يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن النكاح من قواعد هذه الشريعة في بناء الأسرة المسلمة للمشاركة في بناء المجتمع المسلم، ولذلك رغبت فيه وحثت عليه، وفرقت بينه وبين الزنا والسفاح، وكان من الفرقان بين النكاح والسفاح: الإعلان والإشهار، ولذلك أمرت الشريعة بإعلان النكاح وإشهاره بالوسائل المشروعة، ومن ذلك: وليمة الزفاف.
وفي هذه الأيام تكثر الولائم في بداية هذه الإجازة، وتستمر في أيامها، فكان من المناسب -أيها الإخوة- أن نتحدث عن آداب ذلك في الشريعة، وعن بعض ما ورد فيها من الأحكام.
وفي رواية البخاري : قال أنس رضي الله عنه: (أقام النبي صلى الله عليه وسلم بين خبير والمدينة ثلاث ليال، يبني فيه بـصفية ، ودعا الناس إلى طعام الوليمة ثلاث ليال، فدعوت المسلمين إلى وليمته، وما كان فيها من خبز ولا لحم، وما كان فيها إلا أن أمر بلالاً بالأنطاع فبسطت، فألقي عليها التمر والأقط والسمن) وهكذا كانت وليمة النبي صلى الله عليه وسلم، ودُعي إليها المسلمون.
والوليمة حق، وقد جاء في صحيح مسلم : (شر الطعام طعام الوليمة، يدعى الغني ويترك المسكين وهي حق) إذاً: الوليمة حق وليست بباطل، وهي من الإسلام، ولما خطب علي رضي الله عنه فاطمة عليها السلام، قال رسول الله صلى الله وعليه وسلم: (إنه لا بد للعريس من وليمة) رواه أحمد وسنده لا بأس به.
وقال عليه الصلاة والسلام لـعبد الرحمن بن عوف : (أولم ولو بشاة) رواه البخاري وغيره.
فينبغي القيام بذلك خصوصاً للمقتدرين، وهذا فيه إشهار للنكاح وإعلان له كما تقدم.
والمشهور من أقوال العلماء: وجوب إجابة وليمة الزفاف بالذات، واستحباب إجابة غيرها من الولائم المباحة، ولذلك فإن إجابة دعوة الوليمة عند جمهور الشافعية والحنابلة، ونص عليه مالك -رحمه الله- أنها فرض عين، تجب على كل من دعي إليها، وكونها فرض كفاية يكون كما قال ابن دقيق العيد -رحمه الله- في حالة ما إذا عمت الدعوة، إذا عم الناس بالدعوة فالإجابة فرض كفاية، وإذا خص فلاناً وفلاناً وفلاناً بأعينهم، كما في حالة إرسال بطاقات الدعوة بأسمائهم، فإن الإجابة تكون متعينة عليهم حينئذ.
وشرط الوجوب: أن يكون الداعي مكلفاً حراً رشيداً، وألاَّ يخص الأغنياء دون الفقراء، وألا تكون لرهبة، وأن يكون الداعي مسلماً على الراجح، والوجوب مختص باليوم الأول على المشهور من أقوال أهل العلم، وألا يسبق الداعي، فلو سبق فإن المدعو يقدم الأول وجوباً، فلو دعاك أكثر من شخص فإنك تقدم الأول منهم وجوباً، ويسقط وجوب إجابة الثاني، ومن بعده، وإن جاءا معاً لدعوتك إلى وليمة في وقت واحد، فإنك تقدم من قدمه الشارع، تقدم الأقرب فالأقرب، وتقدم الأقرب جواراً على غيره ممن بعده من الجيران، وهكذا .. حتى قال العلماء: فإن استويا من جميع الوجوه فبالقرعة.
ومن شروط إجابة الدعوة: ألاَّ تشتمل على منكر، وقد يكون هناك سبب لعمل الوليمة في عدة أيام، ككثرة الناس، وضيق المكان، أو توالي قدومهم من الأسفار، أي: المدعوين، أو قصد إطعام الناس، والإحسان إلى الفقراء، ولذلك أخرج أبو يعلى بسند حسن عن أنس قال: (تزوج النبي صلى الله عليه وسلم
وأما إن كان تكرار الدعوة للمباهاة والمراءاة فلا وجوب، قال قتادة رحمه الله: [بلغني عن
وقال بعض العلماء بوجوب الإجابة في اليوم الأول، والثاني مستحب، والثالث مكروه، أما إذا قصد الخير بتكرار الأيام والدعوات فلا بأس بذلك، ويدل عليه أن يدعو في كل يوم طائفة لم يدعها من قبل، فيعرف حينئذٍ أنه لم يقصد المباهاة ولا المراءاة، ومن ترك إجابة الدعوة فقد عصى الله ورسوله، لقوله صلى الله عليه وسلم: (شر الطعام طعام الوليمة، يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء، ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم)
وقوله: (يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء) يدل على أنها تكون شر الطعام إذا كانت بهذه الصفة، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: [إذا خص الغني -أي: صاحب الوليمة- وترك الفقير، أمرنا ألاَّ نجيب] ورخص بعض أهل العلم في تميز الأغنياء بوليمة والفقراء بأخرى إذا وجد حرجاً في خلطهم، أما أن يترك الفقراء بالكلية، فهذا أمر مذموم، وهو من عادة الجاهلية، أنهم كانوا يدعون الأغنياء ويتركون الفقراء، وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول لمن هذا حاله: [أنتم العاصون في الدعوة، تَدْعون من لا يأتي وتَدَعون من يأتي] تدعون الشبعان الغني وتهتمون بدعوته، والفقير المحتاج إلى الطعام تدَعونه ولا تدْعونه.
ولا يجوز لمن لم يدعَ أن يأتي إذا كانت الوليمة خاصة، ويكون حينئذٍ من المتطفلين الذين يدخل أحدهم مغيراً ويخرج سارقاً، كما يفعل بعض الناس في الطواف على صالات الأعراس بغير دعوة للطعام، فأما إذا كانت الدعوة عامة، وهي التي يسميها العلماء: جفلة، كأن وجه الدعوة إلى الناس عموماً، أو بين ذلك بإقامته في ميدان عام مفتوح للناس أجمعين، وعُلم من طبع هؤلاء الذين أقاموا الوليمة أنهم لا يمانعون حضور من مر بهم، أو من قصدهم؛ فلا بأس بالحضور بغير دعوة، فأما إذا خصوا أناساً معينين؛ فلا يجوز لغيرهم الحضور، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين هذا وهذا، فقال لـأنس : (اذهب فادع لي فلاناً، وفلاناً، ومن لقيت) فسمى أناساً معينين، وأمر أنساً أن يدعو له من يلقى.
وكذلك إذا سمح صاحب الدعوة، وهو الغالب على حال الناس، بأن يأتي الضيف وضيفه، أو الضيف ومن معه، أو المدعو وأصحابه؛ فلا بأس بقدومهم، حتى لو لم يخصوا بدعوة.
ولا يجوز احتقار طعام صاحب الدعوة وإن قل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إلي كراع لقبلت) والكراع: مستدق الساق من الرجل، ومن حد الرسغ في اليد، ويكون الذي عليه لحم قليل، ويكون الكراع محتقراً من قبل الناس .. وبما أنه لا يبعث على الدعوة إلى الطعام إلا صدق المحبة، وسرور الداعي، فإن أخاك تكون فرحته عظمية، بل إن حفلة ووليمة الزفاف أعظم فرحة من غيرها؛ لذلك لزمت الإجابة، وتحققت المشاركة الشعورية والعملية لصاحب العرس بإجابته؛ تحبباً إليه وتعاطفاً معه، ومشاركة لأخيك المسلم في فرحته، ولذلك كان التخلف عن الحضور بلا عذر شرعي معصية في شريعتنا.
وينبغي على من لا يريد الحضور أن يعتذر، وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عمر : [أنه دعا بالطعام، فقال رجل من القوم: أعفني، فقال ابن عمر : إنه لا عافية لك من هذا فقم].
وأخرج بسند صحيح -أيضاً- عن ابن عباس : [أن ابن صفوان دعاه، فقال ابن عباس رضي الله عنه: إني مشغول، وإن لم تعفني جئت] وينبغي على صاحب الدعوة قبول العذر، وإجابة أخيه في طلبه، وأما إذا لم يكن عذر فليأت وليجب دعوة أخيه.
والنبي صلى الله عليه وسلم تفاوتت به الأحوال، فمرة أطعم الناس حيساً مما جاءوا به، ومرة أولم على زينب باللحم، كما جاء في الحديث الصحيح عن أنس : (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أولم على أحد من نسائه ما أولم عليها -أي على
السؤال: إذا كان المنكر في زاوية أو حجرة من البيت لا يشهده المدعو ولا يراه، فهل يحضر الوليمة؟
الجواب: نعم.
السؤال: إذا كان هناك أناس من المبتدعة، لكنهم لا يتكلمون ببدعتهم في العرس، فهل يجوز الحضور؟
الجواب: نعم.
السؤال: هل يدخل النساء في وجوب دعوة وليمة العرس؟
الجواب: نعم، مثل الرجال، إذا أذن زوجها أو وليها بطبيعة الحال، ولم يكن عندهن منكر، وما أكثر المنكرات في صالات النساء!
السؤال: إذا كان مال صاحب الوليمة مختلطاً، فهل يجب الحضور؟
الجواب: نعم، وقد دعا النبي صلى لله عليه وسلم يهودي فأجابه، ولكن إذا كان مال صاحب الوليمة كله سحت وحرام، فلا يجوز إجابته حينئذٍ.
السؤال: إذا كان العرس فيه منكر في وقت دون وقت، فهل يحضر، كما إذا كانوا يمتنعون عن المنكر في وقت العشاء، -مثلاً- فحضر وقت العشاء؟
الجواب: نعم، يجوز ذلك.
السؤال: هل يعتبر كرت الدعوة وبطاقة الدعوة، والاتصال الهاتفي، والخبر عند الأهل ملزماً بالحضور ودعوة لا بد من إتيانها وتلبيتها إذا لم يكن عذر شرعي؟
الجواب: نعم.
السؤال: إذا كان يستطيع حضور أكثر من مناسبة في ليلة واحدة، فهل يجيب؟
الجواب: لا. يكتفي بالأول.
السؤال: هل الإسراف يسقط وجوب إجابة الدعوة؟
الجواب: إذا تحقق من كونه إسرافاً، فإن بعض الناس قد يعمل طعاماً لمائتين ولكن لا يحضر إلا مائة، فيظهر كأنه إسراف وليس كذلك، ولكن في بعض الحالات يتحقق أنه إسراف، فتكون هناك صالة للحم للغنم، وصالة للحم الطير، وصالة للحم الإبل، وصالة للعجل، وصالة للحلويات، وصالة وصالة .. وغير ذلك مما تسمعه من أنباء المترفين.
السؤال: إذا أخروا العشاء فهل يجوز الانصراف؟
الجواب: نعم. فإن الوجوب في الحضور لا في الطعام على الراجح، لكن إذا أكل فهو أحسن.
السؤال: إذا وصل الدف إلى مسامع الرجال، فهل ينكر؟
الجواب: لا. لكن لا يجوز أن يستمع إلى صوت النساء وهن يغنين، ولا يجوز لهن استعمال مكبرات التي توصل أصواتهن إلى الرجال، وهذا كثير وحادث، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وإذا ذهب إلى دعوة فرأى منكراً أنكره، ولا بد من ذلك.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يتبع السنة، ويحرص على حقوق الأخوة، وأن يجعلنا من أصحاب العفة، وأن يرزق من لم يتزوج بزوجة صالحة، وأن ينعم على من تزوج بصلاح زوجته والذرية الصالحة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
عباد الله: ما أكثر المنكرات في الأعراس! وما أكثر الذين يسقطون حقهم في وجوب الإجابة في الوليمة، بسبب ما أحدثوه ويحدثونه في ولائهم من المحرمات الصريحة!
اسمعوا ماذا فعل الصحابة رضوان الله عليهم، جاء عند البيهقي بسند صحيح: [أن رجلاً صنع طعاماً، فدعا
الفرق الغنائية تأتي بقضها وقضيضها بكلام الأغاني الخليع والإباحي، وذكر الحب والغرام والعشق، والمعازف يضرب بها، وقد علمنا تحريمها من الكتاب والسنة، ودخول الرجل على النساء وكثير منهن غير محتشمات ولا متحجبات، والتقاط الصور، وما أدراك ما الصور! الصور للنساء، والتي ترى من قبل الرجال في كثير من الأحيان، ثم ملابس النساء في الأعراس في غاية السوء، من القصير والشفاف والمشقوق، تجلس فيظهر الفخذ وما فوقه!
ويحدث من المنكرات ما الله به عليم .. إسراف وطعام يرمى في براميل القمامة، إذا كان العلماء قد كرهوا النثار وهو ما ينثر على الحاضرين من الجوز وغيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النهبة؛ لأنه يكون فيها إظهار للجشع، فكيف إذا ظهرت المنكرات والمحرمات ابتداء من بطاقة الزفاف، بطاقة الدعوة فيها منكرات، وفي كلام بعضهم لبعض: بالرفاء والبنين، وهذا من شعار أهل الجاهلية الذين كانوا يكرهون البنات، وإنما السنة أن يقال: (بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير) أو يقول: بارك الله لك، أو على البركة، وهي كلمة شرعية وردت في الأحاديث: على البركة وعلى خير طائر، ويقول بعد إجابة دعوتهم: اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم، أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة، اللهم أطعم من أطعمنا، واسق من سقانا .. وهكذا من الكلمات الطيبة، لكنهم الآن يحولون صالات الأعراس ميداناً لمبارزة الله ورسوله بالمعاصي، وما هو مسموع كثير كثير.
أيها الإخوة: لماذا لا ننضبط بقوانين الشريعة وحدودها؟ لماذا تستأسد النساء، ويكون الرجال كالحمام الأليف؟ لماذا تجاب كثير من النساء إلى طلباتهن بالمنكر؟ وبعضهم يقول: من الساعة العاشرة إلى الثانية عشرة حفل إسلامي، ومن الثانية عشرة إلى الفجر حدث ولا حرج، ثم ابتدعوا شيئاً اسمه: وجبة الإفطار، حيث أن بعض الأعراس لا تنتهي إلا بعد الفجر بمدة، فيفتح البوفية مرة أخرى للإفطار.
عباد الله: إن المسألة قد صارت إلى تضييع صلاة الفجر، إن المسألة قد صارت إلى المنكرات التي تحدث في الولائم، إنه أمر لا يطاق ولا تقره الشريعة أبداً، والواجب علينا نحن الرجال المسلمين أن نقوم لله تعالى بالصدع بالحق، ومنع المنكر والباطل، ونحن قادرون على ذلك، ولا يمنعنك الإحراج أو كلام الناس أن تطيع الله تعالى، لا ترض الناس بسخط الله، فيسخط الله عليك ويسخط عليك الناس، ولكن أرضِ الله ولو بسخط الناس، فسيرضى الله عنك ويرضي عنك الناس.
اللهم جنبنا المنكرات، وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم إنا نسألك السعادة في الدارين، والفوز يوم الدين.
اللهم أصلح أزواجنا وذرياتنا واجعلنا للمتقين إماماً، وآمنا في بلادنا هذه وسائر المسلمين في بلدانهم، يا رب العالمين.
اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر