إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فتطرقنا في الدرس السابق إلى علامات الوفاة بين الفقهاء والأطباء، وتكلمنا عن حقيقة الموت كما دلت عليها الأدلة الشرعية، وكما ذكر الفقهاء رحمهم الله، ثم بعد ذلك ذكرنا شيئاً من علامات الموت التي نص عليها الفقهاء رحمهم الله في كتبهم، ثم تطرقنا إلى علامة الموت عند الأطباء، وذكرنا أن الأطباء يتكلمون عن موت الدماغ، وأنه علامة من علامات الموت، وذكرنا أن الدماغ يتكون من ثلاثة أجزاء:
الجزء الأول: المخ، والثاني: المخيخ، والثالث: جذع المخ، وذكرنا وظائف كل جزء من هذه الأجزاء، وأن أهم جزء من هذه الأجزاء هو ما يتعلق بجذع المخ، وإن حصل وفاة لجذع المخ فإنه عند أكثر الأطباء يعتبر موت لهذا الإنسان، وتكلمنا عن كلام العلماء في الوقت الحاضر، وهل هذا الموت الدماغي لجذع المخ يعتبر موتاً تترتب عليه أحكام الموت أو لا يعتبر موتاً؟ وذكرنا كلام المعاصرين، وأنهم اختلفوا في ذلك على رأيين، وأن الرأي الراجح ما عليه أكثر المعاصرين أنه لا يعتبر موتاً لهذا الإنسان، وذكرنا شيئاً من أدلتهم.
بقي علينا المسألة الثالثة وهي حكم رفع جهاز الإنعاش عن هذا الميت دماغياً، سبق أن ذكرنا أن من علامات موت جذع المخ الإغماء الكامل، وعدم الحركة، وانقطاع النفس، وكذلك أيضاً عدم وجود أي انفعالات انعكاسية، وكذلك أيضاً عدم وجود أي نشاط كهربائي في رسم المخ كما هو معروف عند الأطباء، فإذا انقطع نفسه وقد تتوقف ضربات القلب، أو يحصل لها ضعف فإنه يدخل بما يسمى بحجرة الإنعاش، ويوضع عليه ما يسمى بأجهزة الإنعاش. شخص توقف نفسه أو دقات قلبه، بسبب إصابة في الدماغ، أو اختناق أو غرق أو مواد سامة، أو جلطة في القلب، فإنه يدخل في غرفة الإنعاش لإنعاش ما توقف من نفسه ودقات قلبه، فهذا المريض الذي أصيب في دماغه، أصيب في جذع المخ، وتوقف عنده التنفس.. إلى آخره، ووجدنا عليه علامات موت جذع المخ، واحتاج الأطباء إلى إدخاله إلى غرفة الإنعاش، وتركيب آلات الإنعاش على هذا الشخص الذي توقف نفسه أو توقفت دقات قلبه.. إلى آخره، هل يجوز رفع آلات الإنعاش أو لا يجوز إذا تحققنا موت جذع المخ؟
آلات الإنعاش عند الأطباء:
أولاً: المنفسة، والمنفسة هذه عبارة عن جهاز يقوم بعمل الجهاز التنفسي بتحريك القفص الصدري، فيحدث للمريض ما يسمى بالشهيق والزفير.
فنقول: الجهاز الأول: المنفسة، والمنفسة ذكرنا أنها جهاز يقوم بعمل الجهاز التنفسي، فيحرك القفص الصدري لهذا المريض ويحدث له ما يسمى بالشهيق والزفير.
الثاني: مانع الذبذبات، ومانع الذبذبات هذا جهاز من أجهزة إنعاش القلب، يقوم بإعطاء القلب صدمات كهربائية لإعادة ما ضعف من دقات القلب، أو ما انقطع من دقات القلب.
الثالث: جهاز منظم ضربات القلب، وجهاز منظم ضربات القلب هذا من أجهزة إنعاش القلب يحتاج إليه حينما تكون ضربات القلب بطيئة بحيث لا يصل الدم إلى الدماغ بكمية كافية، أو أن الدم بسبب بطء ضربات القلب ينقطع عن الدماغ لمدة دقيقة أو ثوان.
رابعاً: مجموعة من العقاقير والأدوية معروفة عند الأطباء.
هذا موضع خلاف بين الفقهاء في الوقت الحاضر، فاختلفوا في ذلك على رأيين:
الرأي الأول: عدم الجواز، وهذا اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى، كان لا يرى رفع الأجهزة عن هذا الشخص الذي ذكر الأطباء أن جذع المخ قد مات عنده.
ويستدل لهذا القول بما تقدم أن ذكرنا من الأدلة الدالة على حفظ النفس، وأن الشريعة جاءت بحفظ الضروريات الخمس كما في قول الله عز وجل: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، وكما في قوله سبحانه: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الأنعام:151].. إلى آخره.
الرأي الثاني وعليه أكثر المتأخرين: أنه يجوز رفع أجهزة الإنعاش عن هذا الشخص الذي أصبح الآن يتنفس تنفساً آلياً صناعياً لا حقيقة لتنفسه، وقالوا بأن هذا الشخص الآن أصبح كالجثة التي ينفخ فيها بالهواء، هذا الهواء وهذه الآلات هي التي تعمل في هذا البدن، فقالوا بأنه يجوز رفع الأجهزة عنه، واستدلوا على ذلك بأدلة:
من هذه الأدلة أن بقاء هذه الأجهزة على مثل هذا المريض لا حاجة إليها؛ لأن هذا البدن الآن أصبحت هذه الأجهزة هي التي تعمل فيه، وهي التي تنفخ في هذه الجثة، وتحدث عملية الزفير والشهيق وما يتعلق بدقات القلب.. إلى آخره.
وكذلك أيضاً قالوا بأن هذه الأجهزة تطيل عليه ما يؤلمه من حالة النزع والاحتضار.
وأيضاً قالوا بأن مثل هذه الأجهزة تسبب زيادة تألم أقاربه وذويه، تجد أن أقاربه وذويه يتألمون لحاله ويحزنون لما صار إليه.
وكذلك أيضاً قالوا: التكاليف التي لا طائل من ورائها، فمثل هذه الأجهزة وغرف العنايات المركزة في المستشفيات وراءها تكاليف طائلة، ولهذا تكون لأناس محدودين، فقالوا: بأنه يترتب على ذلك تكاليف طائلة، فلو أنه أتي بشخص آخر تستنقذ حياته، يحتاج إلى مثل هذا المكان وحاجته أو وجوده في هذا المكان فيه فائدة بخلاف هذا الشخص الذي مهما طال به الزمن فإنه لا فائدة من بقاء الأجهزة عليه.
وهذا القول هو الأقرب، لكن يشترط لذلك أن يقرر من يثق بقوله من الأطباء أن حالة هذا المريض ميئوس منها بسبب وفاة ما يسمى بجذع المخ، فإن كان الطبيب شاكاً في حاله، أو أن حاله غير ميئوس منها فإنه لا يجوز رفع الأجهزة عنه، ونقول: هو الأقرب، لكن بشرط أن يقرر من يوثق بقوله أن حالته ميئوس منها، أما إذا حدث هناك شك أو كانت حالته يرجى عود الحياة إليه فإنه لا يجوز رفع الجهاز عنه.
نحن تكلمنا بالنسبة لموت جذع المخ هل يعتبر موتاً أو لا يعتبر موتاً لهذا الإنسان، وذكرنا أن أكثر الأطباء على أنه موت، وأن أكثر فقهاء الشريعة في الوقت الحاضر لا يعتبرونه موتاً، وبهذا نشير إلى مسألة وهي في البلاد الخارجية: تجد أنهم يحكمون على هذا الشخص الذي مات جذع المخ عنده بأنه قد مات؛ لأن هذا هو كلام الأطباء، وهي علامة عند أكثر الأطباء أنه مات، ثم بعد ذلك يقومون بالسطو عليه، يحكمون بأنه مات، ويقومون بالسطو عليه، فتجد أن قلبه يؤخذ، أو أن كبده تؤخذ، أو أن كليتيه تؤخذ.. إلى آخره. ومثل هذا لا يجوز في الشريعة، ذكرنا أنه لا يجوز ما دام أن أجهزة الإنعاش عليه حتى وإن حصل موت جذع المخ. قلنا: الصواب أنه ليس موتاً على الصحيح من أقوال أهل العلم رحمهم الله، وعلى هذا لا يجوز التعرض له، ما دامت أجهزة الإنعاش عليه حتى ولو كان جذع المخ ميتاً.
والمراد بتضمين الطبيب هنا هو تضمين ما حصل من تلف تحت يد الطبيب سواء كان هذا التلف بنفس أو عضو أو منفعة، نقول: المراد به هنا تضمين ما حصل من تلف تحت يد هذا الطبيب، سواء كان هذا التلف بنفس أو عضو أو منفعة.
والطبيب اختلف في تعريفه، وعرفه العلماء رحمهم الله بتعاريف من هذه التعاريف، قالوا: بأن الطبيب هو العالم بالطب، وقيل بأن الطبيب هو الذي يعالج المرضى، وقيل: بأنه الذي يعرف العلة ودواءها وكيفية المداواة، وهذا القول هو الأقرب.
بالنسبة لتضمين الطبيب تحته حالات:
الشرط الثاني: لا تجني يده، يعني: لا تتعدى يده ما قدر له فيها، فهذا بالاتفاق أنه لا ضمان عليه. نضرب لذلك مثلاً: هذا طبيب أراد أن يجري عملية من العمليات، طبيب حاذق عرف مهنة الطب، وقام بإجراء العملية، يحتاج لإجراء العملية أن يشق البطن بمقدار سنتيمتر هو الآن طبيب حاذق، وقام بشق البطن بمقدار سنتيمتر ولم تتعد يده، لم تتجاوز يده ما أذن له في ذلك، فهذا يتفق العلماء رحمهم الله أنه لا ضمان عليه، فإذا قام وشق موضع الشق بقدر ما يرى أنه هو الذي يحتاج إليه المريض، ثم بعد ذلك حصل تلف تحت يده، تلف بالنفس، أو تلف بعضو من الأعضاء، أو تلف به منفعة من المنافع، فالعلماء رحمهم الله يقولون بأنه لا ضمان عليه، لكن لا بد من أن يتوفر هذان الأمران:
الأمر الأول: أن يكون حاذقاً يعني: عارفاً لأمر الطب، والثاني: لا تجني يده ولا تتعدى ما أذن لها.
وابن القيم رحمه الله تكلم عن حذق الطبيب، وذكر أن الطبيب لا يكون حاذقاً إلا بواحد وعشرين أمراً يعني: لا بد أن ينظر الطبيب في المرض، في نوع المرض، في سبب حدوثه، في قوة المريض، وهل له مقاومة للمرض، أو ليس له مقاومة للمرض، أيضاً ينظر إلى مزاج البدن الطبيعي ما هو، والمزاج الحالي، وما هو سن المريض، وما هي عادة المريض، والوقت الحاضر من حصول التلف، وما بلد المريض .. إلى آخره.
هذا مما يدل على أن العلماء يتشددون بحذق الطبيب، ومثل هذه الأشياء بسبب ترقي الطب وتقدمه قد نقول بأنها تختلف؛ لأن هذه الأشياء التي ذكرها ابن القيم رحمه الله وغيره نقول بأنها تختلف، المهم إذا شهد له من أهل الاختصاص بأنه أهل لمزاولة المهنة. إذا اكتسب معرفة الطب إما بالنظر أو بالتجربة أو بهما جميعاً وشهد له أهل الاختصاص بذلك، فإنه يعتبر حاذقاً.
وإن لم يتوفر هذان الشرطان فإن الطبيب يضمن ما تلف تحت يده، وقلنا بأن هذا موضع اتفاق بين العلماء رحمهم الله، واستدلوا على ذلك بقول الله عز وجل: فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:193]، فدلت الآية على أن الضمان إنما يكون على المعتدي، والطبيب إذا كان حاذقاً عارفاً بمهنته، ولم تجن يده فليس معتديا.
وكذلك أيضاً استدلوا بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من تطبب وهو لا يعلم منه طب فهو ضامن ) أخرجه أبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه الحاكم .
وكذلك أيضاً ورد عن عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما أن من تطبب على أحد من المسلمين، ولم يكن بالطب معروفاً فأصاب نفساً فما دونها فعليه دية ما أصاب.
يفهم من الحديث ومن آثار الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنه إذا كان جاهلاً يضمن، هذا منطوق الحديث والآثار أنه إذا كان جاهلاً فإنه يضمن، ومفهوم هذا الحديث والآثار على أنه إذا كان عالماً أنه لا ضمان عليه.
وأيضاً القاعدة الشرعية أن ما ترتب على المأذون غير مضمون، فهذا الطبيب قد أذن له بالعلاج فما ترتب على المأذون فهذا غير مضمون لأنه قد أذن له.
وأيضاً هذا المريض أمانة بيد الطبيب، والأمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط.
وكذلك أيضاً حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من تطبب وهو لا يعلم منه طب فهو ضامن )، وكذلك أيضاً ما أسلفنا من الآثار عن عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما أنهما قالا: من تطبب على أحد من المسلمين ولم يكن عالماً بالطب فأصاب نفساً فما دونها فهو ضامن.
المهم الحالة الثانية إذا كان جاهلاً وتلف تحت يده نفس أو عضو أو منفعة والمريض لا يعلم نقول بأنه يضمن، وذكرنا الدليل على ذلك.
الرأي الأول، وهو قول أكثر أهل العلم أنه ضامن، يعني: جمهور أهل العلم يلحقون هذه المسألة بالمسألة التي قبلها، حتى ولو كان المريض يعلم أنه جاهل، فيقولون بأن الطبيب كونه يقدم وهو جاهل يضمن، ويستدلون على ذلك بالأدلة السابقة، فإن الله عز وجل قال: فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:193]، وهذا ظالم كونه أقدم على المعالجة، وهو جاهل لا يعلم، وتقدم حديث عبد الله بن عمرو : ( من تطبب وهو لا يعلم منه طب فهو ضامن ) يعني: ما دام أنه جاهل فهو ضامن، وتقدم أثر عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما.
والرأي الثاني ذهب إليه ابن القيم رحمه الله: أن الطبيب إذا كان جاهلاً والمريض يعلم أنه جاهل، ثم قام بمداواته أنه لا يضمن ما تلف تحت يده: نفس أو عضو أو منفعة، هذا ما ذهب إليه ابن القيم رحمه الله تعالى، وابن القيم استدل بالحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من تطبب وهو لا يعلم منه طب ) فقيد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: ( وهو لا يعلم منه طب )، فدل ذلك على أنه إذا كان المريض يعلم حاله أنه لا ضمان عليه.
ومع هذا فالأقرب في هذه المسألة هو قول جمهور أهل العلم، ولا يلزم أن يصار إلى ما ذهب إليه ابن القيم رحمه الله، بل إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وهو لا يعلم منه طب ) يعني: الطبيب يعلم من نفسه أنه غير طبيب، الذي أقدم على العلاج يعلم من نفسه أنه غير طبيب، وأنه لا يحسن الطب. فالأقرب في هذه المسألة ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله، وأن الطبيب إذا كان متطبباً جاهلاً والمريض يعلم أنه متطبب جاهل، ثم داواه فتلف تحت يده نفس أو عضو أو منفعة أنه يضمن؛ ولأن المريض أيضاً ليس له أن يأذن للطبيب، يعني: ملك المريض للإذن ليس له ذلك، يعني: هذا مريض يعلم أن هذا الطبيب جاهل، ليس له أن يأذن له في أن يداويه؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه؛ لأن هذا البدن ملك لله عز وجل، لا يملك أن يتصرف فيه في غير ما أذن له به شرعاً، وعلى هذا لو أراد أن يقطع أصبعاً من أصابعه، أو أن يجرح نفسه نقول بأن هذا محرم ولا يجوز.
استدل على أن المريض أذن لهذا الطبيب الجاهل نقول: هذا أذن في غير محله، فالصواب في ذلك أنه يضمن، لكن إذا قلنا بالضمان فإنه يؤخذ منه هذه الدية التي حصلت، ولا تبقى لهذا المريض، وإنما الأقرب أن تصرف في بيت المال، أو يتصدق فيها على الفقراء.
فمثلاً أن يعطي جرعة المخدر كذا وكذا، فهذا خطأ، جعل جرعة المخدر كذا وكذا جعلها أزيد، فتلف تحت يده نفس أو عضو أو منفعة.
بدلاً من أن يكون مقدار القطع في العملية بمقدار سنتيمتر أو بمقدار اثنين من السنتيمتر زاد فقط ثلاثة سنتيمتر، المهم يده أخطأت.
أو مثلاً المصور بالأشعة يزيد مقدار الجرعة الإشعاعية، أو أنه يقطع في غير محل القطع، القطع مثلاً في الرجل اليمنى يكون في الرجل اليسرى، أو في اليد اليمنى يكون في اليد اليسرى.. إلى آخره، يقطع في غير محل القطع، المهم أنه أخطأ هذا الطبيب، هو طبيب حاذق لكنه أخطأ، هذه الحالة الرابعة هي التي يكثر حولها أخطاء الأطباء، يعني: تجد أن الطبيب يزيد في جرعة المخدر، يزيد في جرعة الإشعاع، قد يصف العلاج ويخطئ في وصف العلاج.
هذه الحالة قسمها العلماء رحمهم الله إلى قسمين:
القسم الأول: أن يكون هناك تعد أو تفريط من الطبيب، وضابط التعدي هو فعل ما لا يجوز، وضابط التفريط هو ترك ما يجب.
فنقول: إذا تعدى أو فرط فإنه يضمن بالاتفاق، التعدي فعل ما لا يجوز، التفريط ترك ما يجب.
مثال التعدي: يزيد في جرعة المخدر، أو يزيد في الدواء أو نحو ذلك، فعل شيئاً لا يجوز، وهو إن كان حاذقاً تهاون وزاد في جرعة المخدر، أو في وصف الدواء، أو في زيادة الدواء.. إلى آخره، فنقول بأنه يضمن.
أيضاً التفريط ترك ما يجب، لم يشخص حالة المريض كما ينبغي، تهاون في ذلك، شخص بعض الحالة، وترك التشخيص في بعض الحالات، فنقول: هذا ترك أمراً واجباً، كان الواجب عليه أن يشخص حالة المريض لكي يرتب على ذلك الدواء والعلاج، كذلك مثلاً لو اقتصر على بعض المخدر، لم يعط الجرعة الكافية، أو اقتصر على مخدر ضعيف التخدير.. إلى آخره، فنقول بأن هذا يضمن.
المهم في هذا القسم أنه إذا عرفنا منه أنه تعدى أو فرط، وذكرنا ضابط التعدي وضابط التفريط، فإنه يضمن بالاتفاق، والدليل على ذلك قول الله عز وجل: فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:193]، وهذا الطبيب ظالم لكونه تعدى أو فرط، فيضمن.
وكذلك أيضاً ما تقدم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من تطبب وهو لا يعلم منه طب فهو ضامن ) فإذا كان الجاهل يضمن فكذلك من باب أولى المتعدي أو المفرط، هذا تعدى أو فرط أو تهاون في المسألة فنقول بأنه يضمن.
وكذلك أيضاً ما تقدم من الآثار عن عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما.
القسم الثاني تحت هذه الحالة: أن لا يتعدى الطبيب ولا يفرط، الطبيب لم يتعد، لم يفعل شيئاً لا يجوز، ولم يترك شيئاً يجب عليه، فهو اجتهد وفعل الواجب عليه، فهو لم يتعد بحيث إنه لم يفعل شيئاً لا يجوز، ولم يفرط يعني: يترك شيئاً يجب عليه، ونضرب لذلك مثالاً، فهذا طبيب شق الجرح لإجراء العملية، لكن يده تحركت فزاد في الشق، أو في أثناء إعطاء جرعة المخدر قدر الجرعة كما هو الواجب، لكن يده تحركت فزاد، هو الآن لم يتعد ولم يفرط، اجتهد، يعني: لم يترك شيئاً واجباً، ولم يفعل شيئاً محرماً، لكن خرج شيء من ذلك عن إرادته كما مثلنا، أثناء الشق يريد أن يشق بمقدار كذا وكذا فتتحرك يده فيزيد في الشق، أثناء أخذ الأشعة تتحرك يده فتسقط الأشعة على غير الموضع المراد تصويره.. إلى آخره.
فهذا اختلف فيه أهل العلم رحمهم الله، إذا اجتهد الطبيب وفعل ما بوسعه، لكن لو خرج ذلك عن إرادته، فاختلف أهل العلم رحمهم الله في تضمينه هل يضمن أو لا يضمن؟
الرأي الأول، وبه قال الإمام مالك رحمه الله أنه لا ضمان عليه، بدليل قول الله عز وجل: فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:193]، والطبيب إذا كان حاذقاً في صنعته فلا ضمان عليه، وهو الآن لم يتعد ولم يفرط، الله عز وجل قال: فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:193]، وهذا غير ظالم لأنه لم يتعد ولم يفرط، وكان حاذقاً.
وكذلك أيضاً ما تقدم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من تطبب وهو لا يعلم منه طب فهو ضامن ) وهذا يعلم منه طب، ولم يتعد ولم يفرط، لكن خرج ذلك عن إرادته واجتهاده.
وكذلك أيضاً قالوا بأنه مؤتمن على بدن المريض، ومقتضى الأمانة عدم التفريط؛ لأن الأمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط، فلو أن شخصاً استأجر سيارة، ثم تلفت هذه السيارة لا يضمنها؛ لأنه أمين إلا إذا تعدى أو فرط، يعني: استأجرها على أن يستعملها داخل البلد ثم خرج بها خارج البلد، هنا الآن تعدى، فعل شيئاً لا يجوز، يضمن لو تلفت خارج البلد، كذلك أيضاً إذا ترك شيئاً واجباً، الأمين مثلاً ترك السيارة مفتوحة حتى سرقت، كان الواجب عليه أن يقفلها، أو أن يحفظها داخل بيته، فسرقت، نقول هنا: ترك شيئاً واجباً يضمن، فالأمين في الأموال لا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط، فكذلك أيضاً في الأبدان لا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط.
الرأي الثاني وهو قول جمهور أهل العلم أن الطبيب يضمن، حتى ولو اجتهد ولم يتعد ولم يفرط، فأثناء إجراء العملية حصل له خلل خارج عن اجتهاده ووسعه مع بذله لطاقته واجتهاده فتلف تحت يده نفس أو عضو أو منفعة، فجمهور أهل العلم قالوا بأنه يضمن، واستدلوا على ذلك بقول الله عز وجل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [النساء:92]، فهنا القتل حصل خطأً ومع ذلك أوجب الله عز وجل الدية، وكذلك أيضاً أوجب الكفارة.
وكذلك أيضاً يستدل على ذلك بأن جناية الطبيب إتلاف، وإتلاف حقوق الآدميين يستوي فيه العمد والخطأ، إذ إن حقوق الآدميين مبنية على المشاحة، فلو أن شخصاً أتلف سيارة شخص، هذا الآن خطأ، حصل له غفلة ثم بعد ذلك صدمها يضمن.
ولو أنه أتلف ثوبه خطأً، سقط منه شيء.. سقط منه حديدة فشقت الثوب، نقول بأنه يضمن يعني: إتلاف حقوق الآدميين يستوي فيه العمد والخطأ سواء تعمد الإتلاف أو أخطأ نقول بأن الضمان قائم عليه، فكذلك أيضاً هنا. والأقرب في هذه المسألة عدم الضمان، وفرق بين شخص أتلف سيارة شخص يعني: كان غافلاً في القيادة حتى صدم، أو كان غافلاً في القيادة حتى صدم شخصا، أو أتلف يده، أو منفعة من منافعه، نقول: يضمن، أو أنه أخطأ فأتلف الثوب نقول: بأنه يضمن، فرق بين التضمين هنا وبين تضمين الطبيب؛ لأن الطبيب مؤتمن، بخلاف إنسان يسير في الشارع فيصدم سيارة أو يصدم إنسانا إلى آخره نقول: هذا غير مؤتمن، أنت غير مؤتمن على هذه السيارة، وغير مؤتمن على هذا الشخص فتضمن، أما الطبيب فإنه مؤتمن على بدن هذا المريض، فنقول بأنه لا يضمن، وأن الأمين كما أسلفنا لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط، وهنا لم يتعد ولم يفرط.
فتلخص لنا في الحالة الرابعة أنه إذا كان الطبيب حاذقاً لكنه أخطأ، فإن كان خطؤه بتعدٍ أو تفريط فإنه يضمن، وإن كان خطؤه بغير تعدٍ ولا تفريط فإنه لا ضمان عليه.
بقي علينا الحالة الخامسة والأخيرة: وهي ما إذا كان العلاج عن غير إذن، وهذه إن شاء نرجئها بإذن الله.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر