يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أما بعد..
فنحمد الله -سبحانه وتعالى- أن أعادنا وإياكم إلى هذه المجالس التي نسأله سبحانه أن يجعلها من مجالس الذكر، وأن يجعلنا وإياكم من المقبولين عنده، ومن الذين تحفهم الملائكة، وتغشاهم الرحمة، ويذكرهم الله فيمن عنده، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا في أحوالنا كلها من المستقيمين على شرعه، المتمسكين بسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وموضوعنا هنا يتعلق بالقلوب.
وموضوع القلوب موضوع حساس وهام، والقلب يتقلب بشدة؛ كما وصفه عليه الصلاة والسلام: (كالقدر إذا استجمعت غلياناً) بل هو أشد من القدر إذا اشتد غليانها، وهو يتقلب -أيضاً- كما يصفه عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الآخر ( كالريشة في الأرض الخلاء تقلبها الرياح ظهراً لبطنٍ، وبطناً لظهرٍ ).
هذا القلب يحتاج إلى نوع خاص من التربية، وهي التربية الإيمانية، فالجسد يحتاج إلى ما يغذيه، وكذلك القلب يحتاج إلى ما يغذيه، الجسد حتى يكون سليماً يجب أن تمنع عنه الأشياء الضارة؛ مثل: السموم والآلات الحادة وغيرها، كذلك القلب يجب أن تمنع عنه الأشياء الضارة. الجسم أحياناً يحتاج إلى نوع من الحمية حتى من الأشياء المباحة لكي يسلم، وكذلك القلب يحتاج إلى حمية، والتربية الإيمانية أهم نوع من أنواع التربية، ويمكن أن نعرف التربية الإيمانية: بأنها تنقية القلب والارتقاء به حتى يكون سليماً، قال تعالى: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:89] وأن توصل هذه التربية الإنسان إلى مرحلة الإحسان، وهي التي وصفها عليه الصلاة والسلام بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه) ومجال هذه التربية في القلب.
والأشياء الموجودة في القلب من الإيمان: قول القلب وعمله؛ قول القلب التصديق واليقين الجازم الذي لا شك معه، وعمل القلب في أشياء كثيرة، منها: الرجاء والخوف والخشوع والحياء والمحبة.. إلى آخره.
كل واحدٍ فينا فيه واعظ من الله عز وجل، والدليل على ذلك الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبوابٌ مفتحةً، وعلى الأبواب ستورٌ مرخاةٌ) أي: مثل الستائر (وعلى باب الصراط داعٍ يقول: يا أيها الناس! ادخلوا الصراط جميعاً، ولا تتعودوا، وداعٍ يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب -يعني: المحرمات- قال الداعي من فوق الصراط: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه) لو كشفت الستار؛ ستلج. فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله تعالى، والأبواب المفتحة محارم الله تعالى، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط الذي يقول: (ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه) واعظ الله في قلب كل مسلم.
أي مسلم يريد أن يقدم على معصية وكان من الذين في قلوبهم خوفٌ من الله، لا بد أن يكون هناك شيء في قلبه وضميره يعظه ويقول له: لا تفعل حتى لو وقع في المعصية؛ لأن النفس الأمارة بالسوء غلبت واعظ الله في قلبه، وإلا فواعظ الله موجود.
فالتربية الإيمانية تهدف إلى تقوية واعظ الله؛ حتى يتغلب واعظ الله على النفس الأمارة بالسوء.
نحن الآن لا نتكلم عن البعداء عن الإسلام بالكلية والخارجين عن ملة الإسلام، لا. إنما نتكلم عن أناس فيهم خير، لكن اعتراهم ضعفٌ في إيمانهم، وهذا الضعف في الإيمان قد يكون من البداية، مثل: إنسان كانت بداية دخوله في الدين -أصلاً- فيها أخطاء، وبدايته غير صحيحة تماماً، ولذلك إيمانه بقي ضعيفاً مع سيره في طريق الإسلام، لأن البداية فيها أخطاء.
هناك أناس دخلوا في الدين بحماس، والتزموا بشرع الله عز وجل.. أقبلوا على الله، لكن مع طول الوقت واستمرار الزمن حصل عندهم ضعف في الإيمان، إلى هؤلاء سنتكلم ونوجه هذا الحديث.
الحقيقة -أيها الإخوة- أن الكلام في قضايا الإيمانيات يحتاج إلى أشخاص متخصصين، يتميزون بالشفافية، وقوة الصلة بالله عز وجل، والمداومة على العبادة؛ لأن الحديث الذي يخرج من قلوب هؤلاء يدخل في القلوب، وأحياناً الواحد قد يتعب في موضوع مثل هذا ويحضر نقاطه، ولكن لا يدخل في قلوب السامعين دخولاً قوياً، بينما تجد إنساناً مجتهداً في العبادة، متصلاً بالله عز وجل صلة قوية، يتكلم كلمات بسيطة في مثل هذه القضايا، فيبدع إبداعاً كبيراً ويدخل كلامه في النفوس.
وأحياناً تجد الواحد قد ينتقي موضوعاً من هذه الموضوعات في حالة يكون فيها في وضع إيماني طيب، فإذا جاء يتكلم حصل لإيمانه نوع من الانخفاض، فلا يتأثر السامعون كثيراً بكلامه.
وعلى أية حال أقول: أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه عندما خطب في المسلمين، قال: [إني وليت عليكم ولست بخيركم] وهو خيرهم، ولكنه قال هذا تواضعاً.
والواعظ الذي يتكلم في موضوعات إيمانية لا يشترط أن يكون هو أحسن الموجودين؛ لأني أجزم -الآن- أن منكم من يستطيع أن يؤثر في السامعين أكثر مني، ولكني أستعين بالله عز وجل ما دمنا قد انتقينا الموضوع وتورطنا فيه، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يكتب النفع.
1- أنها كفيلة بتصحيح النيات، وترسيخ الإخلاص، وإيجاد الضمانات لعدم حصول الانحرافات والأمراض القلبية، مثل: الرياء، وحب الرئاسة، وغيرها.
2- التربية الإيمانية مهمة للفرد المسلم حتى تحميه من هذه الانحرافات والأمراض.
3- وهي كذلك مهمة حتى يذوق المسلم حلاوة الإيمان؛ وحتى لا يكون هذا الإيمان بارداً جافاً ليس فيه حرارة في قلبه وضميره، وحتى يعمر الإيمان قلب المسلم بحيث يصبح هذا الإيمان في القلب مصدر الدفع، والمحرك الدائم لكل الأعمال الصالحة.
4- وكذلك التربية الإيمانية مهمة لإيجاد إيجاد الأوساط الإيمانية التي من خلالها يتربى الناس ويتحولون إلى لبنات صالحة في بناء المجتمع المسلم الكبير.
5- كذلك التربية الإيمانية مهمة لضمان نجاح العمل الإسلامي الذي يختلف عن بقية الأعمال، ويتميز عنها أكثر ما يتميز بهذه النقطة وهي الأشياء الإيمانية، لأن أي عمل تجاري يكون فيه دقة وقوة وحركة دائبة، وفيه تنسيق وتخطيط، وكفاءة عالية، كذلك العمل الإسلامي ينبغي أن يكون كذلك، لكن ليست هذه الأشياء هي التي تفرق بين العمل الإسلامي وغيره بقدر ما تفرق القضايا الإيمانية بين العمل الإسلامي وغيره، وبدون الأشياء الإيمانية تتحول الدعوة إلى الله إلى شبه أعمال روتينية مثل القضايا التجارية فيها تخطيط وتنسيق وكفاءة عالية، فالذي يميز هذه عن هذه قضية الأعمال الإيمانية أعمال القلب وأمور الإيمان.
6- وأخيراً فإن التربية الإيمانية مهمة؛ لأنها جالبةٌ لتوفيق الله الموصل إلى النصر، وإلا فإن الإخفاق والإحباط مصير كل عمل لا يلتزم بهذه الإيمانيات.
ومن مظاهر ضعف الإيمان: التعلق بالدنيا والشغف بها، وتهيج شهوات الجسد المحرمة، والاسترواح إليها، ويتعلق القلب بالدنيا، لدرجة أن يحس صاحبه بالألم إذا فاته شيءٌ من حظوظ الدنيا؛ كالمال والجاه والمنصب والمسكن، ويعتبر نفسه مغبوناً سيئ الحظ؛ لأنه لم ينل ما نال غيره، ويحس بألم أكثر وانقباض إذا رأى أخاه المسلم قد نال بعض ما فاته هو من حظوظ الدنيا، وقد يحسده، ويتمنى زوال النعمة عن أخيه المسلم.
الناس اليوم يجلسون فترات طويلة ما بين التزامهم بالدين حتى يصل إلى مرحلة يدعو فيها إلى الله، لا يتحرك مباشرة، والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتحركون مباشرة، حتى إرهاب الكفار ومفاصلتهم كان يتمثل مباشرة في نفس المسلم بعد إسلامه.
ثمامة رضي الله عنه وأرضاه رئيس ومقدم أهل اليمامة لما أسر وجيء به وربط في المسجد، وعرض الرسول صلى الله عليه وسلم عليه الإسلام، ثم قذف الله النور في قلبه فأسلم، وكان يريد أن يعتمر في الجاهلية، فذهب إلى العمرة في الإسلام، قال للكفار: لا يصلكم حبة حنطة من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه قضايا مفاصلة الكفار، ومحاصرتهم اقتصادياً، وتقديم الفاعليات، والإمكانيات في سبيل الله، حصلت مباشرة؛ لأن الإيمان في قلب ثمامة استوجب هذا العمل، والمسلمين الآن لم يصلوا إلى مرحلة يتميزون فيها عن الكفار ويفاصلونهم إلا بعد فترة من دخوله في الدين.
بعض الناس عندما يريد أن يعمل عملاً، يسأل هل هذا العمل فيه إثم، أم لا؟ ولا يسأل عن أعمال فيها أجر، أم لا؟! وهذه النفسية تؤدي إلى الوقوع في أشياء من الشبهات والمكروهات، أي أن: صاحب هذه النفسية لا يوجد عنده مانع أن يرتكب أمراً مكروهاً، أو يقع في أي شبهة ما دام أنها ليست محرمة. وهذه أسئلة واقعية جاءت من بعض الناس، يقول: ما حكم الشيء الفلاني؟
الجواب: حرام لا يجوز، والدليل كذا، فيقول:حرام قليل، أو كثير؟ لأن ما عنده اهتمام بالابتعاد عن المنكر والسيئات ولو كانت سيئة واحدة، ولو كان العمل في أول مراتب الحرام، فهذه النفسية من أين أتت؟ من ضعف الإيمان، وينتج عن ذلك الجرأة على محارم الله، وعدم الشعور بأي حاجز بين الإنسان وبين المعصية، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن أناس كما في الحديث الصحيح: (أنهم يأتون يوم القيامة بحسنات كأمثال الجبال، فيجعلها الله هباءً منثوراً)، يقول عليه الصلاة والسلام: (لأنهم كانوا إذا خلوا بمحارم الله، انتهكوها) بكل سهولة ينتهك المحرم، ليس هناك تردد.. بعض الناس يقع في المحرم، لكن يتردد قبلها كثيراً قبل أن يقع في المحرم، وبعض الناس يقع في المحرم بكل سهولة، مثل: شرب الماء! وكلا الشخصين على خطر، لكن أحدهما أخطر من الثاني، أي: كون الواحد يقع بعد تردد وتحرج هذا أهون قليلاً من الذي يقع في الحرام مباشرة بكل سهولة يأكل الحرام -يقع في الحرام- ينظر إلى الحرام، يستمع إلى الحرام دون أدنى تحرج، وهذه نوعية من الناس أيضاً نتيجة ضعف الإيمان يستسهل الذنوب، ولا يرى أنه عمل شيئاً منكراً، ولذلك يصف ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه في صحيح البخاري حال المؤمن وحال المنافق، يقول: [ المؤمن يرى ذنوبه كجبل يوشك أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه، فقال به هكذا، فطار ] هذا الشعور نتيجة استسهال المحرمات، واستسهال الوقوع فيها.
ماذا تكلفك الابتسامة في وجه أخيك؟ لا شيء .. عمل سهل جداً، لا تحتقر هذا المعروف، لا تقل: هذه قضية ثانوية وجزئية، وما فيها إلا حسنات قليلة، لا؛ لأن هذا العمل البسيط قد يكون سبباً في مغفرة الذنوب كلها، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (بينما رجلٌ يمشي في طريق، وجد غصن شوكٍ على الطريق، فأخره) أزاله جانباً حتى لا يؤذي المسلمين (فشكر الله له، فغفر له) بسبب إزالة غصن من الشوك عن طريق المسلمين.
فإذاً من ضعف الإيمان أن تحتقر الحسنات البسيطة، لو رأيت سجادة المسجد وسخة، ولا تحتقر إزالتها، وفي إزالة أوساخ المسجد وردت الأحاديث الصحيحة؛ كحديث المرأة السوداء التي كانت تقم المسجد على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فماتت في الليل، فدفنوها دون أن يؤذنوا رسول الله حتى لا يزعجوه، فلما أصبح عليه الصلاة والسلام وافتقدها، قال: (أين هي؟ قالوا: ماتت ودفناها، قال: دلوني على قبرها) فذهب عليه الصلاة والسلام إلى قبرها بنفسه وصلى عليها؛ لأنها كانت تقم المسجد. أي: تنظف المسجد.
ومن علامات ضعف الإيمان: عدم الاكتراث لفوات مواسم الخيرات، يعني: لو جئت لأحد الناس، وقلت له: هل صمت أمس؟ لأن أمس كان يوم عرفة، أو عاشوراء، قال: والله نسيت ما تذكرت، والأمر عادي، خيرها في غيرها! فعدم الاكتراث لفوات مواسم الخيرات يدل على عدم اهتمام الشخص بتحصيل الخير والحسنات نتيجة ضعف الإيمان في نفسه.
وكذلك من علامات ضعف الإيمان: أن يقول الإنسان ما لا يفعل، والله يقول: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:3].
ومن علامات ضعف الإيمان: أن يأخذ كلام الإنسان وأسلوبه الطابع العقلاني البحت، ويفقد السمة الإيمانية حتى لا تكاد تجد في كلام هذا الشخص أثراً فيه نص من القرآن، أو السنة، ولا للتسليم بشرع الله، يعني: تجد كلاماً عقلانياً، وحججاً عقلية، ليس فيها قرآن ولا أحاديث، بل طبيعة الجدال والنقاش فقط، ولذلك الكلام غير مؤثر حتى لو أتى بأدلة كثيرة عقلية، لا يؤثر في نفوس الآخرين.
ومن أعراضه: الشح والبخل.
ومن مظاهر ضعف الإيمان: المغالاة في الاهتمام بالنفس؛ أكلاً.. ولبساً أناقة.. مسكناً.. مركباً، تجد الإنسان هذا ضعيف الإيمان يهتم بالكماليات جداً، يهتم بلباسه جداً، ويشتري أغلى الأقلام، ويهتم بسيارته جداً، في مسكنه يزوقه ويحسنه، وينفق الأموال والأوقات في هذه التحسينات، وليس لها ضرورة، وليست حتى مما يسهل الحياة العملية، وإنما مجرد إنفاق أموال تضيع في أشياء لا فائدة منها، ويقدم اهتمامه بنفسه على الآخرين، وينفق أمواله والمسلمون يحتاجون إليها حتى يقع في التنعم أي: الترفه الزائد عن الحد، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث به إلى اليمن ، قال: إياك والتنعم، فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين).
إذن! الإغراق في الأناقات، والإنفاق على النفس في الكماليات، والتزويق والتحسين، هذه الأمور دليل على أن الإنسان مستعد أن ينفق أموالاً وأوقاتاً غير مكترث لإنفاق هذه الأموال والأوقات في أشياء أهم منها.
إذاً طول الأمد والوقت.
أحد الناس ابتعد عن الأجواء الإيمانية فترة طويلة فكان هذا مدعاة لضعف الإيمان في نفسه، فمثلاً -أيها الإخوة-: أحد الناس ابتعد عن إخوانه في الله فترة طويلة لسفر أو لوظيفة أو لأي شيء، صار عنده انشغال، فابتعد عن إخوانه، والأخوة كما يقول الحسن البصري : [ إخواننا أغلى عندنا من أهلينا، فأهلونا يذكروننا بالدنيا، وإخواننا يذكرونا بالآخرة ].
عندما يبتعد الإنسان عن إخوانه، فإنه يفقد الجو الإيماني الذي كان يتنعم في ظلاله، ويستمد منه قوة قلبه، والمؤمن قليلٌ بنفسه كثيرٌ بإخوانه، والجو الذي يعيش فيه الأخ بين إخوانه في الله جو مهم جداً، فعندما يبتعد الإنسان عنه لفترة ويطول عليه الأمد يقسو قلبه.
الابتعاد عن القدوة، مثلاً: إنسان يتعرض لنفحات تربوية من أخ له في الله هو أعلى منه علماً وإيماناً، فيتربى تحت يديه، فإذا ابتعد عن هذا القدوة فترة من الزمن يقسو قلبه.
إذاً الابتعاد عن أهل التقوى، وعن القدوات الصالحة، والانشغال عنهم لسفر، أو وظيفة، أو أي شيء يسبب ضعف الإيمان.
صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم لما توفي عليه الصلاة والسلام، واروه من هنا، وقالوا: فأنكرنا قلوبنا، يعني: بعدما واروا جثمان الرسول صلى الله عليه وسلم، قالوا: أنكرنا قلوبنا، أحسوا بوحشة في قلوبهم؛ لأن المصدر -المعلم المربي- مات عليه الصلاة والسلام، وكما ورد في وصفهم في بعض الآثار: فكانوا كالغنم في الليلة الشاتية المطيرة، كذلك الصحابة -رضوان الله عليهم- أحسوا في وحشة في قلوبهم، مع أنهم من المحافظين على إيمانهم، أحسوا بوحشة مع أن فيهم: أبا بكر الصديق ، وعمر وعثمان وعلي وقدوات كثيرة من الصحابة، لكنهم أحسوا بوحشة؛ لأن قلوبهم حساسة جداً.
الآن بعض الناس يبتعد عن إخوانه في الله، ويبتعد عن الأجواء الإيمانية، يحس بوحشة، لكن لا يتدارك الأمر، حتى تصير الوحشة شيئاً طبيعياً، ثم تحدث نفرة في قلبه من تلك الأجواء الإيمانية، يقسو القلب، ويضعف الإيمان فعلاً.
الابتعاد عن طلب العلم الشرعي، والاتصال لكتب السلف الإيمانية: كتب تحريك القلوب، فهناك أنواع من الكتب تحس وأنت تقرأ فيها بأنها تحرك قلبك.. بأنها تستثير الإيمان الكامن.. بأنها تحرك الدوافع الإيمانية في القلب.
من أفضل الأمثلة على هذه الكتب: كتب ابن القيم رحمه الله، تجد أنه يتطرق بشكل أو بآخر، ويعرض القضية بأسلوب إيماني.
بعض كتب الفقه فيها نوع من الجمود الإيماني في عرض الأحكام، بعض العلماء يتميزون بأسلوب إيماني حتى في عرض الأحكام، فكيف بالأشياء الأخرى؟! لذلك الانقطاع عن هذه الكتب، والإغراق في قراءة الكتب الفكرية فقط، أو كتب الأحكام المجردة عن الإيمانيات فقط، أو كتب اللغة والأصول -مثلاً- فقط من الأشياء التي تورث قسوة القلب أحياناً؛ لأنه انشغل بقرائتها عن قراءة الكتب الإيمانية الأخرى.
نحن لا نذم الناس الذين يطلعون في اللغة والنحو والأصول وغيرها، لا. لكننا ننبه إلى أولئك الناس الذين أعرضوا عن كتب التفسير والحديث مثلاً، فلا تكاد تجده يقرأ في التفسير، ولا في الحديث، مع أن التفسير وأحاديث الصحيحين وغيرها من أهم الأشياء التي تصل القلب بالله عز وجل.
يا أخي! عندما تقرأ في الصحيحين -مثلاً- تحسن بأنك تعيش في أجواء العصر الأول، تحس كأنك تعيش مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومع الصحابة، تتعرض لنفحات إيمانية، هذه سيرتهم وطريقتهم، هذه الأحداث التي جرت في عصرهم، تحس أنك تعيش فيها، تحس أنك فرد منهم.
فالوصية -أيها الإخوة- بقراءة كتب الأحاديث.. كتب السيرة، ومن الذين يتعرضون لهذا بشدة الذين يقرءون ويدرسون دراسات لا علاقة لها بالإسلام، مثل: الذين يدرسون الكتب التجارية، وفيها كلام عن الربا والبنوك، أو كتب علم الاجتماع والفلسفة، وككتب علم النفس البعيدة عن الإسلام التي فيها نظريات كثيرة تقسي القلب وكلام يقسي القلب، وأحياناً يأتي لك بأمثلة فلان وفلانة، وسكرتيرة وكذا وكذا، هذا لا بد أن ينتبه له.
الذين يدرسون في تخصصات الجامعات غير الشرعية، نعم .. هي تفيد المسلمين، لا نقول: لا تدرس، لكن انتبه وأنت تدرس في هذه الأشياء، فكثرة القراءة فيها تقسي القلب، لذلك الواحد لو أنه يذاكر للامتحان، ويقرأ في هذه الكتب، لا بد أن يتبع ذلك قراءة قرآن، أو قراءة في كتب أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرها، حتى يطري تلك القسوة التي عرضت له نتيجة القراءة في هذه الكتب، طبعاً قراءة القصص الخيالية، وقراءة قصص الحب والغرام، والمجلات، بعض الناس يغرقون في قراءة المجلات والجرائد، ويتتبع الأخبار من هنا وهناك، ومحطات تلفزيون، ويقول: أريد وعياً، لكن في حقيقة الأمر يقسو قلبه نتيجة لقراءة الأخبار، وقراءة هذه الأشياء، لأن بعض الجرائد والمجلات والأخبار ليس فيها شيء يربطك بالله، كلها أشياء تقسي القلب، ليس هناك شيء تجد فيه رقة لقلبك، ولذلك إذا داومت على سماع هذه الأشياء، وقراءتها أورثتك قسوة القلب فعلاً.
بعض الناس لا يملكون شيئاً، فهذا حال أبيه وأمه، وحال إخوانه، وأخواته، وحال أخواله وأعمامه وزواره، فهو لا يملك أن يغير شيئاً أحياناً، ولا يستطيع أن يقول: أنا سأخرج من البيت وأسكن في الشارع، أو أجلس عند صديقي أثقل عليه، لكن هناك إجراءات لا بد من اتخاذها، والقصد أن هذا سبب من أسباب ضعف الإيمان، ولا شك.
بعض الناس أذهانهم مملوءة بهذه القصص التي تقسي القلب والأحاديث، وأذكر مثالاً حصل لي مرة من المرات، كنت ذاهباً مع صاحب سيارة أجرة من مكة إلى جدة في الليل، وفي الليل ينتهز الواحد الفرصة للكلام مع السائق، فقلت له: أنا أخبرك بقصة، وأنت تخبرني بقصة حتى نصل وحتى لا ننام في الطريق، فأخبرته بقصة في صحيح البخاري ، وجاء دوره ليقص عليَّ قصة، فأتى الرجل بقصة طويلة، ملخصها أن رجلاً شجاعاً في قبيلة ذهب في الحج، ورأى امرأة وأعجب بها، وكانت ساكنة في اليمن ، ثم ذهب إلى اليمن ، وتحايل في الدخول إلى بيتها، واتضح أنها زوجة أمير في اليمن ، ثم عاش معها شهراً داخل القصر في غياب زوجها، وعاشرها بالحرام، ثم هرب بها، وقتل زوجها.
أشياء كلها بالحرام والزنا والقتل، وفي الأخير قتل، ثم لما علمت بمقتله ماتت بسبب الأشواق التي كانت بينهم، فاستمعت إلى القصة حتى أكمل الرجل، وكان هذا الرجل يتجنب الأشياء الفاحشة، أي: تفاصيل الأشياء، لكن هذا الشيء هو الذي في ذهنه، ويتكلم في القصة وهو معجب بها، وعنده قصص كثيرة مثلها، ويقول: نحن أهل البادية هذه قصصنا وحكاياتنا، وما نمضي به الوقت من هذا القبيل، وهذا مشكلة.
طبعاً هناك أناس مثل سائقي الشاحنات هؤلاء يقطعون على الطريق أوقات طويلة جداً، يظل عشر ساعات وعشرين ساعة وأكثر أيامهم على الطريق، هؤلاء يمضون أوقاتهم في أي شيء؟ وطبعاً هناك سائق ومساعد السائق يمضون أوقاتهم في أشعار فارغة، وقصص كقصص الحب والغرام، أو أشرطة أغاني، والمشكلة أنه طول الوقت في السيارة يمشي ويسمع هذه الأشياء، لذلك لا بد من إيجاد حلول، وتقديم أشياء لهؤلاء الناس لعلهم ينتفعون بها، وهذا قطاع ربما الآن مهمل في الدعوة إلى الله، قطاع سائقي الشاحنات، ليس هناك من ينتبه لهم إلى الدعوة إلى الله، وإعطاءهم الأشياء النافعة والمفيدة.
ومن الأسباب الأخرى: الانشغال بالمال، وبالزوجة، وبالأموال، والله عز وجل يقول: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال:28]، وقال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14] زين للناس، فيتعلقون بها، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن في مال الرجل فتنة، وفي زوجته فتنة، وولده) طبعاً هذه ليست دعوة إلى ترك تربية الزوجة والأولاد، لا. هذا من الخير ومن الشيء المطلوب شرعاً، لكن الانسياق وراء الزوجة في المحرمات، والانسياق وراء الأولاد في الشغل عن طاعة الله، والرسول صلى الله عليه وسلم، قال: (الولد مجبنة) إذا جاء المرء يجاهد في سبيل الله قال: ولدي. (مبخلة) إذا جاء ينفق في سبيل الله، قال: ولدي أحق. (محزنة) يركبه الهم والغم إذا أصابه مرض أو غيره؛ فينشغل عن أشياء كثيرة.
فإذاً ليس المقصود ترك التربية، وإنما المقصود الانشغال معهم بالمحرمات، والزوجة منعطف خطير في حياة زوجها أحياناً، والزوج كذلك منعطفٌ خطير في حياة زوجته الملتزمة بدين الله، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن لكل أمةٍ فتنة، وإن فتنة أمتي المال) في صحيح الجامع.
الإفراط في الأكل يقسي القلب، والإفراط في النوم يقسي القلب، والإفراط في السهر يقسي القلب، والإفراط في الكلام يقسي القلب.
والإفراط في مخالطة الناس تقسي القلب، تجد الواحد لا يتفرغ ليحاسب نفسه قليلاً.
كثرة الضحك تقسي القلب، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (وأقِل الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب) والفراغ الذي لا يملأ بطاعة الله حتى لو جلس الإنسان فقط في هواجس بينه وبين نفسه يتخيل أشياء؛ يقسي القلب، فأسباب ضعف الإيمان كثيرة هذا ما نقتصر على ذكره منها في هذا الدرس، وسيكون إن شاء الله موعدنا معكم في الدرس القادم؛ لنتكلم عن موضوع بعنوان "كيف نجدد الإيمان في قلوبنا" وسنتطرق في الدرس القادم بإذن الله إلى علاج هذه المشكلة، لأن ما من إنسان إلا ويعاني من ضعف في قلبه، فسنتكلم إن شاء الله عن حلول وعلاجات لهذه المشكلة.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يسمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على النبي الأمي محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر