معه بالحلال والحرام، وإنما يبدأ معه بعرض حقائق الإيمان، ووجوب طاعة الله؛ الحساب، الجزاء، الجنة، النار، ما أعد الله لأوليائه وما أعد لأعدائه، ماذا أعد للعصاة وماذا أعد للطائعين، وما يعوض الله الذين يتركون شيئاً في الدنيا من أجل الله، وهذه الأحاديث الترغيبية الترقيقية التي فيها إيراد للآيات والأحاديث الصحيحة والكلام الجيد المنتقى من أقوال أهل العلم في المواعظ، هذه أمور يجب أن يبدأ فيها قبل عرض الأحكام وأمر الناس بالحلال والحرام مباشرة.
ومن الحكمة: ما عنون عليه البخاري رحمه الله في صحيحه في عنوان يدل على فقه عظيم: جواز النهي عن المستحبات إذا كان ذلك يفضي إلى السآمة والملل.
والحديث المأخوذ منه هذا الاستنباط حديث عظيم جداً، حديث تربوي، ينبغي أن يقبل عليه المشتغلون بالتربية فيفهموا هذا، قصة سلمان مع أبي الدرداء .
أبو الدرداء كان رجل مقبل على العبادة جداً، حتى إنه ما كان يعطي زوجته حقها، حتى اشتكت، فـسلمان أراد أن يقوم بدور تربوي مهم مع أبي الدرداء ، فزاره فصنع أبو الدرداء له طعاماً فلما قدم له الطعام، قال له سلمان : كل معي، قال: إني صائم، قال: لا أذوق طعامك حتى تأكل، فأكل معه، ثم جاء وقت النوم فذهب سلمان لينام وذهب أبو الدرداء ليقوم الليل، فقال سلمان : تعال فنم، فنام أبو الدرداء ، ثم ذهب ليقوم، فقال سلمان : نم، فنام أبو الدرداء ، فلما كان آخر الليل قال سلمان : قم الآن، فصليا، ثم علمه: إن لربك عليك حقاً، وإن لجسدك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه.
فهذه المعايشة التربوية هي التي تؤدي إلى تصحيح الأوضاع، وأما الكلام النظري من بعيد فإنه لا يساهم تلك المساهمة الكبيرة، ولذلك لو رأى الداعية المدعو قد نشط في أعمال نوافل جداً وخشي عليه أن يكون هذا الحماس الآن غير متزن، أو أنه سينقطع به الحبل بعد قليل، فعليه أن يذكره بالاقتصاد في النوافل حتى يتعود عليها، وحتى يشتد عوده، حتى لا تكون هذه طفرة، ثم بعد ذلك يقع وينهار، وليفعل مثلما فعل سلمان مع أبي الدرداء رضي الله عنهما.
وأريد أن أذكر لكم قصة طريفة بهذه المناسبة وهي قصة واقعية: أراد شخص أن ينصح شخصاً، فقبل أن ينصحه قال: لا بد أن أتعرف عليه، كيف أدخل عليه هكذا، وأقول لا تفعل وأنت طيب، لا بد أن أتعرف عليه، كيف أتعرف عليه؟ لو قلت له الآن: ما اسمك؟ مستغربة، ماذا أفعل؟
هل أذهب وأدوس على قدمه وأقول آسف ثم أتعرف عليه؟ طريقة سخيفة، هل أقول له: الجو اليوم حار؟ سؤال مكشوف، هل ألبس حذائه مدعياً أني لبسته بالخطأ ثم أعتذر وأقول: ما اسمك وأين تسكن وما ..؟ فيها حرج شرعي، واحتار هذا الداعية، وفي النهاية قرر أن يسلك سبيل الصراحة فذهب إلى ذلك الرجل وقال له: يا أخ (شوف) أنا أريد أن أنصحك نصيحة وأريد أن أتعرف عليك ولكني فشلت ولم أجد سبيلاً للتعرف عليك، وأنا أريد أن أقول لك شيئاً فهلا عرفتني بنفسك، فكانت هذه الطريقة نافعة وليس على جميع الحالات ولكن الإنسان يقدر الأمور ولا يأتي بالأشياء التي تنافي الحكمة، ثم سارت الأمور سيراً حسناً.
فقد يعمل برنامجاً مثلاً فيه فقرة ترفيهية وفقرة تعليمية شرعية، فبعض المدعوين في البداية يأتي ويحضر الفقرة الترفيهية وإذا انتهت السلام عليكم ويمشي ويترك الفقرة التعليمية، وصاحبنا يقع في حيرة من أمره، ويفكر ويضرب أخماساً في أسداس ماذا يفعل الآن، وفي النهاية قد يبلغ به السيل الربا، ويمسكه ويقول: تلعب وتمشي، لابد أن تلعب وتجلس وتسمع الكلام وإلا لا تأتي أصلاً، فهذه الطريقة التي فيها شدة منافية للحكمة، لا يصلح أن يفعلها هذا الداعية مع المدعو.
يؤخذ الناس بالترفق شيئاً فشيئاً، يألف المنظر في البداية، وقد يرى حلقة العلم وينصرف ثم يتأخر قليلاً في ارتداء ملابسه ويسمع كلمة أو كلمتين، ثم قد يحب أن يشارك إذا ارتاح إلى الناس وأحبهم، فيريد أن يسمع كلامهم فيجلس ربع ساعة ويمشي.
وبعض الدعاة يستعجلون النتيجة، كيف يجلس عشر دقائق ويمشي لا بد أن يجلس كل الوقت، كيف وهو لا يدرك أو يدرك أو يتغافل وينسى بأن هذا إنسان قد صاغته الجاهلية، وأن المجتمع قد ألقى إلينا من خلال الرحم أو الأرحام بنماذج مشوهة مليئة بالتحريف، مليئة بالمعاصي والشهوات، مليئة بالانحرفات، هذه النماذج التي ألقى بها إلينا رحم المجتمع المنحرف عن منهج الله عز وجل تحتاج إلى طول عناية ودعوة وترفق حتى تبدأ بالتقبل، هذا شخص له سنين في الانحراف تريد أنت الآن أن تسمعه الكلام كله في جلسة أو في ساعة أو موعظة وتريد أن يطبق فوراً، إذا كانت الجاهلية قد صاغته سنوات يفعل المعاصي ويغرق في الشهوات إلى أذنيه والآن أنت تريده بسرعة أن يفعل كل ما تريد منه، إن ذلك الأمر مناف للطبيعة البشرية ومناف للواقع، وأي شيء ينافي الواقع لن يصمد ولن يستمر وسيكون مشروعاً فاشلاً.
وفي الغالب لو أنك نفرته بهذه الطريقة فقد يتركك ويذهب ليلعب مع أناس آخرين من أهل الشر الذين لا يستفيد منهم على الإطلاق، على الأقل إذا قضى معك وقتاً في الترفيه فإنه لا يكون واقعاً في المعاصي، يفعل مباحات ولكن بعيداً عن المعاصي، ولكن إذا ذهب يرفه عن نفسه مع غيرك، فإنه سيقع في منكرات ومعاصي.
فإذا كان نقيباً يدعو رائداً فهو أسهل من نقيب يدعو مقدماً أو يدعو عميداً أو عقيداً، وبالعكس إذا كان عميد يدعو نقيباً فهو أسهل من دعوته لشخص قريب من رتبته، وهكذا، وكذلك يختلف الوضع إذا كان الداعية قريباً للمدعو أو الداعية غريباً عن المدعو.
الواحد يمكن أن يدخل مع ناس من أقربائه بشيء من التقدم السريع لأنه لا يحتاج إلى أن يتعرف عليه لأنه يعرفه منذ سنوات وبينهما صلة رحم ووشائج قربى، وعلى العموم فإن الدعوة تكون أسهل إذا كان الداعية في الرتب الدنيوية أعلى من المدعو، وتكون أصعب إذا كان الداعية في الرتب الدنيوية أنزل من المدعو، وهذه المسألة تحتاج إلى مراعاة أحوال، وفيها مراعاة حال كبيرة.
وفي بعض المهن أو بعض الوظائف يكون صاحبها أسهل في المهمة الدعوية، فالطبيب مثلاً يسهل عليه أن يدعو جميع طبقات المجتمع، لأنه إنسان يحتاج إليه الكل، وإذا مرضوا ما عاد يميز بين الراتب، فهذا طبيب الناس يستوون عنده في المسألة الآن، ولذلك كان المنصرون يعتمدون على الأطباء في نشر دعوتهم الكفرية الإلحادية أكثر من غيرهم، ولذلك تسمع الآن عن بعض الجمعيات مثلاً: جمعية أطباء بلا حدود، هذه جمعية عالمية مشهورة جداً فرنسية تبشيرية، لها ميزانية ومعتمدات ومخصصات وتبرعات تأتيها من جميع أنحاء العالم، تكون فرقاً وتعبر الحدود، أطباء بلا حدود.
وكذلك رجل الأعمال (التاجر) له مكانة مرموقة في المجتمع، تصور لو أن رجلاً مثل هذا هداه الله عز وجل، فهذا يؤثر على غيره تأثيراً كبيراً لأن عنده من الموظفين والعمال والمستخدمين تحته ما يستطيع أن يؤثر على طوائف وأمم من الناس.
وبعض الناس من أصحاب المراكز إذا هداهم الله وأصبحوا دعاة سمع لهم الناس أكثر، وهكذا.
فمراعاة الأحوال إذاً بين الداعية والمدعو في الأمور الدنيوية من الأشياء المهمة.
ومن مراعاة الأحوال كذلك: العوامل التي تتحكم في لهجة الخطاب ونوع الكلام، هناك أشياء تتحكم في لهجة الخطاب، وهي أنواع المدعوين، فهناك فرق بينما إذا كنت تخاطب وتدعو ملحداً، وما إذا كنت تدعو رجلاً من أهل الكتاب، وما إذا كنت تدعو رجلاً من ديانات أخرى كـالبوذية مثلاً والهندوسية ، وفرق أن تدعو رجلاً مرتداً عن الدين، وفرق أن تدعو رجلاً منافقاً أو علمانياً، أو تدعو رجلاً من عصاة المسلمين أو تدعو رجلاً من عامة المسلمين.
فإذن الناس يتفاوتون، وهذا التفاوت ينبغي أن ينعكس على العلاقة بين الداعية والمدعو؛ لأنه لا يمكن أن نخاطب المرتد مثلما نخاطب رجلاً من عامة المسلمين، لا يمكن أن نخاطب منافقاً علمانياً مثلما نخاطب رجلاً من عصاة المسلمين، وهكذا.
وهذا الأمر إذن ينعكس على لهجة الخطاب ونوع الكلام.
من مراعاة الأحوال: تقدير المستوى العقلي للمدعو، أو الانشغال العائلي، أو العامل النفسي، فقد يكون هذا المدعو رجلاً يحب العزلة أو امرأة تحب العزلة، فيريد الداعية أن يضعه في وسط اجتماعي بالقوة، وأن يجعله منفتحاً، وأن يجعله منسجماً مع الوسط، وأن يجعله..، وهذا الإنسان ليس متعوداً على مخالطة هذا العدد الكبير من الناس، وفتحه بالقوة بهذه الطريقة سيسبب مشاكل كثيرة، وبعض الدعاة قد يتعسف في التداخل والدخول مع المدعو لدرجة تشعر المدعو بالنفور، وفي الصباح يلتقي المدعوون في فصولهم الدراسية وفي الفسحة يتجاذبون أطراف الحديث، ويحكي كل منهم معاناته من الداعية الملازم له، فقال أحدهم يوماً: ألا تعلمون ما فعل صاحبي معي في الليلة الماضية، قالوا: ماذا فعل؟ قال: لقد نام عندي، يا للهول! جاء ونام عندي، هذا إنسان غير متعود أن يظهر أمام الناس بثوب النوم أبداً، لابد أن يظهر (بالسكفة) الكاملة، فالآن عندما جاء هذا الرجل وزاره، وقال: الوقت تأخر ما رأيك أنام عندك، وهو إنسان غير متعود أن ينام عند الناس ولا الناس ينامون عنده.
وهذا صاحبنا الداعية يريد أن يتداخل بأسرع وقت فيحدث بعد ذلك مثل هذه الأمور المضحكة، ومن مراعاة الحال في علاقة المدعو بالداعية: أن يراعي الداعية حجم العائلة عند المدعو، ونوع العمل ووقت الدوام، فلا يطلب منه ما يشق عليه ولا يطلب من المدعو الموظف مثلاً دواماً قصيراً مثلما يطلب من الموظف دواماً طويلاً، أو مثل الذي يعمل في نوبات ونحو ذلك، ولابد من مراعاة صعوبة الدراسة، فإن الطالب في دراسة معينة في تخصص معين لا يكون عليه من الصعوبة في الدراسة مثلما عند الآخر، وكذلك لا بد من مراعاة المستوى الذهني والفروق العقلية، وظروف الشخص، قد يكون عنده اختبارات في المدرسة، أو أعمال وانتدابات وجهد شاق في عمله، فعدم المراعاة تأتي بالنتائج العكسية.
حكي أن مدعواً كان يتعامل مع الداعية من نافذة الحجرة، أو من شرفة المنزل، أو من سماعة جرس الباب، والسبب أن الداعية لم يكن يعلم كيف يتعامل مع هذا الشخص وكيف يراعي ظروفه، فلما أثقل عليه وجد أن الرجل بسببه ستضيع الدراسة والمستقبل، وصار إذا جاءه أحد يصرفه من النافذة أو يكتب له على الباب ممنوع الإزعاج.
ومن الأشياء كذلك مراعاة الأحوال: مراعاة الطبائع والعادات، مراعاة العادات القبلية والفروق في المناطق التي يتجمع منها الأشخاص ويأتون.
وخذ على سبيل المثال: لو أن رجلاً يريد أن يدعو في أهل البادية، فأهل البادية إن لم تكن فقيهاً في الأعراف وقعت في إشكالات، فمثلاً بعض الناس لو أنك سكبت له باليسار فإنها تعتبر عنده طامة كبرى، أو مثلاً لقيته ظهرك في المجلس، فهذه تعتبر مصيبة عظمى، أو مثلاً لو تخطيته في فنجان فأعطيت من قبله ومن بعده ولم تعطه لعدها من الأشياء القاصمة للظهر.
وحتى المرأة مع زوجها إذا أرادت أن تدعو زوجها فلابد أن تراعي الفروق بين أن تكون الداعية هي الزوجة أو الزوج، لأن هذه أيضاً تفرق في مسألة الدعوة، بعض الناس عندهم من العادات أو يعتقدون أن المرأة إذا تخطت فوق الرجل وهو مستلقٍ معنى ذلك انقطع نسله، ولذلك يقوم عليها ويمكن أن يضربها ضرباً مبرحاً، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يراعي عادات القبائل، وأحياناً تجد في بعض النصوص من كلام القبائل اليمانية، وكلام من قبائل نجد، وكلام من قبائل حبشية ... فكان الرسول عليه الصلاة والسلام يراعي ذلك ويراعي عادات القوم.
وطبعاً لا بد للداعية أن يكون على شيء يقبله الناس سواء في هندامه أو نظافته أو طيبه، فلا يكون له رائحة كريهة ولا تقعر في الكلام، ولا هندام سيئ وعدم اهتمام بالنظافة، والرسول صلى الله عليه وسلم قد حبب إليه من دنيانا الطيب.
فالداعية قد يواجه من المدعو شروداً، وقد يواجه منه كلاماً مؤذياً وتصرفات سخيفة، فيجب أن يصبر عليه أو أن يحفظ ما يستطيع حفظه من ماء الوجه واحترام شخصيته، ولا يعني الصبر الرضا بالذل والمهانة أبداً، ولكن شيء من سعة الصدر وشيء من التقبل، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يتقبل الأذى وصدره رحب لهذا الأذى.
فالمدعو قد يكون عنده أخلاق سيئة، قد يكون متعجرفاً متكبراً مغروراً، عنده عجب، فعلى الداعية أن يصبر عليه، وأن يعالج الأخلاق السيئة بالأساليب الحكيمة فيداري هذا الشخص ويكرمه، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ائذنوا له بئس أخو العشيرة) ويوجه التوجيه المتواري بغير الأمر.
كيف تدعو متكبر شخصاً؟
لا يصلح أن توجه له الأمر قال له: من أنت حتى تأمرني أصلاً، لكن لو قلت له: إنك فعلت كذا وأليس من الأحسن أنك تفعل كذا، والنصيحة له سراً حتى لا يشعر أنك فضحته في الملأ، ويستعلي عليك، وأن تظهر له أنه ليس المقصود بذاته في النصح، وأن النصح عام له ولغيره، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يجاهر فيقول: ما بال أقوام، ويعطي له فرصة اكتشاف الخطأ بنفسه، لأنك لو أوقفته على خطئه لازداد عتواً وتمرداً وغروراً، بينما لو تركت له الفرصة يتكشف خطأه بنفسه لربما تخطيت له عقبات من الكبر والغرور.
والمناقشة مع غيره أمامه في موضوع يهمه دون الإشارة إليه وهو يسمع، وتعليمه التواضع، والقدوة، وداعية آخر غيرك يواجهه بدائه لو استدعى الأمر المصارحة ولو كرهه، فتنجو أنت فلا يكره الأول، وأعداء الإسلام إذا كانوا يعتمدون التوجيه غير المباشر فدعاة الإسلام أولى به وأحرى، وتذكر هذه الجملة: التوجيه غير المباشر.
ومن الصبر: الصبر على صدود هذا المدعو، قد تأتي وتمر لإنسان وتقول له: نصلي، يقول لك: إن شاء الله، نمشي سوياً، قال: اسبقني إلى المسجد، انتهت الصلاة ورجعت ووجدته مكانه، صليت معنا، قال: لا صليت في مسجد يصلي بسرعة، الحل: اصبر على ما يقولون، والمدعو قد يظن أن للداعية مطامع دنيوية، فينبغي للداعية أن يبين له ويقول: ما سألتكم عليه من أجر، والصبر أيضاً على تغيير واقعه السيئ، وتحمل ما يصدر منه من التصرفات.
ومن مراعاة المفاسد أيضاًأن بعض الدعاة قد يرى أنه لا فائدة من هذا المدعو، وقضاء الوقت معه مضيعة للوقت، فلا بد أن أتركه، فهنا لا بد أن يكون تركه له بحكمة، حتى لا ينقطع عنه بالكلية، فيصبح عدواً له، أو يشوه صورته، ويتكلم عليه في المجالس، فالترك بالتدريج وبحكمة، ولا يتركه فجأة فيكرمه ثم لا يجد هذا منه كرماً أبداً، ويكون يزوره فلا يجد منه زيارة أبداً، ويهتم به ثم لا يجد اهتماماً أبداً، وهكذا يحصل ما يحصل من الانعكاسات والسلبيات والمفاسد، ثم ليس من المصلحة قطع الخير عن هذا الشخص أبداً ولو أن الإنسان وجدت أن قضاءك للوقت معه مضيعة للوقت، فلا بد من الكلمة والكلمتين والزيارة والزيارتين، والإيقاظ للصلاة، على الأقل على أشياء لا تأخذ منك وقتاً ولا تستهلك منك جهداً.
ومن مراعاة المصالح في الدعوة: أن الداعية ينبغي أن يتفطن لتمييز الناس وانتقاء من يصلح لخدمة هذا الدين أكثر من غيره، فإن بعضهم يخطئ فينتقي الأسهل ولا يفكر بالأجود، وقد يكون الشخص الأحسن نفعاً للإسلام أصعب وقد يكون أشق، ولكنه إذا اهتدى يكون فيه نفع عظيم للإسلام والمسلمين، فعلى الداعية أن يتذكر.
عمر بن الخطاب رضي الله عنه كم كان فيه من العتو ومن التمرد، كان شخصية صعبة جداً، لكن عندما هداه الله، انتفع به الإسلام أيما انتفاع، ولذلك فالتفكير في المصالح في هذه القضية، وتحمل المدعو جيد المزايا حسن الشخصية وقاد الذهن، ولو كان صعب المراس أو صاحب معاصي ما لم تغلب مفسدة يكون أيضاً من مراعاة المصالح.
واعلموا أيها الإخوة أننا عندما نشتغل في الدعوة إلى الله لا نهمل الناس بأن نقول: هذا غارق في المعاصي لا نقترب منه، فإن الذين يستمعون (الدسكو) أو يستخدمون استشوار من الذكور في تصفيف شعورهم، لا ينبغي إلغائهم من قائمة الدعوة بالكلية فيمكن أن يكونوا من نجباء الدعوة في المستقبل.
ومن الأمور المضايقة: المحاسبة غير الشرعية، مثل أن يقول له: تعال، ماذا صليت اليوم من السنن؟ وكم سبحت؟ وهل تركت وهل فعلت؟ لست رقيباً على الناس بهذا، فالله رقيبهم وحسيبهم، ولكن أنت تدعوهم إلى الإسلام وإلى الإيمان وإلى شعائر الخير، والله يحصي أعمالهم ولست أنت الذي تحصي أنفاسهم.
والإنسان بطبعة مفطور على النفور من الإكراه والإلزام، وكل أحد يحب أن يفكر بحرية، ويختار بحرية، ويعمل بحرية، وحين يشعر أن الأفكار أو الأعمال تملى عليه إملاءً قسرياً دون أن يكون هناك اختيار؛ تصد نفسه ويحجم عن قبول الفكرة أو الاستجابة لأمر الداعية أو نهيه، قبل أن يفكر حتى في سلامة الفكرة أو صحتها ونفعها.
ولكن عندما تتسلل إليه الفكرة تسللاً يتوهم المدعو منه أنه هو صاحب الفكرة، تكون دوافعه ذاتية وتطيب نفسه بالتطبيق وتسمح بالاستجابة، فالإقناع والترغيب والترهيب وإيضاح الاختيار، حتى الله عز وجل يقول في القرآن: مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً [الفرقان:57]، لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير:28].
فتقول له: أنا لا أكرهك، أنا لا أجبرك، أنا لا أقسرك، يقول الله: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99] وهذا نوح يقول لقومه: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ [هود:28].
وتميز شخصية الداعية وعدم تميعها مع المدعوين هذا أمر واجب، فلا يجوز أن يشاركه في أمر محرم، مثل: رجل أخذ له شيشة يقول: داعية، قال: الشباب يشيشوا وأنا أشيش ونطلع، أو ألعب معهم ورق مثلاً، أو نشاهد معهم مباريات بحجة التداخل، وما شابه ذلك من وساوس الشيطان.
فيكون الداعية قد اكتسب بذلك استنكاراً وإقامة حواجز بينه وبين أقرباء المدعو أو أصدقائه، وكذلك يتصرف بعض الدعاة مع بعض المدعوين بشيء يشعر المدعو أن هذا الداعية يريد خطفه من بين أقرانه أو زملائه القدامى، أو يذم أصحابه وزملائه ذماً شديداً فينفر هذا المدعو، لأنه يقول: لا يستاهلون هذا الذنب، لماذا يحمل عليهم هذا الداعية هذه الحملة الشعواء؟ فيصور لهم كأنهم من أصحاب المخدرات واللواط وهكذا، مع أن معاصيهم قد تكون أقل من ذلك مثل استماع الأغاني ولعب الورق والمسلسلات مثلاً، فينبغي أن يبين ويوازن الكلام ويكون لكل واحد نصيبه.
وكذلك يضع المدعو في موقف محرج فيقول له: إما أصدقاؤك أو أنا، فيضعه في زاوية ضيقة، وقد يكون هذا المدعو عاطفياً متشبثاً بأصحابه القدامى لا يريد تركهم.
ومن الأدلة على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يوسعون العلاقة وما كان الرجل للرجل والشخص لزميله فقط أو قرينه، هذا أبو هريرة رضي الله عنه كم اهتدى على يديه من الناس لكن يقول في الحديث: (كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقلت: يا رسول الله! إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فإني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم
إذن: إذا كنت تهتم بشخص اهتم بأقربائه وأصدقائه وزملائه على الأقل ولو جزئياً.
وقد يفترض بعض الدعاة في مرحلة من المراحل أن المدعو الآن يجب عليه أن يقدم ولا بد أن تستخدم سيارته لمنفعة الدعاة وإمكانياته، مع أن المدعو الآن في مرحلة لا تمكنه من هذا، بل إنه يخدم ويعطى ولا يطلب منه شيئاً، وعند ذلك تحصل مشكلة.
فهذا الداعية تذهب نفسه حسرات وتتقطع، وعند ذلك نقول: صحح نفسك يا أخي، لا تقصر نفسك على شخص معين، أو تقيم هذه العلاقة الهوجاء غير الشرعية التي ربما تؤدي إلى أمور غير محمودة العواقب من الأمور المحرمة.
وإن الدعوة إلى الله عز وجل أيها الإخوة شيء ممتع ولذيذ جداً، وهو من أشوق ما يمارس الإنسان في حياته، وهذا لعله من الأشياء التي جعلها الله سبحانه وتعالى للقائمين بهذه الوظيفة العظيمة.
وإن نسيت لا أنسى تلك الأيام المحبوبة إلى النفس التي لا يعرف قدرها إلا من فقدها، ولا أكتمكم أن الإنسان عندما يكون طالباً تكون الدعوة متيسرة أكثر في مجتمع الطلاب لسهولته وانفتاحه، ولا تفقد متعته إلا إذا فارقته، وستذكر غداً عندما تصبح بين طلبات الزوجة وصياح الأطفال وهموم الوظيفة كيف كنت في نعمة عظيمة لم ترعها، يا من تعيش وسط الطلاب أو العزاب، فإن بعض العمال مثلاً يعيش مع بعض العمال الآخرين تكون أيام جميلة وفي تآلف، فيندم إذا تركها بغير أن يطبع بصماته الدعوية على تلكم الأقران.
فلتعلم إذا كنت متفرغاً قدر هذه النعمة ولا تضيع الفرصة، وصحيح أنك ستجد مجالات كثيرة للدعوة في المستقبل بين الأقارب والجيران، وستصبح بزوجتك وأولادك أكثر قدرة على التداخلات الاجتماعية ولكن متعة الدعوة في الوسط المدرسي أو الجامعي لا تكاد تنسى.
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا دعاة إلى سبيله، أن يجعلنا عاملين بالعلم، وأن يجعلنا مستبصرين بالسنة مستمسكين بها، وأن يجزل لنا الأجر العظيم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر