تقدم لنا جملة من شروط السلم ومن ذلك: ذكر الجنس والنوع، وكل وصف يختلف به الثمن اختلافاً ظاهراً، وأن يسلم في الذمة، وقبض رأس مال السلم في المجلس، فإن تفرقا قبل القبض بطل العقد، وإن قبض البعض دون البعض صح فيما قبض، ولم يصح فيما لم يقبض.
وكذلك أيضاً تقدم لنا أين يجب الوفاء. وأن المؤلف رحمه الله تعالى قال: (يجب الوفاء في مكان العقد)، وذكرنا أن الأقرب في هذه المسألة: أن الوفاء يكون في مكان المسلم، وأن المؤلف رحمه الله رتب على ذلك قوله: (وإن عقد ببر، أو بحر شرطاه)، يعني: إذا عقد السلم في بر، أو بحر، أو جو -كما في وقتنا الآن- فلا بد أن يشرط مكان الوفاء؛ لأنه لا يمكن الوفاء في مجلس العقد.
وإذا قلنا: بأن الوفاء إنما يجب في مكان المسلم فإنه لا حاجة لذلك، فقوله: (فإن عقد في بر، أو بحر شرطاه)، هذا مبني على المشهور من المذهب أن الوفاء يجب في مكان العقد.
المشهور عند الحنابلة رحمهم الله تعالى أنهم يشددون في دين السلم، وأما دين القرض فالأمر عندهم أخف، ففرق بين دين القرض وبين دين السلم، ولهذا ذكر المؤلف رحمه الله أنه لا يباع دين السلم، ولا تجوز هبته، ولا الحوالة به، ولا الحوالة عليه، ولا أخذ الرهن به، ولا أخذ الكفيل.
أما بالنسبة لدين القرض -كما سيأتينا بعد هذا الباب- فيصح أن تأخذ عليه كفيلاً، ويصح أيضاً أن تأخذ عليه رهناً، ويصح أن تحيل به، وأن تحيل عليه، فهم يفرقون بين هذين الدينين؛ والعلة في ذلك: أنهم شددوا في باب السلم، وهذا كله مبني على حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره )، فبناءً على هذا الحديث -كما سلف- شددوا في دين السلم.
وهذا الحديث كما تقدم ضعيف غير ثابت؛ لأن في إسناده عطية العوفي وهو ضعيف، وقد أعله أبو حاتم رحمه الله تعالى بالاضطراب، فهذه الأحكام والتي ستأتينا الآن مبنية على هذا الحديث، ( من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره ) .
فقول المؤلف رحمه الله: (ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه) يعني: دين السلم، فمثلاً: أسلمته ألف ريال على أن يعطيك ألف قلم صفته كذا وكذا، أو على أن يعطيك ألف ثوب فدين السلم -هذه الأثواب أو هذه الأقلام- هل يصح لك أن تبيعها؟ يقول المؤلف رحمه الله: لا يصح لك أن تبيعها، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وهو قول جمهور العلماء، ودليلهم ما سلف من حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره )؛ فلئلا يصرف السلم إلى غيره منع من بيعه. وهذا الرأي الأول.
والرأي الثاني: رأي المالكية رحمهم الله: أنه يصح بيع دين السلم، فيصح بيع المسلم فيه سواء كان المسلم فيه طعاماً أو كان غير طعام؛ لكنهم يشترطون لبيع دين السلم إذا كان طعاماً بعض الشروط، وهذا القول يعني: صحة بيع دين السلم هو ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فإنه قال: يصح بيع دين السلم؛ لكن يشترط أن يكون بسعر يومه وأن يكون حالاً، يعني: يشترط أن يكون بسعر يومه، أو أقل، لئلا يربح فيما لم يضمن.
ونقول: الراجح في هذه المسألة: أن بيع دين السلم يجوز إذا كان بمثل الثمن أو أقل، وكان حالاً، وعلى هذا نقول: بيع دين السلم على ما هو عليه يصح بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون بسعر يومه، أو أقل؛ لئلا يربح في ما لم يضمن.
الشرط الثاني: القبض إذا كان العوضان يجري بينهما ربا النسيئة.
فمثلاً: لو كان دين السلم براً، فأعطيته ألف ريال على أن يعطيك ألف صاع من البر، فهل يجوز لك أن تبيع هذه الأصواع على المسلم إليه؟ يعني: المسلم هل يجوز له أن يبيع هذه الأصواع على المسلم إليه أو لا يجوز؟ يعني: يبيع دين السلم على من هو عليه، فالمسلم طلب من المسلم إليه أن يعطيه الدين -الأصواع- فقال: ما عندي أصواع، فأنا أعطيك بدلاً من هذا البر التي تريد مني ثياباً، أو أعطيك أقلاماً، فهنا الآن باع دين السلم على من هو عليه فنشترط شرطين:
الشرط الأول: أن يكون بسعر يومه، فهذه الأصواع التي هي ألف صاع من البر كم تساوي الآن؟ فإذا أردت أن أشتريها بثياب فكم تساوي من الثياب؟ فإذا كانت تساوي مائة ثوب فأشتريها بمائة ثوب، أو أشتريها بتسعين ثوباً؛ لكن أكثر لا يجوز؛ لئلا يربح الإنسان فيما لا يدخل في ضمانه.
الشرط الثاني: القبض إذا كان العوضان يجري بينهما ربا النسيئة فمثلاً: إذا كان دين السلم براً، وأردت أن أشتريه منه بشعير، فأنا أريد منه براً، فقلت: أعطني البر، فقال: ما عندي بر، لكن عندي شعير، فقلت: أعطني الشعير، فهنا يشترط القبض؛ لأن العوضين هنا يجري بينهما ربا النسيئة، فعندما تبادل براً بشعير، فإنه يشترط أن يكون يداً بيد، فنشترط هذين الشرطين.
هبة دين السلم تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: هبته لمن هو عليه، فيقولون: هذا جائز ولا بأس به.
القسم الثاني: هبته لغير من هو عليه، فالمشهور من المذهب أن هذا غير جائز.
فمثلاً: إذا أسلمته ألف ريال على أن يعطيك ألف ثوب صفته كذا وكذا فيجوز لك أن تهب دين السلم للمسلم إليه لمن هو عليه الدين، لكن أن تهب دين السلم لغير من هو عليه فهذا لا يجوز، فمثلاً: لو وهبت دين السلم لعمرو وأنت تريده من زيد فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: لا يجوز، والعلة في ذلك: أنه قد لا يقدر على تسليمه فيكون فيه شيء من الغرر، يعني: أن المسلم -صاحب الدين- قد لا يقدر على تسليم هذا الدين لمن وهب له، أو نقول: من وهب له هذا الدين قد لا يستطيع أن يأخذه من المسلم إليه.
وهذا ينبني على مسألة وهي: هل الغرر يجري في عقود المعوضات أو أن الغرر لا يجري في عقود المعاوضات؟
هذا سيأتينا إن شاء الله في ضابط الغرر، وسنتكلم إن شاء الله عن الغرر، وضوابطه، وروابطه.
لكن هل الغرر يجري في عقود المعاوضات أم أن الغرر لا يجري في عقود المعاوضات؟
جمهور العلماء يلحقون عقود المعاوضات بعقود التبرعات، يعني: هل هذا الغرر يجري في عقود التبرعات أم لا؟ جمهور العلماء يلحقون عقود التبرعات بعقود المعاوضات، فيرون أن الغرر في الجملة كما يجري في عقود التبرعات يجري في عقود المعاوضات. وأحسن شيء في ذلك مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن الغرر لا يجري في عقود التبرعات، ويترتب على هذا مسائل كثيرة، مثلاً: هبة المجهول، تجد أن كثيراً من الفقهاء يقولون: هبة المجهول لا تجوز؛ لأنها غرر؛ لكن الصحيح أن هبة المجهول جائزة؛ لأن الموهوب له يدخل في هذه المعاملة وهو إما غانم، أو سالم، فلا يدخل وهو مخاطر أو غارم. ومثل هبة المجهول هبة المعدوم.
وكما سلف أن هبة الشيء الذي لا يقدر على تسليمه هل يصح أو لا يصح؟ كما لو وهب سيارته المسروقة أو المغصوبة أو نحو ذلك، فالكلام السابق يجري هنا، فالصحيح أن الغرر لا يجري في عقود التبرعات، وأن عقود التبرعات أوسع من عقود المعاوضات؛ لأن عقود التبرعات يقصد بها الإرفاق والإحسان بخلاف عقود المعاوضات؛ فإنه يقصد بها الكسب والربح، ولهذا تحصل فيها المشاحنة.
والصواب في هذه المسألة: أن دين السلم تصح هبته مطلقاً سواء كان ذلك لمن هو عليه أو كان ذلك لغير من هو عليه.
أي: لا تصح الحوالة بدين السلم.
ومثال ذلك: أسلمه ألف ريال على أن يأخذ منه ألف قلم، فحل الأجل وجاء المسلم للمسلم إليه، وقال: اعطني المسلم -فيه الأقلام- فقال: ما عندي الأقلام، فالأقلام هذه ليست موجودة عندي لكن أحيلك على عمرو لتأخذ منه هذه الأقلام، فهنا الحوالة بدين السلم هل يجوز ذلك أو لا يجوز؟
يقول المؤلف رحمه الله تعالى: إن الحوالة به لا تجوز، ودليل ذلك: أن هذا كالبيع، والحوالة مبادلة كالبيع، فهو الآن يريد منه هذه الأقلام، فبدلت هذه الأقلام بأقلام أخرى، ولما جاء المسلم للمسلم إليه، قال: اعطني هذه الأقلام، قال: ليست عندي هذه الأقلام؛ لكن أحيلك على صاحب الأقلام فاذهب وخذها منه، فهنا حصلت الآن مبادلة أقلام بأقلام أخرى، وهذا نوع من البيع.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره ) وهنا صرفه إلى غيره، وكما أنه لا يجوز بيع المسلم فيه فأيضاً لا تجوز الحوالة به، لكن كما سلف أن الحديث في ذلك ضعيف، وقد تقدم أن بيع المسلم فيه جائز ولا بأس به، بل سيأتينا إن شاء الله أنه كما يصح أن تبيع دين السلم على من هو عليه، كذلك أيضاً يصح أن تبيع دين السلم على غير من ما هو عليه.
فالمؤلف رحمه الله يقول: (لا تصح الحوالة به)، والصحيح في ذلك: أنه تصح الحوالة به.
ومثال ذلك: أسلمه ألف ريال على أن يعطيه مائة صاع من التمر، وزيد يريد من المسلم تمراً، فجاء إلى المسلم وقال: اعطني التمر الذي أريد، قال: أنا أحيلك على المسلم إليه، أي: أنا أريد من فلان المسلم إليه كذا وكذا من التمر، فهل تصح الحوالة على دين السلم؟ فيقول المؤلف رحمه الله: لا تصح الحوالة على دين السلم.
وتوضيح ذلك أكثر: زيد أسلم عمراً ألف ريال على أن يعطيه كذا وكذا من التمر فإذا كان صالح يريد من زيد -المسلم- كذا وكذا: من التمر، فجاء صالح لزيد المسلم، قال: اعطني التمر، قال: أنا أحيلك على عمرو المسلم إليه فأنا أريد منه كذا وكذا من التمر، فهنا أحال المسلم غريمه على المسلم إليه، لكي يأخذ منه دين السلم الذي يريده منه.
فيقول المؤلف: لا تصح الحوالة على دين السلم، لكي يستوفى منه، وهذا يبنونه على مسألة: وهي أنه يشترط في الدين المحال عليه أن يكون مستقراً، يعني: ليس عرضة للسقوط، وهذه المسألة تأتينا في باب الحوالة إن شاء الله، هل يشترط في الدين المحال عليه أن يكون مستقراً أو أنه لا يشترط؟ فالمشهور من المذهب أنه يشترط في الدين المحال عليه أن يكون مستقراً، يعني: لا يكون عرضة للسقوط، والصواب في ذلك: أنه لا يشترط.
يعني: عوض رأس مال السلم لا يصح أخذه، فالضمير هنا يعود على رأس مال السلم، فيقول المؤلف: لا يصح أن تأخذ عوضه.
ومثال ذلك: أسلمه ألف ريال على أن يعطيه تمراً، فجاء الأجل ولم يتمكن المسلم إليه من تحصيل المسلم فيه الذي اتفق عليه، فنقول: للمسلم: أنت مخير، إما أن تصبر حتى يتحصل المسلم فيه، وإما أن تفسخ، فإذا قال: أنا أريد أن أفسخ، فيأخذ الثمن وهو ألف ريال، فهل له أن يأخذ عوض الثمن أو ليس له أن يأخذ عوض الثمن؟ يقول المؤلف رحمه الله تعالى: لا يجوز أن يأخذ عوض الثمن، مثلاً: إذا كان الثمن ألف ريال فيعطيه ألف ريال إن كانت هذه الألف موجودة، وإلا المثل في المثليات، والقيمة في المتقومات.
فلو قال المسلم إليه: أنا أعطيك أثواباً بدلاً منها عوضاً عن رأس مال السلم، فيقول المؤلف: لا يجوز أخذ عوض عن رأس مال السلم. وهذا الرأي الأول.
والرأي الثاني: رأي القاضي أبي يعلى رحمه الله: أن هذا جائز ولا بأس به، وعلى هذا يكون هذا من بيع الدين على من هو عليه، وعلى هذا نشترط شرطين:
الشرط الأول: أن يكون بسعر يومه.
والشرط الثاني: التقابض إذا كان العوضان يجري بينهما ربا النسيئة، مثلاً: رأس مال السلم ألف ريال عند المسلم إليه، فقال المسلم إليه: أنا أعطيك بدلاً من هذه الألف أثواباً، نقول: يجوز بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون بسعر يومه.
والشرط الثاني: القبض إن كان يجري بينهما ربا النسيئة.
ومثال ما يجري بينهما ربا النسيئة، قال: أعطيك بدل الألف ريال جنيهات أو دينارات، فالحكم يجوز، لكن لا بد من القبض؛ لأن الريالات مع الجنيهات أو مع الدينارات يجري بينهما ربا النسيئة، ولا بد أيضاً أن يكون بسعر يومه، أو أقل، لما تقدم.
معنى قول المؤلف رحمه الله: أي: لا يصح لك الرهن بدين السلم، ولا أخذ الكفيل بدين السلم.
ومثال ذلك: أسلمه ألف ريال على أن يعطيه ألف قلم، أو ألف ثوب، أو ألف كذا، فقال المسلم: أنا أعطيك ألف ريال على أن تعطيني كذا وكذا من البر، أو الشعير، أو الرز أو نحو ذلك؛ لكن بشرط أيضاً أن تعطيني رهناً؛ لأنك ربما لا تسدد الدين الذي عليك.
فيقول المؤلف رحمه الله: لا يجوز؛ لأن هذا يؤدي إلى أن يصرفه إلى غيره، فإذا تعذر دين السلم فإنه يصرف إلى الرهن، فيقول المؤلف رحمه الله: إن هذا غير جائز.
كذلك أيضاً أخذ الكفيل بدين السلم، مثلاً: أسلمه دراهم على أن يعطيه مثلاً ثلاجات، وقال: عطني كفيلاً؛ لأن المسلم إليه قد لا يسدد هذه الثلاجات، فهل يجوز أن يأخذ المسلم كفيلاً على المسلم إليه أو لا يجوز؟ فيقول المؤلف رحمه الله: لا يجوز؛ لئلا يصرفه إلى غيره، والصحيح في ذلك: أن هذا كله جائز ولا بأس به، وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى: أن أخذ الرهن والكفيل جائز ولا بأس به؛ لأن الأصل في ذلك الحل، وهذه عقود توثقة، وكما ذكرنا أنهم يفرقون بين دين السلم وبقية الديون.
فالدين: هو كل ما ثبت في الذمة، فيشمل دين السلم، ويشمل القرض، ويشمل ثمن المبيع المؤجل، ويشمل قيم المتلفات، ويشمل أروش الجنايات، فهذه الديون يصح أن تأخذ فيها الرهن، ويصح أن تأخذ فيها الكفيل، أما دين السلم فإنهم لا يرون أنه يصح أن تأخذ به الرهن والكفيل.
والصواب في ذلك: أن هذا يصح ولا بأس بذلك إن شاء الله.
وصورة ذلك: أن تريد من زيد ريالات، فقلت له: اعطني ريالات، فقال: ما عندي ريالات؛ لكن عندي جنيهات؛ أو أعطيك دينارات، أي: أعطيك بدل الجنيهات دينارات، فهنا الآن بعت هذا الدين على من هو عليه، فأنت تريد منه ريالات فبعت الريالات هذه عليه بجنيهات، فهو سيعطيك دينارات بدلاً عنها.
فهنا الآن بعت الدين على من هو عليه بثمن حال غير مؤجل، وهذه الصورة موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله تعالى، فجماهير العلماء رحمهم الله: أن بيع الدين على ما هو عليه بثمن الحال جائز ولا بأس به.
ويدل لذلك حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما -وإن كان فيه ضعف- (أنهم كانوا يبيعون بالدراهم فيأخذون عنها الدنانير، ويبيعون بالدنانير فيأخذون عنها الدراهم، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا بأس إذا كان بسعر يومها ما لم تفرق بينكما شيء )؛ ولأن الأصل في المعاملات الحل؛ لكن كما سلف نشترط شرطين:
الشرط الأول: أن يكون بسعر يومها لئلا يربح ما لم يدخل في ضمانه.
والشرط الثاني: القبض إذا كان العوضان يجري بينهما ربا النسيئة، فمثلاً: هو يريد منه ريالات، فقال: اعطني ريالات، قال: ما عندي ريالات، لكن أعطيك دينارات أو أعطيك جنيهات، فنقول: لا بأس، خذ منه الدينارات أو خذ منه الجنيهات؛ لكن لا بد من القبض، فإن قال: غداً أعطيك، نقول: لا يجوز؛ لأن العوضين هنا يجري بينهما ربا النسيئة، ولا بد أيضاً أن يكون بسعر يومه كما سلف.
فإذا كان يريد منه ألف ريال، فكم تساوي بالدينار؟ أو كم تساوي بالجنيه؟ فقال: تساوي كذا وكذا، فيأخذ منه هذه الأشياء مثلها، أو أقل، أما أكثر فإنه لا يجوز، هذه الصورة الأولى.
وصورة ذلك: أن يريد منه ريالات، قال: اعطني ريالات، قال: ما عندي ريالات؛ لكن أعطيك جنيهات بعد شهر أو أعطيك براً بعد شهر، فهنا باع الدين على من هو عليه بثمن مؤجل وللعلماء رحمهم الله في ذلك رأيان:
الرأي الأول: وهو قول جمهور العلماء: أن هذا لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ( نهى عن بيع الكالئ بالكالئ )، يعني الدين بالدين، والحديث ضعيف وغير ثابت.
والرأي الثاني: أن هذا جائز ولا بأس به، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم، لكن لا بد من شرطين:
الشرط الأول: أن يكون بسعر يومه.
والشرط الثاني: إذا كان العوضان يجري بينهما ربا النسيئة، فلا بد من القبض.
لكن لو كان العوضان لا يجري بينهما ربا النسيئة فلا يشترط فيهما القبض فهذا جائز.
فمثلاً: لو قال أريد منك ألف ريال، أو اعطني ألف ريال، فيقول: والله ما معي ألف ريال؛ لكن أنا عندي كتب تأتينا بعد شهر أعطيك إياها، أو ثلاجة بعد شهر، فهنا بين الكتب والريالات هل يجري ربا النسيئة أو لا يجري ربا النسيئة؟
لا يجري ربا النسيئة فنقول: إن هذا جائز، ولا بأس به؛ لعدم المحظور الشرعي.
مثلاً: أنت تريد من زيد ريالات، فجاء عمرو وقال: بعني هذه الريالات، وأنا أعطيك ثلاجة، وأنا أطالبه، فهنا الآن بعت الريالات على غير من هو عليه، فهل هذا جائز أو ليس جائزاً؟
فالعلماء لهم في ذلك رأيان:
الرأي الأول: وهو قول الجمهور: أن هذا غير جائز، ويدخلون هذا في بيع الدين بالدين المنهي عليه -الكالئ بالكالئ-.
والرأي الثاني: أن هذا جائز ولا بأس به، وهو اختيار المالكية، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وهذا هو الصواب، لكن يشترط شروطاً:
الشرط الأول: أن يكون المشتري قادراً على تحصيله وأخذه من المدين.
الشرط الثاني: أن لا يكون العوضان يجري بينهما ربا النسيئة، فإذا كان العوضان يجري بينهما ربا النسيئة حتى لو كان الثمن حالاً فلابد من التقابض، فمثلاً: أنت تريد منه ريالات وبعت الريالات بجنيهات، فلا يجوز، حتى لو قبضت جنيهات؛ لأن المشتري ما قبض ريالات، فهنا تخلف شرط القبض، فنقول: إذا كان العوضان يجري بينهما ربا النسيئة يشترط فيهما القبض.
وكذلك إذا كان مثلاً شعير بعته ببر، أو بأرز، فنقول: بأن هذا لا يجوز؛ لأن العوضين يجري بينهما ربا النسيئة، لكن إذا كنت تريد منه ريالات، وبعته هذه الريالات بسيارة، فهذا جائز؛ لأنه لا يشترط التقابض؛ لأن العوضين هنا لا يجري بينهما ربا النسيئة؛ لكن لا بد أن يكون بسعر يومه، وأن يكون المشتري قادراً على أخذه وتحصيله، وأن لا يكون العوضان يجري بينهما ربا النسيئة.
وبهذا نعرف حرمة المعاملتين التي تجريها المصارف في البنوك، فالبنوك تشتري شهادات الاستثمار، وتشتري السندات، وهذا كله بيع دين بدين، أو عوضان يجري بينهما ربا النسيئة، دراهم بدراهم، كما سيأتينا إن شاء الله في الودائع البنكية في باب القرض.
فبيع شهادات الاستثمار هذا كله من الربا الصريح، وكذلك أيضاً بيع السندات، فالسندات عبارة عن قروض؛ لكن البنوك تشتري هذه القروض بجنسها، يعني: ربوي بربوي بدون قرض. فهذه السندات: عبارة عن قروض فتشتريها بدراهم، يعني: الشركة أو المؤسسة المالية إذا أرادت من الجمهور زيادة في التمويل، تخرج سندات، وتأخذ من الجمهور هذه الأموال، وتبيع عليهم سندات، السند بألف ريال أو بعشرة آلاف ريال قرض عليها فوائد، هذه البنوك تشتري هذه السندات السند بعشرة آلاف ريال، تشتريه بتسعة آلاف ريال، أو ثمانية آلاف ريال... إلى آخره، هذه كله محرم، ولا يجوز.
ومثل بيع شهادات الاستثمار: الودائع البنكية الموجودة، هذه تخرج عليها الودائع ولا يقصد بها الحساب الجاري وإنما يقصد به الاستثمار، فالمصارف في البنوك تعطيك شهادات الاستثمار فيما لك من دراهم، وبيع مثل هذه الشهادات كله داخل في الربا؛ لأن العوضين يجري بينهما ربا النسيئة، وهنا لا يتحصل القبض.
والرأي الثاني: أن هذا جائز كما هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وإذا قلنا: بالجواز كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية : فنشترط الشروط السابقة:
الشرط الأول: أن يكون المشتري قادراً على أخذه وتحصيله.
والشرط الثاني: أن يكون بسعر يومه.
والشرط الثالث: أن لا يكون العوضان يجري بينهما ربا النسيئة، فإذا كان العوضان يجري بينهما ربا النسيئة، فهذا لا إشكال أنه محرم ولا يجوز، كيف وهو أيضاً مؤجل، فهذا أيضاً يدخل في أمر الدين.
مثال ذلك: أسلمتك ألف ريال بعد شهر، بمائة ثوب بعد شهر أو شهرين، فهذا بيع دين مؤجل بدين مؤجل، فهذه الصورة متفق على تحريمها.
أو مثلاً أسلفتك ألف ريال بعد شهر بمائة صاع بر بعد سنة، فهذه متفق على تحريمها وأنها غير جائزة.
الأمر الأول: الظلم.
والأمر الثاني: الربا.
والأمر الثالث: الغرر.
الربا تقدم الكلام عليه وذكرنا ما يتعلق بأحكامه.
والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، أما في الاصطلاح: فهو أكل مال الغير بغير حق، ويدخل في الظلم: النجش، والتدليس، والغش، وبيع المعيب، والربا.
وأما في الاصطلاح: فاختلف العلماء رحمهم الله في ضبط الغرر، وأحسن ما قيل في ضبط الغرر بأنه: ما تردد في وقوعه، أو جهلت عاقبته، يعني: لا يعرف مقداره وحصوله.
كذلك أيضاً: ما جاء في الصحيحين (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة )، وكذلك أيضاً (نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع المعاوضة، وعن بيع المضامين والملاقيح)، فهذه كلها داخلة في الغرر.
الشرط الأول: أن يكون كثيراً غالباً على العقد، فإن كان يسيراً فهذا مما يتعذر التحرز عنه.
الشرط الثاني: أن لا تدعو الحاجة العامة إلى هذا الغرر، فإن دعت الحاجة العامة إلى هذا الغرر فإنه لا بأس به، فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الشارع لا يحرم ما يحتاجه الناس، فإذا دعت الحاجة إلى الوقوع في هذا الغرر، فإن ذلك جائز ولا بأس به، ويدل لذلك: ما تقدم لنا من حديث ابن عمر وغيره (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ).
وسبق أن ذكرنا أنه ولو بدا صلاح بسرة واحدة فإن هذا جائز ولا بأس به، مع أن بقية البسر هذه لم يبد صلاحها، أي: لم تصفر ولم تحمر، فلما دعت الحاجة إلى البيع مع وجود صلاح بعض الثمرة -وأن صلاح بعض الثمرة صلاح إلى الجنس- جوزها الشارع.
الشرط الثالث: أن يكون هذا الغرر مما لا يمكن التحرز عنه، وذلك مثل: أساسات الحيطان، يعني: الكشف على أساسات الحيطان، فلا يمكن لهذا الغرر الموجود في أساسات الحيطان التحرز عنه؛ لأنه لا يمكن الكشف عن أساسات الحيطان، كذلك أيضاً ما في الجبة والقطن ونحو ذلك.
الشرط الأخير: أن يكون الغرر في عقود المعاوضات، فإن كان الغرر في عقود التبرعات فهل هو معتبر أو ليس معتبراً؟
فرأي جمهور أهل العلم كما سلف لنا في الجملة، يقولون: بأنه معتبر، ويلحقون عقود التبرعات بعقود المعاوضات.
الرأي الثاني: اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، قال: قال الإمام مالك : إن عقود التبرعات لا يشترط فيها عدم الغرر، فيصح حتى لو كان فيها شيء من الغرر، وكما ضربنا هبة المعدوم وبيع المعدوم، والوصية بالمعدوم، والوصية بالمجهول، والوصية بما لا يقدر على تسميته هبة الديون، كوقف المعدوم، ووقف المجهول، ووقف المبهم، فهذه عقود التبرعات.
والصواب في ذلك: أنه لا يشترط أن ينتفي عنها الغرر؛ لأن العاقد الموهوب له، أو الموصى له ونحو ذلك يدخل في هذه المعاملة وهو إما غانم، أو سالم، وهو ليس مخاطراً، فلم يدخل في الميسر.
والرأي الثاني: وهو منسوب لـعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنه، نقله الشوكاني عن بعض العلماء، وممن قال به المتأخرين الشيخ الألباني رحمه الله: أن بيع التقسيط غير جائز، والصواب في ذلك: أنه جائز، والدليل على ذلك: حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في السلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أسلف في شيء فليسلف في شيء معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم )، وهذا داخل في بيع التقسيط؛ لأن السلم إلى أجل.
الصورة الأولى: الحلول والأجل، كأن يقول: بعتك هذه السيارة بألف أو بعشرة آلاف ريال حالة، أو باثني عشر ألف ريال مؤجلة الحلول والأجل، فنقول: بأن هذا جائز ولا بأس به، لكن بشرط أن يقطع أحد الثمنين، يعني: يرضى المشتري، إما أن يأخذ بالحلول، أو يأخذ بالأجل، هذا جائز ولا بأس به.
الصورة الثانية: الأجلان، أو الآجال، كأن يقول: بعتك هذه السيارة مؤجلة إلى شهر بعشرة آلاف، أو إلى شهرين باثني عشر ألف، وإلى ثلاثة بثلاثة عشر ألف، فالأجلان أو الآجال أيضاً هذه صحيحة جائزة لا بأس بها؛ لكن بشرط أن يقطع العاقد على أحد هذه الآجال وإلا دخل في الربا.
الصورة الثالثة من بيوع التقسيط: ما يتعلق بربا الديون، كأن يبيعه بثمن مؤجل، وإذا تأخر السداد فإنه يزيد، وهذا تكلمنا عليه في ربا الدين، وقد حُكي الإجماع على أنه محرم ولا يجوز.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر