إسلام ويب

شرح الورقات [5] - تتمة أقسام الكلامللشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تقسيم الكلام من حيث استعماله إلى حقيقة ومجاز مسألة تكلم فيها العلماء كثيراً، واختلفوا فيها على أقوال: فمنهم المجيز لذلك التقسيم، ومنهم المانع له، ومن أجاز ذكر أدلة على ذلك وأمثلة عليه، ومن خالف أول تلك الأدلة وحملها على محامل أخرى.

    1.   

    تعريف الحقيقة والمجاز وأقسامها

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وآله وأصحابه أجمعين.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ومن وجه آخر ينقسم إلى: حقيقة ومجاز، فالحقيقة ما بقي في الاستعمال على موضوعه، وقيل: ما استعمل فيما اصطلح عليه من المخاطبة، والمجاز ما تجوز عن موضوعه، والحقيقة إما لغوية وإما شرعية وإما عرفية، والمجاز إما أن يكون بزيادة أو نقصان أو نقل أو استعارة، فالمجاز بالزيادة: مثل قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ، والمجاز بالنقصان: مثل قوله تعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف:82] ، والمجاز بالنقل: كالغائط فيما يخرج من الإنسان، والمجاز بالاستعارة: كقوله تعالى: جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ [الكهف:77] ].

    ذكر أبو المعالي رحمه الله، أن الكلام ينقسم إلى أقسام باعتبارات، فذكر تقسيمه هنا باعتبار الحقيقة والمجاز، وذكر أن الحقيقة تعرف: بما يكون فيه اللفظ مستعملاً فيما وضع له، وأن المجاز: بما يكون فيه اللفظ مستعملاً في غير ما وضع له، ثم ذكر أن الحقيقة إما أن تكون شرعية وإما لغوية وإما عرفية، وأن المجاز أربعة أقسام كذلك.

    وهذه المسألة من جهة اللغة يقدر النظر فيها على وجهين: إما أن هذا من باب الاصطلاح على تسمية بعض سياق العربية حقيقية، وبعض سياق العربية مجازاً، فإذا كانت من هذه المادة ومن هذا المقصود فهذا اصطلاح، وكما في العرف العلمي أنه لا مشاحة في الاصطلاح، كما أنك تسمي الفاعل فاعلاً، وهذا تمييزاً، وهذا مفعولاً مطلقاً، وهذا مفعولاً لأجله، إلى غير ذلك، فإذا سمي بعض سياق اللغة كالسياق الذي يكون فيه حذف، وكالسياق الذي يكون فيه لفظ مشترك، فسمي هذا مجازاً، تمييزاً له واصطلاحاً على تسميته، وسمي هذا حقيقة، فهذا فيه اتجاه.

    وأما إذا كان على الوجه الثاني، وأن الحقيقة هي اللفظ الذي يستعمل فيما وضع له، وأن المجاز هو الذي يستعمل في غير ما وضع له، فيرتب على أن هذا من باب عوارض المعاني لا أنه من عوارض الاصطلاح والألفاظ فحسب، فهذا فيه نظر، ولا يصح أن يقال: إنه مثل قولهم: هذا فاعل وهذا مفعول في كلام النحاة، بل هذا يكون تصريفاً لأحوال اللغة، وتقسيماً لخطاب اللغة على تقدير أثره على المعاني.

    1.   

    علاقة عقيدة المعتزلة في الصفات بالمجاز

    استطالت المعتزلة على تأويل القرآن لما جعلت المجاز من عوارض المعاني، فإنهم في صفات الله سبحانه وتعالى اعتبروا بدليل علم الكلام الذي سموه دليل العقل، وهو دليل الأعراض عند جمهور المعتزلة ، وكذلك في الأدلة الأخرى كدليل التخصيص ونحوه في كلام المتكلمة عن الإثبات، واستطالوا بهذه الأدلة الكلامية وجعلوها حجة لهم على عدم إثبات الصفات أو ما هو منها، فلما قرروا ذلك بالأدلة الكلامية التي سموها الأدلة العقلية، وهم يؤمنون بالقرآن؛ وجدوا أن القرآن على خلاف ما قضى به هذا الدليل الذي سموه عقلياً، قالوا: وهذا هو ظاهر القرآن وله تأويل، فهم مسلمون يقرون بالقرآن فكيف تحقق لهم هذا النظم لمذهبهم، قالوا: قضى دليل العقل - الذي هو عند التحقيق دليل علم الكلام - بكذا وبكذا.

    أما الصفات مطلقاً أو ما هو منها وما يكون القرآن على خلاف ذلك جاءوا بتقسيم القرآن بدلالته إلى دلالة ظاهرة ودلالة مؤولة، فصار عندهم الظاهر يقابله المؤول، كما كانت الباطنية تقول: الظاهر الذي يقابله الباطن، وهم مع جمهور المسلمين يعيبون على الباطنية هذا التقسيم؛ لكونه خطأً محضاً في الدين، وضلالاً عن مسلك المرسلين، فكذلك هذا الذي جعلوه وإن لم يكن بدرجة ضلال الباطنية إلا أنه خطأ في الدين، فإن الله جل وعلا في كتابه لا يخاطب بمدلولين متضادين مختلفين:

    أحدهما: متبادر لا يكون مقصود الخالق من عباده، والثاني: خفي لا يتوصل له إلا بطرق مغلقة وهي الطرق الكلامية التي سموها، فأصل الخطأ لما جعلوا خطاب الله سبحانه وتعالى في كتابه، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما قالوا: إن فيه دلالتين متقابلتين، أحدهما ظاهرة والأخرى مؤولة، سموا الأولى (حقيقة) والثانية (مجازاً)، ثم قالوا: الأصل العمل بالحقيقة، إلا إذا قضى صارف يصرف الدلالة عن العمل بالحقيقة إلى العمل بالدلالة المجازية التي يسمونها الدلالة المؤولة، وتوهموا أن هذا هو التأويل الذي ذكره الله بقوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ[آل عمران:7]، وهذا خطأ من جهتين: من جهة أن الراجح في الوقف على قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7].

    ومن جهة ثانية: فإن هذا ليس هو التأويل المذكور في القرآن أصلاً، فإنه مبني على قدر من الترتيب، والمعنى إذا تأملته بان منافاة هذا الترتيب للشريعة، وما هو هذا الترتيب؟

    أن جعلوا للآية من القرآن دلالتين متقابلتين متضادتين، أو على أقل تقدير إن لم تكن متناقضة أو متضادة فهي مختلفة، فنحن نعلم أن الدلالات إما أن تكون متناقضة، أو متضادة، أو تكون مختلفة أو متماثلة، فقدروا هاتين الدلالتين على وجه من التقابل: إما بصفة التناقض أو التضاد، أو على أدنى تقدير أنهما مختلفتان، وفي الجملة فهما لا يخرجان عن الضدين، يعني: لا يصح اجتماعهما، ومعلوم أنهم في صفات الله قالوا: ظاهرها التشبيه، فإذا قيل لهم: فما حكم تشبيه الخالق بالمخلوق؟ قالوا: تشبيه الخالق بالمخلوق كفر، وصدقوا في هذا أن تشبيه الخالق بالمخلوق كفر عند أهل السنة وغيرهم، ولم يقل أحد أو يلتزم أحد من المسلمين بتصحيح التشبيه، فكيف يقال: إن القرآن له دلالة مبتدأة هي ظاهرة؟ وهذه الدلالة العمل بها ومقتضاها كفر.

    هذا وجه قولنا: إن هذا إذا تأملته وجدته غريباً على الشريعة وعلى خطاب الله، كيف يتوهم هذا في القرآن، والدليل على أن هذه الدلالة متبادرة أنهم ما استطاعوا التحول، ليست هذه الدلالة متوهمة، فلو كانت متوهمة لما احتاجوا إلى ترتيب التحول عنها عبر دليل العقل ودليل علم الكلام والصارف، وظاهره ذلك، كيف يمكن أن ظاهر كتاب الله ما هو كفر بإجماع المسلمين، ثم يتحول عنه بطرق متكلفة في العقل تسمى دليل العقل، وهي دليل علم الكلام، هذا بين السقط والخطأ، وبين الضلالة في أن ما سموه تشبيهاً وهو ليس تشبيهاً وإلا فالتشبيه كفر، فإن إثبات صفات الله وكمال الله ووصفه جل وعلا بصفات الكمال على الوجه اللائق به المنزه عن مشابهة خلقه، فإن هذا حق وكمال، وليس هو التشبيه الذي نفاه الله عن نفسه سبحانه بقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] هذا على كل حال بحث في مسائل أصول الدين.

    لكن فيما يتعلق بمسألة الحقيقة والمجاز أنها استدعيت بهذه القوة في كلام نظار المعتزلة ؛ لأنهم لما قرروا بموجب دليل علم الكلام الذي سموه دليل العقل أولوا الصفات، وهم يؤمنون بالقرآن ويجلون القرآن باعتبارهم مسلمين، كيف يتعامل مع هذا الخطاب في القرآن؟ قالوا: هذا ظاهره، ونحتاج إلى تأويله، القرآن نزل بلسان عربي، وهنا استدعيت اللغة، ورتب في ترتيب اللغة ما يعرف بالحقيقة والمجاز، وأن اللغة فيها حقيقة وفيها مجاز، وهذا لا وجود له، لا أحد يعبر بجملة واحدة ويكون له من عبارته مرادان متضادان، هذا لا يقع، إلا إذا كان يقصد التلبيس، فيستعمل من الخطاب المشكك والمضطرب، وهذا مما ينزه عنه خطاب الأنبياء، فضلاً عما نزل من عند الله وهو القرآن.

    فإذاً: الفتنة حصلت في كلام الباطنية الظاهر والباطن، وقع عند هؤلاء خطأ صار أكثر شيوعاً من ضلال الباطنية ، وإن كان قول الباطنية أبلغ ضلالة، وهو تقسيم خطاب القرآن إلى ظاهر ومؤول، حتى التبس على كثير من الفضلاء من متكلمة أهل الإثبات الذين لهم مقام معروف في علم الشريعة وفقهها وأصولها، وهي مسألة الظاهر والمؤول.

    1.   

    إبطال نظرية المجاز في اللغة العربية

    فهذا التقسيم غريب على اللغة وغريب على الشريعة، ولا يوجد خطاب فيه معنيان مختلفان، أما أنك تسمي بعض سياق اللغة ما كان فيه إيجاز حذف، فإن حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه معروف في اللغة مثل قوله تعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف:82] المقصود: واسأل أهل القرية، حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وأنت إذا سميت هذا النوع من السياق مجازاً فلك ذلك ولا إشكال فيه، والحذف ليس موجوداً في لغة العرب وحدها، بل هو موجود في كل لغات بني آدم، ولو أن الناس يتكلمون بكل المفردات التي يركب منها الحال أو السياق لمل الناس بعضهم بعضاً ولهذا نقول: ليس في لغة العرب وحدها، بل هو موجود في كل لغات الناس، فهم يتكلمون بالمقتصد المفيد من القول.

    الكلام هو اللفظ، كما قال ابن مالك :

    كلامنا لفظ مفيد كاستقم

    ما قال: استقم أنت، مع أن (استقم) جملة فعلية، والفاعل هنا مقدر، وحذف المعلوم كما هو بدهي في اللغة.

    وحذف ما يعلم جائز كما تقول زيد بعد من عندكما

    وفي جواب كيف زيد قل دنف فزيد استغني عنه إذ عرف

    لو سميت هذه السياقات مجازاً لما صار فيها منازعة، كتسمية الفاعل فاعلاً، والحال حالاً، والتمييز تمييزاً، لكن أن يقال: الخطاب من الله أو من أهل اللغة يأتي السياق فيه دلالتان متضادتان، أو على أقل تقدير مختلفتان، إحداها: المتبادرة، والثانية هي المقصودة، وهي ليست المتبادرة، ونحتاج إلى دليل، فإذا قيل: ما الدليل؟ قالوا: دليل الأعراض، ودليل التخصيص، ودليل الأعراض هذا هو الذي جعلوه دليل العقل، مع أن أئمة الكلام كـأبي الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر يقول: هذا دليل باطل بإجماع المسلمين باعتبار لوازمه، وأبو الحسن حكى الإجماع على بطلان دليل الأعراض الذي هو عمدة المعتزلة، وكان خبيراً بهم، وإن كان في الحقيقة لم ينفك عنه، وصار أصحابه يفسرون الأعراض بما يعرض ويزول ولا يبقى، وأن هذا نفي ما سموه حلول الحوادث.

    والشاهد أن هذا غريب على الشريعة، أن يجعل لخطاب القرآن هذا التقابل من الدلالات، لما كان القرآن بلسان العرب رتب تحت نظرية الحقيقة والمجاز، ويضربون له مثالاً بقول الله: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف:82] فمن قال: إن الحقيقة المتبادرة التي احتجنا إلى صرفها أن المقصود هو جدران القرية؟ هذا درجة الاحتمال فيه صفر، لا أحد يفهم أن المقصود من قوله تعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف:82] أي: اسأل الجدران، كذلك لما يمثلون في كتب البلاغة: رأيت أسداً يخطب، درجة الاحتمال أن يكون المقصود هو الحيوان صفر، لكن لما يقرر هذا وكأن هذا من نظام اللغة فهذا فيه إيهام، فصار مباشرة يقال: هذا من باب الحقيقة والمجاز أيهما المقصود هل الحقيقة؟ وما هو الصارف؟ هذا الباب مغلق من أصله، إذا جعل المجاز والحقيقة من عوارض الألفاظ والاصطلاح فهذا لا مشاحة فيه، وأما إذا أدخل على أنه ترتيب في المعاني، ويتفرع عنه نتيجة أن خطاب الله له دلالتان متقابلتان، ونحتاج إلى هذا التأويل وقانون التأويل؛ فهذا ينافي قوله تعالى في كتابه: وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185]، وينافي أصل الكلام، لو تأملت أصل كلام بني آدم من العرب وغير العرب فلا تجد عندهم هذا التقسيم، أليس الأصل أن الإنسان يتكلم بالجملة ويريد بها معنى هو الذي في نفسه، متى يأتي التوهم في تردد الدلالات؟

    إذا كان ضعيف البيان، وفيه عي في بيانه، أو هو يقصد التلبيس، ومعلوم أن هذا وهذا غير متصور في كلام أغلب العقلاء، فضلاً عن كلام المسلمين، فضلاً عن كلام الأنبياء والمرسلين، فضلاً عن كلام الله المنزل على أنبيائه ورسله، وهذا ليس له شأن معتبر، وهي بدعة حصلت في الإسلام، وترتب عليها مسألة الظاهر والمؤول، وهذا غريب على الشريعة كغرابة مسألة الظاهر والباطن وإن كانت دونها، لكن مع الأسف صارت الفتنة بها أكثر لما فيها من الاشتباه، بخلاف الظاهر والباطن فإن الاشتباه فيه بعيد، ولا يقع فيه اشتباه، فصارت النفرة عنه أبلغ؛ لاستحكامهم في الضلالة.

    فالمقصود أن هذا التقسيم فيه نظر، أما تسمية بعض السياقات في اللغة فهذا واسع ومعروف، وإذا نظرت وجدت أنهم يسمون المشترك أو إيجاز الحذف مجازاً، فعلى هذا الاصطلاح يصح كالاصطلاح اللفظي، وأما إذا ابتليت به النصوص على هذا التقدير وهذا الترتيب وجعل لها هذه الدلالات المتقابلة فهذا غلط وسقط تصان عنه نصوص الكتاب والسنة.

    نقف على هذا، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وآله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756504953