أيها الإخوة: موضوعنا في هذه الليلة بعنوان: (حاجتنا إلى التربية الإسلامية).
هذه الحاجة العظيمة الماسة التي افتقدها الكثيرون في هذا الزمان فوقعوا في تخبطٍ وحيرة واضطراب، إذ لم يعرفوا المنهج والطريق الذي يجب عليهم أن يسلكوه.
إن الوصول إلى المجتمع الإسلامي غاية كل مسلم، وأمل منشود ومرتقب يسعى إليه المخلصون من أبناء هذا الدين، ولكن منهم من عرف الطريق؛ طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، فسار على نفس الهدي والمنهج، ومنهم من صار يتخبط حيراناً في الأرض لا يدري كيف يعمل، فيذهب يميناً وشمالاً، ويأخذ حلولاً مستعجلةً وضعية، أو يتشبه بالكفرة في استيراد بعض الحلول، هؤلاء لم يصلوا إلى الهدف مطلقاً؛ لأنهم جانبوا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنتكلم -إن شاء الله- عن الأسباب التي من أجلها نحتاج إلى هذه التربية.
لماذا يجب علينا أن نسلك سبيل التربية؟
ما هي فوائد التربية؟
ما هي ثمراتها؟
وفي معركة الخندق لما عمل المنافقون عملهم، نزلت الآيات في هتك أستار المنافقين، وتثبيت المؤمنين، وكشف دور اليهود.. وهكذا.
وبعض المؤمنين عندما انفضوا من حول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الجمعة من أجل قافلةٍ من التجارة قدمت، نزلت الآيات تربي أولئك القوم أنه لا يجوز لهم أن يفعلوا ذلك: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً [الجمعة:11].
بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رسول الله كان يتلقى من الآيات ما يتربى عليه صلى الله عليه وسلم، فلما عبس في وجه ابن أم مكتوم الأعمى نزلت الآيات عليه تربية له وتذكيراً وتعليماً.
ولما حصل ما حصل في نفسه بشأن زيد بن حارثة وزواجه، قال الله له: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37] حتى قالت عائشة: [ لو أن محمداً صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتم شيئاً من القرآن لكتم هذه الآية].
ولما تنازع بعض المسلمين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت الآيات موبخةً ومقرعةً على هذا التصرف الذي لا يليق.
ولما حصل من بعض المنافقين تناجٍ، نزلت آيات في فضحهم وتعليم المؤمنين ألا يتناجوا إلا بالبر والتقوى، ولا يتناجوا بالإثم والعدوان.
وهكذا وهكذا من الأمثلة الكثيرة والآيات العديدة الدالة على أن طريقة القرآن هي التربية، وأن الثلة والنفر من المسلمين المخلصين الأوائل إنما كانت تربيتهم في هذا القرآن، فإذا كنا مسلمين حقاً، ونريد أن ننهج نهج القرآن، فلا بد أن نسلك مسلك التربية.
وهذا عيسى عليه السلام له حواريون يعلمهم ويختصهم بمزيدٍ من القرب والإدناء.
وهذا محمدٌ صلى الله عليه وسلم أسلم معه أناسٌ كثيرون جداً، ولكن كانت معه طائفةٌ من المؤمنين تتلقى وتتربى دائماً، والتربية للجميع، فالمقل والمستكثر، ومنهم مقبلٌ ناهلٌ من هذا المعين الذي لا ينضب، ومنهم منشغلٌ في أمورٍ، أو بعيدٌ في قبيلة أو بلدٍ لا يستطيع أن يكون معه صلى الله عليه وسلم دائماً، ولكنه عليه الصلاة والسلام كان ينتهز كل طريقة في تربية أصحابه.
إننا نعلم أن عدد الصحابة رضوان الله عليهم يقارب مائة وأربعة وعشرين ألف صحابي -كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه الإصابة- من الذين حجوا معه صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، ولكن كان من هذا العدد الكبير طائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تتلقى التربية أولاً بأول، كانوا معه من القديم عندما كان في مكة، وهاجروا معه، والتف معه الأنصار، وكان منهم من خرج معه في غزواته وشهد المشاهد كلها أو بعضها، واشتركوا في الجهود العظيمة في الدفاع عن الإسلام، ونشر الدعوة، وكان منهم العلماء، والقادة العسكريين، وأولو الحل والعقد والرأي في أول هذه الأمة.
وكان صلى الله عليه وسلم ينتهز المناسبات، فإذا جاء رجلٌ يسأله عن أحب الأعمال، يقول تارة لشخصٍ: (الإيمان بالله)، ويقول تارة لآخر: (بر الوالدين)، ويقول تارة لثالث: (الصلاة على وقتها)، وهكذا وهكذا، يعطي كل شخصٍ بحسبه، ويربي كل إنسان بما يحتاج إليه، وهذا يقول له: أوصني، فيقول: (لا تغضب)، وهذا يقول: الوصية، فيقول: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله)، وهكذا يتعاهد كل واحدٍ من أصحابه بما يحتاج، وينتهز المناسبات والأحداث، فيمر على جدي أسك قد تركه أهله مما أصابه من الموت والعفن، فيعلمهم فيه مفهوماً مهماً، ويمثل لهم تمثيلاً بليغاً صلى الله عليه وسلم.
ولما وزع الغنائم في غزوة حنين، فنال مسلمة الفتح ما نالوه من الغنائم العظيمة مائةً مائةً من الإبل، وهؤلاء الأنصار لم تجف سيوفهم بعد من دماء الكفار لما فتحوا مكة، ولما قاتلوا في حنين، فلم يأخذوا شيئاً، فينتهز عليه الصلاة والسلام هذا التأثر الذي حصل من بعضهم ليجمعهم ويلقي فيهم موعظةً بليغة، يعلمهم ويذكرهم وينصحهم ويعظهم، حتى بكوا من التأثر، ورجعوا معه قائلين: رضينا برسول حظاً وقسماً.
وهكذا كان مع أصحابه؛ يعلم جاهلهم، ويرشد من يحتاج إلى إرشاد، ويثبت من يحتاج إلى تثبيت، يأتيه خباب وهو مستظلٌ بظل الكعبة، فيقول: [ألا تدعو لنا، ألا تستنصر لنا]، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو عليه من أخبار السابقين، وما ينبغي أن يكون عليه هؤلاء الناس من الثبات والصلابة في المواقف، فكانت تربيته عليه الصلاة والسلام مثالاً يحتذى لكل أحدٍ من الناس يريد أن يسلك النهج النبوي في التربية الإسلامية.
لقد كان لكل صحابي طائفةٌ من تلامذته يختصهم بمزيدٍ من العناية، ولقد انتهى الدين والفقه والعلم في الأمة إلى أربعة أشخاص: عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه في العراق ، وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما في المدينة ، وعبد الله بن عباس في مكة ، كان لكل واحدٍ من هؤلاء الأربعة تلامذةٌ يختصهم بعلمٍ وتربية زائدة عما يعطيه لسائر الناس، ولذلك ترى من تلامذة ابن مسعود مثلاً: علقمة ، والأسود ، ومسروق ، والربيع بن خثيم.. وهكذا.
وترى من تلامذة عبد الله بن عمر : ثابت البناني ، وجبير بن نفير ، وخالد بن كيسان وغيرهم.
وترى من تلامذة زيد بن ثابت : قبيصة بن ذؤيب ، وأبان بن عثمان ، والقاسم بن محمد وغيرهم.
وترى من تلامذة عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما: كريب ، وعروة بن الزبير ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وأبو العالية ، وأبو صالح باذام ، والشعبي ، والحسن ، وابن سيرين ، والضحاك ، وابن أبي مليكة وغيرهم، فقد كانت هذه هي طريقتهم رضوان الله تعالى عليهم في انتقاء هؤلاء الطلبة الأفذاذ النجباء وتخصيصهم بمزيدٍ من العلم والتفقيه والتربية.
وكان التلميذ يعيش مع شيخه فيقتبس من حسن أخلاقه، وشدة عبادته وكثرتها لله تعالى، وإحسانه في التعليم، ويقتبس من علمه أشياء كثيرة جداً، وهكذا علموها لمن بعدهم، ومن بعدهم كان لهم تلامذة وأتباع.. وهكذا كان للإمام أحمد وغيره، وشيخ الإسلام ابن تيمية كان له جماعة من أصحابه يأمر معهم بالمعروف، وينهى معهم المنكر، وهذا تلميذه وخاصته من بينهم شيخ الإسلام الثاني ابن القيم رحمه الله كان يسير على نهج شيخه، فترى هذه الثمرة من تلك البذرة التي تعاهدها ذلك المربي، فسقاها بماء الشرع، وحاطها بعناية إسلامية فائقة، فهذه الغرسة نبتت وآتت أكلها وثمارها كل حينٍ بإذن ربها.
وهذا شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في هذا العصر كان له أتباعٌ وجندٌ مؤمنون نصر بهم الحق، وأخرج الناس بهم من عبادة الأوثان والجاهلية الأخرى التي طبقت الجزيرة في وقته إلى أنوار التوحيد.
هذه طائفة من المفاهيم الكثيرة، جزءٌ منها مما يجب على المسلم أن يحمله، كيف يحمله إذا لم يكن قد تربى؟
وكيف يتشرب هذه التصورات إذا لم يكن له طريقٌ يسلكه ويتربى من خلاله؟
إن الذين يظنون أن بإمكان الفرد أن يتلقى كل شيء من تلقاء نفسه، أناسٌ جازفوا في الأمور، ولم يزنوها حق وزنها، ولنا وقفة -إن شاء الله- في أنواع التربية وأهدافها ووسائلها، في محاضرةٍ قادمة لبيان خطأ هذا الفكر الذي يسيطر على بعض الناس ممن يظنون أن الفردية تفلح في مثل هذا الزمن.
إذاً: كلمات إذا رآها الرجل العاقل تأثر منها، وهذا له قوةٌ بدنية فلينصر بها المظلوم، ولينصر بها الحق، وهذا له خبرة قتالية فليسخرها في تجييش الجيوش وقيادتها وحملها على الأعداء، وهذا له قدرةٌ بتعلم اللغات فليشتغل بنشر الدعوة إلى الله في الأقوام الذين يتكلمون بهذه الألسنة التي يجيد الكلام بها.
إن التربية تصنع من الشخص الجاهلي الهامشي التافه شخصاً إسلامياً قوياً مؤثراً، ومن أجل ذلك لا بد من سلوك طريق التربية.
من رواسب ماضية وسابقة، وكان صلى الله عليه وسلم إذا سمع شيئاً من المنكر أنكره، بعضهم كان يحلف باللات والعزى خطئاً من كثرة ما جرى على لسانه من أيام الجاهلية من هذا الحلف، فكان صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله) يكفر بها هذا الفعل، ويربي نفسه ويعودها على عدم العودة لمثل هذا القسم.
حصل في مناسبةٍ من المناسبات خصامٌ بين مهاجري وأنصاري، فقال المهاجري: يا للمهاجرين! وقال الأنصاري: يا للأنصار! فتحزبت كل فرقةٍ لصاحبهم، حتى كادت تحصل بينهم مقتلة، وهم من هم؟ الصحابة الكرام رضي الله عنهم.
من أي شيء جاء؟ ومن أين أتى؟
إنه جاء من رواسب ماضية في الجاهلية، كان الثأر يلعب دوره، وكانت العصبية تلعب دورها، ولذلك نزغ الشيطان نزغة، كاد أن يحصل من ورائها شرٌ عظيم، فقام المربي صلى الله عليه وسلم يخطب فيهم، ويقول: (دعوها فإنها منتنة) ويهدئهم حتى كشف الله خطة المنافق، وأفشل كيده، ورده في نحره، فرجع الصحابة رضوان الله عليهم إلى الحق مرةً أخرى.
حصل أن واحداً منهم قال لأخيه: يا بن السوداء! فماذا فعل عليه الصلاة والسلام؟
بين، وقال له: (إنك امرؤ فيك جاهلية).
إن من الرواسب: الفخر بالجاهلية، والاستهزاء بعباد الله؛ لأنه أسود، أو لأنه ليس من قبيلة.. ونحو ذلك من الأمور، ونحن اليوم كم فينا من الرواسب؟ وكم فينا من المخلفات والموروثات الجاهلية؟
شيء كثيرٌ جداً، فما هو الطريق إلى تنقيته، وتهذيب النفس منه، وإخراج هذه الموروثات ليكون محلها مفهومات إسلامية، وتصورات صافية، تسد هذه الثغرات حتى لا يخرج الشر منها مرة أخرى؟
لا يكون ذلك إلا بتربية.
فمنهم من تأتيه شبهات في وجود الله، وشبهات في صحة القرآن، أو صحة النبوة والرسالة والوحي، أو حتى مما يلقي إليهم شياطين الإنس من بعض الشبهات في بعض الأحكام الشرعية؛ كالرق، وتعدد الزوجات، ونحو ذلك، وشبهات تعرض حتى لبعض الدعاة إلى الله، فقد يقول بعضهم: أنا أقع في منكرات فلا يجوز أن أدعو، كيف آمر بالمعروف ولا أفعله؟ وكيف أنهى عن المنكر وأقع فيه؟
إذاً: الحل ألا آمر ولا أنهى، فيقع في الخطأ العظيم بسبب هذه الشبهة.
ومنهم أناسٌ وفقهم الله لوسطٍ صالحٍ يعيشون فيه، فوقعت منهم بعض المنكرات، فقالوا في أنفسهم: ما بالنا نخطئ ونقع في هذه الآثام ونحن في جوٍ نظيف ووسطٍ طيب، إننا لا نستحق مثل هذا الوسط، فلابد أن نخرج عنه حتى لا نكون سبباً في فشله وتمزقه وعدم توفيق الله له.. وهكذا يخرجون من الأوساط الطيبة بمثل هذه الشبهة وهكذا.
ومنهم من يظن -مثلاً- أن الطريق لتقوية إيمانه أن يعتزل إخوانه، ويذهب في مغارةٍ، أو كهفٍ، أو مكان منعزلٍ لكي يقوي إيمانه، فيقع في هذه الحيلة الشيطانية في براثن الشيطان، فيستولي عليه، ويؤخره مدةً طويلة إلى الوراء بهذه الشبهة التي قامت في نفسه، فكيف يكون الطريق لاقتلاع جذور هذه الشبهات؟ وكيف يكون الطريق للرد عليها من النفس على النفس؟
لا يكون ذلك إلا بتربية تتعهد.. إلا بمنهجٍ يسعف.. إلا بأخوة ينصحون، لا يكون ذلك أبداً إلا بسلوك هذه الطريقة النبوية المحمدية؛ طريق التربية الإسلامية.
لا بد أن يكره كل أحد، فالكره موجود في النفس، والبغض موجود فيها، ولكن الإسلام يوجه هذا الكره ليكون كرهاً شرعياً، لا كرهاً مدمراً.. لا كرهاً سيئاً.. لا كرهاً مخالفاً للدين، فمثلاً: يوجه المسلم لأن يكره الشيطان وأتباعه، والكفر والكفرة، وكره ما كرهه الشرع.. وهكذا، ( وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار ) يكره ما كرهه الله لنا، ومما كرهه: (قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) فيفرغ الإسلام طاقة الكره عند المسلم في المسلك الصحيح، فلا يتحول الكره إلى طاقة سامة مبعثرة، وخذ مثلاً: الحب، من الذي لا يحب؟
لا أحد، كل إنسان فيه طاقة للمحبة، ولكن الإسلام بالتربية يوجه هذا الخلق والطبع توجيهاً حسناً، فحب الله، وحب الخير، وحب الإيمان وأهله، وحب الرسل وأتباعهم، وحب شعب الإيمان، وما يحبه الله من الأقوال والأعمال، وعندما يسمع المؤمن في الأحاديث الصحيحة أن الله يحب الرفق، وأن الله يحب الجود، وأن الله يحب الكرماء، وأن الله يحب الإحسان، وأن الله يحب الوتر، وأن الله يحب إتقان العمل، وأن الله يحب العبد التقي الخفي النقي، وأن الله يحب الرجل سمح البيع سمح الشراء، وأن الله يحب هذه الخصال، فتنصرف نفسه لمحبتها؛ لأن الإسلام يدفعه بالتربية إلى صرف المحبة لمثل هذه الأشياء، يحب التيامن؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيامن، ولا يحب العقوق، ولا الفاحش، ولا الفحش، ولا المتفحشين، وهكذا (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله..إلخ)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يحب الأنصار رجلٌ حتى يلقى الله إلا لقي الله وهو يحبه، ولا يبغض الأنصار رجلٌ حتى يلقى الله إلا لقي الله وهو يبغضه) فتباً لهؤلاء المبتدعة الذين كفروا الأنصار والصحابة والمهاجرين، ما أبغضهم إلى الله عز وجل!
وهذه التربية التي توجه المحبة إلى الطرق الصحيحة والمسالك الشرعية، فإنها تجنب المسلم طاقاتٍ مدمرة، فقد يحب الإنسان نفسه وذاته فيكون أنانياً، أو يتحول إلى حب معشوقاتٍ صغيرة في عالم الحس من المطعومات والمشروبات واللذائذ، فيعكف عليها ولا يتعداها فيهلك، ومنهم من يقع حبه في عشق الصور من النساء والمردان، فطالما يتذكره في مخيلته، وطالما يراه في منامه، ويكون ذكره له أحب إليه من ذكر الله عز وجل، ويكون لقاؤه به أحب إليه من لقاء أعلم العلماء، وأزهد الزهاد، وأعبد العباد.. وهكذا.
فتأمل! أن هذه التربية تنقي النفس فعلاً من هذه الأمور، وتسلك بالمحبة مسلكاً شرعياً يهذب النفس ويجنبها الويلات.
وتأمل في هذا الحديث الصحيح.. عن عمرو بن العاص رضي الله عنه في قصته كيف كان يكره قبل الإسلام، وماذا صار يحب بعد الإسلام.. تأمل كيف رباه الإسلام تربيةً جعل حاسته في الكره والمحبة تنتقل انتقالاً بشكلٍ شرعي إلى ما يجب أن يحب!
عن أبي شماسة قال: حضرنا عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو في سياق الموت، فبكى طويلاً وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه، أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إني قد كنت على أطباقٍ ثلاث: لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولا أحب إليَّ من أن أكون قد استمكنت منه فقتلته -في الجاهلية- فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي -وذكر قصة، إلى أن قال عمرو بن العاص رضي الله عنه، بعد الإسلام ماذا حصل؟ بعدما رأى وما رأى؟- وما كان أحدٌ أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه، ما أطقت؛ لأني لم أكن أملئ عيني منه، لو مت على تلك الحال رجوت أن أكون من أهل الجنة.
فهذا الرجل الذي فعلت فيه التربية هذا المفعول، والذي حوَّلت كرهه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كاد أن يقتله إلى محبةٍ لا يستطيع أن يثبت بصره على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم.
وتأمل هذا الحديث: ما فعله في النفس وفي توجيه المشاعر؟
إن من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يبغض الله، وإن من الخيلاء ما يحب الله ومنه ما يبغض الله؛ فأما الغيرة التي يحبها الله، فالغيرة في الريبة؛ إذا صارت القرائن موجودة في الريبة فلا بد من الغيرة، وأما الغيرة التي يبغضها الله فالغيرة في غير الريبة، وأما الخيلاء التي يحبها الله فاختيال الرجل في القتال، وأما الخيلاء التي يبغضها الله فاختيال الرجل في البغي والفخر.
إذاً: هذه التربية الإسلامية هي التي تحول مشاعر الفخر والخيلاء.. تحول مشاعر الغيرة لتسلك الطريق الشرعي الصحيح.
التربية -أيها الإخوة- مهمة في هذا الزمن جداً وفي غيره من الأزمان؛ لأننا نواجه عتاةً وفجرة، وطغاة وبغاةً.. نواجه أعداءً أشداء لا يمكن أن نلقاهم بشخصياتٍ هزيلة وضعيفة، ولا تقوى هذه الشخصيات ولا تشتد ولا تصبح على مستوى المواجهة إلا بالتربية الإسلامية.
ألم يأتك نبأ الثلاثة من المسلمين الذين واجهوا قائد الفرس رستم.. كيف واجهوه؟
ما هي التربية التي كانت في أنفسهم عندما صاروا على مستوى المواجهة؟
فأجمعوا على التباهي، فأظهروا الزبرجد، وبسطوا البسط والنمارق ولم يتركوا شيئاً، ووضع لـرستم سريره من الذهب، ولبس زينته، ووضعت الأنماط والوسائج المنسوجة بالذهب، وأقبل ربعي على فرس ومعه سيف مصقول، وغمده لفافة ثوبٍ بالٍ، ورمحه تسلم حده بسيرٍ من جلدٍ غير مدبوغ، ومعه جحفة ترس من جلود البقر ليس فيه خشب ولا عقبٌ، على وجهها أديم أحمر مستدير مثل الرغيف، ومعه قوسه ونبله، هذه العدة ظاهرياً مهلهلة، فلما انتهى إلى رستم ووصل إلى أول البسط، قيل له: انزل، فتجاهل ذلك، وحمل فرسه على البساط، فلما وقفت عليه نزل، وربطها بوسادتين فشقهما، ثم أدخل الحبل فيهما، فلم يستطيعوا أن ينهوه، وإنما أروه التهاون، وأدرك ربعي ما أرادوا، فأراد استحراجهم، وكان على ربعي درع كأنها إضاءة، وردائه عباءة بعيره قد شقها وتدرع بها، فشدها على وسطه بشيء مما غنمه من الفرس في معاركه السابقة، وشد رأسه بعمامته، وكان أكثر العرب شعراً، وعمامته نسعة بعيره، ولرأسه أربع ظفائر قمن قياماً كأنهن قرون الوعل، فقالوا له: ضع سلاحك، فقال ربعي : إني لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم، أنتم دعوتموني فإن أبيتم أن آتيكم إلا كما أريد وإلا رجعت، فأخبروا رستم ، فقال رستم : آذنوا له هل هو إلا رجل واحد؟ وأقبل ربعي يتوكأ على رمحه يقارب الخطو ويزج النمارق والبسط بزج رمحه، فما ترك لهم نمرقة ولا بساطاً إلا أفسده، وتركه منتهكاً مخرقاً، فلما دنا من رستم ، تعلق به الحرس، فجلس على الأرض وركز رمحه بالبسط، قالوا: ما حملك على هذا؟ قال: إنا لا نستحب القعود على زينتكم هذه، فقال رستم : ما جاء بكم؟ قال ربعي : الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه، ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضي إلى موعود الله، قال رستم : وما موعود الله؟ قال ربعي : الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي، قال رستم: قد سمعت مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟
قال ربعي: نعم، كم أحب إليكم أيوماً أم يومين؟
فقال رستم : لا، بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا، وأراد مقاربته ومدافعته يطول الوقت، قال ربعي : إن مما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل به أئمتنا ألا نمكن العدو ولا نؤجلهم عند اللقاء أكثر من ثلاث، فنحن مترددون عنكم ثلاثاً، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاثٍ بعد الأجل: اختر الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزاء -الجزية- فنقبل ونكف عنك، وإن كنت عن نصرنا غنياً تركناك منه وإن كنت إليه محتاجاً منعناك، أو المنابذة في اليوم الرابع، ولسنا نبدؤك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا، أنا كفيل لك بذلك على أصحابي وعلى جميع من ترى، فقال رستم : أسيدهم أنت؟ قال ربعي: لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد، بعضهم من بعض يجير أدناهم أعلاهم، فانفرد رستم برؤساء أهل فارس وتشاور معهم في شأن هذا الأعرابي العجيب، فأقبلوا إليه يتناولون سلاحه ويعاينونه ويزهدونه فيه، فقال ربعي : هل لكم إلى أن تروني وأريكم، فأخرج سيفه من خرقة كأنه شعلة نار، مع عزم السحب كأنه انقدح منه النار، فقالوا له: أغمده فغمده، ثم وضعوا له ترساً ووضع لهم حجفته فرمى ترسهم بسهمٍ فخرقه، ورموا حجفته بسهمٍ فسلمت، فقال ربعي : يأهل فارس! إنكم عظمتم الطعام واللباس والشراب وإنا صغرناهن، ثم تركهم ورجع إلى معسكره إلى أن ينظروا إلى الأجل الذي منحه لهم ثلاثة أيام.
هذا رجل -أيها الإخوة- من أين أتى؟ ومن أين ظهر؟ وكيف حصل منه هذا الموقف؟ هل ظهر من فراغ؟ هل قال ما قال دون أن يكون هناك أساسٌ في نفسه لما يقول؟ وكيف صارت عنده هذه العزة والقوة والجرأة والشجاعة؟ لا يمكن، لا بد أن يكون هناك أوصاف وقدوات يتربى فيها أمثال ربعي بن عامر ليخرج بذلك الحق الجلي الذي يوضحه.
قال حذيفة : إن أميرنا يحب أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء فهذه نوبتي.
قال رستم : ما جاء بكم؟
قال حذيفة : إن الله عز وجل منَّ علينا بدينه، وأرانا آياته حتى عرفناه وكنا له منكرين من قبل -في الجاهلية، ثم أمرنا بدعاء الناس إلى واحدةٍ من ثلاث، فأيها أجابوا إليها قبلناها: الإسلام وننصرف عنكم، أو الجزاء ونمنعكم إن احتجتم إلى ذلك، أو المنابذة إلى يومٍ ما، قال حذيفة : نعم، ثلاثاً من الأمس، تبدأ من الأمس، من يوم قال لك أخي ربعي بدأت بدأت.
فهذه ثلاثة نماذج في موقعة واحدة من المواقع التي حارب فيها الإسلام، دالة على أن الشخصيات عندما تتلقى التربية في أجواء القدوة الحسنة والعلم الشرعي وأجواء الجهاد والتضحية والبذل ترتقي إلى مراتب عليا تصلح أن تكون سفارات، ترسل إلى الكفرة فيرون فيها عظمة الدين من تصرفات هذه الشخصيات.
أيها الإخوة: لم تتفش في البشرية شهواتٌ مثلما تفشت في هذا العصر قط، وأنواع الإغراءات والإغواءات لا تكاد تنتهي أبداً، وفي كل يوم يخترع لنا اليهود وأذنابهم من طرق إثارة الشهوات البهيمية ما لا ينتهي حصراً وعداً، كل يوم طرق جديدة.. كل يوم مجلات جديدة.. كل يوم صور جديدة، وأفلام جديدة، ومسلسلات وأمور لهدم الأخلاق، وإثارة الشهوات، لتنطلق النفس انطلاقاً بهيمياً، فمتى يستطيع الإنسان المسلم أن يضع الحد أمام هذه الأمور وهذه الشهوات التي تنكب عليه انكباباً، وتنحدر إليه انحدار السيل في الوادي.
حدثني رجل قال: ذهبت إلى بلدٍ مجاورٍ لعملٍ من الأعمال، فنزلت في فندق، فبعد فترة رنَّ الهاتف، فرفعت السماعة، فإذا على الخط الآخر امرأة تقول: مساء الخير، كيف حالك يا فلان -باسمي طبعاً- بالتعاون مع استعلامات الفندق، لتوزيع الأسماء المنتخبة على البغايا.
كيف حالك يا فلان؟
بخير.
صاحٍ أم نائم؟ هل عندك أحد؟
لا.
أريد أن أزورك الآن.
سبحان الله العظيم! امرأة تتصل وتقول: أريد أن أزورك الآن، وفي غرفة في الفندق، في هذا الوقت من الليل، وتتأكد أن ما عنده أحد، فالرجل يعتذر عن الموعد، فيقول: لا، والمرأة تقول: لا، أنا صفتي كذا وكذا، وجسمي كذا وكذا، وتصف محاسنها، فيقول: أنا سوف أسافر الآن، فتقول: أبداً خمس دقائق وأكون عندك وسأرى كيف ستعدل عن السفر وفعلاً الرجل هرب من الحجرة؛ لأن الواقع جحيم حوله، سيئ جداً، الفندق يعج بالمنكرات، وفي هروبه شاهد المرأة المعنية التي وصفت نفسها تصعد، فحمد الله أنه سلم وهرب بجلده.
أقول أيها الإخوة: اليوم عندما ينزل بعض المسلمين من شبابنا وغيرهم في الفنادق في بعض الأماكن، وتطرق عليه ويفتح، فإذا بالفتاة أمامه، بالبغي أمامه، بالزانية تدعوه إلى نفسها، ما الذي سوف يمنعه من الوقوع في هذه الفاحشة؟!
امرأة تطرق الباب وتدخل عليه، بموعد أو بغير موعد، ويحصل هذا في الفنادق في أنحاء العالم، ما الذي يعصم الشخص الآن من هذا الأمر؟
نقول: الله سبحانه وتعالى، يعصمه بأي شيء؟ ما هي الوسيلة؟ إذا لم تكن هناك تربية يربي بها الشخص نفسه ويتربى مع إخوانه يعيش مع السلف يقرأ كتاب الله ويتأثر لقصة يوسف عليه السلام، وبالرجل من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فإنه سيقع ولا بد، إذا لم يحصل له هذا وتدركه رحمة الله عز وجل.
فنحن الآن نعيش في هذا العصر الذي بلغ في السوء منتهاه، فلا يمكن أن نجابه الشهوات التي تأتي إلى أبوابنا وتطرق علينا، لا نذهب نحن إليها بل هي تأتي إلينا، ولو كنت لا تريد يأتوك ويؤذوك بالقوة لا بد تفعل، لكن فما الذي يقوي هذه النفس حتى تصمد؟ إغراء كامل أمامك، فما الذي ينفع إذاً في مثل هذا الأمر؟
عند ذلك نعلم -أيها الإخوة- أنه لا بد من وجود منهج التربية، ولا بد من وجود جو التربية، ولا بد من وجود طريق يسلكه الإنسان في التربية.
بعد التربية بأنواعها التي سنتحدث عنها إن شاء الله في مناسبة قادمة، وبعد الفترة التي يأخذها الإنسان في مشوار التربية، ما هو الغرض؟ الوصول إلى أي شيء؟
التربية تحقق لنا الوصول إلى الكمال البشري بحسب درجاته بالنسبة للأشخاص، أي صورة للناس تلك التي ستطالعنا بعد بذل الجهد في التربية لشخصٍ ما؟
أي إنسان هذا الذي تربى إيمانياً وعلمياً وعقلياً وجسدياً؟
إنه الإنسان الصالح، اللبنة من القاعدة من الأساس، إذ هو جزء لا يتجزأ.. ما هي صفاته؟ تكامل في صفاته البشرية، ملامح التقوى والخشوع بادية عليه.. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] .. سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29] ولكن هدوءه وحياءه لا يخدعانه فيظن الظان أنه ضعيف، كلا، فهو لا تنحني هامته إلا لله، وما عدا ذلك فهو قوي صلب العود، شديد المراس، فإذا ما حاول أحدٌ النيل من دينه.. مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ [الفتح:29] ولكن هذه الشدة لا تمنع الرحمة بينه وبين إخوانه رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29] في اللين والشدة مناسبات ومواقف، اللين للإخوة، والشدة على أعداء الله جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73] ولكن هذه الغلظة ليست فظاظة ولا فحشاً، ولا تفحشاً فهو حسن الأخلاق يألف ويؤلف، إنسان اجتماعي.. فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت:34] وهو إنسان بعد التربية مستعلٍ بإيمانه.. وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139] لكنه ليس متكبراً ولا مغروراً ولا مختالاً وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18] وهو عفيف عما في أيدي الناس، صقلته التربية فلا يهوي في الشهوات وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [طه:131] صامد في وجه الشهوات، ولو أحس بلذعها في أعصابه، لأنه تربى على قول الله: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33] يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.. يفعل الخير.. متزنٌ معتدل في سلوكه وفكره وشعوره، لا يطغي جانب على جانب.. عقله يرده عن النزعات الطارئة والاندفاعات المفاجئة، يعيش واقعه، فلا يهيم في برجٍ عاجٍ من الأفكار والأحلام، متزنٌ في نظرته للدنيا والآخرة ومتوازن وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77] ليس سلبياً لكنه عملي، قوة فاعلة في الأرض، يريد تحقيق هدفه والإنشاء والتعمير في هذه الأرض حسب المنهج الرباني، يشعر بمسئوليته المؤدية إلى انطلاق في العمل، تصوراته سليمة عن الله وأسمائه وصفاته.. عن الدين والحياة والشريعة والناس، ليس بينه وبين الناس حواجز، لا يختار العزلة في وقت العمل والبذل والتقديم.
فإذاً سنصل في النهاية بعد التربية إلى هذه الشخصية المتكاملة، هذا هو المفترض إذا سلكنا الطريق، وهذه الشخصيات المتكاملة هي التي تتكون منها القاعدة الصلبة التي سيقوم عليها المجتمع المسلم.
ما هو سبب ردة بعض الكفار الذين كانوا أسلموا ثم رجعوا إلى الكفر مرةً أخرى؟
وما هو سبب انتكاس بعض الناس الذين هداهم الله إلى أجواء الشهوات مرة أخرى؟ وتركوا الدين وانحلوا وقد كانوا يوماً من الأيام أسرجةً وهاجةً وكانوا منارات وشعلات يعملون للإسلام ويضحون في سبيل الله، ثم انطفأ هذا الوهج وهذا النور وعادوا فحماً أو سود من الجاهلية التي كانوا فيها؟ ما هو السبب أيها الإخوة؟
الجواب: في الغالب عدم وجود قنوات تربوية تستوعب هذه الشخصيات لإكمال المشوار.
بعض الناس يقول: سوف أركز جهودي على هؤلاء الكفار، وأدعوهم إلى الإسلام، وأعطيهم مصحفاً مترجماً، وأكلمهم عن الدين ومحاسن الإسلام، رجل تأثر في لحظة من اللحظات وأسلم وغيَّر اسمه وأخذ الشهادة من المحكمة.. إلخ وبعد ذلك، عملت مع جاري ودعوته وكلمته ونصحته بالأسلوب وبالشريط وبالكتاب وبالمؤثرات، فتأثر الرجل فترة من الفترات، وتسلطت عليه أنوار الإيمان واهتدى، وترك المعازف والأغاني والمجلات والمسلسلات وقرناء السوء وعمل المنكرات والتزم وصار يصلي في المسجد، وبعد ذلك أتى لسؤال الكبير والكبير جداً، وبعد ذلك هل انتهت المسألة عند هذا الحد؟
بعض الناس يظنون أن القضية هي أنك تهدي الكافر إلى الإسلام، والضال إلى طريق الهداية فقط، وتذهب لتبحث عن غيره، المهم أن تزيد العدد، هات كفاراً جدداً يسلموا، هات ضلالاً جدداً يهتدوا.. ماذا فعلت بالكفار الذين أسلموا؟
ماذا فعلت بالضلال الذين اهتدوا؟ بماذا أكملت لهم؟ وبماذا ساعدتهم وارتقيت بهم؟
أيها الإخوة: حفظ رأس المال مقدم على الأرباح.
والتربية مهمة لاستثمار نتائج الجهود الدعوية، ولإكمال المخطط الإيماني، لم تنتهِ المسألة، ما زلنا في أول خطوة، نحن صعدنا به أول درجة من السلم، فما الذي يرتقي به بقية السلم؟
هذه هي طريقة التربية.
إذاً: كانت الدعوة هي المرحلة السابقة للتربية، فالتربية مرحلةٌ لا بد منها بعد الدعوة لكي يحافظ على المكاسب التي جنيناها من وراء الدعوة، والذين يظنون أن وظيفتهم هي الدعوة إلى الله فقط، ثم لا يكون المشوار مع من دعوهم إلى الله، ومن اهتدوا إلى الإسلام، ومن رجعوا إلى الإيمان بعد الضلال، فهؤلاء الناس ما فقهوا منهج الأنبياء.
ولذلك الدعوة مهمة جداً لإكمال المشوار لهؤلاء، وظني أن الذي يكمل المشوار بشخصٍ أسلم ويرتقي به ويعلمه ويوجهه ويمضي معه الطريق فترة حتى يثبت عوده ويقول له: الآن انطلق أنت صاحب رسالة، أنت الآن ادع إلى الإسلام، هذا المنهج معك، خذ كتابك بيمينك وامض، ظني به أنه لا يقل أجراً أبداً عن الشخص الذي أدخله في الإسلام أول مرة إن لم يكن أكثر، لأن الشطارة الآن، ولا نقصد بهذه الكلمة معناها اللغوي السيئ، نقول: ليس الجهد والاعتناء والهدف فقط هو إدخال الناس، وبعد إدخالهم ماذا سيحدث؟
السؤال الذي يطرح نفسه، السؤال الكبير، وكثيرٌ من الناس عندهم استعداد لأن يؤثروا على أشخاص بالالتزام بالإسلام لكن قلة من الناس الذين عندهم استعداد أن يأخذوا بأيدي هؤلاء الأشخاص مرتبةً مرتبة، ودرجةً درجة، لتنقية شخصياتهم من رواسب الجاهلية، وملء نفوسهم بالتصورات الإسلامية، وإعداد هذه الشخصيات لتكون في المستقبل دعاةً إلى الله عز وجل.
إذاً: الوقاية والحماية والتعليم لا بد من إعطائه وبذله بطريق التربية إلى هؤلاء القادمين الجدد.
إن الذين تصهرهم بوتقة التربية فيصبحون جسداً واحداً هم الذين يحصل بينهم هذا التلاحم، وتأمل معي المحبة التي حصلت في نفوس الصحابة بفعل تلك التربية النبوية التي صهرت شخصياتهم حتى صاروا جسداً واحداً، قصة وفاة سعد بن معاذ رضي الله عنه: لما أصيب سعد يوم الخندق وحكم في بني قريظة قال: اللهم إن كنت أبقيت على نبيك من حرب قريشٍ شيئاً فأبقني لها، وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك، وكان قد أصيب في معركة الخندق بجرحٍ في أكحله، رماه ابن العرقة المشرك بسهمٍ فقطع هذا العرق في الذراع فنزف الدم منه، ثم كاد الجرح أن يندمل ولم يرد سعد أن يفوته أجر الشهادة في سبيل الله؛ لأن الذي يموت من أثر الجراحة شهيد، فقال هذا الدعاء، والذي حصل أن الله قد قدَّر أنه لم تهجم قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الخندق أبداً.. (الآن نغزوهم ولا يغزونا) قالت عائشة -وراوية القصة في مسند الإمام أحمد وهو حديث حسن وبعضه عند البخاري - قالت (فانفجر كلمه -جرحه- وكان قد برأ، حتى ما يرى منه إلا مثل الخرص، ورجع إلى قبته التي ضربها له رسول الله صلى الله عليه وسلم) الانتقال من سياق أحمد إلى سياق البخاري الآن: (فضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمةً في المسجد ليعوده من قريب، وفي المسجد خيمة من بني غفار فلم يرعهم، إلا والدم يسيل إليهم، فقالوا: يأهل الخيمة! ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ إذاً: كان جرح
عودة إلى سياق الإمام أحمد: قالت عائشة : (فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم و
فإذاً الذي جعل عمر ؛ وهو من أشد الناس في دين الله، وأقواهم شخصيةً تقريباً، جعله يبكي كالطفل على وفاة أخيه سعد ، هي هذه الأخوة، وهذا هو الترابط الذي حصل في صفوف ذلك المجتمع، وكانوا كما أمر الله: رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29] فقل لي بربك: ما هو الذي أنتج هذا الأمر؟ هل هو المسلكيات الفردية ليذهب كل إنسان فيفعل بنفسه ما يشاء، ثم يقول: لقد تربيت وارتقيت وعملت ووصلت؟ أم هي تربية جماعية نبوية فيها القدوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها المنهج كتاب الله وسنة نبيه؟!
فإن المجتمع فيه طاقات، والتربية توجه كل إنسان فيما يحسنه وفيما يبدع فيه، وتوجيه الأفراد إلى مواقع الإبداع هذا لا شك أنه من الأهداف التربوية، تأمل هذا الحديث الحسن: (أرأف أمتي بأمتي
تأمل.. كيف أن التربية وجهت هذا الذي أبدع في الفقه إلى الفقه، وهذا الذي يبدع في الفرائض إلى الفرائض، وهذا الذي يبدع في القراءة إلى القراءة، وهذا الذي يبدع في القضاء إلى القضاء، وكان هذا متصفاً بالرأفة فنمت الرأفة في جو التربية، وهذا متصف بالشدة فتوجهت الشدة لنصرة دين الله في جو التربية، وهذا حياؤه موجودٌ معه، وهذا أمانته تحيطه وتحميه.
فقد وجدنا في الأجيال التي تلقت تربيةً: حكمةً، وانضباطاً، واتزاناً، وتضحية، وثباتاً، وإقداماً.. وهكذا، ووجدنا في الأجيال التي لم تتلق تربيةً في الغالب: فوضوية، وعدم انضباط، وتسرعاً، وخلخلة، وزيغاً، وتركاً لطريق الثبات على المنهج، فهذه مقارنة تدفعنا إلى الاعتناء بالتربية؛ لأننا نعلم النتيجة التي ستئول إليها الأحوال بعدمها، والنتيجة التي ستئول إليها الأحوال بوجودها.
بعض الناس يقول عندما يرى المد العامي الهادر: جاء نصر الله، وعندما يرى هذه الجموع يقول: إن الإسلام قد انتصر في المعركة، ولكن حقيقة هذه الجموع التي تجمعهم كلمة ويفرقهم جندي، لا تغتر بها إذا وقعت المحنة، ونزلت الفتنة، هذه الدعوات التي كان لها أتباع بالملايين لما نزلت المحنة من الذي بقي ومن الذي صمد؟
كثيرٌ من هؤلاء المستعجلين يقولون: ادفعنا إلى المواجهة فنحن على استعداد، ونحن نذكر لهم في هذه المناسبة قصة طالوت ومن معه من بني إسرائيل:
a= 6000252>أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً [البقرة:246-247] جاءت المنازعات أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَال [البقرة:247] وبعد الرد والمناقشات والإقناع هدئت الأمور، قال لهم طالوت بعد أن جيَّش الجيش وسلحه إلى المواجهة، نحن على استعداد، نريد أن نقاتل، قال لهم: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة:249] لما جاء التمحيص شربوا منه إلا قليلاً منهم، سبحان الله!! هذه الجموع الغفيرة وهذه الكثرة الكاثرة لما جاءوا على النهر، ولم يبتدئ القتال، ما فيها سيوف ولا دماء ولا أشلاء ولا جراح ولا شيء، هذا النهر فقط إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة:247] ما الذي حصل؟
a= 6000253>فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ[البقرة:247] وبعدما جاوزوا النهر ورأوا الجيوش قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ [البقرة:247] هؤلاء الذين صمدوا في فتنة النهر قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249] فانظر كم مرحلة من مراحل النخل والتمحيص مرت بهذا الجيش من بني إسرائيل، وكم صمد في النهاية، لكن الذين صمدوا هم الذين كتب الله على أيديهم النصر والتمكين فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ [البقرة:251].
فإذاً: عندما نتذكر معركة حنين وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة:25] من الذي رجع وقاتل مع الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هم الذين ناداهم وقال: يا أصحاب بيعة الشجرة! يا أصحاب بيعة الرضوان! فجاء هؤلاء الأنصار والمهاجرون ورجعوا، أما الناس الذين التحقوا بالجيش وهو يمشي مع الكثرة الكاثرة فقد شردوا ولم يرجعوا إلا لاقتسام الغنائم.
إذاً: هذه التربية المهمة جداً، للإعداد للمواجهة.. إعداد للمحنة.. إعداد للفتنة إذا نزلت، نسأل الله ألا يفتننا.
هذا الكيد كله من الذي سيصمد في وجهه؟
هل هم أناس جاءوا هكذا من الشارع، وقالوا: نحن مسلمون نحب الإسلام، صلوا على النبي: اللهم صلِّ على محمد، اذكروا الله: لا إله إلا الله!! هذا الجمع، لا، إن هذه الأمور لا تكفي، إن هذه المسابح وغيرها من الأشياء ليست هي الطريقة.
إن الطريقة طريقة إعداد ما يمكن أن يصمد أمام هذه الهجمات على ديار الإسلام هو شخصيات تربت على الإسلام، بدون تربية لا يوجد صمود، وأنت ترى يومياً من أجيال المسلمين كم فرد يضيع! كم فرد ينحل! كم فرد يضل! كم فرد ينهار! كم فرد يغرق في بحار الشهوات والشبهات! لا يعلم عددهم إلا الله.. أبناء المسلمين أمانة في أعناق دعاة الإسلام، من المسئول؟ ما هي الطريقة للإنقاذ؟
الطريقة هي تربية هؤلاء الناس، أما أن تلقي موعظة وتذهب، فتؤثر وقتاً ما لكن بعد ذلك يذهب أثر الموعظة ويرجع الحال إلى ما كانت عليه الأمور، وأنت ترى الناس يخرجون بعد صلاة الجمعة أحياناً متأثرين جداً، بل قد يبكون في الخطبة، فماذا يفعلون بين الجمعتين من المعاصي؟ وأين ذهب أثر الخطبة عليهم؟ فتعلم عند ذلك أن مسألة إلقاء موعظة فقط ليست هي الطريقة الوحيدة.
ويقول أبو هريرة: [طرقوا للأمير]، الأمراء الذين على الأمصار، الناس الذين استلموا الدواوين ديوان الجند، وديوان وديوان، زيد بن ثابت هو الذي تولى قسمة الغنائم بعد معركة اليرموك، هذه الشخصيات التي صارت تدير الأمور واستلمت زمام الأمور من أين جاءت؟ هؤلاء الناس الذين تفرقوا في الأمصار كل واحد أمة يعلم الناس هؤلاء الصحابة، الصحابة هؤلاء الذين تفرقوا جمعتهم منطقة التربية المحمدية فصقلت شخصياتهم حتى صارت قوية، الآن صاروا قدوات انتشروا في الأرض، وصار كل واحد قدوة لبلدٍ من البلدان، هؤلاء من الذي أتى بهم؟
الحل الوحيد لانتشال الأمة: إيجاد النموذج، وتوسيع القاعدة، الآن العصر الذي نعيش فيه لا تعطي فيه الفردية ثمرة تذكر.
النفوس بطيئة الفساد إذا كانت صالحة.. بطيئة الصلاح إذا كانت فاسدة، قلة وندرة من البشر يهتدون من كلمة واحدة، وأما الأكثرية فلا بد من تأنٍ، الفطرة موجودة في نفوسهم، وإن الله لينزع بالسلطان مالا ينزع بالقرآن.
إذا لم يكن هناك مجال لأن تنزع بالسلطان الآن فلا يوجد طريق إلا أن تنزع بالقرآن، فلذلك الآن التربية الآن هي الطريقة الوحيدة للوصول إلى تكوين كيان المجتمع الإسلامي، سنستبطئ الطريق، نعم.. تتغير الأجيال وربما لا يأتي النصر.
سلبيات الله بها عليم، لأن هذا العمل الذي يعمله كثيرٌ منهم لا يقوم على السياسية الشرعية، فانحرف وسار بغير ضوابط إلا من رحم الله، فانظر ماذا حصل من المنكرات:-
1- صلة مباشرة بالطواغيت، وموت القلب، وتقديم تنازلات.
2- نسبة التقصير للإسلام في عيون العامة.
3- الوقوع في شرك الديمقراطيات الوهمية التي نصبها أعداء الإسلام لدعاة الإسلام.
4- اشتراك في مجالس لا تعلن سيادة الشريعة بل تعلن سيادة القانون الوضعي.
5- المساهمة في خروج قانون جاهلي ضمنياً باسم بعض دعاة الإسلام.
6- القسم المحرم الذي يقوم به بعضهم.
7- حصر العمل الإسلامي كله في هذه الزاوية، وانحصار التربية والانشغال عنها وعن الدعوة.
8- السكوت على كثير من المنكرات والأباطيل.
9- وقوع بعض المشاركين من المسلمين في استغلال النفوذ للإضرار بمسلمين آخرين.
إذاً: الذين يظنون أن المسألة -مثلاً- مسألة إنكار منكر.. دروس عامة أيضاً هم أناسٌ مخطئون؛ لأن الطريق هو طريق التربية، وهذه الروافد التي ستدعم أي جهدٍ يقوم هي روافد التربية، وبدونها يكون الجهد معلقاً في الهواء ليس له أساسٌ في الأرض أبداً، وذلك فإنه ينهار عما قريب.
إذاً: لا يوجد وقت تقول فيه: أنا الآن لا أحتاج إلى تربية، لأن شخصيتي قد اكتملت، هؤلاء الصحابة لا يزال يتربى بعضهم على بعضٍ حتى ماتوا رضي الله عنهم، فلا تزال نفوسنا تحتاج إلى توجيه وتذكير وتزكية وضبط، ونحن لم نبلغ رتبة الصحابة، إذا كان هؤلاء لا يزال بعضهم يتربى من بعض فنحن أحق وأحوج إلى ذلك منهم، لأننا لم نبلغ ما بلغوا.
فهذه -أيها الإخوة- لمحة عن الأشياء التي تجعلنا نحتاج إلى التربية، ونوقن بأن التربية هي الطريق، وكل طريقٍ غيره لا يوصل، وإذا أوصل يوصل إلى نتائج تكون في كثيرٍ من الأحيان نتائج خاطئة وليست هي المطلوب، وإنما هي عبارة عن صور مشوهة لما يظن أنه مجتمع إسلامي وليس كذلك.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يفتح بيننا وبين قومنا بالحق، وأن يهدينا سبل السلام، وأن يخرجنا من الظلمات إلى النور، وأن يسلك بنا سبيل التربية الإسلامية، وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر