أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات، إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الخميس من يوم الأربعاء ندرس كتاب منهاج المسلم، الحاوي للعقيدة والآداب والأخلاق والعبادات والمعاملات، أي: الأحكام الشرعية، وها هو ذا قد انتهى بنا الدرس إلى الفصل الرابع وهو في الغسل من أبواب العبادات، وفي الغسل أربع مواد:
[ المادة الأولى: في مشروعية الغسل، وبيان موجباته ] أي: أنه مشروع بالكتاب والسنة، وبيان موجباته التي توجبه، وهذا من العلم الضروري الذي يجب على كل مسلم ومسلمة أن يعلمه.
وكثيراً ما نسأل: يقول الرجل: ما حكم من وطئ امرأته في دبرها؟ ونقول: قد ارتكب كبيرة عظيمة، فيجب عليه أن يتوب ويستغفر الله ويبكي ويتصدق، وامرأته لا تحرم عليه بهذا، فهذا ليس بطلاق [ ولقوله عليه الصلاة والسلام: ( امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي ) ] وهذا دليل على وجوب الغسل من الحيض إذا انتهى، فمن موجبات الغسل انقطاع دم الحيض ودم النفاس، فالرسول يقول لهذه المؤمنة: ( امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي ). فهذه شكت أن الدم يسيل منها دائماً، فأرشدها صلى الله عليه وسلم أن تترك الصلاة القدر الذي كانت الحيضة تأتيها فيها، سبعة أيام أو ثمانية أو تسعة، ثم إذا تجاوزت ذلك أن تغتسل ولا تبالي وتصلي، وهكذا شأن المرأة التي لها عادة معروفة سبعة أيام أو ثمانية، فإذا استمر بها نزول الدم، فتنتظر ثلاثة أيام، فإذا لم ينقطع فإنها تغتسل وتصوم وتصلي، والرسول أرشدها إلى هذا فقال: ( امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي )؛ لأن الدم مستمر معها، فهي مستحاضة لا ينقطع دمها، فإذا دخل الشهر وكانت عادتها في أول الشهر أو في وسطه أو في آخره ففي أيام الحيضة لا تصوم ولا تصلي؛ لأنها مريضة، فإذا مرت أيام حيضها فلتغتسل وتصوم وتصلي.
إذاً: موجبات الغسل أربعة:
الأول: الجنابة.
الثاني: انقطاع دم الحيض ودم النفاس.
الثالث: الدخول في الإسلام.
الرابع: الموت.
والمرأة تختتن، فالختان للنساء مكرمة، في صالح المرأة، لكنه ليس بواجب.
شرع الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم الغسل، فالغسل إذاً مشروع للمسلمين بالكتاب والسنة، والدليل على ذلك قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6] وهذه الآية نحفظها الآن كما نحفظ ألف كلمة من كلمات السوق، ونكررها ونعيدها حتى نحفظها: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6]. هكذا قال الله عز وجل.
وقال تعالى: وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سبيل [النساء:43] أي: لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب اللهم إلا عابري سبيل، حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء:43] فحينئذ تدخلون المسجد وتجلسون فيه.
الآن موجبات الغسل، والذي يوجب علي أن أغتسل:
أولاً: الجنابة، وتشمل الجماع، وهو: التقاء الختانين ولو بدون إنزال؛ وذلك لقول الله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6]. والإنزال هو: خروج المني بلذة في نوم أو يقظة؛ لأنه قد يلمس امرأته وقد ينظر إليها فتفور نفسه ويمنى ويخرج منيه، فيجب عليه الغسل، فخروج المني بلذة في نوم أو يقظة من رجل أو امرأة يوجب الغسل، والمرأة كذلك إذا احتلمت في منامها يجب أن تغتسل، وإذا تلذذت بزوجها بدون جماع وأخرجت ماءها وجب عليها الغسل كالرجل، لقول الله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6]. ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ). والختانان أي: ختان وختان، تثنيتهما ختانان، أي: فرج الرجل وفرج المرأة، أو ذكر الرجل وفرج المرأة، ( إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ). والاحتلام يكون وهو نائم، حلم أو احتلم: رأى في منامه أنه كذا فخرج منه المني.
ثانياً من موجبات الغسل: انقطاع دم الحيض أو النفاس، فدم الحيض بعد أن كان يسيل ينقطع، وكذلك دم النفاس يمكث أسبوعاً أو عشرة أيام أو أربعين يوماً ثم ينقطع، وانقطاعهما يوجب الغسل مباشرة؛ إذ الحائض لا تصلي ولا تصوم ولا توطأ، وكذلك النفساء لا تصوم ولا تصلي ولا توطأ حتى ينقطع دمها وتطهر؛ لقوله تعالى: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222]، أي: فاعتزلوا النساء أيها المؤمنون! في المحيض، ولا تقربوهن بالجماع حتى يطهرن، أي: ينقطع دم الحيض أو دم النفاس. فإذا انقطع دم الحيض أو دم النفاس ولم تغتسل لم يحل لزوجها أن يطؤها ويقربها حتى تغتسل، إلا إذا لم يوجد ماء، فإن لم يوجد عندها ماء تغتسل به وأرادها وغلبته نفسه فلا حرج، وأما باختياره فلا حتى تغتسل، كما قال تعالى: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222]. وهذه الجملة عرفنا معناها، فالله لم يأمرنا أن نأتي النساء من أدبارهن، ولكن من قبلهن.
ولقوله عليه الصلاة والسلام للمؤمنة: ( امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي ). وقد قال هذا الكلام لامرأة تشكو الحيض دائماً، وأنه لا ينقطع، وقد أرشدها الحبيب صلى الله عليه وسلم بأن تبقى قدر المدة التي كانت تحيض فيها، فإذا انتهت تلك المدة فلتغسل وتصوم وتصلي؛ لأن دمها لا ينقطع، بل يسيل دائماً، وهذه تعرف بالمستحاضة، فالمستحاضة تترك الصلاة والصيام والجماع أيام ما كانت تأتيها العادة التي تعلمها في أول الشهر أو في وسطه أو في آخره، سبعة أيام أو ستة أو ثمانية، إذ هذه الاستحاضة ما تأتي من أول مرة، بل من الممكن أن تكون بعد عشرين سنة، فإذا حصلت هذه الاستحاضة -وهي مرض- فعلى المستحاضة أن تترك الصلاة والصيام والجماع مدة عادتها، فإذا انتهت المدة فإنها تغتسل ثم تتوضأ لكل صلاة.
ثالثاً من موجبات الغسل: الدخول في الإسلام بلا خلاف، فإذا أسلم بين يديك أحد فقل له: قم يا أخي! اغتسل، وعلمه كيف يغتسل، ولا تقل: هذا صغير أو كبير أو كذا، بل لا بد من الاغتسال، فمن دخل من الكفار في الإسلام وجب عليه أن يغتسل؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة بن أثال بالاغتسال حين أسلم، وثمامة رجل من بني حنيفة أسلم بين يدي رسول الله فقال: ( قم فاغتسل ). وهذا معمول به إلى اليوم، فلا يسلم نصراني ولا يهودي ولا بوذي إلا ونأمره بالاغتسال.
رابعاً من موجبات الغسل وهو مشروع بالكتاب والسنة: الموت، فإذا مات المسلم وجب غسله وتنظيفه وتطهيره وتكفينه ودفنه؛ لتسعد روحه في تلك الساعات، ثم تعرج إلى الملكوت الأعلى، وهذه الفضيلة لا توجد إلا عند أهل الإسلام، فيغسل وينظف حتى بالماء والصابون أيضاً، ويلبس الثياب النظيفة الجديدة ويطيب بالعطر والطيب، ثم يدفن، ويأتيه الملكان فيفرحان به ويسألانه فيجيب، فيقولان: من ربك؟ فيقول: الله. فيقولان: من نبيك؟ فيقول: محمد رسول الله. فيقولان: ما دينك؟ فيقول: الإسلام. فينجح، وتعرج روحه إلى الملكوت الأعلى في الجنة، ومع هذا اتصاله بالقبر باللاسلكي، إذا قلت: السلام عليك رد سلامك، وكان المؤمنون من قبل يسلمون وعقلوا هذا؛ لأن الرسول أخبر بهذا، والآن لم يصبح مشكلة، بل روحه في الملكوت الأعلى ويرد الجواب، مثل الآن الجوالات عندكم وتجيبون في كل مكان. فإذا قيل له: السلام عليك ورحمة الله، رد: وعليك السلام ورحمة الله، وروحه في الجنة، وأما إذا كانت روحه في أسفل سافلين فلا جواب ولا سلام؛ لأنه في شقاء وعذاب.
والمحرم لا يغسل ولا يكفن؛ لأنه اغتسل وهو محرم، ما جامع ولا مس ولا فعل شيئاً يوجب الغسل، فيدفن في إحرامه.
فإذا مات المسلم وجب تغسيله؛ لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك إذ أمر بتغسيل ابنته زينب رضي الله عنها، كما ورد في الصحيح.
وهنا مكرمة نذكرها لندعو لأصحابها، لا يوجد في العالم الإسلامي فيما أعلم دولة ولا إقليم ولا بلد عندهم مغسلة خاصة بالموتى إلا في المدينة ومكة والمملكة. فاللهم اجزهم خيراً، عندنا في البلاد الأخرى لما يموت لهم ميت يحارون، ويتعبون في البحث عمن يغسله وبكم، ويبحثون عن ذلك، وعندنا المغسلة موجودة وأهلها موظفون فيها، يحمل على السيارة وإلا على الرقاب ويغسل ويدفن حتى يصلى عليه، اللهم اجزهم خيراً، اللهم اجزهم خيراً، اللهم اجزهم خيراً.
ثانياً: الإحرام بالحج أو بالعمرة.
ثالثاً: دخول مكة، وهذا ما أصبح في الإمكان، والعلة معروفة، فإنك تخرج من المدينة وفي ساعتين أو ثلاث تصل، وقد اغتسلت في المدينة، وفي السابق كانوا يسافرون من المدينة إلى مكة في عشرة أيام، ومن جدة إلى مكة في يوم وليلة في عرق وتعب، فيستحب أن يغتسل عند دخول مكة؛ ليدخلها نظيفاً طيباً طاهراً، والآن رفع هذا ومن فعله له أجره ونيته.
وكذلك الاغتسال يوم عرفة، فينزل بالواد حتى إذا صلى الظهر مع الجماعة يغتسل ويدخل عرفة؛ ليدعو الله ويذكره ويعبده.
رابعاً وأخيراً: من غسل ميتاً يستحب له أن يغتسل، وبينت لكم أن النفس البشرية ترغب بهذا، والرسول لحكمته هو الذي شرع هذا التشريع؛ لأن الذي يباشر غسل الميت، يغسل فرجيه وبطنه وجسمه وكذا ويدلكه، فيبقى في نفسه شيء كيف يلبس ثيابه بدون اغتسال، إذاً: اغتسل، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر