بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:
فاسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.
ومع النداء التاسع والأربعين في الآية الخامسة والأربعين من سورة الأنفال، قول ربنا الرحمن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].
قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ [الأنفال:45]، يقال فيها كما قيل في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ [الأنفال:15]، واللقاء أصله مصادفة الشخص ومواجهته باجتماع في مكان واحد، لكن اصطلح على إطلاق لفظة (اللقاء) على ما يكون بين المتحاربين في معترك واحد.
قوله تعالى: فِئَةً [الأنفال:45]، الفئة هي: الجماعة، من فَأَوت إذا جمعت، والمقصود في الآية: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة كافرة؛ ولم يذكر سبحانه وتعالى وصف الكفر؛ لأن المؤمنين لم يكونوا يقاتلون إلا الكافرين.
قوله تعالى: فَاثْبُتُوا [الأنفال:45]، الثبات أصله: لزوم المكان دون تحرك ولا تزلزل عنه؛ لكنه هنا مستعار للدوام على القتال وعدم الفرار، ويسمى أيضاً بالصبر كما في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا )، أي: اصبروا .
قوله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً [الأنفال:45]، اللقاء يكون معه جزع للقلوب، وزوغان للأبصار، وخوف وتردد في ذلك الموقف اذكروا الله فإن ذكره يعين على الثبات عند الشدائد، وذكر الله عز وجل يسكن القلب، ويطمئن النفس، ويجعل اللسان غير مضطرب، فيجتمع هنا ثبات القلب وثبات اللسان، وقد طبق المؤمنون في الأمم السابقة هذه الآية كما حكى ربنا جل جلاله في سورة البقرة عن قصة طالوت الذي قاتل جالوت ، الفئة المؤمنة التي كانت مع طالوت قالوا: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:250].
قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45]، أي: لعلكم تظفرون بمرادكم وتنالون بغيتكم وتبلغون آمالكم من النصرة في الدنيا والمثوبة في الآخرة.
ينادينا ربنا بقوله: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله! يا أيها الذين رضوا بالله رباً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً وبالإسلام ديناً! إذا لقيتم جماعة من أهل الكفر يقاتلونكم فاثبتوا لقتالهم، ولا تنهزموا عنهم، ولا تولوهم الأدبار هاربين؛ لأن الثبات طريق النصر، وأثبت الفريقين أغلبهم.
وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً [الأنفال:45] ادعوا الله بالنصر، ادعوا الله بالظفر على أعدائكم، أشغلوا قلوبكم وألسنتكم بذكره لعلكم تفلحون وتظفرون بعدوكم وترزقون النصر عليهم.
يقول محمد بن كعب القرظي رحمه الله : لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لـزكريا ، يقول الله عز وجل مخاطباً إياه: آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41].
وما زال المؤمنون يذكرون الله ذكراً كثيراً، ويسبحونه بكرة وأصيلاً، فهؤلاء سحرة فرعون رضي الله عنهم حين آمنوا فتهددهم فرعون ، قال لهم: آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:123] لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا [الأعراف:124-126]، قالوا: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [الأعراف:126].
فرعون يتهددهم وهم يعلمون أنه سينفذ. يعني: ليس كلامه كلاماً أجوف، بل هو طاغوت جبار مستكبر وسينفذ ما يقول ومع ذلك شغلوا ألسنتهم وقلوبهم بذكر الله رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [الأعراف:126].
أيها الإخوة الكرام! كل نبي كان معه جماعة من الصالحين كانوا يكثرون من ذكر الله عند الشدائد وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:146-147].
وهكذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في الصحيحين من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى إذا مالت الشمس قام فقال: يا أيها الناس! لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قام فقال: اللهم منزل الكتاب، مجري السحاب، هازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم )، هكذا كان هديه صلوات ربي وسلامه عليه.
وفي الحديث القدسي يقول الله عز وجل: ( إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه )، أي أن عبد الله حقاً هو الذي يذكر الله عز وجل في تلك الحالة الشديدة، وهي من مواطن استجابة الدعاء كما في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ثنتان لا تردان: الدعاء عند النداء، وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضاً ).
إن ذكر الله في موطن القتال دليل على أن حبه جل جلاله قد سكن القلب؛ ولذلك كان بعض أهل الجاهلية وهو عنترة بن شداد يخاطب محبوبته يقول لها:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي
يعني: ذكرتك في تلك اللحظة حين كانت السيوف تنال من جسدي وينزف بسببها دمي وهذا دليل على أن حبها قد سكن قلبه، ولله المثل الأعلى، فمن ذكر الله حين البأس؛ حين تطير الرقاب وتسيل الدماء فهو دليل على أنه يحب الله.
هذه الآية يستفاد منها:
أولاً: وجوب الثبات عند لقاء العدو والصمود في القتال.
ثانياً: تحريم الفرار عند التقاء الصفين، وقد مضى هذا في قول ربنا: فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ [الأنفال:15].
ثالثاً: مشروعية الذكر في جميع الأحوال، ولعل بعض الناس يقول: لن نذكر الله إلا أن يعطينا شيخ عدداً معيناً لذكر الله. نقول: معاذ الله! فقد أعطانا ربنا جل جلاله عدداً مفتوحاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الأحزاب:41]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ألا أدلكم على خير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله ).
رابعاً: أن العبد ينبغي ألا يشغله شيء عن ذكر الله، وأن يلتجئ إلى ربه عند الشدائد، ويقبل عليه بكليته فارغ البال واثقاً بأن لطفه لا ينفك عنه في شيء من الأحوال.
إن الثبات عند لقاء العدو والإكثار من ذكر الله سبب لحصول الفلاح في الدنيا والآخرة.
وأسأل الله عز وجل أن يوفق الجميع لما يحب ويرضى.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر